الخميس 18 / رمضان / 1445 - 28 / مارس 2024
حديث "أين أنا يا رسول الله إن قُتِلت.." إلى «إن إخوانكم قد قتلوا..»
مرات الإستماع: 0

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فمما أورده المصنف -رحمه الله- في باب فضل الجهاد، ما جاء من حديث جابر قال: جاء رجل، أو قال رجل: أين أنا يا رسول الله إن قتلت؟ قال: في الجنة، فألقى تمرات كن في يده، ثم قاتل حتى قتل[1].

وذكر بعده حديث أنس قال: انطلق رسول الله ﷺ وأصحابه حتى سبقوا المشركين إلى بدر، وجاء المشركون، فقال رسول الله ﷺ: لا يقدمن أحد منكم إلى شيء حتى أكون أنا دونه فدنا المشركون، فقال رسول الله ﷺ: قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض قال: يقول عمير بن الحمام الأنصاري : يا رسول الله، جنة عرضها السماوات والأرض؟ قال: نعم قال: بخ بخ، فقال رسول الله ﷺ: ما يحملك على قولك: بخ بخ؟ قال: لا والله يا رسول الله إلا رجاء أن أكون من أهلها، قال: فإنك من أهلها فأخرج تمرات من قرنه، فجعل يأكل منهن، ثم قال: لئن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة، فرمى بما كان معه من التمر، ثم قاتلهم حتى قتل[2]. رواه مسلم.

قوله في الحديث الذي قبله، الرجل الذي سأل أين أنا يا رسول الله إن قتلت؟ قال: في الجنة فألقى تمرات كن في يده، ثم قاتل حتى قتل، يحتمل أن يكون هذا هو المراد بالحديث بعده هو عمير بن الحمام، لكنه في الحديث الآخر جعل يأكل منهن، وقد تتكرر الواقعة على كل حال، فذاك الأول استطال المكث، والبقاء في هذه الحياة الدنيا، فألقى هذه التمرات اللاتي كن في بيده، والثاني جعل يأكل منهن، ويقول ما ذكر في الحديث، فكل هذا فيه استطالة البقاء، حتى ولو كان بهذا القدر اليسير القصير؛ يعني بقدر ما يأكل هذه التمرات، والتمرات هذه الزنة على وزن فعلات يدل على القلة هو جمع قلة، يعني ليس بتمر كثير، وإنما هو شيء يسير قليل، قد لا يستغرق أكله ثوانٍ أو دقائق.

ففي حديث أنس انطلق رسول الله ﷺ وأصحابه حتى سبقوا المشركين إلى بدر، وجاء المشركون، فقال رسول الله ﷺ: لا يقدمن أحد منكم إلى شيء حتى أكون أنا دونه، فدنا المشركون، فقال النبي ﷺ: قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض هذه الجنّة ذكر النبي ﷺ عرضها، وهو السماوات والأرض، والعرب -كما سبق في بعض المناسبات- تذكر العرض، وذلك ليتبين مساحة الشيء، وأنه إذا كان العرض بهذه المثابة فلا تسأل عن الطول؛ لأن الطول عادة أكثر من العرض، فإذا كان الشيء مربعًا فمعنى ذلك أن طوله كعرضه، لكن لا يمكن أن يكون الطول أنقص من العرض، والعادة أن العرض أقل من الطول، فإذا كان عرض السماوات والأرض، إذًا ما بال الطول؟ وهذا أمر لا يمكن أن يتخيله ذهن الإنسان، عرضها السماوات والأرض، ونحن حاولنا من قبل في رمضان أن نقدر الظل الذي يسير فيه الراكب شجرة في الجنة يسير الراكب تحت ظلها مائة عام، فظهرت الكرة الأرضية بأكملها بحساب تقريبي لظل هذه الشجرة، ما تساوي لربما حبة رمل بالنسبة لهذه الشجرة، فكيف إذا كانت الجنة عرضها السماوات والأرض؟

إذًا هذا أمر لا يمكن أن يتصور، ولا يوجد في الدنيا شيء أن يقربه إطلاقا، ولهذا أخبر النبي ﷺ أن موضع أحدنا في الجنة سوط أحدنا في الجنة خير من الدنيا وما فيها[3]، فكيف بالقصر في الجنة؟

على كل حال قال عمير بن الحمام الأنصاري عمير بن الحمام آخى النبي ﷺ بينه وبين عبيدة بن الحارث بن المطلب، الذي بارز مع علي وحمزة -رضي الله عنهم أجمعين- وأصيب، ثم بعد ذلك كانت في ذلك شهادة له، وعمير أيضًا قتل في غزوة بدر.

فقال: يا رسول الله، جنة عرضها السماوات والأرض؟ قال: نعم قال: بخ بخ، هذه الكلمة تستعمل لاستعظام الشيء، تفخيم الشيء بخ بخ، وبعضهم يقول بالإسكان بخ بخ، ويمكن أن يكون هذه لغة، وهذه لغة، فقال رسول الله ﷺ: ما يحملك على قولك: بخ بخ؟ قال: لا، والله يا رسول الله، إلا رجاء أن أكون من أهلها، قال: فإنك من أهلها فيكون هذا من المبشرين بالجنّة، فأخرج تمرات من قرنه، قرنه: يعني جعبة النشاب التي يوضع فيها السهام، فيها تمرات، وهذا يدل على تقللهم، وما هم فيه من الشدة، هم في معركة، فليس عندهم أطعمة كثيرة، وبوفيهات، وأشياء، ولحوم، وإلى آخره، الواحد منهم معه تمرات قليلة يتقوت بها يومه، الذي يزاول فيه أشق الأعمال، وهو القتال، فكانت هكذا حياتهم، وهم خيار الخلق، أفضل من على وجه الأرض هم هؤلاء من أهل بدر -رضي الله عنهم وأرضاهم- فلو كان العطاء الدنيوي، والسعة، وكثرة الأكل، وكثرة الترفة لو كان ذلك يدل على مزية وخير للإنسان؛ لكان أولى الناس به النبي ﷺ ومن معه من هؤلاء، وكانوا في شظف من العيش.

فجعل يأكل منهن يعني: ربما يكون ذلك كما يفعله من استأنس بشيء، أو سر بخبر، فجعل يأكل معبرا عن سعادته، وغبطته، وسروره، ويمكن أن يكون ذلك على سبيل أنه جعل يأكل منهن ليحقق ما ذكر؛ لأنه قال: لئن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة، يعني بدأ يأكل، ثم قال: أنا لا أستطيع أن أنتظر أكثر من هذا، هذا الأكل يعتبر حياة طويلة بالنسبة لما ذكر من نعيم الجنة، فرمى بما كان معه من التمر، ثم قاتلهم حتى قتل، رواه مسلم.

ثم ذكر حديثا آخر عن أنس قال: جاء ناس إلى النبي ﷺ أن أبعث معنا رجالاً يعلمونا القرآن والسنة، جاؤوا أن ابعث إلينا، يعني فقالوا له: أن ابعث إلينا، طلبوا منه أن يبعث إليهم من يعلمهم، فبعث لهم سبعين رجلا من الأنصار، يقال لهم: القراء، بعضهم يقول: هؤلاء من أهل الصفة، وأهل الصفة يبلغون سبعين، وأحيانًا يزيدون، والذي يظهر أنهم لم يكونوا من أهل الصفة، فهؤلاء من الأنصار، وأهل الصفة كانوا يأتون من قبائل العرب، ونواحي بلاد العرب فقراء، ليس عندهم شيء، فيبقون في هذه الصفة، سقيفة في آخر المسجد، وكان هؤلاء من القراء يعملون، ويأتون لهم بشيء من الطعام والشراب، يقول: فيهم خالي حرام، يعني ابن ملحان خال أنس، يقرؤون القرآن، ويتدارسون بالليل، يتعلمون، وكانوا بالنهار يجيئون بالماء، فيضعونه في المسجد، ويحتطبون، فيبيعونه، ويشترون به الطعام لأهل الصفة، وللفقراء، هذا عملهم، فبعثهم النبي ﷺ فعرضوا لهم، فقتلوهم قبل أن يبلغوا المكان، هؤلاء الذين جاؤوا إلى النبي ﷺ يطلبهم هو أبو براء الملقب بملاعب الأسنة، فلما ذهبوا مروا بعدو الله أبي الطفيل، أو عامر بن الطفيل، مروا به، وقرؤوا عليه كتاب رسول الله ﷺ قرأه حرام -رضي الله عنه وأرضاه-، فأشار إلى رجل فطعنه بالحربة، وبعض أهل السير يقول: ضربه برأسه، فتلقى الدم بيديه، وجعل ينضح على وجهه، ويقول: فزت ورب الكعبة، وبعضهم يقول: فأنفذه حتى خرج من صدره، يعني الرمح دخل من ظهره، وخرج من صدره، فتلقى الدم، وقال فزت، ورب الكعبة، وكان هذا سببًا لإسلام بعض من حضر الواقعة، كيف يقتل، ويتلقى الدم، وينضح على وجهه، ويقول: فزت ورب الكعبة، هذه ساعة لا يمكن أن يكذب فيها الإنسان، ولا أن يمثل، فالشاهد: أنه قال: فزت ورب الكعبة، ثم بعد ذلك استصرخ عليهم عامر بن الطفيل قومه من بني عامر، فأبوا؛ لأن هؤلاء لهم أمان، وعهد من أبي براء، فاستصرخ عليهم عصية وسليم -بعض بطون العرب أو قبائل العرب- فجاؤوا، وأحاطوا بهم، ثم بعد ذلك قتلوهم.

فالشاهد: أنهم عرضوا لهم، فقتلوهم قبل أن يبلغوا المكان، فقالوا: اللهم بلغ عنا نبينا أن قد لقيناك، فرضينا عنك، ورضيت عنا هذا يحتمل أنهم قالوه وهم أحياء لما أحاطوا بهم، قالوا هذا الكلام كما يذكره بعض أهل السير، ويحتمل أن يكون ذلك بعدما ماتوا أن الله -تبارك وتعالى- أكرمهم، وقالوا ذلك، فبلغ الرسول ﷺ بلغه جبريل هذا، وكان هذا من القرآن الذي يتلى، ثم نسخت قراءته، هذا من المنسوخ، وأتى رجل حرامًا -خال أنس- من خلفه فطعنه برمح، حتى أنفذه، فقال حرام: فزت ورب الكعبة، فقال رسول الله ﷺ: إن إخوانكم قد قتلوا، وإنهم قد قالوا: اللهم بلغ عنا نبينا أنا قد لقيناك، فرضينا عنك، ورضيت عنا رضينا عنك هذا الرضا بالقضاء من جهة، ورضوا عنه أيضًا من جهة الجزاء، ما أعطاهم، وحباهم، وأكرمهم، ورضيت عنا، فالله -تبارك وتعالى- رضي عنهم، ورضوا عنه، متفق عليه، وهذا لفظ مسلم[4].

والله المستعان، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

  1. أخرجه مسلم، كتاب الإمارة، باب ثبوت الجنة للشهيد، برقم (1899).
  2. أخرجه مسلم، كتاب الإمارة، باب ثبوت الجنة للشهيد، برقم (1901).
  3. أخرجه البخاري، كتاب بدء الخلق، باب ما جاء في صفة الجنة وأنها مخلوقة، برقم (3250).
  4. أخرجه مسلم، كتاب الإمارة، باب ثبوت الجنة للشهيد، برقم (1902).

مواد ذات صلة