الخميس 18 / رمضان / 1445 - 28 / مارس 2024
حديث "حُج بي مع رسول الله.." إلى "حج رسول الله على رحلٍ.."
مرات الإستماع: 0

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

ففي "باب وجوب الحج وفضله" أورد المصنف -رحمه الله- حديث السائب بن يزيد ، قال: "حُجَّ بي مع رسول الله ﷺ، -يعني في حجة الوداع- وأنا ابن سبع سنين"[1]، رواه البخاري.

"حُجَّ بي مع رسول الله ﷺ"؛ لصغره حج به أهله مع النبي ﷺ في حجة الوداع، وقيل لها: حجة الوداع؛ لأن النبي ﷺ ودّع فيها الناس، كان ذلك آخر العهد بأولئك بالجموع الذين جاءوا من كل ناحية، فحجوا معه، حيث زاد عددهم على مائة ألف من أنحاء جزيرة العرب، فالنبي ﷺ أمرهم ونهاهم ووصاهم -عليه الصلاة والسلام-، وقال: لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا[2]، فقيل لها: حجة الوداع.

قال: "وأنا ابن سبع سنين"، وابن سبع سنين يكون مميزًا، فدل ذلك على صحة حج الصغير، وأنه يؤجر على هذا الحج.

"حُج بي مع رسول الله ﷺ"، لكن ذلك لا يجزئه عن حجة الإسلام بالاتفاق، فعليه أن يحج حجة أخرى.

كما يصح حج الصبي غير المميز، كما يدل عليه أحاديث أخرى في الباب يأتي إن شاء الله تعالى شيء من هذا، ويكون الحج، يكون أجره له للصغير أجر الحج، ولمن تسبب فيه أيضًا أجر.

وأما تفاصيل ذلك فيما يتصل بالنفقة، نفقة هذا الحج على من تكون فأهل العلم لهم كلام في ذلك كثير، والأصل أن يكون ذلك من مال الصبي، الأصل أن يكون إن كان له مال، فالولي على اليتيم، ونحو ذلك.

لكن تكلم أهل العلم: هل له أن يبتدره بالحج من ماله، يعني من مال الصبي، كالذي يقوم على مال اليتيم أن يحججه، فبعضهم قيد هذا، وبعضهم أطلقه بالمنع أو الجواز.

أما الذين قيدوه، فقالوا: إن اقتضت ذلك مصلحة الصبي لا مصلحة الولي، فإن كان ذلك لمصلحة الولي فمن مال الولي، لكن نحن نتحدث عن صورة غالبة، وهي أن الناس يحججون أولادهم، ومن معهم من ذويهم من أموال الآباء والأولياء، هذا هو الغالب، ويبقى النظر أيضًا فيما يحصل من مقارفات توجب الفدية، على القول بأن جنايات الصغير في الحج من المخالفات أنها توجب الفدية كالكبير، فيكون ذلك على من؟ من ماله أو من مال الولي، هذا فيه كلام لأهل العلم، ولبعضهم تفصيل.

فالذي يحج بالصغير عليه أن يتحفظ له، وأن يقوم عليه بما يجب، بتجنيبه محظورات الإحرام، وكثير من الناس يتساهل في هذا بحجة أنه صغير، فيفعل أشياء لا يجوز للمحرم أن يفعلها، بل كثير من الناس يأتون بالصغار معهم في العمرة، أو في الحج، فإذا رأوا الزحام لربما أبى الصبي أن يطوف أو يسعى، أو يعمل شيئًا مما يؤمر به وهو مميز، ولربما كان من غير المميزين، فيتعبون معه في الزحام، أو يخافون عليه فيتركونه من غير نسك، وهذا خطأ.

بعض أهل العلم يقول: في هذه الحال لا شيء يترتب على هذا لأنه صغير غير مكلف فلا فدية، والأقرب -والله أعلم- أنه يلزمه ما يلزم الكبير، وأنه يجب أن يقوم عليه، فإذا أعاده إلى ثيابه التي يحرم عليه أن يلبسها باعتبار أنه محرم، يقال: انزع هذا وعليك فدية، وإذا ترك الإحرام ورجع به نقول: لم يزل محرمًا حتى تعود به ثانية وتطوف به وتسعى ثم يتحلل.

وإذا كان الناس يتخوفون أو لا يستطيعون فينبغي أن لا يدخلوهم في النسك، أن لا يحرموا بهم، يمكن أن يدخل المواقيت وأن يجاوزها من غير إحرام للصبي، باعتبار أن الأصل أنه لا يؤدي النسك، فإن رأى الأمور فيها انفراج وسعة ونحو ذلك، يمكن أن يحرم له بالحج من مكانه، أو أن يحرم له بالعمرة من الحل كالتنعيم ونحوه، وانتهينا، باعتبار أن النية تكون غير جازمة، هو يدخل النسك على أن هذا الصغير لن يحج ولن يعتمر إنما هو مجرد مرافق، فإن رأى الأمور مواتية أحرم به، أما أن يحرم به ثم بعد ذلك يفاجأ بحال قد لا يطيقها الصغير، ثم بعد ذلك يتحلل هكذا، فهذا غير صحيح.

ثم ذكر حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-: "أن النبي ﷺ لقي ركبًا بالروحاء -والروحاء معروفة إلى اليوم على طريق مكة قريبًا من المدينة، تبعد عن المدينة ما يقرب من ستة وثلاثين ميلاً- لقيهم بالروحاء، فقال: من القوم؟، فقالوا: المسلمون، قالوا: من أنت؟ قال: رسول الله. فرفعت امرأة صبيًا، فقالت: ألهذا حج؟ قال: نعم، ولك أجر[3]، رواه مسلم.

"رفعت صبيًا"، وفي بعض ألفاظه أنها أخذته بعضده، ففهم منه بعض أهل العلم أن هذا الصبي دون سن التمييز، حيث أخذته بعضده، ورفعته إلى النبي ﷺ.

على كل حال هذا يدل أيضًا على صحة حج الصغير، وأن وليه أو من حججه يكون له أجر، حتى لو كان من مال الصغير؛ لأن هذا إن كان دون التمييز فإنه يحرم عنه، ويلبي عنه كما هو معلوم.

ولاشك أن من قام على حج الصبي يكون قد تسبب في أداء النسك بالنسبة إليه.

ثم ذكر حديث أنس : "أن رسول الله ﷺ حج على رحل، وكانت زاملته"[4]، رواه البخاري.

"حج على رحل، وكانت زاملته"، بمعنى أن النبي ﷺ حج على بعير واحد، عليه ما يوضع للراكب، وأيضًا معه المتاع والزاد الذي يحمله المسافر، هذا معنى كانت هذه الراحلة أو هذا الرحل هو الزاملة للنبي ﷺ.

والزاملة: الناس في حال التوسع يكون للراكب بعير دابة، وللمتاع بعير آخر يحمل عليه متاعه: الفراش، والطعام، وما إلى ذلك، يحمله عليه.

النبي ﷺ كان على رحل واحد ﷺ، وكان هذا هو أيضًا زاملة النبي -عليه الصلاة والسلام-، لم يكن معه بعير آخر للمتاع، وهذا لاشك أنه يحصل للراكب فيه مشقة مع المتاع يركب، مع متاعه، فهذا من تواضعه ﷺ وزهده، وإعراضه عن مظاهر الدنيا، مع أنه في حجة الوداع قد وسع الله عليه.

بل هنا جاء من حديث أنس عند ابن ماجه: "أن النبي ﷺ حج على رحل رث وقطيفة"[5]، هي التي توضع على الدابة، قماش له بطانة يوضع على الدابة.

"حج على رحل رث، وقطيفة تساوي أربعة دراهم أو لا تساويه"، يعني أنس يقول: قد تساوي أربعة دراهم أو لا تساويه.

أربعة دراهم ليست بشيء هذه القطيفة، هذا أفضل الخلق -عليه الصلاة والسلام-، يحج على رحل رث، وقطيفة تساوي أربعة دراهم، أو لا تساويه.

هذا يدل على التواضع لله -تبارك وتعالى-، أشرف الخلق على هذا الرحل الرث، هو ذهب لنسك ما ذهب ليباهي، ذهب لإظهار العبودية لله وتحقيقها، فحج بهذه الصفة.

وجاء عن ابن عمر : "أنه سمع رجلاً قال: ما أكثر الحاج؟ فقال ابن عمر: الحاج قليل، ثم نظر إلى رجل على بعير مخطوم بحبل، فقال: لعل هذا"[6]، يعني أن يكون ممن يصدق عليه أنه حاج أو كما جاء عنه ، لعل مثل هذا المتواضع، هذا الرجل الذي جاء بهذه الصفة للحج، لعله أن يكون فعلاً ممن يصدق عليه فعلاً أنه حاج.

لاحظ في ذلك الزمان، والناس يأتون شعثًا غبرًا، والنبي ﷺ لما أحرم وضع الصمغ على شعره -عليه الصلاة والسلام- من أجل ألا يدخل فيه التراب والغبار، فكيف باليوم؟

في ذلك الوقت على الإبل، رواحل، تسفي السوافي والأتربة تصور في الصحراء حينما تأتي العواصف، الأمطار، الحر الشديد شتاء أو صيفًا، يجتازون هذه الأماكن جميعًا، ثم يأتون شعثًا غبرًا.

بل إن عمر فرض على أهل مكة أن يحرموا بالحج من اليوم الأول من ذي الحجة، وقال: "يأتي الناس شعثًا غبرًا -يعني في اليوم الثامن-، وتأتون مدهنين"[7].

"شعثًا غبرا"، شعثًا يعني الشعر غير مسرح.

و"غبرًا" فيهم أثر الغبار، هذا الحال.

ونحن اليوم حيث يسر الله من أسباب الرفاهية الشيء الكثير: من ألوان المراكب، والملابس، والطعام، والشراب، إلى غير ذلك، بحيث أن الإنسان يلبس إحرامه من هنا على بعد ما يقرب من ألف وأربعمائة كيلو، ألف وأربعمائة كيلو متر، يلبس إحرامه من هنا؛ لأنه قد يضيق عليه الوقت في الطائرة، فالمدة يسيرة نحو ساعة ونصف، هذا من كان يتصور، ويأتي الناس إلى المشاعر وهم في حال من الرفاهية، لم يتغير لباسهم، ولم تتغير هيئاتهم، وما هو إلا يوم أو يومان، ثم بعد ذلك يتحللون من إحرامهم، ولربما لم يتغير هذا الإحرام، كأنه لبسه لساعته، مع وفرة ألوان المشتهيات من المطعومات وغيرها، وصار كثير من الحملات تتنافس في أسباب الرفاهية، وإذا نظرت وسمعت كلام الكثيرين بعد الحج، وما يعبرون به، وما يتحدثون عنه، وما يدور عليه اهتمامهم، وجدت أنه حديث في غالبه عن الرفاهية، ماذا لقوا من الرفاهية والراحة، وماذا كان نصيبهم من المطعومات والمشروبات، وما إلى ذلك، فأصبح الناس يتبارون في هذا، ويتباهون به.

وأصبح بعضنا لربما يؤثر أن يتميز على الناس حتى في الحج، يعني لم يكتف بعضنا أن يطلب التميز في رقم، مع أني لا أعرف قيمة الرقم والتميز فيه إلى الآن، لم أفهم هذا، رقم جوال، أو رقم سيارة، في البداية لم أكن أصدق، ولكن الآن أيقنت أن يوجد من البشر من يعنى بهذا، وإن لم أفهمه، فالتميز بمثل هذه الأشياء.

أيضًا أن يتميز بحملة، أو يتميز بمستوى من حملة تكون على فئات فيطلب التميز في هذا، أنا أقول: هذا خلاف مقصود الشارع، ليس الهدف، وليست الغبطة أن يجد الإنسان رفاهية في الحج، هذه ليست غبطة، ولا يفرح بمثلها إطلاقًا، لا تفرح بهذا، ولا تغتبط، إنما يأتي الإنسان في الحج في حال من الخضوع، والتذلل، والتواضع لله ، يأتون شعثًا غبرًا.

والحج جهاد لا قتال فيه، والجهاد خلاف هذه الرفاهية التي يطلبها كثير من الناس اليوم، فهؤلاء ما فهموا مقصود الحج.

لكن غاية ما هنالك أننا نقول: بالنسبة لبعض الناس: دعهم هذا خير ما بذلوا به الأموال؛ لأنه لو لم يكن بهذه المثابة لم يحج، وما ينفقه في هذا الحج من أموال لربما لا يساوي عشر معشار ما ينفقه في رحلة سياحية مع أهله في الإجازة الصيفية، ونحوها.

فنقول: دعهم، كما قال الإمام أحمد فيمن ذهّب المصحف: "دعهم فإن هذا خير ما أنفقوا به الأموال"[8]، مع أن مذهبه أنه لا يجوز تذهيب المصاحف، لكن إنفاق المال في تذهيب المصحف أفضل من إنفاق المال في الخمور والمراقص، والفساد والإفساد، هذا الذي قصده الإمام أحمد -رحمه الله-.

فهذا خير ما أنفقوا به الأموال، خير ما بذلوا به الأموال.

إذن نحن نحتاج أن نفقه هذه الحقيقة، وألا نغتبط بغير مقصود الشارع، والغنيمة التي يرجع بها الحاج وهي التي يسعى لتحصيلها: أن يرجع بحج مبرور، أن يرجع وقد غُفر له ما تقدم من ذنبه، أن يرجع بحج ليس له جزاء إلا الجنة، فهذه هي الغبطة، وليست الغبطة بنعيم الجسد، وراحة الجسد، ولذات الجسد، هذا مقام لتحقيق العبودية، وليس بمقام لتحقيق الذات ومطالب النفس.

فنحن نخطئ حينما نصوب أنظارنا وأذهاننا إلى مثل هذه المطلوبات الدنية التي صار يتبارى فيها كثير من الناس.

فأسأل الله أن يرزقنا وإياكم حجًا مبرورًا، وأن يتقبل منا ومنكم، وأن يعيننا وإياكم على ذكره وشكره وحسن عبادته.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وآله وصحبه.

  1. أخرجه البخاري، كتاب جزاء الصيد، باب حج الصبيان، برقم (1858).
  2. أخرجه الترمذي، أبواب الحج عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، باب ما جاء في الإفاضة من عرفات، برقم (886)، والنسائي، كتاب مناسك الحج، باب الركوب إلى الجمار واستظلال المحرم، برقم (3062)، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (7882).
  3. أخرجه مسلم، كتاب الحج، باب صحة حج الصبي وأجر من حج به، برقم (1336).
  4. أخرجه البخاري، كتاب الحج، باب الحج على الرحل، برقم (1517).
  5. أخرجه ابن ماجه، أبواب المناسك، باب الحج على الرحل، برقم (2890)، وصححه الألباني كما في السلسلة الصحيحة، برقم (2617).
  6. أخرجه عبد الرزاق الصنعاني في المصنف (5/19)، برقم (8836)، عن مجاهد بلفظ: "قال رجل عند ابن عمر ما أكثر الحاج؟ فقال ابن عمر: "ما أقلهم؟"، قال: فرأى ابن عمر رجلا على بعير على رحل رث، خطامه حبل، فقال: "لعل هذا".
  7. شرح زاد المستقنع للشنقيطي (135/10)، بترقيم الشاملة آليا).
  8. انظر: فيض القدير (5/449).

مواد ذات صلة