الخميس 18 / رمضان / 1445 - 28 / مارس 2024
(271) الدعاء لمن عرض عليك ماله
تاريخ النشر: ٠٧ / ربيع الأوّل / ١٤٣٦
التحميل: 1962
مرات الإستماع: 1531

الحمد لله، والصَّلاة والسلام على رسول الله.

أما بعد: فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.

هذا باب "الدُّعاء لمن عرض عليك ماله"، وذكر فيه المؤلفُ حديثًا واحدًا، وهو حديث أنسٍ -رضي الله تعالى عنه- قال: قدم عبدُالرحمن بن عوف المدينة، فآخى النبيُّ ﷺ بينه وبين سعد بن الربيع الأنصاري، وكان سعدٌ ذا غنًى، فقال لعبدالرحمن: أُقاسمُك مالي نصفين، وأُزوجك. قال: بارك اللهُ لك في أهلك ومالك، دلُّوني على السُّوق. فما رجع حتى استفضل أَقِطًا وسَمْنًا، فأتى به أهلَ منزله، فمكثنا يسيرًا، أو ما شاء الله، فجاء وعليه وضرٌ من صفرةٍ، فقال له النبيُّ ﷺ: مهيم؟ قال: يا رسول الله، تزوجتُ امرأةً من الأنصار، قال: ما سُقْتَ إليها؟ قال: نواةٌ من ذهبٍ، أو وزن نواةٍ من ذهبٍ، قال: أولم ولو بشاةٍ. هذا الحديث أخرجه الإمامُ البخاري في "صحيحه"[1].

فقوله: "قدم عبدُالرحمن بن عوف المدينة" يعني: مُهاجرًا من مكّة -رضي الله عنه وأرضاه-، "فآخى النبيُّ ﷺ بينه وبين سعد بن الربيع الأنصاري".

وكان الرجلُ إذا قدم مُهاجرًا من مكَة، أو من غير مكّة؛ لأنَّ المهاجرين كانوا يأتون من نواحٍ شتَّى، يفدون على مدينة رسول الله ﷺ.

فكان الرجلُ من المهاجرين لا ينزل على أهل بيتٍ من الأنصار إلا بقرعةٍ؛ وذلك أنَّ الأنصار كانوا يتنافسون في ضيافة المهاجرين، فكل واحدٍ يريد أن ينزل هذا المهاجري في داره، وأن يُؤاخي النبيُّ ﷺ بينه وبينه، فكانوا لا يرضون إلا بالقرعة.

ومعلومٌ أنَّ الحقوقَ إذا تساوت فالقرعة هي التي يكون بها التَّرجيح، وهذا لا شكَّ أنَّه يدل على خُلُقِ الأنصار -رضي الله تعالى عنهم-، وما كانوا عليه من الإيثار.

ويكفي أنَّ الله -تبارك وتعالى- مدحهم في قوله: وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ [الحشر:9]، يعني: ولو كان بهم حاجة شديدة يُؤثرون على أنفسهم، ويُقدِّمون غيرَهم على أنفسهم بهذه الحظوظ الدُّنيوية؛ رغبةً بما عند الله -تبارك وتعالى-، ولم يكن ذلك تكلُّفًا منهم ، ولا تصنُّعًا، ولا مجاملةً، وإنما كان عن محبَّةٍ، كما قال الله -تبارك وتعالى-: وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ يعني: الأنصار مِنْ قَبْلِهِمْ أي: من قبل المهاجرين، يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ، يُحبّون مَن هاجر، سواء كان فقيرًا أم غنيًّا، مع أنَّ المهاجرين فُقراء، سواء كان من ذوي النَّسب والحسب، أو كان من الموالي: يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ سواء كان من ذوي الهيئات والصُّور، أو كان ممن هم دون ذلك، وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا [الحشر:9]، يعني: مما أُعطيه المهاجرون دون الأنصار.

والنبي ﷺ لما فُتحت قُريظة والنَّضير جمع الأنصارَ وخيَّرهم: بأن يبقى المهاجرون في أرضهم؛ لأنَّهم قاسموهم الأرضَ، وليس فقط المال والثَّمر؛ لأنَّ المهاجرين ليسوا بأهل حرثٍ وزرعٍ، فخيَّرهم أن يُقاسموهم الثَّمر، ويملكوا أصلَ الأرض، فيكون لهم الثَّمر، والأصل للأنصار، ولكن قاسموا المهاجرين.

فالنبي ﷺ عرض على الأنصار أن يكون أصلُ الأرض للأنصار، والثَّمر على النِّصف؛ بمُقابل أنَّ المهاجرين لا يعملون في الأرض، باعتبار أنَّهم لا يُحسنون الزِّراعة، فقبل الأنصارُ، فلمَّا فُتحت النَّضير، ووسَّع اللهُ على المسلمين، جمع النبيُّ ﷺ الأنصارَ بمفردهم، وعرض عليهم أن يخرج المهاجرون من أرضهم، فيقسمها النبيُّ ﷺ بين المهاجرين فقط، أو أن يبقى المهاجرون في أرض الأنصار، وتُقسم بين المهاجرين والأنصار، فماذا قالوا؟

رفضوا الخيارين، وقالوا: لا نقبل، ماذا يُريدون؟

قالوا: يبقون في أرضنا، واقسمها بينهم دُوننا.

هذه قمّة الإيثار، يعني: الإنسان قد يستضيف أحدًا ثلاثة أيام، أسبوعًا، شهرًا، سنةً، ثم بعد ذلك يبحث عن المخرج والفرج، فهذا الفرجُ جاء من الله ؛ حيث فُتحت النَّضير، فيذهبون، وتُقسم بينهم، وتبقى لهم أرض ومزارع ومساكن، ويخرجون من بيوت الأنصار ومزارع الأنصار، فرفض الأنصارُ، وقالوا: يبقون، واقسمها بينهم دوننا، لا تقسم لأحدٍ منا، هذا أين يُوجد؟!

هؤلاء كانوا يتقاتلون على أتفه الأشياء في الجاهلية، وتصل الحربُ الواحدة إلى أربعين سنةً على أمورٍ تافهةٍ، ثم يتحولون بعدما تنزَّل عليهم هذا القرآن، وجاءت هذه الرحمة المهداة ببعث محمدٍ ﷺ إلى شيءٍ آخر.

فليست القضيةُ تصنُّعٌ، من قبيل التَّصنع، ولا التَّكلف، ولا المجاملة، وإنما الله علَّام الغيوب، هو الذي يعلم مكنونات النفوس، يقول: وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ، وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ، هذه شهادة من الله لهم.

ومن ثم أقول: كيف حوَّل القرآنُ هؤلاء الذين كانوا في غاية الجفاء إلى هذا، فصارت نفوسُهم بهذه السَّماحة والإيثار؟!

وقارن ذلك بأحوالنا اليوم، ونحن أهل القرآن، وولدنا على الإسلام، انظر إلى تربيتنا، كيف ننظر لمن جاء إلينا من إخواننا المسلمين للعمل، أو لغير ذلك؟ كثيرٌ منا الحال لا تُشرّف للأسف! والتَّعامل لا يُشرّف! مع أنَّ هؤلاء يعملون وينتفع بهم الناس، وتنتفع بهم البلاد والعباد، ومع ذلك هل كان تعامُلنا كتعامل الأنصار، أو قريب من الأنصار؟ أبدًا، البون كما بين المشرقين.

ولك أن تتصور: لو أنَّ أحدًا من الناس جاء إليه مَن يعمل عنده سائقًا، أو غير ذلك، فوجده فقيرًا، ووجده في حالٍ من الحاجة، أو نحو ذلك: وجد أهلَه في إعوازٍ، فقال له: سأُعطيك سيارةً، عندي سيارتان، واحدة لي، وواحدة لك، وسأقسم البيتَ نصفين، تسكن في نصفه، وسأقسم مالي بيني بينك. سيتَّهمه الناسُ بالجنون، وأنَّه قد فقد عقلَه، وأنَّه سفيهٌ، كيف يفعل هذا؟!

بل من الناس مَن لو أعار أحدًا من الناس سيارتَه ربما يُعنَّف من قبل أهله، هذه التربية الرَّاقية! وما شأنُك بالناس؟! ولماذا تُعطي الناس؟! هذا بحاجةٍ؟! يستطيع أن يُدبر نفسَه، هذه تربيتنا!

وانظر إلى التربية القرآنية: وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ حتى نعرف المسافة التي بيننا وبين هؤلاء، وكيف ربَّاهم القرآن؟ وكيف أقعدتنا تربيتنا ونفوسنا للأسف؟!

فالحال لا تسُرّ، وما يُقال هنا وهناك في هذه القضايا، وما يدور فيها، فكله يصبّ في هذه التربية الضَّحلة التي تجعل الناسَ أصحاب نفوسٍ ضيِّقةٍ، وأصحاب نفوسٍ ضعيفةٍ -والله المستعان-، والموفّق مَن وفّقه الله -تبارك وتعالى-.

فهذا عبدُالرحمن بن عوف آخى النبيُّ ﷺ بينه وبين سعد بن الربيع الأنصاري، وما نزل عليه إلا بقُرعةٍ، فهذا عند سعد بن الربيع وأهله يُعتبر غُنمًا كبيرًا، وليس بغرمٍ، فسعدٌ  كان من الأغنياء، فقال لعبدالرحمن: أُقاسمك مالي نصفين، وأُزوجك. يعني: في بعض الرِّوايات أنَّه قال: أغلى ما أملك زوجتاي، فانظر أيّهما اخترتَ أُطلِّقها، ثم تتزوّجها، وأدنى ما أملك نعلاي، فالبس واحدةً، وأنا واحدة، وما بينهما على النِّصف.

يقول: انظر إلى زوجتاي، فالتي تُعجبك أكثر أُطلِّقها، وتتزوّجها، يُطلِّق امرأتَه من أجل أن يتزوّجها رجلٌ غريبٌ، لا يعرفه، وليس بينهما قرابة، ولا نسب!

واليوم تجد الرجل أحيانًا يملك الأموالَ الطَّائلة، ولربما له إخوة وقرابات لا ينالهم ولا يطالهم شيءٌ من هذا الأخ، بل ربما الأولاد أحيانًا يعيشون في مسغبةٍ، وبعضهم يأخذ الزكاةَ من أجل أن يتزوّج، والأب يملك المليارات، وإذا قالوا له وكلَّموه، قال: ترثوني وأنا حيّ؟! فهذا يجمع المالَ لمن؟! وما الفائدة من هذا المال وهذه الدُّنيا؟!

فهذا رجلٌ غريبٌ لا يعرفه، لما جاء وآخى النبيُّ ﷺ بينه وبين هذا الرجل، عرض عليه زوجتَه أن يُطلِّقها، وعرض عليه أن يُقاسمه المالَ.

ولاحظوا: هو غنيٌّ، فمعناه: أنَّه سيتحوّل عبدُالرحمن بن عوف مباشرةً إلى إنسانٍ ثريٍّ من غير أيّ تعبٍ، وهذا رجلٌ من الأغنياء، قال له: تفضّل النِّصف، وبكل غبطةٍ وسرورٍ وفرحٍ.

وانظر أيضًا إلى عزّة النفس عند المهاجرين ، ماذا قال له؟

ما قال: نعم والله هذه فُرصة، تُقاسمني المال، وأتزوّج. لا، وإنما قال له: "بارك اللهُ لك في أهلك ومالك". دعا له بالبركة، وهذا هو الشَّاهد، مَن عُرض عليه المال مساعدةً، أو نحو ذلك، يقول: بارك الله لك في مالك. هذا عرض عليه الزوجة والمال، فقال: "بارك الله لك في أهلك ومالك، دلُّوني على السوق"، يريد أن يعمل ويكتسب.

"فما رجع حتى استفضل أقطًا وسمنًا"، والأقط معروفٌ، وهو ما يُجفف من اللَّبن، ويُعالج، لا يخفى، والسَّمن معروفٌ، يعني: باع واشترى، وصارت عنده فضلة وزيادة جاء بها إلى أهل الدَّار الذين نزل عندهم، يعني: هذا فوق الربح الذي حصّله، هذا الأقط والسَّمن حمله معه إلى الدَّار، يعني: زيادة على المكاسب التي حصَّلها، فأتى به أهلَ منزله.

فمعناه: أنَّه لم يكن عبئًا أيضًا على كاهلهم، يجمع المال، ثم بعد ذلك يكنزه، أو يتوسّع فيه ويتَّجر، ثم بعد ذلك هو يُصبحهم ويُمسيهم دون أن يكون منه أدنى مُشاركة، ففي آخر النَّهار من أول يومٍ جاءهم بالأقط والسَّمن.

فيقول: "فمكثنا يسيرًا، أو ما شاء الله" شكٌّ من الراوي، بقي مدةً يسيرةً، والله بارك له في هذا البيع والشِّراء، ومن أسباب هذه البركة: عزّة النفس والعفّة، فيكون الإنسانُ يحمل نفسًا أبيَّةً، كريمةً، شريفةً، فيُبارك له؛ ولذلك فإنَّ النبي ﷺ أخبر عن هذا الذي يستشرف للمال، ويطلب، ونحو ذلك: أنَّه قد لا يُبارك له فيه إذا أخذه باستشراف نفسٍ[2].

فليست القضيةُ أن يحصل المالُ بيد الإنسان، لكن هل يُبارك له فيه؟

ولما بقوا هذه المدّة اليسيرة جاء عبدالرحمن وعليه وضرٌ من صفرةٍ، وما طالت المدّة، فقال له النبيُّ ﷺ: مهيم؟، فهذا رجلٌ قادرٌ على العمل، ويستطيع أن يكتسب ذهبًا، واكتسب، وحصل المال، واستطاع أن يتزوج بهذا المال في مدةٍ وجيزةٍ.

وفي بعض الرِّوايات: أنَّه دلَّه على سوق بني قينقاع[3]، وهو سوقٌ قريبٌ في المدينة، ثم بعد ذلك يتحوّل إلى حالٍ من الثَّراء، حتى إنَّه حينما مات -رضي الله تعالى عنه- ذُكر أنَّ تركته من الذَّهب كانت تقطع بالفؤوس، وهو جاء من أول يومٍ وما كان يعرف السوقَ أصلًا، يقول: دلُّوني على السوق، أين السُّوق؟ فهو إنسانٌ غريبٌ، ثم يأتي السوق، ويربح من أول يومٍ.

هكذا ينبغي أن يكون المؤمنُ: عزيز النفس، ويكتسب، ويعمل، ولا يكون عبئًا على غيره، جمع مالًا، ثم بعد ذلك ربح فيه، وتزوّج، فجاء إلى النبي ﷺ وعليه وضرٌ، يعني: أثر الطِّيب، فالطِّيب له لونٌ، كأنَّ ثيابَه قد لُطِّخت، أو أجزاء من جسده بالخلوق، وهو الطِّيب الذي له لونٌ، مثل: الزعفران، ونحو ذلك، والأطياب منها ما يكون له لونٌ، فكانوا يتلطخون به.

فلمَّا رأى النبيُّ ﷺ عليه هذا الأثر، سأله النبيُّ ﷺ، وربما يكون هذا الطيبُ الذي له لونٌ هو أصلًا من طيب النِّساء، وربما يكون قول النبي ﷺ له: مهيم؟ يعني: ما الخبر؟ فيحتمل أن يكون باعتبار أنَّ الرجل جاء وعليه أثر طيبٍ خاصٍّ بالنساء؛ لما له من اللون، فقد يكون هذا الطيبُ أصابه من امرأته، أو لطخ ثيابَه، أو نحو ذلك، فسأله النبيُّ ﷺ: ما هذا؟ لأنَّه كما هي الأحوال في السَّابق يقولون: طيب المرأة له لونٌ، وليس له رائحة، وطيب الرجل له رائحة، وليس له لونٌ؛ من أجل ألا تظهر الرائحةُ إذا خرجت أمام الرجال.

فالنبي ﷺ سأله، فيحتمل أن يكون هذا السؤال باعتبار أنَّه رأى لونًا من الطِّيب إنما يتعاطاه النِّساء، فأخبره أنَّه قد تزوج، وهذه كلمة: مهيم؟ للاستفهام، أي: ما شأنك؟ وما أمرك؟ فأخبر النبيّ ﷺ أنَّه تزوج امرأةً.

فسأله النبي ﷺ عن صداقها، فقال: نواة من ذهبٍ. يعني: وزن خمسة دراهم، أو قال: وزن نواةٍ. هذا شكٌّ من الراوي، وزن خمسة دراهم.

فقال له النبيُّ ﷺ: ما سُقْتَ إليها؟ قال: نواة من ذهبٍ، أو وزن نواةٍ من ذهبٍ. قال: أولم ولو بشاةٍ.

(لو) هذه تُقال للتَّقليل، مثل: ردّوا السَّائل ولو بظلفٍ محرّقٍ[4]، وقوله: اتَّقوا النارَ ولو بشقِّ تمرةٍ[5]، يعني: بالقليل.

فـأولم ولو بشاةٍ يُفهم من هذا أنَّ الشاةَ للتقليل، وهل يلزم ذلك؟ يعني: في وليمة النِّكاح، فهي من أجل الإعلان، فهل يلزم أن يكون ذلك بشاةٍ فما فوق؟ يعني: أن يذبح شاةً فما فوق، لو أنَّه وضع شيئًا آخر كالحلوى، أو وضع طعامًا آخر غير اللحم، أو جاء بلحمٍ ولم يذبح شاةً مثلًا، هل يلزم أن يذبح شاةً؟

مَن نظر في أحوال النبي ﷺ، وما يصنعه حينما ينكح امرأةً، أو يبني بامرأةٍ، نجد أنَّ أحواله ﷺ تختلف وتتفاوت؛ فهو ﷺ حينما أولم على صفية كانت الوليمةُ عبارةً عن حيسٍ، والحيس يُقال: إنَّه تمرٌ يُنزع منه النَّوى، ويُخلط بالسّويق. وبعضهم يُفسّره بغير ذلك؛ بالتَّمر يُخلط مع الأقط المطحون والسَّمن، يُقال له: حيس، هذا الذي يُسمَّى الآن في بعض الأعراف: (أشحثة)، يُقال له: حيس، وصُنع هذا الطَّعام قد يكون له أكثر من صورةٍ.

فالمقصود أنَّ النبي ﷺ أولم على صفية بحيسٍ، وليس معه خبزٌ ولا لحمٌ، وأولم على غيرها بمدين من شعيرٍ، ففهم منه بعضُ أهل العلم: أنَّ ذلك يكون بحسب حال الإنسان، وما تيسر حينها، ولا يقترض ويتكلَّف ما لا يجد، فيكون بحسب حاله.

فعبدالرحمن بن عوف كان تاجرًا في ذلك الوقت، وحصل مالًا، فقال له النبيُّ ﷺ: أولم ولو بشاةٍ، فمَن كان من ذوي اليسار، فإنَّه يُولم ولو بشاةٍ، بحسب ما يتيسر له؛ إعلانًا للنكاح، وإن كان لا يجد فإنه يكتفي بما دون ذلك، بحسب ما يتيسر له؛ ولهذا تفاوتت أحوال النبي ﷺ، مع أنَّه أجود الناس، وأكرمهم، وهذا لإعلان النِّكاح.

أمَّا ما اعتاده الناسُ اليوم من جعل ذلك بهذه الأحوال التي نُشاهدها في هذه الصَّالات بمبالغ طائلة، والرجل لا يجد، وتركبه الدُّيون، ويجلس الشَّاب ينتظر ربما سنوات طويلة حتى يحصل المالَ الذي يتزوج به، ثم يحتاج بعد ذلك إلى مثل هذه الولائم التي يبقى أكثرها، وتبقى الدَّعوة بهذه الطَّريقة الجفلى، ويُدْعَى المئات من الناس، فمثل هذا غير جيدٍ، ولا محمود.

ويكون ذلك أكثر سوءًا حينما يصدر من القدوات الذين كانوا يُوجهون الناس، وينتقدون مثل هذه المزاولات والتَّصرفات، فإذا زوَّج الولد فَعَلَ فِعْلَ غيره، أو أكثر.

فهذا المال الذي يُدفع في هذه الليلة: من أربعين ألفًا فما فوق، ودعك مما يُوضع للنِّساء، هذا عالم وشيء آخر، فمثل هذه النَّفقات الطَّائلة لو أُعطيت للفُقراء، وتصدَّقوا بها، أو لو أنها بقيت لهذا الزوج يتصرَّف فيها، وينتفع بها، ويُؤسس له مكانًا، فهذا مع ما يعقبه من السَّفر هنا وهناك، وأحيانًا إلى أماكن لا يجوز السفرُ إليها؛ لما فيها من المنكرات وظهور الفجور الذي لا يستطيعون إنكاره، بل إنما ذهبوا للفُرجة عليه، فهذا لا يجوز.

فالمقصود أنَّ الاعتدال في هذه الأمور هو المطلوب، والإعراض عن ذلك بالكُلية والترك هذا أيضًا على غير السُّنة، فكونه يتزوّج ولا يضع شيئًا هذا غير صحيحٍ.

وانظر وقارن بين الزواج الذي يكون حقيقةً؛ يتزوج امرأةً يرغب فيها، ويسكن إليها، وما إلى ذلك، وبين أولئك الذين يذهبون ويتزوج أحدُهم ليلةً، أو ليلتين، أو ثلاثًا، أو خمسًا، ربما يُعطيها شيئًا يسيرًا، كما يُعطى عادةً للفجرة والبغايا من النِّساء -أعزكم الله-، ولا يدري: قد تكون ذات زوجٍ، وقد تكون مُطلَّقةً في عِدَّةٍ، وكل مَن جاء أخذها.

ومن الناس مَن قد يُرضي ضميرَه، أو نحو ذلك، فيعقد عليها، ولا يُدرى هذا الذي عقد عليها هو وليّها، أو لا؟ وما أكثر الكذب في هذا، ثم ينصرف من هنا، وتتزوج بزبونٍ جديدٍ، وثالثٍ، ورابعٍ، وعاشرٍ، وهكذا، هذا يحصل كثيرًا.

فتجد مثل هذا لا وليمةَ، ولا يُريد أن يطّلع عليه أحدٌ أصلًا، فمثل هذا ليس هو النِّكاح الشَّرعي الصَّحيح، وإنما هذه مُزاولات لا تليق بأهل الإيمان.

فينبغي للمؤمن أن يُنَزِّه نفسَه عن ذلك، وألا يغترَّ بمَن قد يفعل هذا أيضًا.

فهذا الحديث يدلّ على مشروعية الوليمة.

وأخذ منه بعضُ أهل العلم أيضًا: أنَّ الوليمة بعد البناء؛ لقول النبي ﷺ لعبدالرحمن بن عوف السَّابق.

وهذه المسألة ترجع إلى العُرف؛ فقد تكون الوليمةُ بعد اليوم الثاني، بعدما يبني بها، ففي اليوم الثاني يُغدّيهم، أحسن من السَّهر، ولا سيّما للنِّساء، يكون غداء والحمد لله، ما بين الظُّهر والعصر، وانتهى كل شيءٍ، دون الجلوس إلى طلوع الفجر.

وأيضًا يدلّ على أنَّ الوليمة تكون قبل البناء، فمَن فعل هذا فلا بأس، ومَن فعل هذا فلا بأس، والأمر في ذلك واسعٌ -إن شاء الله-.

وأيضًا الإعلان يكون بحسب ما تيسّر.

وهذا الحديث يُبيّن ما كان عليه الصَّدر الأول من الإيثار وبذل الأموال لإخوانهم، كما وصفهم الله -تبارك وتعالى- في كتابه.

وفيه جواز عرض الرَّجل أهلَه على أهل الصَّلاح من إخوانه إذا احتاج إلى ذلك، إذا كان عنده أكثر من زوجةٍ، فيقول له: إن شئتَ طلَّقْتُ إحدى هذه الزوجات وتتزوجها. وقد تموت زوجةُ إنسانٍ من أصحابه، أو من إخوانه، أو من قراباته، ويحزن عليها حزنًا شديدًا، فيقول له: الحمد لله، النِّساء موجودات، كثر، وهؤلاء زوجاتي، أُطلق واحدةً، وتتزوجها مثلًا، فله في هذا أسوة.

وكذلك أيضًا النَّظر إلى المرأة قبل أن يتزوجها؛ فإنَّ سعدًا عرض عليه أن ينظر، ثم يتخير.

ويُؤخذ منه أيضًا: جواز المواعدة بطلاق الزوجة لمن يُحبّ أن يتزوجها، يقول: أُطلِّقها لتتزوجها. لا إشكالَ في هذا، سواء كان ذلك إكرامًا له، أو كان ذلك مخرجًا، كأن يكون الإنسانُ لم تتلاءم معه هذه المرأة، ولم يتلاءم معها، ولكن رحمةً بها أبقاها، لكن على كرهٍ، فيُمكن أن يقول لغيره: أُطلِّقها فتتزوجها.

أو يكون هذا الإنسانُ ربما قد تقدَّم به العمر، ونحو ذلك، وهذه شابَّة، فيُريد أن يُزوّجها بشابٍّ، أو نحو ذلك، فيقول: أُطلقها وتتزوجها، فهي امرأة صالحة، وهكذا.

وفيه أيضًا: عزّة النفس، والتَّنزه لمن بُذل إليه مالٌ من غيره، والأخذ بالعزائم، وكمال المروءات.

وفيه أيضًا: أنَّ العيشَ من التِّجارة، أو الصِّناعة، أو نحو ذلك كالتَّكسب؛ أليق بمكارم الأخلاق من العيش على الصَّدقات والهبات وشبهها.

وأيضًا يُؤخذ منه: أنَّ مُباشرة الفُضلاء وأهل الكمالات للتِّجارة والبيع والشِّراء، أو الحرف والصِّناعات؛ لا نقيصةَ فيه، فهؤلاء أصحاب النبي ﷺ كانوا يتَّجرون في الأسواق، والله أخبرنا عن الرسل -عليهم الصَّلاة والسَّلام-: وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ [الفرقان:20]، ونوح كان أول نجَّارٍ، وهكذا ذُكِر عن داود بأنَّه كان حدَّادًا، إلى غير ذلك.

وكذلك أيضًا يُؤخذ من هذا الحديث: سؤال الرجل فيما يتَّصل بالزواج، فيُقال له: هل تزوّجتَ؟ مثلًا، أو يُقال له: ماذا أصدقتَها؟ إن كان ذلك لمصلحةٍ، ولا يكون ذلك من أجل الفضول، فإنَّ الناس لا يسألون عن هذا، فالناس يكرهون مثل هذا السؤال، لكن إن كان لمصلحةٍ فلا بأس؛ لإعانته، أو نحو ذلك، وإلا فلا يسأل من أجل الفضول والاطِّلاع فقط.

والناس ربما يُبالغون في إخفاء هذه الأمور بطريقةٍ غير شرعيةٍ، فيصل الأمرُ بكثيرٍ من العامَّة أنَّه إذا جاء عند العقد، فقال لهم العاقدُ: كم المهر؟ يقول: ريال، مئة ريال، ألف ريال، وربما يكون المهرُ مئة ألفٍ، فهذا جهلٌ وغلطٌ، ولا يجوز، وهؤلاء لو وقعت خصومةٌ، ونحو ذلك، وأبى الزوجُ أن يُطلِّق إلا أن تُعيد إليه المهر، وكان قد بذل لها مئةَ ألفٍ، والمكتوب ريال، تُعيد له ريالًا واحدًا، على خلافٍ بين أهل العلم في بعض التَّفاصيل.

وهذه القضية ليست جديدةً، هي قديمة، ويذكرها بعضُ السلف فيما يقع في زمانهم من تسمية قليلٍ من المهر: إمَّا خوفًا من العين، أو إظهارًا للزهد، أو نحو ذلك، وهذا خطأ، وتترتب عليه أحكامٌ، فالمفروض أنَّه يذكر المهر الحقيقي، والمفروض أنَّ هذا العاقدَ حينما يُذكر له شيءٌ غير معقولٍ، فيقول له: ريال، يقول: يا ابن الحلال، قل الحقَّ، أو قل الكلامَ الحقيقي؛ فإنَّ هذا تترتب عليه أحكامٌ، هو لا يُدركها، ولا يحسب لها حسابًا، وإذا استُنْطِقَ أحيانًا يذكر مهرًا ربما يكون مُبالغًا فيه، فيذكرون هذا لئلا يُنتقدون أحيانًا، فتكون هناك مبالغة في المهر.

ويُؤخذ من هذا أيضًا: البركة في التِّجارة.

والسّؤال: هل هي بكر أو ثيّب؟

فالنبي ﷺ حضَّ على البكر؛ لما فيها من المزايا التي لا تخفى، وقد تزوّج النبيُّ ﷺ ثيّبات، وما تزوّج بكرًا إلا عائشة، وقد تكون الثيبُ أفضل من كثيرٍ من الأبكار.

وكذلك أيضًا يُؤخذ منه: المؤاخاة، وبذل المال في ذلك، وأن التَّكسب في الأسواق لا يُنافي التَّوكل، إلى غير ذلك من الفوائد.

والله تعالى أعلم، وصلَّى الله على نبينا محمدٍ، وآله، وصحبه.

 

  1. أخرجه البخاري: كتاب البيوع، باب ما جاء في قول الله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [الجمعة:10-11]، برقم (1908).
  2. أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير"، برقم (3078).
  3. "فتح الباري" لابن حجر (9/233).
  4. أخرجه ابن حبان: باب صدقة التَّطوع، ذكر الأمر للمرء بأن لا يردّ السائل إذا سأله بأي شيءٍ حضره، برقم (3374)، وصححه الألباني.
  5. متفق عليه: أخرجه البخاري: كتاب الزكاة، باب اتَّقوا النار ولو بشقِّ تمرةٍ، والقليل من الصَّدقة، برقم (1417)، ومسلم: كتاب الزكاة، باب الحثّ على الصَّدقة ولو بشقِّ تمرةٍ، أو كلمة طيبة، وأنها حجابٌ من النار، برقم (1016).

مواد ذات صلة