السبت 11 / شوّال / 1445 - 20 / أبريل 2024
الحديث عن آيات الباب (1-2)
مرات الإستماع: 0

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقد مضى -في الليلة الماضية- الكلام على عنوان هذا الباب الجديد، وهو كتاب الجهاد، وذكرت هنالك المراد بالجهاد، وما يذكره أهل العلم غالبًا عند بيان معناه من أنه قتال الكفار، وذكرت معناه، ومفهومه الواسع ابتداء من جهاد النفس، والهوى، والشيطان، ومرورًا بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله -تبارك وتعالى- وانتهاء بقتال الكفار الذي هو ذروة سنام الإسلام، فهو أعلى الجهاد، والأمر به في القرآن حينما يؤمر بالجهاد فهذا هو المراد بذلك.

وذكرت أن مفهومه بالمعنى الخاص الجهاد بالقتال، أنه لا يختص بقتال الكفار، وأن الأولى أن يقال: هو كل قتال مشروع، فيدخل فيه قتال البغاة، كما أمر الله به في القرآن فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ.

وكذلك أيضا ما جاء من أمر النبي ﷺ بقتال الخوارج، وهم من جملة أهل البدع على القول الآخر لأهل العلم، فهذا كله من القتال المشروع، وهو داخل في الجهاد، ولا بدّ، ثم تطرقت بعد ذلك إلى ما نراه، ونشاهده في مثل هذه الأيام من قتلى، وحروب تقع بين المسلمين بصور أحيانًا قد لا تقول هؤلاء بغوا على هؤلاء، يعني يكون البغي أحيانا من الطرفين مثلا، أو هؤلاء القتلى الذين يموتون في مثل هذه الأيام في ثورات، وما أشبه ذلك ما حكم هؤلاء؟ هل يقال هؤلاء شهداء مثلا؟ والنبي ﷺ يقول: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله[1] فإذا كان يموت في سبيل الديموقراطية مثلاً هل هذا في سبيل الله؟ وإذا كان يموت هذا الإنسان في سبيل المطالبة بالخبز، ولقمة العيش، وما أشبه ذلك، هل هذا يقال: في سبيل الله؟ هل يقال ذلك: في سبيل الله إذا كان يموت في سبيل أن الشعب هو الأساس، وهو المصدر للسلطة، وهو إلى آخر الكلام الذي نسمعه، مما لا يقره الشرع، بل ولا يصح أيضا في نظر العقل؟

فذلك غاية ما يقال فيه: بأن هؤلاء يبعثون على نياتهم، ولا يدخل الإنسان بين العباد وبين ربهم، فالله يتولى عباده ويحاسبهم، لكن على الإنسان أن يصلح نيته، وأن يعرف ما يقدم عليه، وأن يحاسب نفسه، وأن لا يغرر بها، فالإنسان ليس له إلا نفس واحدة، كما قال بعض السلف لما دعاه الخوارج ليخرج معهم، قال: لو كان لي نفسان أتبعتكم واحدة، ثم أنظر بما أرجع، فإن ذهبت واحدة؛ أبقيت الأخرى، ولكنها نفس واحدة، إذا ذهبت؛ ذهبت الفرصة على الإنسان[2] فينبغي للإنسان أن ينظر في هذا، وكذلك للمتكلم حينما يقول للناس، ويغريهم بهذا، ويقول لهم: اذهبوا فأنتم شهداء، ونحو ذلك، هذا سيسأله الله عن هؤلاء حينما يموتون، حينما يستجيبون لكلامه، فيتساقطون من الذي يجترئ على مثل هذا؟ وأشرت أنه ليس المقصود الكلام على هذه القضايا الواقعة، إنما جر لذلك بيان مفهوم الجهاد، وإلا فإني تركت الحديث عنها قصدا؛ لأني لا أحب الخوض في أمور لم تتبين معالمها وأبعادها، ويسع الإنسان السكوت، وإن كان هناك قدر معلوم، واضح لا ينبغي أن يختلف فيه، وهو أن هناك فروقات واضحة، يعني ما حصل في مصر وتونس غير الذي يجري الآن في ليبيا، في فرق كبير، هذا قدر ندركه جميعًا، لا ينبغي أن يختلف عليه أحد، وما يحصل، أو ما حصل في البحرين، أو لربما يريده بعض الناس أن يقع هنا هذا أمر لا يمكن أن يقره عاقل فضلاً عن عالم؛ لأن ذلك سيؤدي إلى أمور لا تخفى على من له أدنى معرفة بواقع الحال، والأمور التي تحتف بالبلاد التي هي من هذا القبيل.

من يقول: بأن البحرين مثلاً، من يؤيد تلك الأعمال، والمظاهرات التي فيها، لا يمكن أن يؤيد هذا أحد، وهو يعرف ما يخرج من رأسه، أبدًا إلا إنسان مغموس في هواه، أو إنسان جاهل غاية الجهل لا يعرف رأسه من رجله -نسأل الله العافية- هذا لا يمكن لا يمكن، وما جرى، وما وقع في العراق أمر عرفه القاصي والداني، ولربما يحصل أعظم منه في البحرين، المؤذن يُخرج لسانه ويقطع، أنا كنت أفكر، أقول: هذا حصل في العراق؟ حصلت أشياء غريبة في العراق بالدريل يقتل الناس في رؤوسهم، لكن ماذا سيحصل في البحرين؟ وإذا بالمؤذن يخرج لسانه ويقطع، أشياء لا تخطر على البال -فنسأل الله العافية- فمثل تلك البلاد لا يمكن أن يقال: إن الحكم فيها يستوي حتى في بادي النظر، لأول الأمر.

وأما اليمن فإني لا زلت أعجب، وأحاول أفكر بطريقتهم، وأنظر بنظرهم، ولم أستطع إلى ساعتي هذه ماذا يريدون؟

يعني بلد يمكن أن تمزق، والمتربصون بها في الداخل وفي الخارج كثير، وبلاد أخرى لها نفوذ في اليمن، وتتربص، والولاءات موزعة للخارج، ونحن نعرف أن الناس هناك، وأهل الجنوب، والشمال، وأهل صعدة، إلى آخره، فيمكن أن تتحول إلى دول، وحروب لا يعلم مداها إلا الله -تبارك وتعالى-؛ فهؤلاء الذين يقفون أنا لا أدري يعني هل هم يتصورون هذه الأمور، وهذه الأبعاد، وإلا سمعوا كلامًا يقال في مصر وفي تونس عبارات تردد، فصاروا يرددونها ببلاهة، أحيانا ينظر الإنسان إليهم ببعض وسائل الإعلام بشفقة، ويقول: عجبًا، أين العقول، وأين العلم، وأين الدين إلى آخره؟

هذا كلام خفيف، ليس فيه دخول في العمق، في التفاصيل، وما إلى ذلك، ولا أريد الخوض في هذه القضايا، فقد عفانا الله من هذا، لكن الذي قاد إلى ذلك هو الكلام على الجهاد، ومفهوم الجهاد، ما هو مفهومه.

ثم قال: باب فضل الجهاد، وكعادته -رحمه الله- يصدر الأبواب بآيات من القرآن الكريم، فذكر قول الله -تبارك وتعالى-: وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ [التوبة:36].

وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً هذا أمر حينما يذكر فضل الجهاد، يعني أنه مشروع؛ لأن الله أمر به وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وهذه الآية فيها كلام كثير معروف لأهل العلم، هل هي ناسخة للآيات، أو ناسخة لما قبلها من قوله -تبارك وتعالى-: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً جاء هذا بعد هذا، وقال في سورة البقرة: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ الآية [البقرة: 217] هذا في حرمة القتال في الأشهر الحرم، والعلماء -رحمهم الله- مختلفون هل نسخ ذلك؟ القتال في الأشهر الحرم هل هو منسوخ، أو أنه محكم، لا يجوز في أي زمان أن يقاتل الإنسان اختيارًا في الأشهر الحرم، اختيارًا لا اضطرارًا؟

فالذين يقولون: إنه منسوخ، أعني ما جاء في قوله -تبارك وتعالى- في سورة البقرة: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ بعضهم يقول: منسوخ بهذه الآية، أن الله ذكر الأشهر، وذكر منها أربعة حرم، ثم قال: وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً قالوا: فهذا نسخ لتحريم القتال في الأشهر الحرام، وفهموا من قوله: وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً يعني أن ذلك بإطلاق، في الزمان والمكان، وأيضا من حيث الأفراد قاتلوهم جميعا كما يقاتلونكم جميعا، فقالوا: لم يقيد ذلك بقيد، فيبقى هكذا على إطلاقه من هذه الجهات.

واستدلوا أيضا بأن النبي ﷺ لما سار إلى حنين سار إليها في شهر ذي القعدة[3]، وذو القعدة من الأشهر الحرم، والواقع أن النبي ﷺ ما سار إلى حنين اختيارًا، ولكن أهل الطائف خرجوا من الطائف إلى وادي حنين يقصدون مكة؛ لأنهم رأوا النبي ﷺ لما فتح مكة أنه لم يبق إلا أن يتوجه إليهم، فقصدوه، وأرادوا قتاله ﷺ فخرج إليهم -عليه الصلاة والسلام- لما بلغه ما صنعوا، فيكون هذا الخروج ليس من باب الاختيار، لم يحدد المعركة رسول الله ﷺ من جهة المكان والزمان.

ثم إن قوله -تبارك وتعالى-: وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً يعني قاتلوهم جميعا كما يقاتلونكم جميعا، وليس المراد قاتلوهم في كل زمان كما يقاتلونكم في كل زمان، فالأقرب -والله تعالى أعلم- أن حرمة الأشهر الحرم باقية، وأنه لا يجوز القتال فيها اختيارًا، لكن لو أن الكفار هجموا على المسلمين، أو سيروا إليهم جيشا، فليس بصحيح أن المسلمين ينتظرون حتى يقتلون؛ لأنهم في الأشهر الحرم، بل إنهم يقاتلون من باب الدفع.

وقوله -تبارك وتعالى- في خاتمة هذه الآية: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ أي بالنصر والتأييد فمن أراد النصر على الأعداء فعليه بالتقوى، تربية النفس، والأمة على التقوى، فعندئذ تنتصر الأمة، وإذا حصلت الأحداث الكبار؛ بدأ الناس يسألون، بدأ الشباب يسألون ما دورنا؟ ماذا نستطيع أن نقدم للأمة، ماذا نصنع؟

ليس الآن، وإنما ينبغي أن يكون الإنسان في حال من تزكية النفس وإصلاحها، وتقوى الله -تبارك وتعالى- فعندئذ تكون الأمة مهيأة للنصر.

أما ردود الأفعال السريعة والآنية؛ فإن هذه قد لا يحصل من جرائها كبير نفع، والله تعالى أعلم.

ثم ذكر قوله -تبارك وتعالى-: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ.

كتب عليكم القتال أي أن الله كتبه عليكم، ومعنى الكتب أي الفرض، فهي إحدى العبارات الدالة على الوجوب، وقد ذكر هذه العبارات، وجمعها الحافظ ابن القيم -رحمه الله- في كتابه بدائع الفوائد العبارات الدالة على الوجوب في ألفاظ الشارع، منها الكتب كُتِبَ عَلَيْكُمُ وهل القتال، واجب على كل أحد، أو أنه فرض على الكفاية، في أول الأمر كان واجبا على الجميع.

وقوله -تبارك وتعالى-: وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً مما يستدل به لذلك، ولكن الله أنزل بعده قوله -تبارك وتعالى-: وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ فهذا يدل على أنه لا يجب على الناس أن ينفروا جميعا، مع أن الله قال في سورة براءة نفسها انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالاً كما سيأتي.

فهنا قال: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ كره لكم؛ لأن فيه إزهاق النفوس، ذهاب المهج، وهذا أغلى ما يملكه الإنسان، ولذلك كان ذهاب ذلك في سبيل الله -تبارك وتعالى- يبلغ به صاحبه أعلى المقامات يقال: شهادة تدل على صدق الإيمان، كما أن الصدقة قال عنها النبي ﷺ: برهان[4] أي تدل على صدق دعوى الإيمان، فإذا قدم على هذه الدعوى ما يصدقها من المهج، والأموال التي هي أغلى ما يكون فإن ذلك يدل على صحة هذه الدعوى.

قال: وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ يعني ما يدريك قد يكون المقدور الذي يكرهه الإنسان، أو المكتوب من الأحكام الشرعية، وهو ثقيل على النفوس، لكن الخير فيه، ويعقبه المحبوب، فالإنسان لا يعلم الغيب، لا يعلم عواقب الأمور، والله -تبارك وتعالى- يقول: وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ هذا لا يختص بالقتال والجهاد، وإنما فيه وفي غيره، الإنسان يرضى بأقدار الله لأنه مع المحن قد تكون المنح، فلا يجزع، ولا يتسخط، وإنما يرضى ويسلم، ونحن نشاهد ذلك في حياتنا وأحوالنا وواقعنا، يكره الإنسان أمورا ثم ما يلبث أن ينكشف من الغيب أن ما كرهه كان عين الخير والنفع له.

قال هنا: وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ فالجهاد كتب على الناس، كتب على المسلمين، كتب على الأمة على سبيل الكفاية، وفيه خير لهم، وذلك أنه يكون فيه إعزاز الدين، ويكون فيه أيضا كبت الكافرين وإذلالهم، والله يقول: قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ ۝ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ كل هذه الأشياء ذكرها تبعا للقتال والجهاد، فيحصل فيه إغاظة الكافرين، ويحصل فيه دفع غير هؤلاء ممن لا نعلمهم، فيخافون ويكف شر كثير عن المسلمين، ولهذا قال الله -تبارك وتعالى- في باب النفقة في سبيل الله : وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ من أحسن ما فسر به هذا ما قاله ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما- أنفقوا في سبيل الله، يعني في الجهاد في سبيل الله وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ قال: إنهم إذا امتنعوا عن النفقة في سبيل الله للجهاد قوي عدوهم عليهم فظهر وأخذ ما بأيديهم، واستباح بيضتهم، إذا تركوا ذلك؛ يقوى العدو، ثم بعد لك يظفر بهم، وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ: ابن عباس فسر التهلكة بترك الإنفاق للجهاد في سبيل الله، فالعدو ينتفش، والمسلمون يضعفون، فتشل حركتهم، ولا يستطيعون دفع العدو، ولا يستطيعون شراء السلاح، ولا يستطيعون مقاومته، فيتلاشون، فيتمكن العدو منهم، فذلك إلقاء باليد إلى التهلكة إن كانت الأمة تعقل عن الله -تبارك وتعالى- والله المستعان.

ثم قال: انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ هذا أمر بالنفير العام، خِفَافًا وَثِقَالاً قيل: نشطاء، وغير نشطاء، يعني حينما تنشط النفوس إذا كان الجهاد إلى مكان قريب، أو فيه غنائم متوقعة كبيرة، أو عدو ضعيف، وَثِقَالاً: يعني متثاقلين، وبعضهم قال: أصحاء ومرضى، وبعضهم قال: جماعات وأفراد، وبعضهم قال: خِفَافًا وَثِقَالاً: يعني شيوخًا وشبانًا.

والله -تبارك وتعالى- لم يحدد معنى من هذه المعاني، والآية تحتملها جميعًا، إلا من عذره الله -تبارك وتعالى- كقوله: لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ إلى آخره، فهذه الآية نسخت بقوله -تبارك وتعالى-: وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً قال: وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ جهاد بالمال وبالنفس، وقدم الجهاد بالمال على الجهاد بالنفس، مع أن الجهاد بالنفس أعظم، ذكر بعضهم علة لذلك، بأن الجهاد بالنفس لا يتأتى إلا بالجهاد بالمال، لا يستطيع الناس الجهاد بأنفسهم إلا إذا كان بأيديهم المال، فقدم الجهاد بالمال قال: وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وسبيل الله إذا أطلق في القرآن فالمقصود به الجهاد، وعلى كل حال الآيات التي ذكرها كثيرة أكتفي بهذا في هذه الليلة، وأسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، ويجعلنا وإياكم هداة مهتدين، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.

  1. أخرجه البخاري، كتاب العلم، باب من سأل، وهو قائم، عالما جالسا، برقم (123)، ومسلم، كتاب الإمارة، باب من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله، برقم (1904).
  2. انظر: سير أعلام النبلاء، للذهبي (4/195).
  3. انظر: إمتاع الأسماع بما للنبي من الأحوال والأموال والحفدة والمتاع، للمقريزي
  4. أخرجه مسلم، كتاب الطهارة، باب فضل الوضوء، برقم (223).

مواد ذات صلة