الخميس 18 / رمضان / 1445 - 28 / مارس 2024
[6] من قوله تعالى: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ..} الآية 101 إلى آخر السورة.
تاريخ النشر: ٠٩ / صفر / ١٤٣٠
التحميل: 3484
مرات الإستماع: 6684

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، اللهم اغفر لنا ولشيخنا والسامعين.

قال المصنف -رحمه الله تعالى- في تفسير قوله تعالى:

فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ ۝ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ۝ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ ۝ تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ [سورة المؤمنون:101-104].

يخبر تعالى أنه إذا نفخ في الصور نفخة النشور، وقام الناس من القبور، فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ أي: لا تنفع الأنساب يومئذ، ولا يرثِي والد لولده، ولا يلوي عليه، قال الله تعالى: وَلا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا ۝ يُبَصَّرُونَهُمْ [سورة المعارج:10، 11] أي: لا يسأل القريب قريبه وهو يبصره، ولو كان عليه من الأوزار ما قد أثقل ظهره، وهو كان أعز الناس عليه -كان- في الدنيا ما التفت إليه ولا حمل عنه وزن جناح بعوضة، قال الله تعالى: يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ ۝ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ ۝ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ ۝ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ [سورة عبس:34-37].

وقال ابن مسعود: إذا كان يوم القيامة جمع الله الأولين والآخرين ثم نادى منادٍ: ألا من كان له مظلمة فليجئ فليأخذ حقه: قال: فيفرح المرء أن يكون له الحق على والده أو ولده أو زوجته وإن كان صغيرا؛ ومصداق ذلك في كتاب الله: فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ رواه ابن أبي حاتم.

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقوله -تبارك وتعالى: فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يقول الحافظ -رحمه الله: فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نفخة النشور، هذا المشهور الذي عليه الجمهور أن هذه النفخة هي نفخة البعث ويدل لذلك أيضاً قراءة ليست متواترة تروى عن ابن عباس -ا- والحسن: فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّوَرِ يعني في الأجساد، فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّوَرِ عادت الأرواح إلى الأجساد، وعادت الحياة إلى الناس من جديد، وهذه نفخة النشور فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءلُونَ ويستثنى من هذا ما صح عن النبي ﷺ ببعض الأحاديث من قوله ﷺ وإخباره بأن كل سبب ونسب فهو منقطع يوم القيامة إلا سببه ونسبه -عليه الصلاة والسلام.

وقوله: وَلا يَتَسَاءَلُونَ لا ينافي قوله -تبارك وتعالى: وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ [سورة الصافات:27] فأثبت التساؤل بينهم في الآية الأخرى فمثل هذا العلماء عادة يجيبون عنه بأجوبة من أشهرها وأقربها أن يوم القيامة يوم طويل، ففي بعض أحيانه لا يتساءلون، وفي بعضها يتساءلون، وهذه طريقة معروفة في الجمع بين الآيات الواردة فيما يتصل بصفة القيامة مثل ما جاء من نفي تكلم الله لهم وما جاء في إثباته من قوله: قَالَ اخْسَئُوُا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ وغير ذلك.

قال العلامة الشنقيطي -رحمه الله: "السؤال الثاني: أنه قال: وَلا يَتَسَاءَلُونَ مع أنه ذكر في آيات أخرى أنهم في الآخرة يتساءلون كقوله في سورة الطور: وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ [سورة الطور:25]، وقوله في الصافات: وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ إلى غير ذلك من الآيات، وقد ذكرنا الجواب عن هذين السؤالين في كتابنا "دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب" بما حاصله" إن الجواب عن السؤال الأول هو أن المراد بنفي الأنساب انقطاع آثارها التي كانت مترتبة عليها في دار الدنيا في التفاخر بالآباء والنفع والعواطف والصلات، فكل ذلك ينقطع يوم القيامة ويكون الإنسان لا يهمه إلا نفسه وليس المراد نفي حقيقة الأنساب من أصلها، بدليل قوله: يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ ۝ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ [سورة عبس:34، 35] الآية.

وإن الجواب عن السؤال الثاني من ثلاثة أوجه:

 الأول: هو قول من قال إن نفي السؤال بعد النفخة الأولى، وقبل الثانية، وإثباته بعدهما معاً، وهذا الجواب فيما يظهر لا يخلو من نظر.

الثاني: أن نفي السؤال عند اشتغالهم بالصعق والمحاسبة والجواز على الصراط، وإثباته فيما عدا ذلك وهو عن السدي من طريق على بن أبي طلحة عن ابن عباس.

الثالث: أن السؤال المنفي سؤال خاص وهو سؤال بعضهم العفو من بعض فيما بينهم من الحقوق لقنوطهم من الإعطاء، ولو كان المسئول أباً أو ابناً أو أماً أو زوجة، ذكر هذه الأوجه الثلاثة صاحب الإتقان"[1].

قيد السؤال هنا بالطلب، ولكن لا دليل على ذلك، والسيوطي في الإتقان يورد في مثل هذه الأشياء بعض الإشكالات، بعض المواضع ويجيب عنها، ينقل الإجابات عنها مثل وجه جمع السموات وإفراد الأرض، يذكر وجوهاً في هذا وما شابهه مما قد يرد على ذهن القارئ، وكتاب "دفع إيهام الاضطراب" للشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله- كتاب نافع يورد فيه الآيات التي قد تستشكل كأنه يقابلها بآيات أخَر قد يفهم منها التعارض، فيورد هذه الآيات ويجيب عنها، ويذكر ذلك في كتاب "أضواء البيان"، ويحيل أيضاً، أحياناً يذكر ذلك يتوسع في الكتاب الآخر "دفع إيهام الاضطراب" وهو مطبوع في آخر "أضواء البيان"، ومطبوع مفرداً في الطبعة الأخيرة في طبعة علم الفوائد في مجلدين.

وقوله تعالى: فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [سورة المؤمنون:102]، أي: من رجحت حسناته على سيئاته ولو بواحدة، قاله ابن عباس، فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَأي: الذين فازوا فنجوا من النار وأدخلوا الجنة، وقال ابن عباس: أولائك الذين فازوا بما طلبوا، ونجوا من شر ما منه هربوا.

يعني كل ذلك يرجع إلى شيء واحد وهو أن الفلاح هو الظفر بالمطلوب والنجاة من المرهوب، وهذا كما قال الله وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلحُونَ ۝ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُم [سورة الأعراف:8، 9] فالعبرة بالرجحان، لهذا يقال لمن سأل عن السيئات هل تبطل الحسنات؟ فالجواب: أن السيئات لا تبطل الحسنات من حيث هي، وإن كانت بعض السيئات تبطل بعض الحسنات، ولكن ذلك ليس على سبيل الإطلاق، فالردة، والكفر تبطل كل الحسنات وما عدا ذلك من السيئات فإنه يبطل نوعاً مما اتصل به وتعلق به مثل المن والأذى يبطل الصدقة يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى [سورة البقرة:264] ومثل التسميع بالعمل ونحو ذلك يبطله وما شابه، لكن لو كانت سيئة منفصلة فإنها لا تبطل الحسنة، وإنما العبرة بالوزن، فإذا ثقلت كفة السيئات فهذا يكون خاسراً.

وَمَنْ خَفّتْ مَوَازِينُهُ أي: ثقلت سيئاته على حسناته فأُوْلَئِكَ الّذِينَ خَسِرُوَاْ أَنفُسَهُمْ أي: خابوا وهلكوا وفازوا بالصفقة الخاسرة.

ولهذا قال تعالى: فِي جَهَنّمَ خَالِدُونَ أي: ماكثون فيها دائمون مقيمون فلا يظعنون.

في قوله -تبارك وتعالى: فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ۝ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ وجه الجمع للموازين العلماء يذكرون في هذا أنه باعتبار الموزونات فجاء الجمع "موازينه" فالأعمال توزن، والسجلات توزن، والأشخاص يوزنون، هذه ثلاثة أشياء دلت عليها الأدلة ولا حاجة للتكلف في دفع بعض ذلك، أو الجواب عنه، كل ما ثبت في الأدلة الصحيحة فإنه يثبت كما جاء؛ لأنه لا تعارض فالنبي ﷺ أخبر أن الرجل السمين يوضع في الميزان يوم القيامة، لا يزن عند الله جناح بعوضة، إذاً الأشخاص يوزنون، وحديث البطاقة والسجلات التي وضعت في الكفة -كفة السيئات- تدل على أن السجلات -سجلات الأعمال- توزن، وكذلك الحسنات والسيئات، الأعمال توزن كما تدل عليه ظواهر الأدلة، وبهذا جاء الجمع فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ، والله أعلم.

تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ [سورة المؤمنون:104]، كما قال تعالى: وَتَغْشَى وُجُوهَهُمْ النَّارُ [سورة إبراهيم:50]، وقال تعالى: لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَن وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَن ظُهُورِهِمْ وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ [سورة الأنبياء:39].

وقوله تعالى: وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ [سورة المؤمنون:104] قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: يعني عابسون.

قوله: تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ فسره هنا بقوله: "وتغشى وجوههم النار" بمعنى أنها تحرقها وتصيبها، وذكر الوجوه مع أنها تصيب سائر الأجساد وخص الوجوه بذلك كما قال: حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَن وُجُوهِهِمُ النَّارَ؛ لأن الوجه أشرف شيء في الإنسان والعادة أن الإنسان يتقي بيديه عن وجهه، ولكن حينما لا يجد إلا وجهه ليتقي به لفح النار، ومس النار فإن هذا -نسأل الله العافية- يدل على شدة الحال، وسوء المآل الذي صار إليه هذا الإنسان.

"حين لا يكفون عن وجوههم النار"، لا يستطيع أن يتقيها بيديه، يتقيها بوجهه، فمن يتقون بوجوههم سوء العذاب -نسأل الله العافية– تلفح وجوههم النار وتلفح سائر الجسد لكن وجوههم ليست بمنأى عن هذا، وهي أشرف شيء يتقيه الإنسان ويدفع عنه، قال: وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ قال ابن عباس: عابسون، وهكذا قول من قال بأن الكالح هو الذي تقلصت شفتاه عن فمه فبدت أسنانه، هذا مثل ما يذكر بعض السلف أن رأس البهيمة إذا وضع على النار وقلّب عليها ما الذي يحصل؟ يحصل تقلص، فتتقلص الشفاه فيبدو باسراً، تظهر الأسنان وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ ولذلك فسر بأنه -كما سبق- يكون باسراً قد بدت أسنانه من شدة الإحراق.

أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ ۝ قَالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ ۝ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْها فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ [سورة المؤمنون:105-107].

هذا تقريع من الله تعالى لأهل النار، وتوبيخ لهم على ما ارتكبوا من الكفر والمآثم والمحارم والعظائم، التي أوبقتهم في ذلك، فقال:أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَأي: قد أرسلت إليكم الرسل، وأنزلت الكتب، وأزلت شُبَهكم، ولم يبق لكم حجة تدلون بها، كما قال: لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [سورة النساء:165]. 

وقال: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا [سورة الإسراء:15]، وقال: كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ ۝ قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نزلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ ۝ وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ ۝ فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لأصْحَابِ السَّعِيرِ [سورة الملك:8-11]، ولهذا قالوا: رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ أي: قد قامت علينا الحجة، ولكن كنا أشقى من أن ننقاد لها ونتبعها، فَضَللنا عنها ولم نُرْزَقْها.

ثم قالوا: رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ أي: رُدَّنا إلى الدار الدنيا، فإن عدنا إلى ما سلف منا، فنحن ظالمون مستحقون للعقوبة، كما قالوا: فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ ۝ ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ [سورة غافر:11، 12] أي: لا سبيل إلى الخروج؛ لأنكم كنتم تشركون بالله إذا وحّده المؤمنون.

قوله -تبارك وتعالى: أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ وذكر الله -تبارك وتعالى- في موضع آخر أنه لَّا يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلَا جَانٌّ [سورة الرحمن:39]، وهنا يسألهم، كذلك يقال لهم: مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ [سورة المدثر:42]، والجواب عن هذا مثل ما سبق من أن يوم القيامة يوم طويل، وفي بعض الأحايين يُسألون وفي بعضها لا يُسألون، أو أنهم لا يُسألون سؤال استعتاب وإنما يسألون سؤال تبكيت وهذا يكون أشد، فإن من وقع بمصيبة وتورط ثم جاءه من يعاتبه ويقول له: ألم أقل لك كذا؟ ألم أنهك عن كذا؟ فإن ذلك يكون في غاية الإيلام للنفس.

وقوله -تبارك وتعالى عنهم: قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ ابن كثير -رحمه الله- يقول: أي قد قامت علينا الحجة ولكن كنا أشقى من أن ننقاد لها، وهذا القول قريب، وله وجه لا يخفى -والله تعالى أعلم.

وابن جرير -رحمه الله- يفسر ذلك بما سبق في علم الله لهم من القدر والكتاب على هؤلاء بالشقاوة رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا أي: ما سبق في علمك من الشقاوة، وهذا ذكره ابن جرير غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا، ذاك الرجل الذي قال للنبي ﷺ وكان من المنافقين وتاب، وفي قصة تبوك في قوله: وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ [سورة التوبة:65] قال: يا رسول الله قعد بي اسمي واسمُ أبي، وكان اسمه مخشن بن حمير، فقال: قعد بي اسمي، واسم أبي، وابن جرير -رحمه الله- هنا يقول: إن القدر هو المراد هنا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا.

وهذا القول وإن كان لا يوجد ما يمنع منه من الأدلة باعتبار أن ما جرى في القدر لابد أن يكون، ولكن هل هؤلاء يعتذرون بالقدر يوم القيامة عند الله ؟ وبعضهم يقول: غلبت علينا لذاتنا، وشهواتنا، وشقاوتنا، فغلبت علينا لذاتنا، وشهواتنا، فسماه شقوة؛ لأنه يئول إلى الشقاء، يعني أنه أطلق عليه ذلك باعتبار ما يلزم منه ويئول إليه غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا، يعني شهواتنا ولذاتنا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا، وهذه القراءة غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا هي قراءة عاصم -نقرأ بها، قراءة أهل المدينة- وأبي عمرو، وقراءة البقية غَلَبَتْ عَلَيْنَا شَقَاوَتُنَا والشِّقوة والشَّقاوة في أصل المعنى واحد.

والمقصود أن ما ذكره ابن كثير -رحمه الله- هنا لعله هو أقرب هذه الوجوه، وإن كان ما ذكر ليس ببعيد غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا قامت علينا الحجة، ولكن كنا أشقى من أن ننقاد لها غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا، والله أعلم.

قال العلامة الشنقيطي -رحمه الله: "وقوله هنا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ الظاهر أن معنى قوله: غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا أن الرسل بلغتهم، وأنذرتهم وتلت عليهم آيات ربهم، ولكن ما سبق في علم الله من شقاوتهم الأزلية غلب عليهم فكذبوا الرسل ليصيروا إلى ما سبق في علمه -جل وعلا- من شقاوتهم ونظير الآية على هذا الوجه قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ ۝ وَلَوْ جَاءتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ [سورة يونس:96، 97]، وقوله عن أهل النار: قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ [سورة الزمر:71] إلى غير ذلك من الآيات.

ويزيد ذلك إيضاحاً قوله ﷺ: كلٌّ ميسر لما خلق له[2]، وقوله تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ [سورة التغابن:2]، وقوله: وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ ۝ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ [سورة هود:118، 119] على أصح التفسيرين"[3].

وقوله: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ على هذا الوجه خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ الفاء للتعقيب المباشر، فحينما خلقهم خلق قوماً للجنة، وخلق قوماً للنار، كما في الحديث: وأما الغلام فقد طُبع كافراً[4] الذي قتله الخضر.

والمعنى الثاني في الآية: فَمِنكُمْ كَافِرٌ أن التعقيب بالفاء يكفي كل شيء بحسبه خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ المعنى أن الله خلقهم وهدى كل فريق كما قال الله : وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ [سورة البلد: 10]، وبين لهم ما يتقون فمنهم من آمن واتبع الرسل، ومنهم من كفر وأعرض.

لكن هذا القول الثاني في هذه الآية: فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ يقول به بعض أهل البدع مثل المعتزلة الذين يقولون: إن الإنسان يخلق فعله وينفون القدر فيقولون بهذا القول باعتبار أنه يختار وأن ذلك لم يقدر عليه، وهذا غلط، ولكن يمكن أن يصحِّح هذا الوجه أنه قد قال به بعض السلف -وهم أبرياء من قول القدرية- باعتبار أن الله قدر عليه في الأزل، ولكن المقصود في معنى الآية هذه فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ المقصود بها فمنكم من سلك طريق الإيمان لما وصل إلى حد الإدراك والفهم، والعلم، والمعرفة وكذا منكم من اختار طريق الكفر.

فهذا إذا قال به أحد من أهل السنة فإن ذلك إما أن يكون مقبولاً صحيحاً أو غاية ما هنالك أن يكون من قبيل الغلط في التفسير، أقصد أنه لا يقدح في الاعتقاد، ولكن القول أحياناً يقوله صاحب بدعة فيقصد به تأييد المذهب مثل الذي يفسر بعض آيات الصفات بتفسيرات قد تكون وردت عن بعض السلف، لكن السلف يثبتون أصل الصفة مثلاً في قوله: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [سورة القصص:88] فمن قال ممن فسرها: إن هذه ليست من آيات الصفات أصلاً كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- فمثل هذا لا يعتبر من القدح في الاعتقاد، غاية ما هنالك عند غير الموافق أن هذا خطأ في التفسير كما يرى ابن القيم مثلاً -رحمه الله، لكن شيخ الإسلام يثبت صفة الوجه بالأدلة الأخرى.

وكقوله -تبارك وتعالى: يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ [سورة القلم:42]، فمن أهل العلم -وهو مروي عن ابن عباس- من قال: إن الساق الكرب، هذا معنى معروف في لغة العرب فمن فسرها بهذا وهو يثبت صفة الساق كما جاء في الحديث: فيكشف عن ساقه[5]، قال: لا يمكن أن يؤول، فلا إشكال، فغاية ما هنالك عند المخالف أن هذا من قبيل الخطأ في التفسير فحسب، لكن إذا جاء المبتدع الذي ينفي الصفات وقال: يُكْشَفُ عَن سَاقٍ أي: كرب، واحتج بما جاء عن ابن عباس ، فهذا نقول له: لا، ونرد عليه، فيقع هذا في بعض المواضع، فبعض أهل البدع قد يوافقون عبارة لبعض السلف ولكنهم يُجرون ذلك على مذهبهم الفاسد.

 قال الشنقيطي -رحمه الله: "وهذا الذي فسرنا به الآية هو الأظهر الذي دل عليه الكتاب والسنة، وبه تعلم أن قول أبي عبد الله القرطبي في تفسير هذه الآية: وأحسن ما قيل في معناه غلبت علينا لذاتنا وأهواؤنا، فسمى اللذات والأهواء شقوة لأنهما يؤديان إليها كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا [سورة النساء:10]؛ لأن ذلك يؤديهم إلى النار- تكلفٌ مخالف للتحقيق، ثم حكي القرطبي ما ذكرنا أنه الصواب بقيل ثم قال: وقيل حسن الظن بالنفس، وسوء الظن بالخلق، ولا يخفى أن الصواب هو ما ذكرنا إن شاء الله تعالى"[6].

فهنا ضعّف قول القرطبي باعتبار أن المتبادر من الظاهر والأكثر والأسرع وروداً على الذهن غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا أن المقصود به الشقاء وليس سبب الشقاء، هو يريد هذا، ولكن ما ذكره ابن كثير -رحمه الله: قامت علينا الحجة، ولكن كنا أشقى من أن ننقاد لها- قول لا تكلف فيه، والله أعلم- فهنا الشنقيطي -رحمه الله- ما أورد هذا القول ولا أجاب عنه.

قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ ۝ إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُون َرَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ ۝ فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ ۝ إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ [سورة المؤمنون:108-111].

هذا جواب من الله تعالى للكفار إذا سألوا الخروج من النار والرجعة إلى هذه الدار، يقول: اخْسَئُوا فِيهَا أي: امكثوا فيها صاغرين مُهانين أذلاء وَلا تُكَلِّمُونِ أي: لا تعودوا إلى سؤالكم هذا، فإنه لا جواب لكم عندي.

قال العَوْفِي، عن ابن عباس: اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ قال: هذا قول الرحمن حين انقطع كلامهم منه.

وروى ابن أبي حاتم عن عبد الله بن عمرو قال: إن أهل جهنم يدعون مالكا، فلا يجيبهم أربعين عاما، ثم يردّ عليهم: إنكم ماكثون، قال: هانت دعوتهم والله على مالك ورب مالك، ثم يدعون ربهم فيقولون: رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ ۝ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ، قال: فيسكت عنهم قدر الدنيا مرتين، ثم يرد عليهم: اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِقال: والله ما نَبَس القوم بعدها بكلمة واحدة، وما هو إلا الزفير والشهيق في نار جهنم، قال: فشبهت أصواتهم بأصوات الحمير، أولها زفير وآخرها شهيق.

قوله: قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ أصل هذه الكلمة يقال للبعيد اخسأ بمعنى الإبعاد، ولهذا يقال للكلب ذلك ويراد به معنى الإبعاد، وما ذكره هنا قال: امكثوا فيها صاغرين مهانين أذلاء هو بهذا المعنى، يرجع إلى هذا المعنى، فإن هذا بمعنى الإبعاد، من بقي في النار صاغراً ذليلاً فهذا غاية الإبعاد، وهذا المعنى أحد المعاني التي ذكرت في الرجيم، قد قيل في معناه: أي مبعََد، وما ذُكر أنه المجرم رجيم بمعنى مرجوم فإنه يرجع إلى هذا المعنى يرجم باللعن والطرد والشتم، يرجع إلى هذا المعنى، إلا على القول بأن رجيم بمعنى راجم يرجم الناس بالوساوس إلى آخره، هكذا عليه عامة أهل العلم، والله أعلم.

قال الشنقيطي رحمه الله:

"قوله تعَالى: رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ ۝ قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ، ذكر -جل وعلا- في هذه الآية الكريمة أن أهل النار يدعون ربهم فيها فيقولون: ربنا أخرجنا منها فإن عدنا إلى مالا يرضيك بعد إخراجنا منها فإنا ظالمون، وأن الله يجيبهم بقوله: اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ أي: امكثوا فيها خاسئين أي أذلاء صاغرين حقيرين؛ لأن لفظة "اخسأ" إنما تقال للحقير، والذليل كالكلب ونحوه فقوله: اخْسَئُوا فِيهَا أي: ذلوا فيها ماكثين في الصغار والهوان، وهذا الخروج من النار الذي طلبوه قد بين تعالى أنهم لا ينالونه كقوله تعالى: يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُواْ مِنَ النَّارِ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ [سورة المائدة:37].

وقوله تعالى: كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ [سورة البقرة:167]، وقوله تعالى: كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا [سورة الحج:22]، وقوله: كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا [سورة السجدة:20] إلى غير ذلك من الآيات.

وقد جاء في القرآن أجوبة متعددة لطلب أهل النار فهنا قالوا: رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا، فأجيبوا اخْسَئُوُا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ وفي السجدة رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا [سورة السجدة:12] فأجيبوا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ [سورة السجدة:13] الآية.

وفي سورة المؤمن: قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ [سورة غافر:11]، فأجيبوا ذَلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِن يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكبِيرِ [سورة غافر:12].

وفي الزخرف: وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ [سورة الزخرف:77] فأجيبوا إِنَّكُم مَّاكِثُونَ وفي سورة إبراهيم: فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُواْ رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ [سورة إبراهيم:44]، فيجابون: أَوَلَمْ تَكُونُواْ أَقْسَمْتُم مِّن قَبْلُ مَا لَكُم مِّن زَوَالٍ [سورة إبراهيم:44].

وفي سورة فاطر وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ [سورة فاطر:37]، فيجابون: أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ [سورة فاطر:37] إلى غير ذلك من الآيات الدالة على مثل هذه الأجوبة[7].

سبق في طلبهم الرجعة أنهم يتمنون ذلك عند الموت حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ [سورة المؤمنون:99]، وكذلك يتمنون الرجعة حينما يعرضون على النار وَلَوْ تَرَىَ إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ فَقَالُواْ يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [سورة الأنعام:27]، وكذلك يتمنون إذا دخلوا النار أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ.

ثم قال تعالى مذكرًا لهم بذنوبهم في الدنيا، وما كانوا يستهزئون بعباده المؤمنين وأوليائه، فقال: إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ ۝ فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا [سورة المؤمنون:109، 110] أي: فسخرتم منهم في دعائهم إياي وتضرعهم إليّ، حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي، أي: حملكم بغضهم على أن نَسِيتم معاملتي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ أي: من صنيعهم وعبادتهم، كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ ۝ وَإِذَا مَرُّوا بِهِم ْيَتَغَامَزُونَ [سورة المطففين:29، 30] أي: يلمزونهم استهزاء.

ثم أخبر عما جازى به أولياءه وعباده الصالحين، فقال: إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أي: على أذاكم لهم واستهزائكم منهم، أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ أي: جعلتهم هم الفائزين بالسعادة والسلامة والجنة، والنجاة من النار.

قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأرْضِ عَدَدَ سِنِينَ ۝ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ ۝ قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا قَلِيلا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ۝ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ ۝ فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ [سورة المؤمنون:112-116].

يقول تعالى منبها لهم على ما أضاعوه في عمرهم القصير في الدنيا من طاعة الله تعالى وعبادته وحده، ولو صبروا في مدة الدنيا القصيرة لفازوا كما فاز أولياؤه المتقون، قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأرْضِ عَدَدَ سِنِينَ أي: كم كانت إقامتكم في الدنيا؟ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ أي: الحاسبينقَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا قَلِيلا أي: مدة يسيرة على كل تقدير لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أي: لما آثرتم الفاني على الباقي، ولما تَصَرَّفتم لأنفسكم هذا التصرف السّيئ، ولا استحققتم من الله سخطه في تلك المدة اليسيرة، ولو أنكم صبرتم على طاعة الله وعبادته -كما فعل المؤمنون- لفزتم كما فازوا

روى ابن أبي حاتم عن صفوان، عن أيفع بن عبد الكَلاعي؛ أنه سمعه يخطب الناس فقال: قال رسول الله   ﷺ: إن الله إذا أدخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، قال: يا أهل الجنة، كم لبثتم في الأرض عدد سنين؟ قالوا: لبثنا يوما أو بعض يوم، قال: لنعم ما اتَّجَرتم في يوم أو بعض يوم، رحمتي ورضواني وجنتي، امكثوا فيها خالدين مخلدين، ثم يقول: يا أهل النار، كم لبثتم في الأرض عدد سنين؟ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ، فيقول: بئس ما اتَّجَرتم في يوم أو بعض يوم، ناري وسخطي، امكثوا فيها خالدين مخلدين[8].

هذا يحتاج أن يراجع من حيث الثبوت والصحة، وقوله -تبارك وتعالى: قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلْ الْعَادِّينَ كلام الحافظ ابن كثير -رحمه الله- جيد، قال: أي الحاسبين ولم يشتغل بما اشتغل به كثير من المفسرين من أن المقصود بذلك الملائكة، أو أن المقصود من يجيد الحساب والعد من بني آدم أو غير ذلك، فالله قال عنهم: فَاسْأَلْ الْعَادِّينَ اسئل الحاسبين أيًّا كان هؤلاء. 

وقوله: كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ، قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ، بعضهم يقول: المقصود به مدة البرزخ يعني بعد الموت إلى النفخ في الصور، وأن المقصود أن هذه مدة قصيرة قليلة.

والأقرب -والله تعالى أعلم- أن المقصود بذلك مدة البقاء في الدنيا فالحياة أيضاً قصيرة، وحينما يوافي الإنسان يدرك هذا المعنى أن حياته كانت كأنها حلم إذا انقشع، ولهذا يقول الله : وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ [سورة الروم:55]، مع أن المدة التي يقضيها الإنسان في فترة البرزخ إذا بعث فإنها -والله تعالى أعلم- بالنسبة إليه تكون قصيرة، ولذلك يشبه إلى حد ما حال النائم، فإن النائم ينقضي عليه الوقت بصورة أسرع -كما هو معلوم- من المستيقظ، ولذلك تجد الإنسان أحياناً لربما يريد أن يقضي الوقت -إما لفراغ ممل أو لهمٍّ قد أشغله- بالنوم.

لهذا تجد الإنسان من بعض الناس البطالين إذا كان صائماً في رمضان ويريد أن يقضي اليوم ويطوي النهار ماذا يفعل؟ الحل في نظره هو النوم، ينام فما يستيقظ إلا على الإفطار ولا يشعر بشيء ويكون هذا الوقت الطويل كله كأنه عشر دقائق من الانتظار وهو مستيقظ، ولهذا أصحاب الكهف لما بقوا فترة وهي تشبه فترة البرزخ فهذه المدة الطويلة ثلاثمائة وتسع سنوات لما قاموا وتساءلوا فأجاب بعضهم قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ، أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىَ يُحْيِي هَذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ [سورة البقرة:259] فترة البقاء في البرزخ ليست كالعد الذي يكون في الدنيا بالنسبة لهؤلاء، ولكن هنا ما المراد؟ هل المراد به البرزخ أو المراد به الحياة الدنيا؟

الأقرب -والله أعلم- أن المراد الحياة الدنيا بمتعها، وإن كان القول بأن المراد البرزخ يعني ليس بقول شاذ أو بعيد أو منكر -والله تعالى أعلم، والشنقيطي -رحمه الله- له كلام في ذكر الآيات الواردة فقال -رحمه الله: " قَوْلُهُ تَعَالَى: قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ ۝ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ، فِي هَذِهِ الْآيَةِ سُؤَالٌ مَعْرُوفٌ: وَهُوَ أَنَّهُمْ لَمَّا سُئِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَنْ قَدْرِ مُدَّةِ لُبْثِهِمْ فِي الْأَرْضِ فِي الدُّنْيَا أَجَابُوا بِأَنَّهُمْ لَبِثُوا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ، مَعَ أَنَّهُ قَدْ دَلَّتْ آيَاتٌ أُخَرُ عَلَى أَنَّهُمْ أَجَابُوا بِغَيْرِ هَذَا الْجَوَابِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا [سورة طه:103] وَالْعَشْرُ أَكْثَرُ مِنْ يَوْمٍ أَوْ بَعْضِهِ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ [سورة الروم:55].

وَالسَّاعَةُ أَقَلُّ مِنْ يَوْمٍ أَوْ بَعْضِهِ، وَقَوْلِهِ: كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا [سورة النازعات:46]، وَقَوْلِهِ: كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ [سورة يونس:45]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ [سورة الأحقاف:35].

وَقَدْ بَيَّنَّا الْجَوَابَ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ فِي كِتَابِنَا: "دَفْعُ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ" فِي الْكَلَامِ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا حَاصِلُهُ: أَنَّ بَعْضَهُمْ يَقُولُ: لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ، وَيَقولُ بَعْضٌ آخَرُ مِنْهُمْ: لَبِثْنَا سَاعَةً، وَيَقُولُ بَعْضٌ آخَرُ مِنْهُمْ: لَبِثْنَا عَشْرًا .

وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا الْجَوَابِ مِنَ الْقُرْآنِ أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّ أَقْوَاهُمْ إِدْرَاكًا، وَأَرْجَحَهُمْ عَقْلًا، وَأَمْثَلَهُمْ طَرِيقَةً هُوَ مَنْ يَقُولُ: إِنَّهُمْ مَا لَبِثُوا إِلَّا يَوْمًا وَاحِدًا، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا ۝ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا [سورة طه:103، 104] فَالْآيَةُ صَرِيحَةٌ فِي اخْتِلَافِ أَقْوَالِهِمْ، وَعَلَى ذَلِكَ فَلَا إِشْكَالَ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى"[9].

وقوله: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا [سورة المؤمنون:115] أي: أفظننتم أنكم مخلوقون عبثا بلا قصد ولا إرادة منكم ولا حكمة لنا؟!

يعني بهذا الاعتبار قال وقيل، للعبث، على هذا: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا أي: للعبث، فيكون "عبثاً" مفعولاً لأجله خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا أي: لأجل العبث، قال: أي: لتلعبوا، الله يقول: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ [سورة الأنبياء:16].

وقوله: فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ [سورة المؤمنون:116] أي: تقدَّس أن يخلق شيئا عبثا، فإنه الملك الحق المنزه عن ذلك، لا إِلَهَ إِلا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ، فذكر العرش؛ لأنه سقف جميع المخلوقات، ووصفه بأنه كريم، أي: حسن المنظر بهي الشكل، كما قال تعالى: فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ [سورة لقمان:10].

هذه قراءة السبعة بل عامة العشرة رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ فيكون الكريم هنا صفة للعرش، وفي قراءة أبي جعفر من العشرة بالرفع رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمُ فيكون الكريم صفة الله للرب، كما سبق في القاعدة أن تعدد القراءات بمنزلة تعدد الآيات، فعلى هذه القراءة يكون الكريم صفة للعرش وصفوه بأنه الكريم، وفي القراءة الثانية يكون ذلك من صفة الله كما في قوله تعالى: ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ [سورة البروج:15]، وفي القراءة الأخرى الْمَجِيدِ

هنا في كلام الحافظ ابن كثير -رحمه الله- في تفسير الكريم، قال: ووصفه بأنه كريم أي حسن المنظر بهي الشكل كما قال تعالى: فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ في الموضعين لا يفسر الكريم بهذا التفسير الحاصر له فيما يتعلق بالشكل والصورة، فإن هذا أحد المعاني الداخلة فيه، فإن الكريم أوسع من هذا لا يختص ذلك فقط بهيئته وصورته الظاهرة وإنما المعنى أوسع، فالمقام الكريم هو المكان الحسن الواسع أيضاً الذي لا تنغيص فيه، ولا منة فيه ولا أذى إلى غير ذلك من المعاني، والطعام الكريم هو المستلذ أو حسن المنظر الذي لا تنغيص فيه ولا منة فيه، كل هذه المعاني داخلة فيه.

قد يكون حسن الصورة لكنه غير جيد الطعم، وقد يكون جيد الطعم لكنه غير مستساغ في صورته وهيئته تنفر منه النفوس وقد يكون فيه منة تنغص ذلك على آكله مثلاً، وحينما يقال: الْعَرْشِ الْكَرِيمِ فإن ذلك يدخل فيه الصورة، ويدخل فيه أيضاً من جهة المعنى، يعني المادة التي خلق منها والأوصاف التي تختص به مما يصلح لمثله كل هذا داخل فيه، يعني لا يختص فقط بالصورة الظاهرة بالشكل، المعنى أوسع من ذلك -والله أعلم- على سبيل المثال مع الفارق الكبير حينما يقال: الأحجار الكريمة هل هذا يرجع إلى صورتها فقط؟، لمادتها، لاحظتَ في التقريب المعنى مع الفارق، تقريب للمعنى، فإذاً هذه اللفظة لا تختص بالصورة إنما هي أبلغ من ذلك.

وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ ۝ وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ [سورة المؤمنون:117، 118].

يقول تعالى متوعدا من أشرك به غيره، وعبد معه سواه، ومخبرًا أن من أشرك بالله لا بُرْهَانَ لَهُ أي: لا دليل له على قوله فقال: وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ، وهذه جملة معترضة، وجواب الشرط في قوله: فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ أي: الله يحاسبه على ذلك.

ثم أخبر: إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ أي: لديه يوم القيامة، لا فلاح لهم ولا نجاة.

قوله -تبارك وتعالى: وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ البرهان هو الحجة والدليل، وهذا الموضع قوله: لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ هل هو من قبيل الصفة المقيدة بمعنى أن مفهوم المخالفة معتبر أو أنها مجرد صفة كاشفة تكشف عن حقيقية الأمر على ما هو به؟ هي صفة كاشفة، صفة كاشفة مثل حينما يقول الله وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ [سورة الأنعام:38] هو الطائر يطير بجناحيه ما يطير برجليه، يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم [سورة آل عمران:167] تقول بالأيدي!، طبعاً هناك تكون معانٍ أخرى تذكر لكن هذا المتبادر وإلا فهناك من يقول: يكتبون الكتاب بأيديهم يعني: ما وكل ذلك إلى غيره، يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم القول قد يكون بالإشارة، وقد يكون قاله غيره فأقره، ونسب إليه لكن المعنى المتبادر هو ما ذكرت، هذا كله يقال له: صفة كاشفة، لذلك "يطير" يقولون: الطيران يطلق على الإسراع أنا لا أريد أن أدخل في الجزئيات والإجابات التي قد يكون فيها شيء من التكلف، إنما المعنى المتبادر وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ.

فهذا يذكر يقال له: صفة كاشفة وهي الحقيقة، لا مفهوم له -مفهوم المخالفة، فحينما يقول الله : لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ هل هناك أحد يمكن أن يدعو مع الله إلهاً آخر له به برهان؟ الجواب: لا، إذاً لا مفهوم له، يعني ليس لأحد أن يقول هنا: وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ إن مفهوم المخالفة أن من دعا مع الله إلهاً آخر له به برهان فهو معذور لن يحاسب، ما يقوله أحد لماذا؟ لأنه لا يمكن لأحد أن يدعو مع الله إلهاً آخر له به برهان كقوله -تبارك وتعالى: وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ [سورة آل عمران:21] ولا يمكن لأحد أن يقتل نبيا بحق، فيقال: هذه صفة كاشفة كل من قتل نبيا فهو بغير حق، فهي تكشف عن حقيقته، ولهذا هذا أحد المواضع السبعة أو الثمانية التي لا يعتبر فيها مفهوم المخالفة التي عبر عنها صاحب المراقي بقوله:

أو امتنان أو وفاق الواقع والجهل والتأكيد عند السامع

هذا جاء موافقا للواقع، من حيث هو في أجلى صورة، يعني هناك صور وفاق الواقع، واقعة معينة حصلت لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ [سورة آل عمران:28] لو جاء أحد وقال: نحن نريد أن نتخذ الكافرين أولياء مع المؤمنين، نقول: لا هذه الآية جاءت وفاق -على وفق- واقع معين، ناس اتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين فنزلت الآية فيهم وإلا فلا يجوز لأحد أن يتخذ الكافرين أولياء، فهذه الصورة فرق بينها وبين ما نحن فيه لا يخفى.

  1. أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، (5/ 356).
  2. رواه البخاري، كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: ولقد يسرنا القرآن للذكر، برقم (7112)، ومسلم، كتاب القدر، باب كيفية الخلق الآدمي في بطن أمه وكتابة رزقه وأجله وعمله وشقاوته وسعادته، برقم (2649)
  3. أضواء البيان (5/ 358).
  4. رواه البخاري، كتاب التفسير، باب تفسير سورة الكهف، برقم (4449).
  5. رواه البخاري،  كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ ۝ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [سورة القيامة:22، 23]، برقم (7001).
  6. أضواء البيان (5/ 358).
  7. أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (5/ 359).
  8. تفسير ابن أبي حاتم،(8/ 2511)، برقم (14060).
  9. أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (5/ 361-362).

مواد ذات صلة