الخميس 09 / شوّال / 1445 - 18 / أبريل 2024
(200) أذكار النوم الدعاء إذا تقلب ليلا
تاريخ النشر: ٠٣ / ذو القعدة / ١٤٣٥
التحميل: 2115
مرات الإستماع: 1710

الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله.

أما بعد: فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته،

نواصل الحديث في الكلام على الأذكار التي أوردها المصنفُ مما يُقال عند النوم، وهذا الذكر هو حديث عائشةَ -رضي الله تعالى عنها-، قالت: كان رسولُ الله ﷺ إذا تضوَّر من الليل قال: لا إله إلا الله الواحدُ القهَّار، ربَّ السَّماوات والأرض وما بينهما العزيز الغفَّار[1]. أخرجه ابنُ حبان، والحاكم، والنَّسائي في: "عمل اليوم والليلة"، وابن السُّني في: "عمل اليوم والليلة"، وصححه الحاكم وقال: "على شرط الشَّيخين"، ووافقه الذَّهبي، كما صححه أيضًا الحافظ العراقي[2]، والشيخ ناصر الدين الألباني، وقال: "على شرط البخاري"[3].

هذا الحديث: "كان إذا تضوَّر من الليل"، يعني: تلوَّى وانقلب وتحوّل ظهرًا لبطنٍ، فهذا معنى التَّضور: "تضوَّر من الليل"، فـ"من" تبعيضية، أو بمعنى "في"، يعني بمعنى: تضوّر في الليل، أو من الليل، يعني: في بعض أوقاته، أو في بعض آنائه يقول ذلك.

إذن هذا الذكر ليس من الأذكار التي تُقال عند النوم، إذا أراد المسلمُ النومَ فإنَّه يأتي بالأذكار المشروعة عند النوم، هذا ليس منها، وإنما هذا له حال خاصّة، وهو حينما ينام وقد قال الأذكار، فإذا حصل له تحوّل في فراشه وانقلب من جنبٍ إلى جنبٍ فإنَّه يقول ذلك، كما يقول أيضًا ما يقول من الذكر حينما تحصل له انتباهة، فهذا غير ما يُقال عند النوم، فهو من الأذكار المخصوصة التي تُقال في حالٍ معينةٍ، بمعنى: أنَّه لو لم يحصل له تحوّل فإنَّه لا يقول هذا.

إذن هذا مما لا يُقال ابتداءً، فلا يُعدّ من الأذكار التي تُقال عند النوم، والأذكار التي تُقال عند النوم كثير منها يشتمل على التوحيد، فهو يذكر نفسَه بهذا، ويُردده على نفسه، فهو ينام على التوحيد، ويُصبح عليه، وأيضًا يستحضر ذلك فيما بين ذلك.

كذلك أيضًا هذه الأذكار التي تُقال عند النوم هي تُذكّره بالموافاة والرجوع إلى الله -تبارك وتعالى-، كما ذكرنا في الكلام على معانيها.

وكذلك أيضًا تذكره بالموت، فلا تحصل له غفلة، ويكون على حالٍ من الاستعداد، هذا إذا أراد أن ينام، فإذا حصلت له انتباهة في نومه فإنَّه أيضًا يُردد التوحيد.

هكذا المؤمن في حالاته كلِّها: في ليله ونهاره التوحيد حاضرٌ في قلبه، ويشتغل به لسانه، ويتردد عليه.

فهنا بمجرد ما يحصل له انتقالٌ وتحوّلٌ في هذا الفراش من جنبٍ إلى جنبٍ فإنَّه يقول: "لا إله إلا الله" لا معبودَ بحقٍّ إلا الله، فالمؤمن مثل هذا لا يمكن أن يتحوّل عن دينه، أو أن يتشبّه بأهل الغضب، أو أهل الضَّلال من اليهود والنَّصارى، ولا يمكن أن يتنازل عن شيءٍ من إيمانه، وذلك أنَّ هذا التوحيد قد مُزج بلحمه ودمه في حالاته كلِّها: "لا إله إلا الله"، عرفنا معنى هذه الكلمة العظيمة: لا معبودَ بحقٍّ إلا الله الواحد القهَّار، فـ"لا إله إلا الله" تعني: الوحدانية، لا معبودَ بحقٍّ، فهو الواحد في إلهيَّته، وربوبيَّته، وأسمائه وصفاته.

وهذان الاسمان جاءا مُقترنين في كتاب الله -تبارك وتعالى- في ستة مواضع، من ذلك: ما جاء في سورة يوسف -عليه الصَّلاة والسَّلام-: يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ [يوسف:39]، وهكذا في قوله تعالى: يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ [إبراهيم:48]، وفي قوله: قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ [ص:65]، إلى غير ذلك من المواضع.

فهو الواحد في ذاته، في أسمائه، في صفاته، في أفعاله، فلا نظيرَ له ولا مثيلَ في شيءٍ من ذلك، ومن هنا فإنَّه ليس له ولدٌ، كما أنَّه القهَّار لجميع العالم العلوي والسُّفلي، وهذا يقتضي أنَّه ليس له ولدٌ؛ لأنَّ الوحدانية تُنافي الولدية؛ لأنَّ الولد جزءٌ من الوالد، وكذلك أيضًا القهَّار؛ فإنَّ الولد يكون مشمولاً بالمحاباة، والمراعاة، والشَّفقة، والعطف، وما إلى ذلك؛ لأنَّه بضعةٌ من الوالد.

فالله -تبارك وتعالى- هو القهَّار، والخلق جميعًا تحت قهره وتصرُّفه -تبارك وتعالى-، ومن هنا فإنَّ وحدانيته وقهره مُتلازمان؛ فالواحد لا يكون إلا قهارًا، والقهَّار لا يكون إلا واحدًا، أمَّا الولد فإنَّه يكون مُدلاً على أبيه؛ فلا يكون مقهورًا له.

ومن ثم فإنَّ الله -تبارك وتعالى- أحدٌ، فردٌ، صمدٌ، لم يلد، ولم يُولد، كل شيءٍ خاضعٌ لعظمته وسُلطانه وجبروته وقهره، والخلق فُقراء إليه، فهو الغني عمَّا سواه، ومن غناه أنَّه لم يلد ولم يُولد، فكل شيءٍ قد دان له وخضع.

هنا قال: ربّ السَّماوات والأرض وما بينهما العزيز الغفَّار، فالرب بمعنى: السيد، المالك، المربي خلقه بالنِّعَم الظَّاهرة والباطنة، فهو مالكٌ لجميع ذلك، ومُتصرِّفٌ فيه، وهو العزيز الغفَّار.

وهذان اسمان ثابتان لله -تبارك وتعالى-، وقد جاءا مُقترنين أيضًا في كتاب الله في ثلاثة مواضع، فمن ذلك: قوله -تبارك وتعالى-: رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ [ص:66]، وقوله: يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ [الزمر:5]، فالعزيز يتضمّن صفةَ العزّة، وهي من الصِّفات الجامعة التي لا تُفسّر بمعنى واحدٍ، إنما يستجمع العزّة ويتَّصف بها مَن كان قويًّا، قهَّارًا، غنيًّا، وما إلى ذلك، فهو العزيز الذي لا تُطاق سطوته، وهو الذي خضع له كل شيءٍ، ودان له كل شيءٍ -جلَّ جلاله، وتقدَّست أسماؤه-.

وهو الغفَّار: كثير الغفر، باعتبار كثرة ذنوب العباد، وكثرة العباد أيضًا، فهذه المغفرة التي تحصل لهم كثيرة، ومن ثم فهو غفَّار على كثرة الذنوب، وكثرة المذنبين، واجتماع العزيز مع الغفَّار يُعطي معنًى ثالثًا، كما سبق في الواحد القهَّار، فهو مع عزَّته إلا أنَّه يغفر، عزيز، عظيم، لا تُطاق سطوته، ومع ذلك يغفر.

فالعزّة بالنسبة لمن يتَّصف بها من المخلوقين قد تحمل على شيءٍ من العسف والظُّلم، وعدم الرحمة، وعدم إقالة العثرة، والغفر قد يكون عن ضعفٍ وعجزٍ عن المؤاخذة والأخذ بالذَّنب والخطيئة والسَّيئة والجريرة، وما إلى ذلك.

أما الله -تبارك وتعالى- فهو عزيزٌ، لكن هذه العزّة يكون معها الغفرُ الكثير؛ يستر العيوب، وكذلك أيضًا يُقيل العثرات، ومعنى الغفر فيه معنى السَّتر، وفيه معنى أيضًا: عدم المؤاخذة، والتَّجاوز عن الخطإ والذَّنب والتَّقصير والإساءة.

فهو مع عزَّته هو أيضًا كثير الغفر، لو لم نعرف من صفاته -تبارك وتعالى- إلا أنَّه عزيزٌ؛ فلربما يتوهم بعضُ المخلوقين أنَّه لا يغفر، ولا يُقيل من العثرة، فلمَّا أخبرنا أنَّه غفَّار، وقرن بين هذين الاسمين؛ عرفنا أنَّ عزَّته لا تُنافي مغفرته، فهو أرحم الرَّاحمين، وأحكم الحاكمين.

وهذه المغفرة لو لم يذكر معها عزّة، لو لم نعلم من صفاته وأسمائه أنَّه العزيز؛ لربما توهم بعضُ المخلوقين أنَّ ذلك –يعني: الغفر- ربما من غير عزَّةٍ، فلمَّا علمنا أنَّه العزيز عرفنا أنَّ المغفرةَ ليست عن عجزٍ، المخلوق قد يغفر، وقد يقول: أنا عفوتُ، لكن لأنَّه عاجزٌ، غير قادرٍ على الانتقام؛ ولهذا قال عيسى ﷺ: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [المائدة:118]، فذكر العزيز في مقام المغفرة؛ قالوا: لعلَّ السببَ في ذلك أنَّه في ذلك اليوم يغضب الربّ -تبارك وتعالى- غضبًا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، فعيسى ﷺ ما أراد أن يكون في صفِّ هؤلاء ويطلب المغفرة، وقد نسبوا له الصَّحابة لله ، نسبوا له الصَّاحبة والولد، هذا جوابٌ.

والجواب الآخر: أنَّه أراد أن يقول: إن تغفر لهم فإنَّك أنت العزيز الحكيم، يعني: إن غفرتَ فليس ذلك عن عجزٍ عن المؤاخذة، وإنما يكون هذا الغفرُ عن عزَّةٍ وقُدرةٍ وحكمةٍ، تضع الأمورَ في مواضعها، وتُوقعها في مواقعها، فلا يكون هذا الغفرُ في غير موضعه، وكذلك أيضًا لا يكون بسبب العجز.

هذا ما يتعلّق بهذا الحديث، وأسأل الله -تبارك وتعالى- أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، وأن يجعلنا هُداةً مُهتدين.

اللهم ارحم موتانا، واشفِ مرضانا، وعافِ مُبتلانا، واجعل آخرتنا خيرًا من دنيانا.

والله أعلم، وصلَّى الله على نبينا محمدٍ، وآله وصحبه.

  1. أخرجه ابن حبان في "صحيحه"، برقم (5530)، والحاكم في "المستدرك"، برقم (1980)، والنَّسائي في "عمل اليوم والليلة"، برقم (864)، وابن السُّني في "عمل اليوم والليلة" (ص683)، وصححه الألباني في "صحيح الجامع"، برقم (4693).
  2. انظر: "تخريج أحاديث الإحياء = الـمُغني عن حمل الأسفار" (ص411).
  3. انظر: "السلسلة الصحيحة"، برقم (2066).

مواد ذات صلة