الثلاثاء 09 / رمضان / 1445 - 19 / مارس 2024
(260) الدعاء عند رؤية باكورة الثمر " اللهم بارك لنا في ثمرنا وبارك لنا في مدينتنا... "
تاريخ النشر: ١٨ / صفر / ١٤٣٦
التحميل: 2038
مرات الإستماع: 1578

الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله.

أما بعد: هذا باب "الدعاء عند رؤية باكورة الثمر"، والمقصود بباكورة الثمر، يعني: أوائل الثَّمر، وأورد فيه المؤلفُ حديثًا واحدًا، وهو حديث أبي هريرة قال: كان الناسُ إذا رأوا الثَّمر جاءوا به إلى النبيِّ ﷺ، فإذا أخذه رسولُ الله ﷺ قال: اللهم بارك لنا في ثمرنا، وبارك لنا في مدينتنا، وبارك لنا في صاعنا، وبارك لنا في مُدِّنا، اللهم إنَّ إبراهيم عبدك، وخليلك، ونبيّك، وإني عبدك، ونبيّك، وإنَّه دعا لمكة، وإني أدعوك للمدينة بمثل ما دعاك لمكّة، ومثله معه،قال: ثم يدعو أصغرَ وليدٍ له فيُعطيه ذلك الثَّمر[1]. هذا الحديث أخرجه الإمام مسلم في "صحيحه".

قوله:"كان الناسُ إذا رأوا أول الثَّمر جاءوا به إلى النبي ﷺ"، والمقصود بـ"الناس" هنا الصَّحابة -رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم.

"إذا رأوا أول الثَّمر" هو الذي يُسمّى: الباكورة، والأنموذج: أوائل الثَّمر، والمقصود بالثَّمر عندهم: هو ثمر النَّخيل؛ لأنَّه ليس لهم ثمرٌ في الأصل غير هذا، وأوله حينما يحصل له اللون، وذلك مُؤذنٌ بارتفاع العاهة بإذن الله ، فهو بدو الصَّلاح الذي يجوز معه البيع، ويمكن الانتفاع بالأكل.

وهذه حالٌ يحصل معها أيضًا الخرص لهذا الثَّمر؛ من أجل أهله، يأكلون منه ما شاءوا، ويُهدون ما شاءوا إذا عرف خرصه، وما يجب فيه من الزكاة بعد ذلك.

فكانوا يأتون النبيَّ ﷺ بهذا الثَّمر في مبدئه، لماذا يأتونه بهذا الثَّمر -عليه الصَّلاة والسلام؟

عبارات أهل العلم اختلفت في هذا التَّعليل، فمنهم مَن يقول: من أجل دُعائه ﷺ، الدُّعاء بالبركة، فيدعو لهذا الثَّمر؛ فتحصل به البركة، ويكثر، وينمو، ولا يعرض له ما يُفسده، أو يُضعفه من الآفات.

وبعض أهل العلم يقول: يأتون به إلى النبي ﷺ من أجل إعلامه ببدوِّ صلاح الثَّمر؛ من أجل أن يُرسل الخارصين يخرصون هذا كم يبلغ؟ ليستحلّوا أكلها، وبيعها، والتَّصرف فيها، أو يُعلموه أنَّ الصلاحَ قد بدأ؛ من أجل أن يحلّ لهم بيعها -عليه الصَّلاة والسَّلام-، فإنَّه لا يجوز بيع الثَّمر قبل بدو صلاحه -كما هو معلومٌ.

ويحتمل أن يقصدوا بذلك: إهداء النبي ﷺ باكورة الثَّمر؛ لأنَّذلك مما يُستلطف، ويُستملح، وتتطلع إليه النفوس، فهو من الأشياء التي تكون من قبيل الطَّرائف؛ لأنَّه ليس بمبثوثٍ في الناس، ولا عهدَ لهم به في هذا العام، فيحتمل أن يكون ذلك من أهل العلم، مَن حمله على هذه المعاني.

والحافظ ابن عبدالبرّ -رحمه الله- قال: يحتمل أنهم جاءوا به من أجل أن يدعو له ولهم بالبركة، أو أنَّه من أجل الإهداء، هذا يحتمل[2].

وعلى كل حالٍ، مثل هذا يمكن أن يُراد به جميع هذه المطالب: جاءوا به يُهدونه لمحبَّتهم لرسول الله ﷺ، فإنَّ هذا من الأشياء التي تُستملح، وتهفو إليها النُّفوس، وكذلك أيضًا يدعو لهم -عليه الصَّلاة والسَّلام-، ويُرسل الخارصين، ويأذن لهم في بيعه -عليه الصَّلاة والسَّلام-؛ بيع ثمر النَّخيل، يعني: قد يأتي التَّاجر ويشتري ثمر هذه المزرعة، متى يجوز ذلك؟

إذا بدا الصَّلاح؛ لأنَّ بدو الصلاح مُؤذنٌ بإذن الله بارتفاع العاهة؛ لأنَّ الثمر يعرض له ما يعرض من العاهات والآفات، فيذهب مال المشتري، ويذهب الثَّمر.

فهنافي ذلك حقوقٌ لله -تبارك وتعالى- من الزكاة، وحقوقٌ للناس فيما يتعلّق بالبيع، ونحو هذا،وحقوقٌ لهم أيضًا فيما يتعلّق بالأكل، فيأتون بذلك إلى النبي ﷺ مُؤذنين، مُعلنين بدو الصَّلاح، مُستأذنين، مُهدين، وكذلك أيضًا طالبين للدُّعاء.

فإذا أخذه رسولُ الله ﷺ قال: اللهم بارك لنا في ثمرنا، وهذا يُشعر بأنَّ العلّة من المجيء به، أو أنَّ هذا من المقاصد الأصلية لهم؛ أنهم يأتون بباكورة الثَّمر من أجل أن يدعولهم، فهم يلتمسون دعاءه -عليه الصلاة والسلام-، فكان يدعو، وقد عرفوا ذلك من عادته -عليه الصَّلاة والسلام-.

اللهم بارك لنا في ثمرنا وهذه البركة يمكن أن تُحمل على البركة الحسيّة، وكذلك أيضًا البركة المعنوية، وهذه البركة تكون بالنَّماء، والزيادة، والنَّفع، والبقاء، كل هذه المعاني داخلة في البركة، فيكون نافعًا، ويكون القليلُ منه كثيرًا، يجزي عن الكثير من غيره إذا بُورِك فيه، وإن لم يُبارك بالشَّيء فإنَّه يضمحلّ، ويتلاشى، ولو كثر عددُه، لربما يأكل الإنسانُ من هذا الثَّمر الكثير، ولا يشبع،ولربما يأكل الثمرةَ الواحدةَ وتكفيه.

قال: وبارك لنا في مدينتنا يعني: المدينة النبوية، وهي طيبة، مدينة النبي ﷺ، بارك لنا فيها، في ماذا؟ في ذاتها، من جهة ما يحصل من ناحية سعتها، ذات المدينة، وكذلك أيضًا سعة أهلها، وغير ذلك مما يدخل في هذا المعنى،البركات التي تحصل في المدينة: بارك لنا في مدينتنا، فقد اتَّسع فيها العمران جدًّا، وكثر الوافدون عليها، ووسّع مسجده ﷺ، وكثر أيضًا ما بأيدي الناس، حيث صار يُجبى عليها كنوز كسرى وقيصر -كما هو معلومٌ-، وكان ذلك يبسط في مسجد رسول الله ﷺ الكنوز: الأحمر، والأصفر من بيت المال لكسرى، وكذلك ما لقيصر، يأتون به إلى مدينة رسول الله ﷺ، ويُوضع عليه غطاء، أو نحو ذلك، ثم يُقسم بين الناس.

وهكذا عدّ من الخيل المعدّة للجهاد في سبيل الله في عهد عمر فقط أنها بلغت إلى أربعين ألف فرسٍ، عدد غير قليلٍ، والمدينة تُعتبر صغيرةً، إلى أربعين ألف فرسٍ.

ولاحظوا أنَّ النبي ﷺ حينما خرج لغزوة بدرٍ لم يكن معهم سوى فرسين فقط، فوصلت في عهد عمر إلى أربعين ألفًا.

فالدُّعاء -دعاء النبي ﷺ- للمدينة يشمل هذا الدُّعاء بما يتعلّق بالأمور الحسيَّة، والمعنويّة: ما يجده الإنسانُ من الانشراح، واتِّساع الصَّدر، وما يحصل له من مناسبة ومُلاءمة سكناها.

وكذلك أيضًا المنافع الأُخروية، فإنَّ المدينة مَن سكنها وصبر على لأوائها؛ فإنَّ النبي ﷺ يكون له شفيعًا يوم القيامة[3]، وكذلك مَن يموت في مدينة رسول الله [4]-،وكذلك الصَّلاة في مسجده بألف صلاةٍ[5]،وفي المدينة حَرَمٌ كما هو معلومٌ، كما في مكّة حرمٌ، إلا أنَّه يختلف حرمُ مكّة عن حرم المدينة من وجوهٍ معروفةٍ عند أهل العلم.

قال: وبارك لنا في صاعنا الصَّاع: هو المكيال المعروف، يبلغ أربعة أمدادٍ، والمدّ: ما يكون بمجموع الكفَّين، اليدين المعتدلتين، هذا يُقال له: المدّ.

بارك لنا في صاعنا ومُدِّنا، فالبركة -كما سبق- هي النَّماء والزِّيادة، والثَّبات في الخير، ونحو ذلك.

هذا الدُّعاء أيضًا بالصَّاع والمدّ يحتمل أن تكون هذه البركة بركة دينيَّة، وهو ما يتعلّق بهذه المقادير من حقوق الله -تبارك وتعالى- في الزكاة والكفَّارة، فتكون بمعنى: الثَّبات والبقاء لها، كبقاء الحكم ببقاءالشَّريعة وثباتها، أن يكون المقصودُ بذلك المقادير الشَّرعية الواجبة في أموال الناس، وهذا لا يحصل إلا بحصول الغِنى لهم.

كذلك يحتمل أن تكون البركةُ من قبيل البركة الدّنيوية؛ من جهة تكثير الكيل، والقدرة بهذه الأكيال حتى يكفي منها ما لا يكفي من غيرها في غير المدينة، يعني: يُبارك فيها، وتعظم بركة هذه الأكيال.

ويحتمل أن ترجع هذه البركة إلى التَّصرف بها في التِّجارة وأرباحها، وإلى كثرة ما يُكال، يعني: كأنَّه يدعو لهم بالتِّجارة، والغِنى، واتِّساع العيش، فيكيلون كثيرًا.

بارك لنا في صاعنا ومُدِّنا يعني: أنهم يكونون أهلَ حركةٍ اقتصاديةٍ، ونماءٍ في التِّجارة؛ فيُكثرون من الكيل في هذه المكاييل، بيعًا وشراءً.

ويحتمل أن يكون ذلك باعتبار الزِّيادة فيما يُكال بها؛ باتِّساع عيشهم، وكثرته، يعني: ليست المسألةُ مسألةَبيعٍ؛ لكنَّهم يكيلون كثيرًا؛ لوفور المكيلات؛ لوفور الطَّعام عندهم، يعني: ليست بقفرٍ، وليست بيوتهم خاليةً، خاويةً، ومكاييلهم معطّلة، بل يكيلون، ويكثر الخيرُ في أيديهم، وذلك يرجع إلى اتِّساع العيش.

وقد جُبي إليها ما في غيرها من البلاد، فقد لا تُزرع في المدينة هذه الأشياء التي تُكال مثلاً، وقد تُجبى إليها، فقد جُبي إليها من بلاد الخصب في الشَّام، وفي مصر، وفي العراق؛ حتى اتَّسع عيشُهم، وزادت مكاييلهم أيضًا، زاد نفسُ المكيال، مقدار المكيال، مكيال أهل المدينة صار مكيالاً، صار على سبيل المثال، صار ذلك هاشميًّا، يعني: زيادة على مدِّ النبي ﷺ مرتين، أو بقدر مرةٍ ونصف، فهذا يدل على اتِّساع العيش، كلّ ذلك إجابةً لدعوته -عليه الصَّلاة والسَّلام.

وذهب كثيرٌ من أهل العلم إلى أنَّ المراد بدُعائه ﷺ أن يُبارك في الصَّاع، وفي المدّ: أنَّ المقصود بذلك هو ما يُوضع فيهما، وهذا هو الأقرب -والله تعالى أعلم-؛ لأنَّه ليس المقصودُ الدُّعاء لنفس الصَّاع، أو نفس المدّ، فإنَّ ذلك لا ينتفع الناسُ به من جهة الأكل، أو الشُّرب، أو نحو ذلك، إنما الذي يحصل به الانتفاع هو ما يُكال به؛ فيكون الدعاءُ هنا لما يُكال بالصاع والمدّ، فيكون ذلك مُباركًا، فالقليل منه يكفي عن كثيرٍ مما يكون في غير المدينة، فهذا يصحّ في لغة العرب.

وقد قال الحافظُ ابن عبد البر -رحمه الله- بأنَّ دعاء النبي ﷺ في هذا الحديث المراد به: صرف الدُّعاء بالبركة إلى ما يُكال بالمكيال، والصاع، والمدّ من كلِّ ما يُكال. يقول: هذا من فصيح كلام العرب، وأن يُسمّى الشيء باسم ما قرب منه، هذا الذي يُسمونه عند أهل المجاز يقولون: تسمية الحال باسم المحلّ، المحلّ هو المكيال، الصَّاع، فيُقال لما يُوضَع فيه: صاع: اللهم بارك لنا في صاعنا، والمقصود: ما يُوضع في الصَّاع من الطَّعام، وكذلك أيضًا المدّ.

يقول: ولو لم تكن البركةُ في كلِّ ما يُكال، وكانت في المكيال؛ لم تكن في ذلك منفعةٌ، ولا فائدة، بل لرُفعت البركةُمن الـمُكال، فكانت في المكيال؛ كانت مُصيبةً، وهذا مُحالٌ في معنى الحديث. هذا حاصل كلام ابن عبدالبرِّ[6].

وذكر أيضًا أنَّ الاحتمال في قوله ﷺ: اللهم بارك لنا، قال: يحتمل أن يكون المقصودُ الدُّعاء لنفسه ﷺ لأصحابه، فتُصيب هذه الدَّعوة مَن كان في عصره من الصَّحابة -رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم- ممن آمن بالنبي [7].

ولكن الأقرب -والله تعالى أعلم- أنَّ ذلك على عمومه وإطلاقه، أنَّ ذلك باقٍ في المدينة إلى يوم القيامة، فإنَّ دعاء إبراهيم -عليه الصَّلاة والسَّلام- لمكّة قد بقي: وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ[البقرة:126]، وقال: يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ[القصص:57]مُمتنًّا على أهله، على أهل الحرم، فهذا بقي بعد إبراهيم ﷺ وبعد هاجر وإسماعيل -كما هو معلومٌ-، فصار يُجبى إليه ثمرات الدُّنيا.

قال: اللهم إنَّ إبراهيم عبدك، وخليلك، ونبيّك، لاحظ هنا لم يذكر الرِّسالة، بعض أهل العلم قال: باعتبار أنَّ النبوة تكونبوحي الله له، فهذا يتعلّق بالله، والرِّسالة تتعلق بالخلق، بإرساله إليهم، بذكر ما يتَّصل بالله -تبارك وتعالى-، وعلى كل حالٍ، الله أعلم بذلك.

قال: وإني عبدك، ونبيّكهنا يتوسّل إلى ربِّه -تبارك وتعالى- بذلك، بنعمته عليه بالنبوة، والله -تبارك وتعالى- قال عن إبراهيم ﷺ: وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً[النساء:125]، والخلّة هي أعلى درجات المحبّة، محبّة عالية، فهذه كانت لإبراهيم -عليه الصَّلاة والسَّلام-، ثم كانت أيضًا للنبي ﷺ.

قال: وإنَّه دعاك لمكّة دعاء إبراهيم -عليه الصَّلاة والسَّلام- لمكّة: فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ[إبراهيم:37]، وقال: وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ.

قال: وأنا أدعوك للمدينة بمثل ما دعاك لمكّة، ومثله والمعنى: الضِّعف، ضعف ما دعا به لمكّة.

وهذا الدُّعاء يمكن أن يكون في أمورٍ دنيويّة: كالرزق، والسّعة، وما إلى ذلك، أو في أمورٍ أُخروية: من تكثير، أو تعظيم الحسنات، ونحو ذلك، وهذا كلّه على كل حالٍ مُتحقق فيه، فإنَّ الحسنة تعظم بحسب مُتعلقها من المكان كما هو معلومٌ، وكذلك أيضًا ما يحصل من البركات في المدينة، فإنَّ إبراهيم ﷺ دعا لمكّة بالرزق، ونحو ذلك مما ذكر.

وكذلك النبي ﷺ دعا بمثل هذا، كما دعا أن يجعله الله -تبارك وتعالى- حَرَمًا آمنًا، فالنبي ﷺ دعا للمدينة بذلك ومثله، يعني: الضّعف.

أخذ منه بعضُ أهل العلم: أنَّ المدينة أفضل من مكّة، قالوا: ضُوعِف ما يكون لها في دُعائه ﷺ، ودعاؤه مُستجابٌ؛ فدلّ ذلك على أنها أفضل.

وهذا ليس محلَّ اتفاقٍ، وردّه الحافظُ ابن عبدالبر -رحمه الله- وقال بأنَّ ذلك ليس بمرادٍ، يقول: ليس كما ظنَّ هؤلاء؛ لأنَّدعاء إبراهيم لمكّة لم تُعرف فضيلة مكّة به وحده[8]. يعني: التَّفضيل ما عُرف بمجرد دعاء إبراهيم، بل كان فضلها قبل أن يدعو لها، وقد كانت مكّة حرمًا آمنًا، بدليل أنَّ النبي ﷺ قال: إنَّ الله تعالى حرَّم مكة، ولم يُحرمها الناس[9]، وقال: إنَّ الله تعالى حرَّم مكة يوم خلق السَّماوات والأرض[10].

إذًا قبل أن يدعو إبراهيم، يعني: لم يحصل التَّفضيل بدعاء إبراهيم -عليه الصَّلاة والسَّلام- لمكّة، فيُقال: بأنَّ دعاء النبي ﷺ بضعف ما دعا به إبراهيم يدلّ على أنَّ المدينة أفضل من ذلك.

والعلماء لهم كلامٌ كثيرٌ في المفاضلة بين مكة والمدينة.

قال: "ثم يدعو أصغر وليدٍ يراه، فيُعطيه ذلك الثَّمر"، وفي بعض الألفاظ: "أصغر وليدٍ له"[11].

أبو هريرة هو الذي يقول:"ثميدعو" يعني: النبي ﷺ "أصغر مولودٍ"، طفل صغير، ينظرأصغر طفلٍ.

على رواية:"أصغر وليدٍ له"، يعني: من أهل بيته، وحمل ذلك على أنَّه حينما يُؤتى بثمرٍ لا يحضره أحدٌ من أطفال المسلمين؛ فإنَّه يُعطيه لطفلٍ صغيرٍ، فيدعو أقربَ الناس، فيُعطيه أحد الصِّبيان: كالحسن، أو الحسين، أو نحو ذلك، أو أحد أولاد بناته -عليه الصَّلاة والسَّلام.

وبعض أهل العلم قال: "أصغر وليدٍ له" يعني: لأمّته، من أولاد أمّته؛ لأنَّ النبي بمنزلة الوالد للأمّة، كما قال الله -تبارك وتعالى-: النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ[الأحزاب:6]، وفي قراءةٍ لابن عباسٍ -رضي الله عنهما-:"وهو أبٌ لهم"[12].فهو بمنزلة الأب.

وعلى هذا حمل بعضُ أهل العلم قولَه -تبارك وتعالى- عن خبر لوطٍ -عليه الصَّلاة والسَّلام-: هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ[هود:78]، قيل: لأنَّ النبي بمنزلة الوالد والأب لقومه، فيقول: بناتي، يعني: بنات القبيلة، تزوَّجوا بنات القبيلة، ودعوا عنكم هذا الحرام والإجرام.

فيُعطيه ﷺ، يُعطي ذلك الثَّمر، يُعطيه لماذا؟

يُعطيه من أجل أن يفرح؛ لإدخال السُّرور عليه، ونفس الصَّغير تتشوف إلى مثل هذا، وتتطلع إليه أكثر من تطلع نفس الكبير، فإنَّ الصغار يفرحون بالشّيء الطَّريف والغريب، والشيء الجديد الذي لا يجدونه عند أهليهم، ونحو ذلك، فيدخل السرور عليهم.

وبعض أهل العلم قالوا: لعلّ ذلك من أجل التَّفاؤل، من أي جهةٍ؟

من جهة أنَّه نظر إلى أنَّ هذا الصغير حديث عهدٍ بنشأةٍ، وكذلك هذا الثَّمر هو حديث عهدٍ، فهو باكورة الثَّمر، في أوله، فذلك تفاؤلاً بتمامه وكماله، ويقولون: لهذه المناسبة بين الصَّغير وبين أوائل الثمر.

وبعضهم يقول: فيه تنبيهٌ إلى أنَّ النفوس الكاملة لا ينبغي لها أن تتناول شيئًا من أنواع الباكورة إلا بعدما يعمّ وجود ذلك، ويتم شهوده، إذًا مَن الذي تُعطى له هذه الباكورة؟

تُعطى للأطفال، والذي يظهر -والله تعالى أعلم- أنَّ ذلك من أجل إدخال السُّرور عليهم؛ لأنَّهم أكثر مَن سيفرح بهذا.

وبعض أهل العلم قال: مثل هذا أيضًا قد يكون وسيلةً لإجابة الدُّعاء؛ فإنَّ النبي يُعطيه الصَّغير؛ يفرح به، ويدعو لهم -عليه الصَّلاة والسَّلام-، فيحصل بذلك من أسباب إجابة الدُّعاء ما لا يخفى.

وذكر بعضُ أهل العلم غير هذا.

لا شكَّ أنَّ إدخال السُّرور على هؤلاء فيه من الأجر الشيء الكثير، وإدخال السُّرور على المسلم عمومًا هو من القُرَب والأعمال الصَّالحة، وهي قضية نغفل عنها كثيرًا، لكن لا يخفى أثرُ إدخال السُّرور على الصِّغار، فإنَّ ذلك يحصل بأدنى ما يمكن من العطاء.

وفي هذا من كمال مكارم أخلاقه ما جُبل عليه من كمال الشَّفقة، والرحمة، ومُلاطفة الكبار والصِّغار، وينظر إلى ثمرهم، ويدعو لهم، ويأتونه به -عليه الصَّلاة والسَّلام-، ويُعطيه للصَّغير ليفرح، فهو يعيش معهم، ويُلابسهم، ويعيش مع أُمَّته، ويشعر بهمومهم، وآلامهم، وحاجاتهم، فهو -عليه الصَّلاة والسَّلام- كبير العناية، عظيم الشَّفقة بهؤلاء الأُمَّة.

وأيضًا يُؤخذ من هذا الحديث: جواز الطَّواف بالباكورة على الناس، ويستحبّ لمن يراها أن يدعو لأهلها، لأصحابها، لازال الناسُ يفعل بعضُهم هذا، يعني: أوائل الثَّمر في بدو صلاحه يأخذونه، ويُتحفون به جيرانهم، ويُتحفون به غيرهم، ويُعطونه مَن يحبّون، ونحو ذلك.

وفيه أيضًا اختصاص الكبير -كالعالم، والإمام العادل، ونحو ذلك- بمثل هذا، يعني: يأتيه الناسُ بالأشياء الطَّريفة، وبدايات الثَّمر؛ ليطلع عليه، ويسرّ به، ويدعو لهم، والله تعالى أعلم.

هذا ما يتعلّق بهذا الحديث.

 

 

  1. أخرجه مسلم: كتاب الحج، باب فضل المدينة، ودعاء النبي -صلى الله عليه وسلم- فيها بالبركة، وبيان تحريمها، وتحريم صيدها وشجرها، وبيان حدود حرمها، برقم (1373).
  2. انظر: "الاستذكار" لابن عبدالبرّ(8/218).
  3. أخرجه مسلم: كتاب الحج، باب فضل المدينة، ودعاء النبي -صلى الله عليه وسلم- فيها بالبركة، وبيان تحريمها، وتحريم صيدها وشجرها، وبيان حدود حرمها، برقم (1363).
  4. أخرجه الترمذي في "سننه": أبواب المناقب، باب ما جاء في فضل المدينة، برقم (3917)، وصححه الألباني في "مشكاة المصابيح"، برقم (2750).
  5. متفق عليه: أخرجه البخاري: كتاب فضل الصَّلاة في مسجد مكّة والمدينة، باب فضل الصَّلاة في مسجد مكّة والمدينة، برقم (1190)، ومسلم: كتاب الحج، باب فضل الصَّلاة بمسجدي مكة والمدينة، برقم (1394).
  6. انظر: "الاستذكار" لابن عبدالبر (8/218).
  7. انظر: المصدر السابق(8/219).
  8. انظر: المصدر السابق(8/219).
  9. أخرجه الترمذي في "سننه": أبواب الدّيات، باب ما جاء في حكم ولي القتيل في القصاص والعفو، برقم (1406)، وصححه الألباني في "إرواء الغليل"، برقم (2218).
  10. أخرجه البخاري: كتاب المغازي، برقم (4313).
  11. أخرجه مسلم: كتاب الحج، باب فضل المدينة، ودعاء النبي -صلى الله عليه وسلم- فيها بالبركة، وبيان تحريمها، وتحريم صيدها وشجرها، وبيان حدود حرمها، برقم (1373).
  12. انظر: "معاني القرآن" لابن منظور الدّيلمي (2/23).

مواد ذات صلة