الجمعة 19 / رمضان / 1445 - 29 / مارس 2024
(306) تتمة دعاء من خشي أن يصيب شيئاً بعينه
تاريخ النشر: ٠٤ / جمادى الأولى / ١٤٣٦
التحميل: 1930
مرات الإستماع: 1556

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.

أما بعد: فنُواصل الحديث عن قول النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-أنَّ العينَ حقٌّ[1].

وقد ذكر الحافظُ ابن القيم -رحمه الله- أنَّ العينَ عينان: عين إنسيّة، وعين جنيّة[2]، يعني: أنَّ ذلك تارةً يكون من قبيل إصابة الإنس، وتارةً يكون من قبيل إصابة الجنّ، عين الجنّ.

وقد قال النبيُّ ﷺ كما في حديث أم سلمة -رضي الله تعالى عنها- لما رأى في بيتها جاريةً في وجهها سفعة، فقال: استرقوا لها؛ فإنَّ بها النَّظرة[3]، وفُسِّرت النَّظرة بعين الجنّ، فالجنّ قد يُصيبون بالعين؛ ولذلك فإنَّ الإنسان قد يتحدث عن نِعَم الله عليه، أو عمَّا أُوتي من القُدرة على الوقاع، أو الأكل، أو غير ذلك عند قومٍ يأمن من إصابتهم بالعين بزعمه، ولكنَّه لا يدري أنَّه قد يُصاب بعينٍ من الجنِّ.

فهكذا قد يبقى المرءُ في حاله يستعرض عافيتَه وقوتَه ونحو ذلك، فربما بقي ينظر إلى نفسه أمام المرآة طويلًا، يتأمّل في هذه النَّضارة والجسم المفتول العضلات، أو تلك الفتاة التي تنظر إلى جسدها مُعجبةً به، مزهوةً، فقد تُصيبها عينُ الجنِّ بسبب ذلك، وقد لا يكون عندها أحدٌ من الإنس؛ ولذلك كان التَّستر مطلبًا شرعيًّا.

فالنبي ﷺ قال هذا: استرقوا لها يعني: اطلبوا الرُّقية، فإنَّ بها النَّظرة، وقد فسَّره جمعٌ -كما سبق، كالبغوي[4]- بأنها عين الجنِّ.

مما يدلّ على أنَّ العين ثابتةٌ: ما جاء في حديث جابر : أنَّ النبي قال: إنَّ العينَ لتُدخل الرجلَ القبرَ، والجملَ القِدْرَ[5]، معنى ذلك أنها تُصيب الإنسان، كما تقع على المال من الحيوان وغيره، فهذا ثابتٌ عن رسول الله -عليه الصَّلاة والسلام-.

وفي حديث أبي سعيد الخدري: أنَّ النبي كان يتعوّذ من الجانِّ، ومن عين الإنسان[6].

فهذا كلّه يدلّ على ثبوتها.

ويذكر الحافظُ ابن القيم[7]-رحمه الله- أنَّ عُقلاء الأمم يُقرّون بذلك على اختلاف مذاهبهم، ونِحلهم، وأديانهم، وما كانوا يُنكرون هذا، وإن اختلفوا في توجيهه، وسببه، وتعليله، لكنَّهم يُقرّون بذلك.

فطائفةٌ تقول: إنَّ العائن إذا تكيَّفت نفسُه بالكيفية الرَّديئة انبعثت من عينه قوةٌ سُميَّةٌ تتَّصل بالمعين فيتضرر، ولا يُستنكر هذا، كما لا يُستنكر انبعاث قوة سميّة من الأفعى تتّصل بالإنسان فيهلك.

يقولون: وهذا أمرٌ قد اشتهر عن نوعٍ من الأفاعي: أنَّه إذا وقع بصرُها على الإنسان هلك، فكذلك العائنُ بمجرد نظره إلى الإنسان فإنَّه يهلك.

وطائفةٌ يقولون: لا يُستبعد أن تنبعث من عين بعض الناس جواهرُ لطيفة غير مرئيّة، فتتصل بالمعين، وتتخلل مسام جسده؛ فيحصل له الضَّرر بإذن الله -تبارك وتعالى-.

وبعضهم يقول غير ذلك، لكن يبقى أنَّ هذا من الأمور الغيبية، فهو أمرٌ مُشاهَدٌ، آثاره مشهودة، ولكن كيف يحصل ذلك؟ هذا من علم الغيب، مما لا نُدركه، ولا نقف عليه، فالله تعالى أعلم.

ولا شكَّ أنَّ الله -تبارك وتعالى- خلق في الأجسام والأرواح -كما يقول الحافظُ ابن القيم رحمه الله-: "قوًى وطبائع مختلفة، وجعل في كثيرٍ منها خواصّ وكيفيات مُؤثرة بإذن الله ، ولا يمكن لعاقلٍ إنكار تأثير الأرواح في الأجسام؛ فإنَّه أمرٌ مُشاهَدٌ محسوسٌ"[8].

يقول: أنت ترى الوجهَ كيف يحمرّ حمرةً شديدةً إذا نظر إليه مَن يحتشمه ويستحي منه؟ هذا شيء مُشاهَدٌ، يعني: بمجرد نظر مَن يستحي منه يحمرّ وجهه، ويظهر أثرُ ذلك عليه، كذلك يصفرّ وجهه صفرةً شديدةً عندما ينظر إليه مَن يخافه، وهذا أيضًا مُشاهَدٌ.

وكذلك أيضًا هذه الأمور التي تحصل ونُشاهدها، مثل: رؤية بعض الأشياء التي تُسبب للإنسان الاعتلال، وربما تُسبب له الغثيان، وربما تُسبب له شيئًا من الفتور، وكذلك أيضًا من النَّظر ما يُنشّطه، ويُقوّي قلبه، ويبعث روحه على النَّشاط، ويكون بذلك في حالٍ من الإقدام، ونحو هذا.

وقد ذكر الحافظُ ابن القيم -رحمه الله - أنهم كانوا إذا نظروا إلى وجه شيخ الإسلام تبدّت تلك الأوهام والمخاوف التي كانت بسبب إرجاف المرجفين.

وهكذا ما ذكره شيخُ الإسلام -رحمه الله- وغيرُه من أنَّ النظر أو المجالسة للثّقلاء: أنَّ ذلك من قبيل حُمى الروح[9]، وهذا أمرٌ صحيحٌ، حتى إنَّ بعض أهل العلم يقول: إذا جلس بجانبه ثقيلٌ فإنَّه يشعر بثقلٍ في الجانب الذي يليه، وهذا أمرٌ مُشاهَدٌ لا يُنكر، فالنَّظر لا شكَّ أنَّ له أثرًا، فكيف بهذه العين؟

فهذا مما يتعلق باتِّصال الأرواح، وما يحصل من الارتباطات الخفيّة، فنسب ذلك إلى العين.

يقول: "وإنما التَّأثير للروح، والأرواح مختلفة طبائعها، وقواها، وكيفياتها، وخواصّها، فروح الحاسد مُؤذية للمحسود أذًى بيِّنًا؛ ولهذا أمر ربُّنا -تبارك وتعالى- رسولَه ﷺ أن يستعيذ به من شرِّ حاسدٍ إذا حسد، وتأثير الحاسد في أذى المحسود أمرٌ لا يُنكره إلا مَن هو خارجٌ عن حقيقة الإنسانية، وهو أصل الإصابة بالعين؛ فإنَّ النفسَ الخبيثة الحاسدة تتكيَّف بكيفيةٍ خبيثةٍ، وتُقابل المحسود فتُؤثر فيه بتلك الخاصيّة بإذن الله -تبارك وتعالى-"، يقول: "وأشبه الأشياء بهذا الأفعى؛ فإنَّ السمَّ كامنٌ فيها بالقوة"[10]، الكمون بالقوة والفعل؛ الكمون بالقوة بمعنى: أنَّ ذلك من طبيعتها، خلقه الله فيها، ولو لم يصدر بالفعل، وأمَّا الذي يكون بالفعل فحينما تقذفه، سواء في جسد إنسانٍ، أو في شرابٍ، أو في طعامٍ، أو في غير ذلك.

يقول: "فإذا قابلت عدوَّها انبعثت منها قوةٌ غضبيَّةٌ، وتكيَّفت بكيفية خبيثةٍ مُؤذية، فمنها ما تشتدّ كيفيّتها وتقوى حتى تُؤثر في إسقاط الجنين، ومنها ما تُؤثر في طمس البصر، كما قال النبي ﷺ في الأبتر وذي الطّفيتين من الحيّات -نوعٌ من الحيّات-: إنَّهما يلتمسان البصر، ويُسقطان الحبل[11]، يعني: الحمل.

يقول: "ومنها ما تُؤثر في الإنسان كيفيّتها بمجرد الرؤية، من غير اتِّصالٍ به؛ لشدّة خُبث تلك النفس، وكيفيّتها الخبيثة المؤثرة".

يقول: "والتأثير غير موقوفٍ على الاتِّصالات الجسمية كما يظنّه مَن قلَّ علمُه ومعرفته بالطَّبيعة والشَّريعة، بل التَّأثير يكون تارةً بالاتِّصال، وتارةً بالمقابلة، وتارةً بالرؤية، وتارةً بتوجّه الروح نحو مَن يُؤثر فيه، وتارةً بالأدعية والرُّقى والتَّعوذات، وتارةً بالوهم والتَّخيل.

ونفس العائن لا يتوقف تأثيرُها على الرؤية، بل قد يكون أعمى، فيُوصَف له الشيء؛ فتُؤثر نفسُه فيه وإن لم يرَه"، يعني:الأعمى يُصيب بالعين.

يقول: "وكثيرٌ من العائنين يُؤثر في المعين بالوصف، من غير رؤيةٍ، وقد قال الله لنبيِّه ﷺ: وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ[القلم:51]"، فبعضهم فسَّره بهذا -يعني: العين-، يحسدونه على ذلك،"وقال: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ ۝ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ ۝ وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ ۝ وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ ۝ وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ[الفلق]"[12]، فقيَّده بهذه الحال، ما قال:"من شرِّ حاسدٍ" مطلقًا، وإنما قال:"إذا حسد"، يعني: إذا انبعثت منه هذه النَّفس؛ فيكون في ذلك في شرِّ حالٍ.

يقول: "فكل عائنٍ حاسدٌ، وليس كلُّ حاسدٍ عائنًا، فلمَّا كان الحاسدُ أعمَّ من العائن كانت الاستعاذةُ منه استعاذةً من العائن؛ لأنَّه داخلٌ في الحاسد".

يقول: "والمقصود العلاج النَّبوي لهذه العِلّة، وهو أنواع"[13]، وتكلّم على هذه القضية.

فالعين هذه هي التي يُعبّرون عنها فيقولون: النَّفس، وفلان فيه نفسٌ، ونحو ذلك، يقصدون العين، فهذا إطلاقٌ معروفٌ، يُقال: أصابت فلانًا نفسٌ. يعني: عينًا، والنَّافس هو العائن، والمنفوس هو المصاب بالعين.

والعائن إذا عُرف يُؤمَر أن يغسل أطرافَه ومغابنَه وداخلةَ إزاره، فهذا من النَّشرة النَّافعة، النَّشرة التي تُعالج بها مثل هذه الأمور، وأنَّ العينَ تكون مع الإعجاب بغير حسدٍ، هذا أُعجب بجسده، بجلده، ونحو ذلك، فانبعثت منه هذه العين.

والإنسان قد يُصيب نفسَه، وقد يُصيب أحبَّ الناس إليه، وهو لا يحسده، ولا يتمنى زوال ذلك عنه، بل يتمنى أن يقع الضَّرر عليه، ولا يقع على هذا المحبوب: كالوالد، أو الولد، ومن ثم فإنَّ ذلك قد يقع من أهل الصَّلاح، ومن غيرهم؛ لأنَّ النفس إذا استشرفت للشَّيء، ولم يدعُ هذا الإنسانُ بالبركة؛ فإنه قد يُصيب بالعين، فهذا صحابيٌّ أصاب صحابيًّا، ولا شكَّ أنَّ أصحابَ النبي ﷺ من أهل الصَّلاح والتَّقوى.

فمَن أعجبه شيءٌ فعليه أن يُبادر بالدُّعاء بالبركة، وقلنا: إنَّه لا يكفي أن يقول: ما شاء الله، أو أن يُقال له: قل: ما شاء الله، فإنَّ ذلك ليس هو العلاج الحاسم في مثل هذه القضية، وإنما يدعو له بالبركة، فيكون ذلك من قبيل الرُّقية منه.

ويُؤخذ من هذا الحديث أشياء وفوائد كثيرة، لكن هنا أمر بأن يغسل هذه الأطراف، والعامَّة يأخذون من سؤره، يعني: من بقية طعامه، أو شرابه، يغسلون هذه الآنية التي يشرب بها: الفناجين، يدعون مَن يشكّون فيهم، ثم يغمسون هذا النَّوى أو نحو ذلك من بقية طعامٍ ونحوه، ثم يشربه، أو يُصبّ على المريض.

وربما يأخذ بعضُهم من ثوبه، وربما أخذ من أثره إن لم يجد له ثوبًا، أو طعامًا، أو لا يستطيع الوصول إليه، أو لا يعرفه بعينه، فبعض الناس قد يمسح ربما باب المدرسة، أو باب الفصل الدِّراسي، إذا كانت البنتُ أو الولد قد أُصيب، وظنّوا أنَّ ذلك من بعض زملائهم.

وبعضهم قد يمسح عتبةَ المسجد، ثم يغمسونه، ونحو ذلك، فمثل هذا هل له أثرٌ؟

الرُّقى وما في حكمها هي من باب الطبّ، والطبّ الأصل فيه الإباحة ما لم يشتمل على محرمٍ، فما ثبت بالتَّجربة نفعه فلا بأسَ بفعله، وإن لم يثبت بالتَّجربة يكون من قبيل الكذب على القدر، وهذا لا يجوز، لكن مثل هذه الأشياء: كأن يأخذ من سُؤره، أو أثره، أو نحو ذلك، دلَّت التجربةُ الكثيرةُ التي عرفها الناسُ منذ زمنٍ بعيدٍ: أنَّ ذلك له أثرٌ، لكن هذا الأثر -والله أعلم- ليس بحاسمٍ، يعني: أنَّ هذا الإنسان المصاب بالعين إذا أُعطي من هذا  الأثر وجد فرقًا، وهو لا يعلم ما هذا الذي صُبَّ عليه، أو شربه؟ هو لا يشعر بهذا، ولا يعلم، ولا يدري عنه، ولكنه يجد أثرًا، يجد فرقًا.

وربما كان الإنسانُ في حالٍ من المرض والاشتغال بنفسه، وربما خرجت من جسده أنواعُ القروح والقيح ونحو ذلك، فإذا صُبَّ عليه من هذا الماء وجد استرواحًا، وسكن الألم إلى حدٍّ ما، فهو يسأل عن هذا الذي يُعطونه: ما هو؟ وهو لا يشعر، ولا يعلم أنَّ ذلك من أثر مَن يشكّون فيه، هكذا!

فيكون له أثرٌ، لكن الذي يبدو أنَّه ضعيفٌ، ومن ثم فإنَّه لا يُلجأ إلى هذا إذا أمكن الوصولُ إلى العائن، وهناك طرقٌ يمكن أن يُحفظ بها ماء الوجه لهذا الإنسان، فلا يُخصّ بعينه إذا كان في ذلك ما يكون من قبيل الإحراج، أو لا يجرؤون عليه، أو لا يأمنون سوأه، أو شرَّه، أو بذاءته، أو نحو ذلك، فيُمكن أن يعمد أحدٌ من ذويه، أو من أصحابه، أو نحو ذلك، فيأتي بطستٍ فيه ماء بحضرة هؤلاء، يدعوهم، أو يتلمس مناسبةً، ثم بعد ذلك يقول: هناك مَن يحتاج إلى وضوءٍ ونحوه، ويبدأ بنفسه هو هذا القائل؛ لدفع الشَّك أو التُّهمة عن معينٍ، فيبدأ بنفسه ويتوضّأ؛ ليقتدي الجميعُ، ثم بعد ذلك يتتابعون فيتوضّؤون في هذا، ويغسلون أطرافَهم ونحو ذلك بهذا الماء، فلا يُوجّه ذلك إلى معينٍ فيقع الحرجُ عليه.

لكن أحيانًا العائنُ كما أنَّه يُعبّر بعبارات بليغة، أحيانًا يأبى كلّ الإباء، فيتوضّأ الجميعُ، ويغسلون أطرافَهم إلا هذا الذي جاءوا بهذا الماء من أجله، يأبى كلّ الإباء: رجل، أو امرأة، للأسف هذا هو الغالب، يأبى ويغضب، ويزجرهم، ويتغير عليهم، ويتنكّر، ويأخذ القضيةَ على أنها تُهمة مُوجّهة إليه من بين هؤلاء جميعًا، الكلّ يُبادر ويذهبون ويتوضّؤون بفرحٍ واستبشارٍ، مع الدُّعاء لهذا المصاب، وهم لا يعرفونه؛ لأنَّهم لم يُذكر لهم إلا هذا في الغالب، فإنه يأبى ويقف.

فمثل هذا إن كان لأحدٍ عليه سلطانٌ فيُمكن أن يُحمَل على ذلك حملًا، لكن مثل هذه القضايا غيبيّة، يصعب التَّحقق منها، وإلا فمثل هذا عادةً يردّ بهذه العبارة هكذا:"إحنا ما نحن بننضل أحد"، هذا الردّ بهذه العبارة، وبهذه الألفاظ نفسها، تجد هذا يقولها، وذاك يقولها، والثَّالث يقولها، وهذا قالها قبل ثلاثين سنةً، وذاك قبل خمسين سنةً، ويقولها هذا اليوم، وهذا أمس:"إحنا ما نحن بننضل أحد"، نفس العبارة، ويأبى، وهذا الإنسان يُصارع الموت.

وبعض الناس يُجاملون، أو يستحيون ويتركون هذا الإنسان، أو هو يرضى بأن يبقى بهذه الحال، وهو يعلم أنَّ الذي أصابه هو فلان؛ لأنَّ ذلك قد وقع فيه كالرمح حينما قال ذاك تلك الكلمة، امرأة تقول لامرأةٍ مثلًا: ما أراكِ إلا قد امتلأ بطنُك من الولد! أو عبارات أخرى، أنا لا أُحسن عباراتهم هذه التي تكون كالسِّهام، عبارات مُوجزة، لكنَّها فتَّاكة، فهذه المرأة مباشرةً ينزل عليها الدَّمُ وبوادر الإجهاض، ويُصيبها ما قرب وما بعد من الألم في نفس اللَّحظة،وتبيت تلك الليلة في شرِّ ليلةٍ بعدما زارتها هذه المرأة، فإذا قيل لها: أعطينا وضوءًا. قالت: "إحنا ما نحن بننضل أحد"، وهكذا.

فمثل هذا إذا أمكن حمله على ذلك فإنَّه يُجبر على هذا، خاصَّةً إذا قويت التُّهمة، يعني: كأن تحوّلت حالةُ الإنسان تمامًا بعد كلمةٍ قالها.

وهناك أنواعٌ من الحيل، لكن الغالب أنَّ هؤلاء يتحفَّظون، يعني: مَن عُرف بالعين، فإنَّه في كثيرٍ من الأحيان لا يطعم عند الناس، ولا يأكل شيئًا يبقى له أثرٌ: كالتّمر، حتى لا يبقى النَّوى، لا يأكل عندهم من هذا، ونحو ذلك، يتحفظ غايةَ التَّحفظ؛ لئلا يُؤخذ منه شيءٌ.

ومثل هذا يمكن أن يُحتال عليه بأنواعٍ من الحيل، أو إذا كانوا يجدون حرجًا بمثل هذا الوضوء؛ أن يُقال له: توضّأ مثلًا، أو نحو هذا، يمكن أن يُفتعل بحيلةٍ مباحةٍ؛ كأن يُغلق محبس الماء، ويأتي وقتُ الصلاة ويريد أن يتوضّأ، فيُؤتَى بماءٍ ويُقال له: يُصبّ عليك الماء، تتوضّأ بهذا الطّست، الماء مُنقطعٌ. فهو يُريد أن يُصلِّي، امرأة تُريد أن تُصلِّي، حضر وقتُ الصلاة، بهذه الطَّريقة.

وقد جُرِّب هذا، وصُبَّ من ساعته على المصاب أو المصابة فقام كأنما نشط من عقالٍ، وقد ذكرتُ هذه الحيلة لبعض الناس ففعلوها واتَّصلوا مباشرةً، قالوا: قام ليس به بأسٌ، بهذه الحيلة؛ المحبس مُعطّل، وبهذه الطَّريقة.

أمَّا المبالغة في العين والوسوسة في هذا الباب فهذا غير صحيحٍ، يعني: يوجد من الناس مَن عندهم مُبالغة، فكلّ شيءٍ عندهم عين، إذا أصابه الزكام قال: عين، وإذا رسب في الاختبار قال: عين، والولد ما ينفع للدِّراسة؛ فيطلبون له الرُّقاة: الولد أُصيب بعينٍ! الولد فيه عينٌ! ما ينجح! الولد أدخلناه في المدرسة الأهلية في الصف الثالث الثانوي، ومع ذلك الولد ما يصلح للدِّراسة!

كلٌّ مُيَسَّرٌ لما خُلِقَ له، تجلس مع الولد وتسأله أسئلةً يتبين أنَّ الولدَ ليس له رغبةٌ في الدِّراسة أصلًا، يصلح أن يعمل في مكانٍ آخر، لكن الدِّراسة لا يصلح لها، ليس به عينٌ.

وهكذا في كل شيءٍ أحيانًا يُفسّر بالعين، فهذه السَّيارة تعطّلت: عين،وهذا الولد لم يتصرف بطريقةٍ صحيحةٍ في التَّعامل مع شيءٍ حارٍّ أو نحو ذلك؛ فأصابه منه حرقٌ في أصبعه، في يده، في وجهه، قالوا: عين، ما هو بعينٍ، فكلّ إنسانٍ يمكن أن يتصرف بنفس الطَّريقة هذه فيُصيبه هذا الشَّيء الذي يُؤثر في جسده من حرارةٍ ونحوها، فالإنسان لا يحتاج أن يُقال له: أنَّ مثل هذا هو من قبيل العين، فهذه مُبالغات ووسوسة.

والبعض لا يكاد يذكر شيئًا، يُخفي على أخصِّ الناس وأقرب الناس، تُخطب البنت، ويُعقد عليها، خفاءٌ في خفاءٍ، الأولاد يتخرَّجون، ينجحون، يتفوقون، إلى آخره، خفاءٌ في خفاءٍ، لا يذكر من هذا شيئًا، بل بعض النِّساء ربما تتكلم دائمًا عن اعتلالها، وعن اعتلال أولادها، وعن ضعفهم في دراستهم، وعن تخلُّفهم، وهم من الأوائل، وليس بهم بأسٌ، من أصحِّ الناس، وإذا جلست مع النِّساء يكفي أن تسكت، لكنَّها تذكر أنَّ هؤلاء الأولاد دائمًا مرضى، ودائمًا في حالٍ من الوجع، ودائمًا في حالٍ من الكلال، ودائمًا في حالٍ من الضَّعف والتَّخلف الدِّراسي، وأنهم لا يكاد الواحدُ منهم يحصل على مطلوبه، وهكذا تتحدث عن زوجها أنَّه يذهب ويرجع إلى متجره ونحو ذلك فلا يخرج بشيءٍ، ويرجع كما ذهب.

طيب، لماذا كلّ هذه السنوات وهو فاتحٌ هذا المتجر إذا كان في كلّ هذه الشّهور والدّهور لا يرجع منه بشيءٍ؟! فليُغلق هذا المتجر!

وهكذا أيضًا في كلِّ ما يحتفّ بهم، فهذا غلطٌ، والله -تبارك وتعالى- يقول: وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ[الضحى:11]، فهذا التَّحديث بها بذكرها: إمَّا على سبيل العموم، يقول: أنا بخيرٍ، وأنا بنعمةٍ من الله، أو أن يُحدِّث على سبيل الخصوص، وله أن يترك التَّحديثَ عن ذلك بخصوصه، يقول: عندي كذا، حصلت على أرباح كذا، حصلت على نتيجةٍ بتقدير كذا، له أن يسكت عن هذا، لكن يقول: أنا بخيرٍ.

أمَّا أن يجحد ويُنكر كما يفعل بعضُهم؛ يدخل الاختبار ثم يخرج وهو في حالٍ من التَّأسف، وحالٍ من التألم والتَّوجع، وأنَّه لم يُجب الإجابات المطلوبة، ونحو ذلك، وزملاؤه يتوجَّعون له، لماذا؟!

فيقول: لم أستعد بشكلٍ صحيحٍ. وهو ربما قبل الاختبار بشهرٍ لا تراه الشمسُ، فهو جاحدٌ لنعمة الله ، ويُفاجأ هؤلاء المساكين الذين كانوا يُسلّونه ويُخففون عنه أنَّ الواحدَ منهم غايةَ ما يحصل عليه هو تقدير جيد، وإذا بهذا قد حصل على خمسةٍ من خمسةٍ! هذا الذي ما جاوب ولا عرف! ودخل الاختبار وهو مسكينٌ! وخرج منه وهو مسكينٌ! ونحو ذلك.

هذا جحودٌ لنعمة الله ، وهذا ظلمٌ للنفس، وجحدٌ لهذه النِّعمة، وكفرٌ بها، فهذا لا يجوز، فالخوف من العين والاحتياط لذلك لا يبلغ بالإنسان إلى هذه المراتب.

والله تعالى أعلم، وصلَّى الله على نبينا محمدٍ وآله وصحبه.

 

 

  1. متفق عليه:أخرجه البخاري: كتاب الطب، باب العين حقّ، برقم (5740)، ومسلم: كتاب السلام، باب الطبّ والمرض والرُّقى، برقم (2187).
  2. "زاد المعاد في هدي خير العباد" (4/151)، و"الطب النبوي" لابن القيم (ص121).
  3. متفق عليه:أخرجه البخاري: كتاب الطب، باب رقية العين، برقم (5739)، ومسلم: كتاب السلام، باب الرقية من العين والنّملة والحمّة والنَّظرة، برقم (2197).
  4. انظر: "شرح السنة" للبغوي (12/163).
  5. أخرجه القُضاعي في "مسنده"، برقم (1057)، وحسَّنه الألباني في "صحيح الجامع"، برقم (4144).
  6. أخرجه الترمذي: أبواب الطب، باب ما جاء في الرقية بالمعوذتين، برقم (2058)، وصححه الألباني.
  7. انظر: "زاد المعاد في هدي خير العباد" (4/152)، و"الطب النبوي" لابن القيم (ص121-122).
  8. "زاد المعاد في هدي خير العباد" (4/152-153)، و"الطب النبوي" لابن القيم (ص122).
  9. "بدائع الفوائد" (2/274).
  10. "زاد المعاد في هدي خير العباد" (4/153)، و"الطب النبوي" لابن القيم (ص123).
  11. أخرجه مسلم: كتاب السلام، باب قتل الحيّات وغيرها، برقم (2233).
  12. "زاد المعاد في هدي خير العباد" (4/153-154)، و"الطب النبوي" لابن القيم (ص123-124).
  13. "زاد المعاد في هدي خير العباد" (4/154)، و"الطب النبوي" لابن القيم (ص124).

مواد ذات صلة