الخميس 18 / رمضان / 1445 - 28 / مارس 2024
من قوله تعالى: {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا} الآية 21 إلى قوله تعالى: {إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} الآية 37
تاريخ النشر: ٢٣ / محرّم / ١٤٣٢
التحميل: 3886
مرات الإستماع: 18250

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد.

قال المفسر -رحمه الله تعالى- في تفسير قوله تعالى:

فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ۝ وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاء مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَاء السَّبِيلِ ۝ وَلَمَّا وَرَدَ مَاء مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ ۝ فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ ۝ فَجَاءتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاء قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [سورة القصص:21-25]، لما أخبره ذلك الرجل بما تمالأ عليه فرعون ودولته في أمره، خرج من مصر وحده، ولم يألف ذلك قلبُه، بل كان في رفاهية ونعمة ورئاسة، فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ أي: يتلفَّت قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ أي: من فرعون وملئه، فذكروا أن الله بعث له ملكًا على فرس، فأرشده إلى الطريق، فالله أعلم.

وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ أي: أخذ طريقًا سالكًا مَهْيَعاً فرح بذلك، قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ أي: إلى الطريق الأقوم، ففعل الله به ذلك، وهداه إلى الصراط المستقيم في الدنيا والآخرة، فجُعل هاديًا مهديًّا.

وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ أي: ولما وصل إلى مدين وورد ماءها، وكان لها بئر يرده رعاء الشاء، وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ أي: جماعة، يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ أي: تكفكفان غنمهما أن ترد مع غنم أولئك الرعاء لئلا يُؤذَيا، فلما رآهما موسى رق لهما ورحمهما، قَالَ مَا خَطْبُكُمَا أي: ما خبركما لا تردان مع هؤلاء؟ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ أي: فهذا الحال الملجئ لنا إلى ما ترى، قال الله تعالى: فَسَقَى لَهُمَا.

وقوله: ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ، وقوله: إِلَى الظِّلِّ قال ابن عباس، وابن مسعود، والسدي: جلس تحت شجرة.

وقال عطاء بن السائب: لما قال موسى رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ أسمعَ المرأة.

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقوله -تبارك وتعالى: فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قال الحافظ -رحمه الله: "أي يتلفت"، وليس المقصود أن من يتلفت أنه يترقب، فإن الالتفات الكثير ناتج عن تخوف، وقلق وتوجس فهو يترقب لما يتخوفه، ويتوقعه من المكروه.

وقوله: وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ أصله من اللقاء، تقول: داره تلقاء داري، يعني أنها مقابل داري، ومَدْيَنَ بعضهم يقول: اسم للقبيلة، وبعضهم يقول: اسم للقرية وهو محتمل.

وقوله: قَالَ عَسَى رَبِّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَاء السَّبِيلِ من إضافة الصفة إلى الموصوف، سَوَاء السَّبِيلِ يعني السبيل المستوية.

وقوله  -تبارك وتعالى: وَلَمَّا وَرَدَ مَاء مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ، قال: "أي تكفكفان غنمهما" أن ترد مع غنم أولئك الرعاء، وعبر هنا بالمضارع مَا خَطْبُكُمَا يعني ما خبركما؟ ولماذا هذا التوقف والانعزال عن هؤلاء الناس؟ فقالتا: لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاء مضارع "أصدر" المتعدي، "أصدر" يعني المفعول مقدر محذوف، أي يُصدِر الرعاء أغنامهم ومواشيهم، وفي القراءة الأخرى قراءة ابن عامر وأبي عمرو حَتَّى يَصْدُرَ الرِّعَاءُ يعني عن الماء قالوا: وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ ۝ فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ

هذه الآيات واضحة المعنى، والعادة أن ما يذكر هنا بهذا المجلس إنما هو توجيه الأقوال أو بيان ما يحتاج إلى بيان، ولكن بعض هداية القرآن أحياناً لا نستطيع أن نتجاوزها لمقتضى الحال، فهذه الآيات فيها أبلغ العبرة فيما يتصل بأدب المرأة المسلمة مع الرجال، والعجيب أن دعاة الاختلاط يحتجون بمثل هذه الآية على عادة أهل الأهواء في الاحتجاج والتعلق بنصوص القرآن حيث يؤولونها، ويحملونها على غير ما دلت عليه.

وكان من عادة أهل العلم كشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- أن أهل الباطل لا يحتجون بشيء أو بحجة إلا قلبها عليهم، وهذه الآية أوضح ما تكون في الاحتجاج على هؤلاء المفسدين، فهؤلاء يحتجون بهذه الآية على أن هاتين المرأتين خرجتا للعمل وتخالطان الرجال، وتعملان بجانب الرجال، فيقولون: هذا دليل على جواز الاختلاط.

والواقع أن الآية لا تدل على ذلك لا من قريب ولا من بعيد، فموسى -عليه الصلاة والسلام- تعجب من حالهما وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ، ما قال وجد معهم مِن دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ تكفكفان الغنم، والغنم تتفلت تريد الماء وهما بمعزل،  قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ ۝ فَسَقَى لَهُمَا، فلم تجترئ هاتان المرأتان على السقي لغنمهما -مع الحاجة- مع الرجال، وهذا دليل على أدب المرأة المسلمة في مباعدة مجامع الرجال، وأن الاختلاط تأباه الفطرة، كما تأباه الشريعة، وكذا تأباه العقول الراجحة كما تدل عليه الشواهد الكثيرة من كلام الغربيين من الرجال والنساء من عقلائهم أو ممن ذاقوا مرارة التجربة حتى صارت حكوماتهم -أو بعضها- تدعم المدارس والكليات غير المختلطة، وتعطيها مزايا وتسهيلات وأموالاً، وهذا كله موجود بتقارير منشورة ومعروفة.

فالشاهد أن هاتين المرأتين لم تختلطا بالرجال كما يقولون: وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاء، أي نحن لا نختلط مع الرجال مع وجود الحاجة ثم بيّنتا سبب الخروج، وأنه ليس ذلك ناتجاً عن رغبة فيه، أو رغبة في العمل، أو عن طلب للترويح، وبسبب الملل من البقاء في البيوت، وإن محل المرأة بيتها والله يقول: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى [سورة الأحزاب:33]، ومعلوم أن كثرة الخروج بحد ذاته يعد من التبرج، فالمرأة الخرّاجة الولّاجة امرأة متبرجة؛ لأن التبرج من البروج وهو الظهور والانكشاف، فإذا خرجت استشرفها الشيطان، يعني همّ بها، وأغرى بها، فهاتان المرأتان إنما خرجتا من أجل الحاجة التي لا تُسد إلا بهما، وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ ليس هناك بديل، ليس هناك من يقوم بهذا العمل سواهما. 

ثم إن موسى ﷺ سأل بكلمة واحدة: مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاء وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ، وهذا فيه أدب المرأة المسلمة في مخاطبة الرجال، وأدب الرجل في مخاطبة النساء، بحيث لا يسترسل في الحديث ويطيل، ويأخذه الكلام حتى يأنس بمحادثتها ويستروح لذلك، فإن هذا يدعو إلى ما بعده، ثم بعد أن سقى لهما لم يتحول الأمر إلى علاقة أو أسئلة فضولية، فَجَاءتْهُ إِحْدَاهُمَا فالخروج على قدر الحاجة.

وقوله: تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاء يدل على أنها لا تخالط الرجال؛ لأن المرأة التي تخالط الرجال يذهب حياؤها، ويذهب ماء وجهها شاءت أم أبت، ومهما حاولت أن تظهر غير هذا فإنه ينكشف في الحقيقة، وهذا أمر مشاهد ولو كانت متدينة، فتكون في حال من الجرأة بل حتى إذا كلمت لتستفتي كأنها تتكلم مع أصغر أولادها أو إخوانها بغاية الجرأة، وإذا سألت فغالباً لا تعرف الحياء في السؤال، ولا تتحرز، ولا تتحرج وهي تتكلم مع رجل أجنبي، هذه المرأة التي تخالط الرجال تعتاد، تكون جريئة، أما المرأة التي لا تخالط الرجال فإنها تستحي منهم، ولا تجرؤ على مخاطبتهم أو مقابلتهم.

فَجَاءتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاء، ولم تقل: تفضّلْ عندنا نحن ندعوك اليوم تقديراً لجهودك، وإنما قالت: إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ، ثم بيّنت سبب هذه المسألة، ليس فيها ريبة لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا، فأين هذا من حال أهل الاختلاط؟ وقبل مدة شاهد العالم تلك المسخرة منتدى خديجة بنت خويلد أو مركز خديجة بنت خويلد -رضي الله عنها، سموه باسم أم المؤمنين يجرءون هذه الجرأة على الله وعلى أمهات المؤمنين، وعلينا، ونظرت في تلك المواقع وطلبت المزيد من بعض الإخوان فوجدت مركز خديجة بنت خويلد ونساء في غاية السفور حتى إنك ترى بعضهن تجلس بجانب رجل والله كأنها مغتنمة ألبسة لا تعرف الحياء ولا الحشمة، وجوه سافرة هذا كله وينسب إلى خديجة بنت خويلد، ورأيت بعض كلام هؤلاء النسوة اللاتي فارقن الحياء يتحدثن بحديث غريب أن قدوتهن خديجة بنت خويلد.

فالمسألة صارت استحلالاً للمنكر والتبرج والاختلاط وهذا خطير، وهناك فرق بين أن تقع المرأة في مثل هذا وهي ترجو التوبة وتأمل بحال أفضل من هذه وتخاف من الله ومن عاقبة هذا الذنب ومغبته لكن أن يصل الأمر إلى هذا الاستحلال وينسب إلى أم المؤمنين خديجة -رضي الله تعالى عنها- باعتبار أنه كان عندها تجارة، خديجة كانت تجتمع مع الرجال وتخالط الرجال، وألبسة وعباءات لو كانت الواحدة من غير تلك العباءة لكانت حالها أخف وأسلم في الفتنة، ومصافحة للرجال، بل رأيت أن بعض هؤلاء حينما تصافح بعض الرؤساء الأمريكيين السابقين أو غير هؤلاء من الرجال أن الواحدة تكاد تلتصق به، والنساء في العالم إذا صافحت رجلا تمد يدها من بعد لكن هذه تكاد تضع جسمها ملتصقاً بجسمه بل لربما حاولت أن تظهر وجهها إلى ناحية صدره، فهذا من أعظم المنكرات، فهؤلاء هم رواد التبرج في هذا المجتمع، كما كان لكل مجتمع رائدات في التبرج والاختلاط والفساد والإفساد، فهؤلاء هم السابقون في ذلك الذين يحملون وزرهم، ولهم أيضا من أوزار من يأتي بعدهم إلى يوم القيامة، لا ينقص من أوزارهم شيء، والله المستعان، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ۝ قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأمِينُ ۝ قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ ۝ قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الأجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ [سورة القصص:25-28].

لما رجعت المرأتان سراعا بالغنم إلى أبيهما، أنكر حالهما ومجيئهما سريعا، فسألهما عن خبرهما، فقصتا عليه ما فعل موسى ، فبعث إحداهما إليه لتدعوه إلى أبيها، قال الله تعالى: فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ أي: مشي الحرائر، كما روي عن أمير المؤمنين عمر أنه قال: كانت مستترة بكم درْعها.

وروى ابن أبي حاتم عن عمر بن ميمون قال: قال عمر : "جاءت تمشي على استحياء، قائلة بثوبها على وجهها، ليست بسلفع خَرَّاجة ولاجة"[1]، هذا إسناد صحيح.

السلفع هي المرأة الجريئة، وهذا ملازم لما بعده خَرَّاجة ولاجة كثيرة الخروج داخلة طالعة، فهذا ملازم لهذا؛ لأن المرأة التي تكثر الخروج تكون مجترئة، ثم نقول لهؤلاء الناس: افترضوا أن القضية كانت مخالطة للرجال، افترضوا مع أنها ليست كذلك، افترض أن هذا شرع من قبلنا هل هو شرع لنا؟ شرع من قبلنا إذا كان يخالف شرعنا فهو ليس من شرعنا بالإجماع، وهذا أمر معلوم عند أهل العلم، ففي شرعنا عشرات النصوص التي تدل على تحريم الاختلاط، فنترك كل هذه النصوص بناءً على حادثة واقعة ذكرها الله لمن قبلنا مع أنه ليس فيها ما يدل على هذا.

وقوله: "قائلة بثوبها على وجهها ليست بسلفع" من النساء، يعني قضية تغطية الوجه أمر معروف حتى عند الشرائع السابقة، تغطية الوجه وما عرف كشف الوجه عند المسلمين إلا بعدما جاء الاستعمار في مصر، وفي الشام، وفي مشارق الأرض ومغاربها، فكشف الوجه ما كان يعرف أبداً، فالنساء كن يغطين وجوههن، وابن العربي المالكي، وبعض أهل العلم لما طافوا في بعض البلاد وزاروها وجاءوا بلاد الأندلس ذكروا بعض ما شاهدوا وما رأوا في بعض بلاد الشام، يصفون ما شاهدوا، يقولون: لا ترى النساء أبداً إلا يوم الجمعة يخرجن بغاية الحشمة لا يرى منها شيء، وفي سائر الأسبوع يقولون: تظن أنك في بلد لا يوجد فيه نساء.

ولما جاء الاستعمار وبدأت النساء الفرنسيات اللاتي جئن مع الجيش الفرنسي وقائده نابليون، وصرن يضاحكن أصحاب الدواب: الجمال، والبغال، وما أشبه ذلك، وفي حال من التبرج، وكان المصريون يتعجبون من جرأة هؤلاء ووقاحتهن، ثم بعد ذلك حصل ما حصل في بولاق، وأحرق جزء كبير منها، وعاث الفرنسيون فيها فساداً، وأخذوا من الأموال، والنساء الشيء الكثير ثم ربوهن على أيديهم، فطفق أولئك النسوة فيما بعد يتشبهن بهؤلاء من الفرنسيين، فبدأ التبرج شيئاً فشيئاً حتى صار إلى هذه الحالة. 

ولما صارت الثورة وجاء سعد زغلول -سيئ الذكر- أول ما بدأ به والنساء قد احتشدن، بدأ بكشف غطاء وجوه النساء اللاتي احتشدن بعد أن كن مستترات، فجاء وبدأ بكشف هذا الخمار، ولا أدري ما علاقة الثورة والنصر المزعوم بكشف غطاء المرأة! وكانت زوجته المسماة بصفية زغلول رائدة في هذا المجال، وشيخه وأستاذه فضيلة الشيخ المفتي محمد عبده كان صديقَ اللورد كرومر، ويجلس مع زوجته، صديقاً لزعيم الاستعمار ومندوب الإنجليز في مصر، وكان يتردد على بعض الصوالين التي يديرها بعض النساء، وبعضهن نصرانيات، فإذا كان هذا حال هذا الشيخ فما بالك بغيره إلا ما رحم الله ، فكانت تلك قصة الاختلاط، والله المستعان.

قال الجوهري: السلفع من الرجال: الجَسور، ومن النساء: الجريئة السليطة، ومن النوق: الشديدة، قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا، وهذا تأدب في العبارة، لم تطلبه طلبا مطلقا لئلا يوهم ريبة، بل قالت: إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا يعني: ليثيبك ويكافئك على سقيك لغنمنا، فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ أي: ذكر له ما كان من أمره، وما جرى له من السبب الذي خرج من أجله من بلده، قَالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ، يقول: طب نفسا وقرّ عينا، فقد خرجتَ من مملكتهم فلا حُكْم لهم في بلادنا، ولهذا قال: نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ.

وقوله: قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأمِينُ أي: قالت إحدى ابنتي هذا الرجل، قيل: هي التي ذهبت وراء موسى ، قالت لأبيها: يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ أي: لرعية هذه الغنم.

بعض العلماء يقول: إن الذي قص عليه القصص هو أبو البنات وأنه جلس يتحدث مع موسى ويسليه، ويذكر له خبره، وأن هؤلاء البنات يقمن بهذا العمل؛ لأنه لا يجد غنية، والأقرب كما هو ظاهر السياق أن الذي قص القصص هو موسى -عليه الصلاة والسلام، ذكر له خبره بدليل أنه قال له بعد ذلك: لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ فذكر له خبره مع فرعون، وما حصل من قتل القبطي، وما تآمروا به على قتله، ثم قال: قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يقول قالت: أي إحدى ابنتي هذا الرجل.

قيل: هي التي ذهبت وراء موسى هذا يُذكر وأصل ذلك يرجع إلى أخبار بني إسرائيل -والله تعالى أعلم: أنه قال لها: امشي خلفي، وإذا أردتِ أن أتجه يمينًا أو شمالاً فألقِ حجراً من الناحية التي تريدين؛ من أجل ألا ينظر إليها، فعرفت أمانته، ورأت قوته حينما استطاع أن يسقي لهما، وبعضهم يقول: إن البئر كان عليه حجر لا يرفعه إلا جماعة من الرجال، وهذا الكلام كله لا دليل عليه، يعني يقولون: إنها استنتجت قوته من هذا، وهي رأت كيف يستخرج الماء ويسقي الغنم فهو وافر القوة.  

وهي ليست مستشرفة للخروج؛ هي لا تقول بأن الخروج أصلاً يمثل بالنسبة إليها نوعاً من الفسحة، والراحة ومفارقة الملل الذي يتمثل في البيت كما يقول كثير من النساء في بيت غِنًي وتخرج تعمل بألف وخمسمائة ريال، أو بألف ومائتين ريال وهم أغنياء، وتذهب كل يوم وتعمل وتُحاسَب على هذا العمل حساباً عسيراً إذا تأخرت عشر دقائق أو نحو ذلك، يحاسبونها محاسبة دقيقة وهي تقول: أنا ليس لي هدف إلا الخروج من البيت، ولو قيل لها: تعملين بأجرة في بيتك كطباعة مثلاً؟ لقالت: لا، أنا هدفي مفارقة البيت وليس المال، وأعرف بعض النساء قال لها أهلها: نحن نعطيك ما تشائين، خمسة آلاف في الشهر فلا تخرجي، فتصر على الخروج للعمل بألف ومائتين ريال؛ من أجل أنها تخرج، فالخروج هدف، بينما هذه تقول لأبيها: يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ من أجل أن يكفيهما عن الخروج، فالمرأة لا تخرج إلا إذا اضطرت وبضوابط بعيداً عن الاختلاط والتبرج، والأصل أن المرأة تُكفى من بيت المال إن كانت فقيرة أو أرملة أو نحو ذلك، تُكفى من بيت المال تُعطَى ما يكفيها.

قال عمر، وابن عباس، وشُريح القاضي، وأبو مالك، وقتادة، ومحمد بن إسحاق، وغير واحد: لما قالت: إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأمِينُ قال لها أبوها: وما علمك بذلك؟ قالت: إنه رفع الصخرة التي لا يطيق حملها إلا عشرة رجال، وإنه لما جئت معه تقدمتُ أمامهُ، فقال لي: كوني من ورائي، فإذا أخطأتُ الطريق فاحذفي لي بحصاة أعلم بها كيف الطريق لأتهدّى إليه.

عن عبد الله -هو ابن مسعود- قال: أفرس الناس ثلاثة: أبو بكر حين تفرس في عُمَر، وصاحب يوسف حين قال: أَكْرِمِي مَثْوَاهُ [سورة يوسف:21]، وصاحبة موسى حين قالت: يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأمِينُ.

قال: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ أي: طلب إليه هذا الرجل الشيخ الكبير أن يرعى عنه ويزوجه إحدى ابنتيه هاتين.

وقوله: عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ أي: على أن ترعى عليّ ثماني سنين، فإن تبرعت بزيادة سنتين فهو إليك، وإلا ففي ثمانٍ كفاية.

قوله: أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ؟ [سورة البقرة:85]، هو انتقاء، يأخذ ما يوافق هواه ويترك ما يخالفه، عمِلَ ثماني سنوات أو عشر سنوات راعياً للأب، هو أجير عند الأب وهذا مهر البنت نحن نقول: إن هذه مسألة فيها خلاف بين أهل العلم، هل للأب أن يأخذ المهر أو ليس له ذلك؟ ومن يقول: إنه ليس له أن يأخذ المهر فإنه يجيب عن هذا بأحد جوابين: الأول: أن يقول: إن شرع من قبلنا ليس بشرع لنا إذا جاء في شرعنا ما يخالفه، أو يقول: إن المصلحة هنا تعود للبنت في الواقع؛ لأنها تعمل وتذهب وتكدح فكفاها هذا، بأن يقوم هو بالرعي، فذهبت عنها تلك المشقات والأعمال التي تصلح للرجال.

ويحتج به في مسألة قدر المهر فالعمل ثماني سنوات أو عشر سنوات في مقابل تزويج يعتبر كثيراً جداً فلا يقال: إن المهر الكثير يحرم، ولكن قلة المهر مظنة البركة، تكون أعظم بركة كما جاء عن النبي ﷺ.

وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ أي: لا أشاقك، ولا أؤاذيك، ولا أماريك.

يعني الذي يظهر -والله أعلم- أنه لا يقصد هنا المعنى المتبادر من لا أريد أن أشق عليك كما يقول بعض الناس: كيف تكون الأجرة ثماني سنوات أو المهر عمل ثماني سنوات ويقول: وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ؟ هذه مدة طويلة، فالذي يظهر -والله أعلم- أن المعنى لا أريد أن أشق عليك بأن أحملك من العمل ما يحصل به المشقة، يعني ستجدني أتلطف بك وأراعي حالك هذا المقصود، والله تعالى أعلم.

وقوله تعالى إخبارا عن موسى، : قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الأجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ، يقول: إن موسى قال لصهره: الأمر على ما قلتَ من أنك استأجرتني على ثماني سنين، فإن أتممت عشرًا فمن عندي، فأنا متى فعلت أقلهما فقد برئت من العهد، وخرجت من الشرط؛ ولهذا قال: فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ [سورة البقرة:203].

وقال رسول الله ﷺ لحمزة بن عمرو الأسلمي وكان كثير الصيام، وسأله عن الصوم في السفر -فقال: إن شئت فصم، وإن شئت فأفطر [2]، مع أن فعل الصيام راجح من دليل آخر.

هذا وقد دل الدليل على أن موسى ، إنما فعل أكمل الأجلين وأتمهما.

فموسى ﷺ بقي عشراً، يعني أتم الأجلين على الأرجح من قولي أهل العلم، وقوله: فَلا عُدْوَانَ عَلَيَّ يعني إنني لا أُطالَب ولا أُلام بأي مدة بقيت، لا يلحقه بذلك ملامة ولا معرّة ولا يطالب بالزيادة.

وروى البخاري عن سعيد بن جبير قال: سألني يهودي من أهل الحيرة: أي الأجلين قضى موسى؟ فقلت: لا أدري حتى أقدم على حَبْر العرب فأسأَلَه، فقدمت فسألت ابن عباس ، فقال: قضى أكثرهما وأطيبهما، إن رسول الله إذا قال فعل. هكذا رواه البخاري.

هذا فيه عبرة، نبي من الأنبياء، إن قيل: إنه حينما خرج إلى مدين قد نبئ، أو حتى قبل النبوة لا شك أنه أفضل أهل زمانه، والأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- هم أفضل وأكمل الناس في زمانهم، يبقى هذه المدة الطويلة يرعي الغنم عشر سنوات في بلد هو غريب فيها، لا يعرفه أهلها، ولا يعرفون قدره، يرعى غنماً، لو عرفوا قدره ما تركوه يرعى الغنم، ولتهافت الناس عليه، ولما تركوه عشر سنوات يرعى الغنم، فهذا في مقاييسنا المادية قد يقال: إنها خسارة للعالم أن تعطل مثل هذه القامات العالية، والنفوس الشريفة، ويشتغل برعي غنم عشر سنوات والناس بحاجة إليه.

ويوسف -عليه الصلاة والسلام- بقي تلك المدة في السجن لربما تقرب من المدة التي بقيها موسى -عليه الصلاة والسلام- في رعي الغنم؛ لأنه بقي بضع سنين بعدما أول الرؤية، بعضهم يقول: سبع سنين، وبعضهم يقول: غير هذا، نبي يبقى في سجن مع مجرمين تعتبر في مقاييسنا المادية هذه خسارة للناس كبيرة، ولكن الله عليم حكيم، فهو يهيئ هؤلاء الرسل -عليهم الصلاة والسلام، ويربيهم بما هو به أعلم مما يحصل لهم به الكمالات المتنوعة، فمثل هذه الأشياء لا تقاس بمقاييسنا المادية، وهذا دين الله والله ناصر دينه وكتابه، وإنما علينا أن نبذل وننشر دين الله ونصلح قدر المستطاع، والله -تبارك وتعالى- أعظم غيرة منا، وهو العليم الحكيم، فمثل هذا إذا جعله الإنسان منه على بال فإنه يركن إلى تدبير الله ويرضى، ويسلم ويثق بوعده بنصر دينه وعباده المؤمنين.

فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لأهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ ۝ فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الأيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ۝ وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الآمِنِينَ ۝ اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ [سورة القصص:29-32].

قد تقدم في تفسير الآية قبلها أن موسى ، قضى أتم الأجلين وأوفاهما وأبرَّهما وأكملهما وأنقاهما، وقد يستفاد هذا أيضًا من الآية الكريمة حيث قال: فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأجَلَ أي: الأكمل منهما، والله أعلم.

قوله: فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأجَلَ قال: "أي الأكمل منهما" لمح الحافظ ابن كثير -رحمه الله- هذا المعنى بأن دخول "ال" هنا كأنه يفيد الكمال، الأكمل في الوصف، تقول: هذا هو الرجل، هذا هو العمل الذي يقرب إلى الله، هذا هو الرأي، يعني الرأي الكامل فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأجَلَ هنا دخلت عليه "ال" فأفادت أن ذلك هو الوصف الكامل، هكذا أراد ابن كثير -رحمه الله.

وقوله: وَسَارَ بِأَهْلِهِ قالوا: كان موسى قد اشتاق إلى بلاده وأهله، فعزم على زيارتهم في خفية من فرعون وقومه، فتحمل بأهله وما كان معه من الغنم التي وهبها له صهره، فسلك بهم في ليلة مطيرة مظلمة باردة، فنزل منزلا فجعل كلما أورى زنده لا يُضيء شيئًا، فتعجب من ذلك، فبينما هو كذلك آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا أي: رأى نارا تضيء له على بعد

قوله: وَسَارَ بِأَهْلِهِ: أخذ منه بعض أهل العلم أن الرجل إذا تزوج تكون امرأته تبعاً له، يسافر بها وليس لها أن تمتنع من هذا إلا إذا كان هناك شرط اشترطته عليه ألا يسافر بها، والعلماء تكلموا على الشروط في النكاح، وتحدثوا عن مثل هذا الشرط، فالشاهد أنه إن لم يوجد شرط فإنها تكون تبعاً له تسافر معه، فهذا أخذوه من هذه الجملة. 

وعامة الكتب التي ألفت في أحكام القرآن هي في الآيات التي سيقت قصداً لتقرير الحكم، لهذا يقولون: تفسير خمسمائة آية مثلا كما في تفسير مقاتل بن سليمان، فهذا غالب الكتب ولكن من أهل العلم كالقرطبي مثلا من يستنبط من القصص -قصص الأولين التي قصها الله في القرآن- الأحكام وهذا صحيح، ومبناه على مسألة: شرع من قبلنا مع أن موسى ﷺ هنا ليس لدينا ما يقطع بأنه ذهب وانتقل انتقالا كلياً إلى مصر، أو أنه ذهب للزيارة فقط، ولو أراد أحد أن يقف عند هذا -وهو مسألة السفر- ويستخرج من هذه الآية أنه حتى للزيارة لما سافر يزور أهله أخذها معه، وهذا لا إشكال فيه: أن المرأة تكون تبعاً لزوجها، فنحن لهذا وسط بين فريقين بين التغريبيين الذين يهدرون كرامتها اقتداءً بسادتهم من اليهود والنصارى فينسبونها إلى زوجها: صفية زغلول، صفية سعد زغلول هذا زوجها فينسبونها إليه، وبين أن تبقى المرأة تتحكم وتمتنع من طاعة الزوج وتأبى الاستجابة له، فهي تطيعه في المعروف، والله اعلم.

قَالَ لأهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا أي: حتى أذهب إليها، لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ، وذلك لأنه قد أضل الطريق، أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ أي: قطعة منها، لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ أي: تَتَدفئون بها من البرد.

قوله: أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ "أي: قطعة منها" هذا الذي يقوله عامة أهل العلم: إن الجذوة جمرة، وابن جرير وأبو عبيدة معمر بن المثنى يقولان: إن "الجذوة" هي قطعة من الخشب الغليظ في طرفه، يعني النار كامنة ليست مشتعلة، يعني في طرفه شيء من الجمر جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ جذوة قطعة غليظة من الحطب فيها نار عند ابن جرير وأبي عبيدة أو جمر، ويقال: جَذوة وجُذوة وجِذوة

قال الله تعالى: فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الأيْمَنِ أي: من جانب الوادي مما يلي الجبل عن يمينه من ناحية الغرب.

قوله: مما يلي الجبل عن يمينه من ناحية الغرب، الضمير في قوله: عن يمينه قال ابن جرير -رحمه الله: عن يمين موسى ، وكثير من المفسرين يقولون: عن يمين الجبل، وهو قول عامة المفسرين، وإذا تأملت في الآيات الأخرى عموماً التي ذكر الله فيها ما جرى لموسى في هذا المقام تجد أن الأوصاف للجبل، وما حوله، والله تعالى أعلم.

كما قال تعالى: وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الأمْرَ، فهذا مما يرشد إلى أن موسى قصد النار إلى جهة القبلة، والجبل الغربي عن يمينه، والنار وجدها تضطرم في شجرة خضراء في لحْف الجبل مما يلي الوادي، فوقف باهتًا في أمرها، فناداه ربه: مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الأيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ.

قوله: "لحف الجبل" يعني: في أصل الجبل.

وقوله: من شاطئ الوادي الأيمن، والشاطئ هو الطرف، وأصل شاطئ الوادي: الوادي له عدوتان: إِذْ أَنتُم بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُم بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى [سورة الأنفال:42]، جانب الوادي يقال له: شاطئ الوادي، طرف الوادي، شَاطِئِ الْوَادِ الأيْمَنِ يعني جهة اليمين، وبعضهم يقول: الأيمن من اليمن وهو البركة، يعني أنه بتلك الناحية المباركة شاطئ الوادي المبارك، والأول هو الأشهر وعليه عامة المفسرين.

وليس للإنسان أن يقصد تلك الأماكن من أجل البركة، سواء كان يقصدها للصلاة أو الدعاء أو نحو ذلك، فهذا غير مشروع وإن كانت مباركةً بنص القرآن، والأماكن التي تقصد لذلك هي المساجد الثلاثة، تقصد للصلاة لشد الرحال، لكن من غير شد رحل لو أن الإنسان مر فهل له أن يصلي فيها طلباً للبركة هل له هذا؟ ليس عندنا في هذا دليل إطلاقاً، وكون الشيء يذكر أنه مبارك لا يعني هذا الارتباط بالتعبد بإطلاق، فالبركة شيء والتعبد قضية أخرى.

يعني عندنا مثلا أشياء مباركة الزيتون والتين وماء زمزم إلى آخره، وهناك أشياء أعيان، وهناك أماكن، وهناك ذوات فقضية البركة ليست مرتبطة بالتعبد من كل وجه، الجهة منفكة، الأماكن التي تقصد للعبادة هي التي جاء في الشرع ما يدل على ذلك في شد الرحل للمساجد الثلاثة، وأخبر النبي  ﷺ أنه صلى في مسجد الخيف سبعون نبياً، والنبي ﷺ لما مر على وادي ذي الحليفة أخبر أن جبريل أتاه وقال: إن هذا وادٍ مبارك، فصلَّي فيه ركعتين، فمن جاء إلى وادي العقيق يريد الحج أو العمرة وصلى لهذا فهذا جائز لكن لا يقصد وادي العقيق للصلاة، فلا يذهب أهل المدينة إلى وادي العقيق للصلاة فيه لأنه وادٍ مبارك؛ لأن ذلك لم ينقل عن النبي ﷺ ولا عن أحد من أصحابه أنه كان يقصد الوادي من أجل الصلاة فيه، فالذهاب إلى الطور مثلا من أجل الصلاة فيه أو الدعاء أو نحو ذلك غير مشروع، وقد أنكر جماعة من السلف على من فعل ذلك.

وقوله تعالى: أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أي: الذي يخاطبك ويكلمك هو رب العالمين، الفعال لما يشاء، لا إله غيره، ولا رب سواه، تعالى وتقدس وتنزه عن مماثلة المخلوقات في ذاته وصفاته، وأقواله وأفعاله سبحانه!

وقوله: وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ أي: التي في يدك، كما قرره على ذلك في قوله: وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى ۝ قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى [سورة طه:17، 18]، والمعنى: أما هذه عصاك التي تعرفها ألقها فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى فعرف وتحقق أن الذي يخاطبه ويكلمه هو الذي يقول للشيء: كن، فيكون، كما تقدم بيان ذلك في سورة "طه".

وقال هاهنا: فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ أي: تضطرب كَأَنَّهَا جَانٌّ أي: في حركتها السريعة مع عظم خَلْق قوائمها واتساع فمها، واصطكاك أنيابها وأضراسها، بحيث لا تمر بصخرة إلا ابتلعتها، فتنحدر في فيها تتقعقع، كأنها حادرة في واد.

قوله: فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ قال: أي في حركتها السريعة والجان بعض أهل العلم كابن جرير يقول: هي نوع من الحيات عظام وضخمة، وقوله: كَأَنَّهَا جَانٌّ يعني في خفتها وحركتها كأنها جان نوع من الحيات صغير سريع الحركة، لكن جاء وصفها في آيات أخر بغير ذلك، يعني حَيَّةٌ تَسْعَى مثلا حية ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ العظيم من الحيات فالجمع بين هذا وهذا أنها ضخمة، وهي خفيفة الحركة كأنها جان، كأنها من الحيات الدقيقة الصغيرة التي تتحرك بسرعة، أي نوع من الحيات لا تستطيع أن تدركها أو أن تسبقها، سريعة الحركة جداً، فهذه سريعة، وأيضاً ضخمة كونها لها قوائم، والأنياب معروفة، لكن الأضراس، لا تمر بصخرة إلا ابتلعتها هذا لا دليل عليه، وإنما هو متلقى من الاسرائيليات والأصل أن الحية ليس لها قوائم، وليس لها أيضاً أضراس، والله -تبارك وتعالى- أخبرنا أنها تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ [سورة الشعراء:45] يعني من تلك الأشياء التي صنعوها يموّهون بها على الناس، لكن ليس عندنا دليل أنها كانت تلتقم الصخور، والله تعالى أعلم.

فعند ذلك وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ أي: ولم يكن يلتفت؛ لأن طبع البشرية ينفر من ذلك، فلما قال الله له: يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الآمِنِينَ، رجع فوقف في مقامه الأول.

ثم قال الله له: اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ أي: إذا أدخلت يدك في جيب درعك ثم أخرجتها فإنها تخرج تتلألأ كأنها قطعة قمر في لمعان البرق؛ ولهذا قال: مِنْ غَيْرِ سُوءٍ أي: من غير برص.

وقوله: وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ: قال مجاهد: من الفزع، وقال قتادة: من الرعب.

قوله: اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ يعني إذا أدخل يده في جيبه تخرج بيضاء من غير سوء، بيضاء يخالف لونها لون الجلد بحيث تكون شديدة البياض ناصعة إلى آخره من غير برص، وهذه آية والآية الأخرى مغايرة لهذه، بعض أهل العلم جعلها كأنها آية واحدة، وهذه آية وهذه آية، هذه في اللون، وهذه لها أثر عليه هو قد لا يشاهده الآخرون وهو قوله: وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ الجناح هو اليد، وبعضهم يقول: اضمم إليك عضدك، وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ أي: يدك المبسوطة من الرهب فإذا ضمها إليه كالخائف ووضعها على صدره أو على قلبه مثلا فإن ذلك يبعث الطمأنينة والأمن في نفسه، وترتفع عنه المخاوف.

وهذه معجزة وآية لموسى -عليه الصلاة والسلام- يرجع أثرها إليه؛ ليثبت أمام فرعون الذي كان يقول: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى [سورة النازعات:24] فالوقوف بين يديه ليس بالأمر السهل فقد تأخذ الإنسان المخاوف ويتفرق قلبه ولا يستطيع أن يتكلم بشيء.

وإذا قرأتم في التاريخ تجدون في تراجم بعض العلماء وبعض القراء وبعض الكبار حينما يؤخذ ويوضع بين يدي الخليفة مثلا أو نحو ذلك تجد أن بعضهم يقول: انعقدت ألسنتنا فلم نستطع أن نتكلم بشيء، فكيف إذا كان الوقوف بين يدي فرعون، وبعضهم كالفراء يقول: إن المراد بجناحه يعني العصا وهذا بعيد، وبعضهم يقول: إن الرهب هو الكم، وإن هذا في بعض لغة العرب وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ يعني من الكم، وهذا فيه بُعد -والله تعالى أعلم.

والمقصود وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ الجناح هو اليد فيضمها إليه ويحصل له بذلك الطمأنينة، وتزول عنه المخاوف، هذا ظاهره، والله تعالى أعلم، وقوله: مِنَ الرَّهْبِ فيه ثلاث قراءات متواترة: الرَّهب والرُّهب والرِّهب، والمعنى واحد، معنى هذه القراءات واحد، والله أعلم.

وقوله: فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ يعني: إلقاءه العصا وجعْلها حية تسعى، وإدخاله يده في جيبه فتخرج بيضاء من غير سوء دليلان قاطعان واضحان على قدرة الفاعل المختار، وصحة نبوة مَنْ جرى هذا الخارق على يديه؛ ولهذا قال: إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ.

قوله: فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إلى فرعون يعني ضم الجناح إليه، وهذه آية لفرعون ليست ظاهرة، إنما التي تكون ظاهرة ومعجزة يشاهدها فرعون وغير فرعون هي ما ذكر من العصا، وإدخال اليد في الجيب فتخرج بيضاء من غير سوء.

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم وابن جرير: مما حصل لك من خوفك من الحية.

والظاهر أن المراد أعم من هذا، وهو أنه أُمر إذا خاف من شيء أن يضم إليه جناحه من الرهب، وهي يده، فإذا فعل ذلك ذهب عنه ما يجده من الخوف، وربما إذا استعمل أحدٌ ذلك على سبيل الاقتداء فوضع يديه على فؤاده، فإنه يزول عنه ما يجد أو يَخف، إن شاء الله، وبه الثقة.

هذه آية لموسى -عليه الصلاة والسلام- وأمر خارق للعادة، فالاقتداء بمثل هذه الخوارق لا يتأتى، ولكن جرت عادة الناس أنهم إذا خافوا وضعوا أيديهم وضموها، يضم يده إلى قلبه مثلا أو نحو ذلك، فيحصل له بذلك نوع تسكين للخوف، وهذا أمر لا ينكر، فهناك أشياء ومزاولات وتصرفات لها آثار في النفس، الغضبان مثلا قد لا يستطيع أن يتمالك، وهو قائم على قدميه فقد تغلبه نفسه فيتحرك ويذهب ويقتل، فأُمر بأنه إن كان قائماً يجلس، وإن كان جالساً يضطجع، فهذا يحصل له به نوع سكون فيهدأ، ولهذا الإنسان المرتبك أو الخائف أو المضطرب أو نحو ذلك يقال له: اجلس من أجل أن يهدأ قليلا، وكذلك الوضوء مع الغضب، فهو مناسب له لأنه جمرة يلقيها الشيطان في قلب ابن آدم فإذا توضأ كان ذلك أدعى للسكون وزوال الغضب عنه.

وقل مثل ذلك فيما يتعلق بالخوف حينما يضطرب الإنسان، فبعض الناس يقول: إذا قمتُ ألقي كلمة أو خطبة أو نحو ذلك لا تحملني قدماي من الاضطراب، وبعضهم لربما سقط من المنبر، فمثل هذا في خطبة الجمعة يتمسك بالمنبر، وفي غير خطبة الجمعة يمكن أن يلقي كلمة أو درساً وهو جالس، فإن القيام والوقوف أثناء الكلام قد لا يتيسر إلا لمن اعتاده، والذي يتعلم يقال له: تكلم وأنت جالس حتى لا تنشغل بغير ما تتكلم به، وقد رأيت رجلاً يلقي كلمة ثم قطعها في أولها، وقال: يا جماعة أنا كنت أسمع أن الإنسان تضطرب ركبه وما كنت أتصور حتى كان هذا اليوم، فأمسك بركبتيه واعتذر من الناس، وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ  فهذا يفعله الناس، لكن لا يقال اقتداءً بموسى ﷺ وإن كان له أثر في سكون النفس إلى حد ما، والله أعلم، كما يقال: إن قراءة آيات السكينة لها أثر بالنسبة للخائف.

قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ ۝ وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ ۝ قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ [سورة القصص:33-35].

لما أمره الله تعالى بالذهاب إلى فرعون، الذي إنما خرج من ديار مصر فرارًا منه وخوفًا من سطوته، قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا يعني: ذلك القبطي، فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ أي: إذا رأوني.

وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا، وذلك أن موسى ، كان في لسانه لثغة، بسبب ما كان تناول تلك الجمرة، حين خُيّر بينها وبين التمرة أو الدرّة.

مثل هذا يذكر وهو من أخبار بني إسرائيل يقال: إن موسى -عليه الصلاة والسلام- حينما كان صغيراً كان يجلب لحية فرعون بقوة، ففرعون هم به خاف منه، فهم بقتله فعرضت عليه امرأته لما اعتذرت أن هذا صغير لا يفهم قالت: اعرض عليه تمرة وجمرة أو درة وجمرة فإن أخذ التمرة أو الدرة فهو يفهم، وإن أخذ الجمرة فلا يفهم، فأخذ الجمرة ووضعها في فيه، هكذا يقولون، ولا دليل على هذا، والعلم عند الله .

وقد يقول قائل: لأن هذا نحن لا نعلم صدقه من كذبه، وقد يقول قائل: بمجرد أخذها فإنها تحرق يده ولا يستطيع إيصالها إلى فمه، يعني يكفي مس الجمر، لكن إن كان ذلك صحيحاً فيقال: إن الله -تبارك وتعالى- أراد أن تصل، ولا يرِد على هذا مسألة أن الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- مبرءون من العاهات، يعني لا يكون النبي أعمى، ولا فيه عاهة ينفر منها الناس مثلاً، وما حصل ليعقوب -عليه الصلاة والسلام- كان عارضاً مدة لم يكن من الأصل العمى، ثم بعد ذلك ارتفع بإلقاء القميص على وجهه، وموسى -عليه الصلاة والسلام- لم يكن كذلك فكان ذلك عارضاً ثم دعا ربه فحل عقدة من لسانه، فلما أرسله إليهم لم يكن به بأس، والله تعالى أعلم.

فأخذ الجمرة فوضعها على لسانه، فحصل فيه شدة في التعبير؛ ولهذا قال: وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي ۝ يَفْقَهُوا قَوْلِي ۝ وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي ۝ هَارُونَ أَخِي ۝ اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي ۝ وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي [سورة طه:27-32] أي: يؤنسني فيما أمرتني به من هذا المقام العظيم، وهو القيام بأعباء النبوة والرسالة إلى هذا الملك المتكبر الجبار العنيد، ولهذا قال: وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا، أي: وزيرًا ومعينًا ومقويًّا لأمري، يصدقني فيما أقوله وأخبر به عن الله ؛ لأن خبر اثنين أنجع في النفوس من خبر واحد؛ ولهذا قال: إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ.

"الردء" في الأصل يقال: للمعين في اللغة.

وقال محمد بن إسحاق: رِدْءًا يُصَدِّقُنِي أي: يبين لهم عني ما أكلمهم به، فإنه يفهم عني ما لا يفهمون.

فلما سأل ذلك قال الله تعالى: سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ أي: سنقوي أمرك، ونعز جانبك بأخيك، الذي سألت له أن يكون نبيا معك، كما قال في الآية الأخرى: قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى [سورة طه:36]، وقال تعالى: وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا [سورة مريم:53]، ولهذا قال بعض السلف: ليس أحد أعظم مِنَّةً على أخيه من موسى على هارون -عليهما السلام، فإنه شفع فيه حتى جعله الله نبيًّا ورسولا معه إلى فرعون وملئه، ولهذا قال تعالى في حق موسى: وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا [سورة الأحزاب:69].

وقوله تعالى: وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا أي: حجة قاهرة.

وبعضهم يقول: سلطانا أي تسلطا على فرعون وملئه، والأقرب -والله أعلم- أنه الحجة.

قوله: فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أي: لا سبيل لهم إلى الوصول إلى أذاكما بسبب إبلاغكما آيات الله، كما قال الله تعالى لرسوله محمد ﷺ: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ... إلى قوله: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [سورة المائدة:67]، وقال تعالى: الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ... إلى قوله: وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا [سورة الأحزاب:39]، أي: وكفى بالله ناصرًا ومعينًا ومؤيدًا.

ولهذا أخبرهما أن العاقبة لهما ولِمَنْ اتبعهما في الدنيا والآخرة، فقال: أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ.

قال بعض العلماء في قوله -تبارك وتعالى: وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا: فيه مقدر محذوف أي فلا يصلون إليكما اذهبا بآياتنا، أو فلا يصلون إليكما تمتنعان بآياتنا، وبعضهم يقول: الباء للقسم، أقسم الله بآياته على ذلك، وبعض أهل العلم كابن جرير يقول: فيه تقديم وتأخير، بحيث يكون ترتيب الكلام: أنتما ومن اتبعكما الغالبون بآياتنا، يعني بآياتنا أنتما ومن اتبعكما الغالبون، يعني الغلبة حصلت لهم بآيات الله ، والذين يقولون بهذا يقولون: سيحتجون بأن الأصل عدم التقدير، وأن الاستقلال أولى، والذين يقولون فيه مقدر محذوف يقولون: الأصل في الكلام الترتيب، ولا يدعى فيه التقديم والتأخير من غير ضرورة، لكن ذلك قد يكون متبادراً من غير تكلف بِآيَاتِنَا أَنتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ أي: بمعنى قول ابن جرير: أنتما ومن اتبعكما الغالبون بآياتنا، لكن لما كانت الغلبة بالآيات قدمها، والله أعلم.

فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلا سِحْرٌ مُفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الأوَّلِينَ ۝ وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ [سورة القصص:36، 37].

يخبر تعالى عن مجيء موسى وأخيه هارون إلى فرعون وملئه، وعرضه ما آتاهما الله من المعجزات الباهرة والدلالات القاهرة على صدقهما فيما أخبر عن الله  من توحيده واتباع أوامره، فلما عاين فرعون وملؤه ذلك وشاهدوه وتحققوه، وأيقنوا أنه من الله عدلوا بكفرهم وبغيهم إلى العناد والمباهتة، وذلك لطغيانهم وتكبرهم عن اتباع الحق، فقالوا: مَا هَذَا إِلا سِحْرٌ مُفْتَرًى أي: مفتعل مصنوع، وأرادوا معارضته بالحيلة والجاه، فما صعد معهم ذلك.

وقوله: وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الأوَّلِينَ يعنون: عبادة الله وحده لا شريك له، يقولون: ما رأينا أحدا من آبائنا على هذا الدين، ولم نر الناس إلا يشركون مع الله آلهة أخرى، فقال موسى ، مجيبا لهم: رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ يعني: مني ومنكم، وسيفصل بيني وبينكم، ولهذا قال: وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ أي: النصرة والظفر والتأييد، إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ أي: المشركون بالله.

فهنا قال -عليه الصلاة والسلام- من أجل ألا يجابههم بما يكرهون مما قد يصدهم عن القبول رَبِّي أَعْلَمُ بِمَن جَاء بِالْهُدَى مِنْ عِندِهِ فهو يقول: ربي أعلم بمن جاء سواء كان أنا أو أنتم، وهو لا يشك أنه هو الذي جاء بالهدى، لكن هذا له نظائر في القرآن، وأيضاً قوله: إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ فهذا أصل عام كبير في القرآن لا يحصل لهم فلاح ولا نجاح، وإن حصل لهم ظهور مؤقت وغلبة مؤقتة، ولكن العاقبة للمتقين، كما قال الله : وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى [سورة طه:69].

وهذا إذا تأملته في أحوال العالم رأيته ظاهراً رأيت حال الشرك والظلم منذ بدء الخليقة، وكيف أن هذه الأمم المكذبة التي كذبت الرسل لم تكن العاقبة لهم قط التاريخ كله، ولكن الإنسان يعمى عن هذا إذا نظر إلى سنة أو عشر سنوات أو عشرين سنة يعيشها، لكن في النهاية -نهاية المطاف- كل هذا يزول، كل الظلم، والفساد، والشرك بالله -تبارك وتعالى- يزول، يزول أولائك ولا يفلحون، وقوله: وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى.

وقوله: إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ فهم وإن حصل لهم شيء من الاقتدار المؤقت لكنه بعد ذلك يزول، والله أعلم.

  1. رواه ابن أبي شيبة في مصنفه، برقم (31842).
  2. رواه البخاري، كتاب الصوم، باب الصوم في السفر والإفطار، برقم (1841)، ومسلم، كتاب الصيام، باب التخيير في الصوم والفطر في السفر، برقم (1121).

مواد ذات صلة