الخميس 18 / رمضان / 1445 - 28 / مارس 2024
«العبادة في الهرج كهجرة إلي»
مرات الإستماع: 0

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فهذا "باب فضل العبادة في الهرج"، وهو الاختلاط والفتن ونحوها.

الهرج كما فسره المصنف -رحمه الله- هو: "الاختلاط والفتن"، بعضهم يقول: "إن أصل هذه المادة في كلام العرب الهاء والراء والجيم تدل على الاتساع في الشيء"[1]، وجاء تفسير ذلك عن النبي ﷺ بالقتل[2].

وجاء تفسيره في كلام العرب وفي كلام أهل العلم كثيرًا: اختلاط الأمور، يعني: الفتن، وهذا كله لا ينافي بعضه بعضًا؛ لأن الفتن تؤدي إلى القتل، والفتن إنما تكون باختلاط الأمور حيث يشتبه الحق بالباطل ويلتبس؛ وهذه هي الفتنة، وفضل العبادة في الهرج مبناه على حديث معقل بن يسار قال: قال رسول الله ﷺ: العبادة في الهرج كهجرة إليّ[3]، رواه مسلم.

العبادة في الهرج كهجرة إليّ ما وجه ذلك؟

 وجهه عند بعض أهل العلم كالحافظ ابن رجب[4] -رحمه الله- أن الناس في أوقات الفتن يرجعون إلى أهوائهم وآرائهم وأذواقهم بعيدًا عن حكم الله وشرعه، فالذي ينتقل من هذه الحال إلى العبادة والإقبال على الله -تبارك وتعالى- يكون كالمهاجر، كأن الناس رجعوا إلى شيء مخالف للشرع كحال أهل الجاهلية حيث يتحاكمون إلى غير شرع الله ، فيصير هو راجعًا إلى ربه -تبارك وتعالى-، ومشتغلاً بعبادته فيكون ذلك كالهجرة التي هي الانتقال في أجلى معانيها من دار الكفر والشرك إلى دار الإسلام، وإن كانت الهجرة أوسع من هذا.

ومن أهل العلم من يقول: بأن ذلك بمعنى أن الهجرة لما كانت ثقيلة وشاقة ولا يهاجر في الزمان الأول حينما كانت الهجرة في أول الإسلام إلا القليل من الناس، فكذلك الذين ينتقلون من هذه الحال يعني حينما تقع الفتن ينتقلون إلى عبادة الله وطاعته وما إلى ذلك هم قلة.

ومن أهل العلم من يقول: إن ذلك بسبب أن الناس في أوقات الفتن -وهذا ذكره القرطبي[5] رحمه الله- وهو من أجود هذه المعاني أن الناس في أوقات الفتن ينشغلون تشتغل قلوبهم وأسماعهم بالفتن، وتتبعها، وتلقف الأخبار من هنا وهناك، فذلك يشغلهم عن طاعة الله، وطاعة رسوله ﷺ، يشغلهم عن العبادة، فكان إقبالهم على العبادة في وقت الفتن كالهجرة إلى النبي ﷺ، وهذا أمر مشاهد.

فالناس في أوقات الفتن في مثل هذه الأيام التي نعيشها مثلاً تجد الناس يتلقفون الأخبار، وينشغلون بها، ويتتبعونها، فتأخذ عليهم عامة الزمان عامة الوقت، ثم ما يبقى بعد ذلك يبقى القلب مشوشًا مشغولاً، فالإنسان إما أن يتتبع هذه الأخبار يسمع هنا وهناك، ويشاهد، ويقرأ في الإنترنت في المواقع المختلفة، وفي القنوات الفضائية، وفي الإذاعات، ثم إذا فرغ من ذلك لربما يبدأ يتحدث، وحديث الناس في المجالس عن هذه القضايا، ثم إذا بقي الإنسان وحده فإن قلبه يكون مشوشًا مشغولاً، فلا يكاد يتفرغ إلى عبادة الله ، ولذلك ينصرف أكثر الناس اليوم عن العلم والاشتغال بالعلم، والبرامج العلمية، والاشتغال بكتاب الله   وتلاوته، والعبادة، وما إلى ذلك، قلوبهم مشغولة، ولو أنهم وجدوا خطيبًا يتحدث بأعلى صوته عن هذه القضايا، وكأن الخطبة تتحول إلى نشرة أخبار لربما كثير من الناس يأنسون بذلك، ويطربون له، ويرون أن هذا هو الصحيح، فيكون الإنسان مشغولاً حتى في العبادة، يعني: في خطبة الجمعة، أيضًا وهذا وجد في بعض البلاد، وقد زرت بعض البلاد، وتعجبت كنت أظن أن فيها علماء كثيرون، وأن الدروس تعمر المساجد، وما إلى ذلك، ولم أكد أر شيئًا من هذا إلا على يد طليعة جديدة من الشباب، فلما سألت أين الكبار، وأين الشيوخ، وأين؟، وأين؟! تبين أنهم قد اشتغلوا بأمور أخرى أشغلتهم كثيرًا وصارت هي ديدنهم على المنابر، وغيرها، شغل الناس، فبعض البلاد انشغلوا منذ عقود؛ فبلادهم تموج، وبعض البلاد طرأت عليهم الفتن في سنيات متأخرة، وبعضهم طرأت عليهم الفتن في شهور متأخرة.

الشاهد أن هذا وهذا مع وسائل الإعلام الحديثة، وتقارب العالم يصبح ذلك جميعًا بين يدي الإنسان يشترك فيه ويستوي البعيد والقريب، فينشغل الناس، وتتشعب قلوبهم فيكون ذلك سببًا للانشغال عن كثير من النفع والبر، والعمل الصالح، والتربية الصحيحة الجادة؛ فيحتاج الإنسان أن يتذكر مثل هذه المعاني، وأن يحدد له أهدافًا مرسومة واضحة بينة، ماذا يريد وإلى أي شيء يريد أن يصل إن كان يريد العلم، إن كان يريد أن يشتغل بالعبادة، وقراءة القرآن، والذكر أو الدعوة إلى الله -تبارك وتعالى-، وما إلى ذلك.

فينبغي أن يحصر هذا الاشتغال بهذه الأمور وتتبع هذه الأحداث، وأن يشغل ذلك بوقت محدد، ويجعل لذلك مثلاً نصف ساعة في اليوم، يجعل لذلك ساعة في اليوم؛ أما أن يكون كالذي يجري خلف سراب لا يدري إلى أي مدى ينتهي، ثم بعد ذلك لربما يستمر هذا الوضع في سنين طويلة وتنتهي فتن، وتأتي أخرى، وتنتهي فتن وتأتي أخرى، ثم بعد ذلك يجد الإنسان نفسه حينما تشيب مفارقه يجد نفسه من المفاليس، لا علم، ولا عمل، وإذا نظرت إلى حال كثير ممن شغلته هذه الأمور يتتبعها هنا وهناك وجدت أن الحصيلة في النهاية قليلة، وجدت ضمورًا في العلم والعمل، لكن يمكن أن يكتفى ببعض هذا بوقت يحدده الإنسان لكنه لا يضيع عليه أهدافه من طاعة الله، وطاعة رسوله ﷺ، والاشتغال بالعلم النافع.

فيتذكر الإنسان هذا المعنى في مثل هذه الأيام؛ العبادة في الهرج كالهجرة إلى النبي ﷺ، وكلام أهل العلم في هذا المعنى كثير، وما ذكرته يقرب غيره، ويجمعه بإذن الله ويتضمنه.

أسأل الله -تبارك وتعالى- أن يجنبنا وإياكم مضلات الفتن، وأن يرحمنا ويجبر كسرنا ويلطف بنا وبإخواننا المسلمين، وأن يعيننا وإياكم على ذكره وشكره وحسن عبادته، وصلى الله على نبينا محمد.

  1. انظر: لسان العرب (2/389)، وتاج العروس (6/275).
  2. أخرجه البخاري، أبواب الاستسقاء، باب ما قيل في الزلازل والآيات، برقم (1036)، وبرقم (7061)، كتاب الفتن، باب ظهور الفتن، ومسلم، كتاب العلم، باب رفع العلم وقبضه وظهور الجهل والفتن في آخر الزمان، برقم (157).
  3. أخرجه مسلم، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب فضل العبادة في الهرج، برقم (2948).
  4. لطائف المعارف لابن رجب (ص: 132).
  5. انظر: المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم (7/309).

مواد ذات صلة