الجمعة 19 / رمضان / 1445 - 29 / مارس 2024
[7] من قول الله تعالى: {قُلْ إِن تُخْفُواْ مَا فِي صُدُورِكُمْ} الآية 29 إلى قوله تعالى: {مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} الآية 36.
تاريخ النشر: ١٤ / ربيع الآخر / ١٤٢٦
التحميل: 7187
مرات الإستماع: 2891

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين وصلى وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المفسر -رحمه الله تعالى- في تفسير قوله تعالى:

قُلْ إِن تُخْفُواْ مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ۝ يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَاللّهُ رَؤُوفُ بِالْعِبَادِ [سورة آل عمران:29-30].

يخبر -تبارك وتعالى- عباده أنه يعلم السرائر والضمائر والظواهر، وأنه لا يخفى عليه منهم خافية، بل علمه محيط بهم في سائر الأحوال والأزمان والأيام واللحظات وجميع الأوقات، ويجمع ما في السماوات والأرض لا يغيب عنه مثقال ذرة ولا أصغر من ذلك في جميع أقطار الأرض والبحار والجبال.

وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أي قدرته نافذة في جميع ذلك، وهذا تنبيه منه لعباده على خوفه وخشيته؛ لئلا يرتكبوا ما نهى عنه وما يبغضه منهم، فإنه عالم بجميع أمورهم، وهو قادر على معاجلتهم بالعقوبة، وإن أنظَر من أنظر منهم فإنه يمهل ثم يأخذ أخذ عزيز مقتدر.

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فلما نهى الله عباده المؤمنين عن مولاة المشركين أخبر أنه عالم بالسرائر وما تخفيه النفوس، وأن إسرارهم للموالاة لأعداء الله لا يخفى على الله -تبارك وتعالى- كما أنه لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء فسيجدون ذلك يوم بعثهم ونشورهم محضراً ماثلاً أمامهم، لم يذهب منه شيء أحصاه الله جميعاً عليهم وأحاط به، فلا يكون منه -تبارك وتعالى- نسيان ولا تضييع، وإن حصل منهم ما يحصل من نسيان ذلك لتقادم العهد أو لكثرته أو لدقته في نظرهم.

ولهذا قال بعد هذا: يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا... الآية [سورة آل عمران:30]، يعني يوم القيامة يحضر للعبد جميع أعماله من خير وشر، كما قال تعالى: يُنَبَّأُ الْإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ [سورة القيامة:13]، فما رأى من أعماله حسناً سرَّه ذلك وأفرحه، وما رأى من قبيح ساءه وغاضه، وود لو أنه تبرأ منه، وأن يكون بينهما أمد بعيد.

الأمد البعيد يعني أن يكون بينه وبينه غاية بعيدة، أن يكون بينه وبين هذا العمل بعد المشرقين، فلا يلحقه بسببه تبعة؛ لأن هذا العمل هو سبب للمؤاخذة والعقاب، فهو يتمنى مجانبته ومباعدته.

كما يقول لشيطانه الذي كان مقترناً به في الدنيا، وهو الذي جرأه على فعل السوء: يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ [سورة الزخرف:38]، ثم قال تعالى مؤكداً ومهدداً ومتوعداً: وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ أي: يخوفكم عقابه.

قوله: وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ يعني أن تسخطوها كما يعبر ابن جرير -رحمه الله- وهو أدق من عبارة ابن كثير، فإن ابن كثير -رحمه الله- فسرها بلازمها.

فالمقصود أن معنى: وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ أي أن تسخطوها بارتكاب ما يسخطه فتوافونه يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا فإن هذا الظرف يَوْمَ العلماء مختلفون فيما يتصل به، فمنهم من يقول: إنه متصل به فعل مقدر مذكور، أي واذكر يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضراً.

وبعضهم يقول: ويحذركم الله نفسه يوم تجد.. الخ، كأنه يقول: ويحذركم الله نفسه يوم القيامة.

وبعضهم يقول غير هذا، والله أعلم.

ثم قال مرجياً لعباده؛ لئلا ييئسوا من رحمته، ويقنطوا من لطفه وَاللّهُ رَؤُوفُ بِالْعِبَادِ، قال الحسن البصري: من رأفته بهم حذرهم نفسه.

وقال غيره: أي رحيم بخلقه يحب لهم أن يستقيموا على صراطه المستقيم ودينه القويم، وأن يتبعوا رسوله الكريم ﷺ.

على كل حال قوله: وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَاللّهُ رَؤُوفُ بِالْعِبَادِ هذا جمع لهم بين الترغيب والترهيب، وهو مثل قوله: اعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [سورة المائدة:98] فمن رأفته -تبارك وتعالى- أن أرسل الرسل، وأنزل الكتب وبيّن كل ما يحتاج إلى بيان فلم يترك في الحق لبساً، وحذرهم من مغبة فعلهم السيئ بعد أن بيّن لهم الحلال والحرام.

قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ۝ قُلْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ فإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ [سورة آل عمران:31-32].

هذه الآية الكريمة حاكمة على كل من ادعى محبة الله وليس هو على الطريقة المحمدية، فإنه كاذب في دعواه في نفس الأمر حتى يتبع الشرع المحمدي والدين النبوي في جميع أقواله وأفعاله وأحواله، كما ثبت في الصحيح عن رسول الله ﷺ أنه قال: من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد[1].

هذه الآية: قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ظاهرها العموم فيخاطب بها كل أحد، سواء كان داخلاً في الإسلام فيطالب بالمتابعة، أو كان خارجاً عنه ممن يدعي محبة الله ، فإن المعيار الذي يعرف به صدق هذه المحبة هو إتباع النبي ﷺ وإلا كانت تلك المحبة دعوى يدعيها من غير أن يكون صادقاً بها، فبرهانها هو المتابعة.

ومن أهل العلم ومن كبير المفسرين ابن جرير الطبري -رحمه الله- يقول: إن الخطاب في هذه الآية متوجه إلى النصارى، وهم الوفد الذين قدموا على النبي ﷺ؛ باعتبار ما سبق من أن صدر هذه السورة ومنه هذه الآية قد نزل بسبب ذلك الوفد وعلى كل حال حتى لو كانت هذه الآية نازلة في وفد نصارى نجران، فإن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ولذلك كثر احتجاج العلماء -رحمهم الله- بهذه الآية على أهل البدع وعلى كل مقصر في الإتباع ولزوم السنة لا سيما أولئك الذين يدعون أنهم يحبون النبي ﷺ فيأتون ببدع ما أنزل الله بها من سلطان، فهذه الآية حاكمة على كل من ادعى محبة الله وليس هو على الطريقة المحمدية فإنه كاذب في دعواه.

وبالنسبة لكلام الحافظ ابن كثير هنا: "يتبع الشرع المحمدي" و"وليس هو على الطريقة المحمدية": مثل هذه العبارات الأولى والأحسن أن يقال: الشريعة الإسلامية وما أشبه ذلك، وأما مثل هذه العبارات فقد وجدت في كلام بعض المتأخرين فتجدهم يقولون: الديانة المحمدية، والدين المحمدي، وعلى كل حال هذا الدين هو دين الإسلام، ويسمى بما سماه الله .

ولهذا قال: قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ أي: يحصل لكم فوق ما طلبتم من محبتكم إياه وهو محبته إياكم، وهو أعظم من الأول.

وقال الحسن البصري وغيره من السلف: زعم قوم أنهم يحبون الله فابتلاهم الله بهذه الآية فقال: قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ [سورة آل عمران:31]

ثم قال تعالى: وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [سورة آل عمران:31] أي: باتباعكم الرسول ﷺ يحصل لكم هذا كله من بركة سفارته.

ثم قال تعالى آمراً لكل أحد من خاص وعام: قُلْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ فإِن تَوَلَّوْاْ أي: خالفوا عن أمره، فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ [سورة آل عمران:32]، فدلَّ على أن مخالفة في الطريقة كفر، والله لا يحب من اتصف بذلك، وإن ادعى وزعم في نفسه أنه يحب الله ويتقرب إليه، حتى يتابع الرسول النبي الأمي خاتم الرسل ورسول الله إلى جميع الثقلين الجن والإنس الذي لو كان الأنبياء بل المرسلون بل أولوا العزم منهم في زمانه ما وسعهم إلا إتباعه والدخول في طاعته واتباع شريعته، كما سيأتي تقريره عند قوله تعالى: وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ الآية [سورة آل عمران:81] إن شاء الله تعالى.

قوله -تبارك وتعالى: فإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ [سورة آل عمران:32] هذه الجملة التي ختمت بها الآية، تحتمل أن تكون من جملة مقول القول التي أمر الله نبيه ﷺ أن يخاطبهم بها، فيكون على ذلك قوله: تَوَلَّوْاْ فعلاً مضارعاً حذفت منه إحدى التاءين يعني: تتولوا، يعني أمره أن يقول لهم: إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم، ثم أمره أن يقول لهم: وأطيعوا الله والرسول وإن تتولوا فإن الله لا يحب الكافرين، أي أنه أمره أن يخاطبهم بهذا الخطاب.

ويحتمل أن يكون قوله: تَوَلَّوْاْ فعلاً ماضياً، فيكون ذلك من قول الله تعقيباً منه على هذا الخطاب الذي أمر نبيه ﷺ أن يقوله لهم، يعني يقول: قل لهم يا محمد ﷺ: أطيعوا الله والرسول، فهذا الذي أمره به، ثم قال الله : فإِن تَوَلَّوْاْ أي أعرضوا، فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ، فيكون ذلك من الموصول لفظاً المقطوع معنىً، وقد سبق له نظائر، وهذه من وجوه الاحتمال في الآيات من جهة التصريف الذي يحصل بسببه تفاوت المعنى ويختلف بسببه أهل التفسير. 

فأهل التفسير يختلفون لأمور كثيرة منها ما يرجع إلى التصريف -تصريف اللفظة- مثل هذه اللفظة تَوَلَّوْاْ هل هي فعل مضارع أم فعل ماضي، وهي مثل قوله تعالى: لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا [سورة البقرة:233] هل هي لا تضارِر، أم لا تضارَر؟ وكذلك مثل قوله تعالى: وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ [سورة البقرة:282] أيضاً هل هي لا يضارِر أم لا يضارَر؟ بمعنى أنه نهي عن الإضرار به أو أنه نهي عن أن يلحق الضرر بالآخرين؟

وفي قوله -تبارك وتعالى- في نفس الآية: قُلْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ فإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ [سورة آل عمران:32] يلاحظ، أنه حذف المتعلق وذلك أنه لم يحدد شيئاً معيناً في طاعة الله وطاعة الرسول ﷺ وحذف المتعلق يفيد العموم، فالمقدر هو أطيعوا الله والرسول فيما يأمركم به، وأطيعوا الله والرسول فيما ينهاكم عنه وأطيعوا الله والرسول في الواجبات، وأطيعوا الله والرسول في جميع الأحوال الشخصية والعامة، وأطيعوا الله والرسول في كل الأبواب.

إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ۝ ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [سورة آل عمران:34] يخبر تعالى أنه اختار هذه البيوت على سائر أهل الأرض، فاصطفى آدم خلقه بيده، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، وعلمه أسماء كل شيء، وأسكنه الجنة ثم أهبطه منها؛ لما له في ذلك من الحكمة.

واصطفى نوحاً وجعله أول رسول إلى أهل الأرض، لمَّا عبد الناس الأوثان وأشركوا في دين الله ما لم ينزل به سلطاناً، وانتقم له لما طالت مدته بين ظهراني قومه يدعوهم إلى الله ليلاً ونهاراً سراً وجهاراً، فلم يزدهم ذلك إلا فراراً، فدعا عليهم فأغرقهم الله عن آخرهم، ولم ينج منهم إلا من اتبعه على دينه الذي بعثه الله به، واصطفى آل إبراهيم، ومنهم سيد البشر وخاتم الأنبياء على الإطلاق محمد ﷺ، وآل عمران.

والمراد بعمران هذا هو والد مريم بنت عمران أم عيسى ابن مريم عليهما السلام، فعيسى من ذرية إبراهيم كما سيأتي بيانه في سورة الأنعام إن شاء الله تعالى وبه الثقة.

في قوله تعالى: وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ [سورة آل عمران:33] يقول الحافظ ابن كثير -رحمه الله: يخبر تعالى أنه اختار هذه البيوت على سائر أهل الأرض، يحتمل أن يكون المقصود بآل إبراهيم وآل عمران هو عمران نفسه، وإبراهيم ﷺ نفسه، وهذا معنىً معروف في القرآن وفي كلام العرب، فإن "آل" قد تطلق ويراد بها نفس الشخص، وقد يراد بها أهله أو من يسبون إليه من قومه الذين هم على دينه وملته أو نحو ذلك، فالله يقول: أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ [سورة غافر:46]، فهذه الآية تحتمل هل المقصود أدخلوا فرعون أشد العذاب، أو المقصود إدخال أتباع فرعون والموافقين له على دينه؟ فالآية تحتمل هذا وهذا.

ومن أهل العلم من يقول: المقصود به فرعون، وهنا: إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا [سورة آل عمران:33] فذكر آدم ونوحاً -عليهما الصلاة والسلام- ولم يقل: وآل نوح مع أن نوحاً اتبعه من اتبعه وإن كانوا قلة.

قال: وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَان هل المقصود به إبراهيم وعمران كما ذكر نوحاً وآدم -عليهما السلام؟ فهذا تحتمله الآية، أو أن المقصود أوسع وأعم من ذلك كأن يكون المراد أهل الإيمان ممن ينتسبون إليهم، يعني المؤمنين منهم.

وهنا لم يتكلم على قوله: ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ [سورة آل عمران:34]، لكن معنى قوله : ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ يحتمل أن يكون المراد متناسلة متشعبة، ويمكن أن يكون المراد أي في الإيمان والتوحيد وطاعة الله والإخلاص له، أي ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ في الإيمان والعمل والنية والإخلاص والتوحيد، هذا تحتمله الآية.

ويمكن أن يكون المراد بقوله: ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ [سورة آل عمران:34] أي في التناصر والموالاة، كما قال الله عن المنافقين: الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ [سورة التوبة:67] فالله قال في أهل الإيمان: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ [سورة التوبة:71] وذكر أهل النفاق فقال: الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ [سورة التوبة:67].

ابن جرير -رحمه الله- يقول: ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ [سورة آل عمران:34] يعني في الموالاة في الدين والتناصر فيه، ويضيف إلى ذلك بأن دينهم واحد، وطريقتهم واحدة كما في قوله: الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ [سورة التوبة:67] فطريقتهم واحدة ودينهم واحد.

إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ۝ فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ [سورة آل عمران:35-36].

امرأة عمران هذه هي أم مريم -عليها السلام- وهي حنة بنت فاقوذ، قال محمد بن إسحاق: وكانت امرأة لا تحمل.

هذه التسمية مما أخذ من الإسرائيليات، جاء في كلام بعض السلف وهو مما أخذ من بني إسرائيل، وقد أولع قوم بتتبع هذه المبهمات وألف فيها السهيلي كتاباً معروفاً، وجاء البلنسي فأخذ ما فيه وزاد عليه كثيراً، ولكنه لا طائل تحته في أغلب المواضع.

فرأت يوماً طائراً يزق فرخه فاشتهت الولد فدعت الله تعالى أن يهبها ولداً، فاستجاب الله دعاءها فواقعها زوجها فحملت منه، فلما تحققت الحمل نذرت أن يكون محرراً، أي: خالصاً مفرغاً للعبادة ولخدمة بيت المقدس.

هذا الذي عليه عامة المفسرين من السلف والخلف وهو اختيار ابن جرير، وما عداه فشاذ، وهذا أحسن ما يفسر به هذا، ولا ينبغي بحال أن يقال: بأنه محرر يعني من الرق والعبودية الحقيقية؛ لأنهم أحرار وما ولد منهم وتناسل فإن له حكمهم، فهذا هو القول الذي لا ينبغي العدول عنه، وهو أن المقصود بالمحرر: أي الذي يكون مفرغاً للعبادة ليس عليه التزامات وواجبات يقوم بها ويشتغل بها عن عبادة الله -تبارك وتعالى-، وإنما هو مفرغ لهذا فقط، فتجعله لبيت المقدس مثلاً ليقوم بالتعبد ويتفرغ لذلك، وكان ذلك جائزاً في دينهم، وهو الانقطاع للعبادة، فليس له عمل آخر، لا يشتغل في الأسواق ولا يذهب ولا يتزوج.

فقالت: رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [سورة آل عمران:35] أي: السميع لدعائي العليم بنيتي.

ولم تكن تعلم ما في بطنها أذكراً أم أنثى فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى [سورة آل عمران:36].

قوله: وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ بضمير الغائب هذه قراءة الجمهور، والقراءة الثانية قراءة ابن عامر وأبي بكر، وهي قراءة متواترة: وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ بضمير المتكلم، وعلى هذا يلاحظ افتراق المعنى، فعلى القراءة الأولى تكون هذه جملة اعتراضية من كلام الله وسط كلامها، فهي تقول: إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ۝ فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى [سورة آل عمران:36]، فجاءت جملة اعتراضية من كلام الله: وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ ثم يأتي كلاماً آخر بعده يحتمل أن يكون من كلامها وهو: وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى [سورة آل عمران:36] فهذه الجملة يحتمل أن تكون من كلامها ليكون كلام الله فقط هو قوله: وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ [سورة آل عمران:36]. 

ويحتمل أن تكون هذه الجملة من كلام الله أي أنه يقول: وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى [سورة آل عمران:36]، وقوله تعالى: وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ [سورة آل عمران:36] هذا من كلامها قطعاً، فتبقى الجملة الاعتراضية هل هي فقط: وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ [سورة آل عمران:36]، أو أنها أطول من هذا: وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى [سورة آل عمران:36].

وقوله على القراءة الثانية: وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى [سورة آل عمران:36] يكون كله من كلامها، وعلى القراءة الأولى: وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ [سورة آل عمران:36]، هذه الجملة الاعتراضية المتبادر أن هذا التعقيب في غاية المناسبة هنا، وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ [سورة آل عمران:36]؛ باعتبار أنها أخبرت أنها وضعتها أنثى، فالله لم يزد في علمه من هذا الإخبار شيء، فعلمه هو هو.

ومن أهل العلم من يقول: إن قوله: وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ [سورة آل عمران:36] جاء على سبيل التعظيم والتفخيم لشأن هذا المولود، فهي كأنها تقول: إن هذه البنت لا تستطيع أن تقوم بما يقوم به الذكر من عبادة الله ؛ لأنه يعتورها ما يعتورها مما يمنعها من الصلاة وما إلى ذلك، فقال: وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ [سورة آل عمران:36] أي أن هذه البنت لها شأن عظيم وسيولد منها مولود يكون آية للعالمين، ويفترق بسببه بنو إسرائيل إلى مؤمنين وكفار، وسيكون أهل الإيمان لهم العلو والرفعة، فيكونون فوق الذين كفروا من الإسرائيليين.

وعلى كل حال هذا قال به جماعة من أهل العلم، والمتبادر والله أعلم أن ذلك جاء تعقيباً على إخبارها لدفع التوهم؛ لأن الاعتراض أو التعقيب يأتي في القرآن أحياناً لدفع توهم أو إجابة سؤال قد يرد، فهنا لما قالت: إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى [سورة آل عمران:36] كأنها تخبر ربها -تبارك وتعالى- وهو العالم بكل شيء فقال: وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ [سورة آل عمران:36].

وقولها: وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى [سورة آل عمران:36]، قيل: لأن النذر في شريعتهم في من نذر ولداً لم يكن يقبل منه إلا الذكر فقط، فلما وضعت البنت قالت ما قالت، ويمكن أن يكون وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى -وهو المتبادر والله أعلم- أنه ليس الذكر كالأنثى، فالذكر يقوم بأمور لا تقوم بها المرأة، وهو أقوى منها على العبادة والعمل.

وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى أي: في القوة والجلد في العبادة وخدمة المسجد الأقصى.

وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ [سورة آل عمران:36] فيه الدلالة على جواز التسمية يوم الولادة.

يقولون -والله أعلم بهذا: إن معنى مريم في لغتهم، يعني خادمة الرب، أو خادم الرب.

وهذا المعنى الذي استنبطه الحافظ ابن كثير -رحمه الله: وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ [سورة آل عمران:36] معنىً صحيحاً ويدل عليه أيضاً أدلة من السنة، حيث يسمى المولود يوم الولادة ويمكن أن يسمى في اليوم السابع كما دلت السنة على ذلك أيضاً.

فيه دلالة على جواز التسمية يوم الولادة، كما هو الظاهر من السياق؛ لأنه شرع من قبلنا.

هذا باعتبار أن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد في شرعنا ما ينسخه، وقد جاء في شرعنا ما يقرره، حيث سمى النبي ﷺ ابنه إبراهيم حين ولد كما جاء في الصحيحين، وكذلك سمى غيره كأخي أنس سماه عبد الله، وغير هؤلاء ممن سماهم النبي ﷺ، حينما جيء بهم بعد الولادة.

وقد حُكي مقرراً، وبذلك ثبتت السنة عن رسول الله ﷺ حيث قال: ولد لي الليلة ولد سميته باسم أبي إبراهيم [أخرجاه][2].

وكذلك ثبت فيهما أن أنس بن مالك ذهب بأخيه حين ولدته أمُّه إلى رسول الله ﷺ فحنَّكه وسماه عبد الله، وكذلك ثبتت تسميت الآخرين يوم الولادة.

فأما حديث قتادة عن الحسن البصري عن سمرة بن جندب أن رسول الله ﷺ قال: كل غلام رهين بعقيقته يذبح عنه يوم سابعه ويسمى ويحلق رأسه[3] فقد رواه أحمد وأهل السنن وصححه الترمذي بهذا اللفظ، ويروى ويدمى[4] وهو أثبت وأحفظ، والله أعلم.

يقول: ويدمى، وقال: وهو أثبت، وهذا غريب أن الحافظ ابن كثير -رحمه الله- يرى أن ويدمى أحفظ وأثبت من ويسمَّى، مع أن هذه الرواية ردَّها كثير من الحفاظ ومنهم أبو داود -رحمه الله- لما أخرجه في السنن عقبه بما يدل على هذا.

ومعنى يدمى: أي أنه حينما يعق عنه يؤخذ من صوف العقيقة وتوضع على أوداج الذبيحة حينما تذبح فيصيبها الدم، ثم بعد ذلك تجعل فوق رأسه بحيث يسيل الدم منها كالخيط، فيصيب رأسه على يافوخه، ويصيبه الدم على كل حال.

وبعض أهل العلم يرى أن هذا من علم أهل الجاهلية، وأنه لا يجوز، وبعضهم أثبته بناء على هذه الرواية، إلا أن أكثر أهل العلم على أن ذلك لا يشرع ولا يجوز وأن الرواية المحفوظة ويسمَّى.

وابن القيم -رحمه- ذكر كلام أهل العلم في هذه المسألة، ويمكن يكون من المفيد قراءته.

وسماع الحسن عن سمرة فيه كلام أنه لم يسمع منه لكنه يستثنى من ذلك حديث العقيقة هذا، مثل حديث سكتات الإمام فهو من رواية الحسن عن سمرة وضعف بأنه لم يسمع منه.

الحمد لله، وصلى الله وسلم على رسول الله، قال الحافظ ابن القيم -رحمه الله تعالى:

الفصل الثالث في أدلة الاستحباب:

"فأما أهل الحديث قاطبة وفقهاؤهم وجمهور أهل العلم فقالوا: هي من سنة رسول الله ﷺ واحتجوا على ذلك بما رواه البخاري في صحيحه قال: قال رسول الله ﷺ: مع الغلام عقيقة فأهريقوا عنه دماً وأميطوا عنه الأذى[5]".

هو الآن يتكلم على العقيقة وليس على التدمية.

"وعن سمرة قال: قال رسول الله ﷺ: كل غلام رهينة بعقيقته تذبح عنه يوم سابعه ويسمى فيه ويحلق رأسه[6] [رواه أهل السنن كلهم، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح]".

معنى الرهينة في قوله: مرتهن بعقيقته، قيل: يكون ذلك انعتاقاً له من الشيطان، وعلى ذلك إذا مات فإنه لا يعق عنه.

وبعضهم يقول كالإمام أحمد -رحمه الله: إن ذلك يكون حبساً له عن الشفاعة لأبويه إذا ما عق عنه، ومعنى ذلك إذا مات حين ولادته فإنه يعق عنه لتحصيل هذا المعنى في الآخرة، هذا سبب الخلاف، فربما يحتمل هذا وهذا، والأحوط أن يعق عنه، لكن هذا مأخذ الخلاف في المسألة، هل يعق عنه إذا مات أم لا.

فإذا قلنا انعتاق له من الشيطان فإذا مات فلا عقيقة، وإذا قلنا: إنه يشفع فإن ذلك لا يتخلف بموته في حال الصغر، وكذا إذا ولد ميتاً بعد نفخ الروح، فقد ثبت عن النبي ﷺ أنه يشفع، فأحكام العقيقة وما يتعلق بذلك من الميراث وما أشبه هذا يقولون: إذا استهل صارخاً بعد خروجه حياً ثبتت له، لكن إذا خرج ميتاً، فإنها لا تجري عليه أحكام المولود، لا عقيقة ولا ميراث، وأما الشفاعة فهي ثابتة بأحاديث أخرى.

"وعن عائشة قالت: قال رسول الله ﷺ: عن الغلام شاتان مكافئتان وعن الجارية شاة[7]".

قوله: مكافئتان يعني يكون بينهما شبه في الحجم والهيئة الظاهرة واللون والقرون، تكون إحداهما مشابهة للأخرى، في سعرها وفي السمن والهيئة الظاهرة.

"رواه الإمام أحمد والترمذي وقال: حديث صحيح، وفي لفظ: أمرنا رسول الله ﷺ أن نعق عن الجارية شاة وعن الغلام شاتين [رواه الإمام أحمد في مسنده].

وعن أم كرز الكعبية أنها سألت رسول الله ﷺ عن العقيقة، فقال: عن الغلام شاتان وعن الأنثى واحدة ولا يضركم ذكراناً كن أو إناثاً [رواه الإمام أحمد والترمذي، وقال: هذا حديث صحيح][8].

وقال الضحاك بن مخلد: أنبأنا أبو حفص سالم بن تميم عن أبيه عن عبد الرحمن الأعرج عن أبي هريرة أن النبي ﷺ قال: إن اليهود تعق عن الغلام ولا تعق عن الجارية فعقوا عن الغلام شاتين وعن الجارية شاة [ذكره البيهقي].

وعن ابن عباس أن رسول ﷺ عق عن الحسن والحسين كبشاً كبشاً، رواه أبو داود والنسائي، ولفظ النسائي: بكبشين كبشين.

وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله ﷺ أمر بتسمية المولود يوم سابعه ووضع الأذى عنه والعق. قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب.

وعن بريدة الأسلمي قال: كنا في الجاهلية إذا ولد لأحدنا غلام ذبح شاة ولطخ رأسه بدمها فلما جاء الله بالإسلام كنا نذبح شاة ونحلق رأسه ونلطخه بزعفران. [رواه أبو داود].

وروى ابن المنكدر من حديث يحيى بن يحيى أنبأنا هشيم عن عيينة بن عبد الرحمن عن أبيه: أنا أبا بكرة ولد له ابنه عبد الرحمن وكان أول مولود ولد بالبصرة، فنحر عنه جزوراً، فاطعم أهل البصرة، وأنكر بعضهم ذلك، وقال: أمر رسول الله ﷺ بشاتين عن الغلام وعن الجارية بشاة".

لا يشرع في العقيقة أن تكون من البقر أو الإبل، والنبي ﷺ من فعله ومن أمر ذكر الشاة ولم يذكر غيرها، وهذا بخلاف الهدي فالأفضل فيه الإبل.

"وعن الحسن عن سمرة أن النبي ﷺ قال في العقيقة: كل غلام مرتهن بعقيقته تذبح عنه يوم سابعة ويحلق ويدمى[9].

قال: إذا ذبحت العقيقة أخذت منها صوفة واستقبلت بها أوداجها، ثم توضع على يافوخ الصبي حتى يسيل على رأسه مثل الخيط، ثم يغسل رأسه ويحلق، قال أبو داود: وهذا وهم من همام بن يحيى يعني: ويدمى، ثم ساقه من طريق أخرى، قال: كل غلام رهينة بعقيقته تذبح عنه يوم سابعه ويسمى[10]، قال أبو داود: ويسمى أصح، وأخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجة، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.

وهذا الحديث قد سمعه الحسن من سمرة، فذكره البخاري في صحيحه عن الحبيب بن الشهيد، قال: قال لي ابن سيرين سئل الحسن ممن سمع حديث العقيقة، فسألته فقال: من سمرة بن جندب.

وقد ذكر الترمذي عن سلمان بن شرحبيل: حدثنا يحيى بن حمزة قال: قلت لعطاء الخرساني ما مرتهن بعقيقته؟ قال: يحرم شفاعة ولده، وقال إسحاق بن هانئ: سألت أبا عبد الله عن حديث النبي ﷺ: الغلام مرتهن بعقيقته ما معناه؟ قال: نعم، سنة النبي ﷺ أن يعق عن الغلام شاتان وعن الجارية شاة، فإذا لم يعق عنه فهو محتبس بعقيقته حتى يعق عنه.

وقال الأثرم: قال أبو عبد الله: ما في هذه الأحاديث أوكد من هذا، يعني في العقيقة: كل غلام مرتهن بعقيقته[11]".

قوله: "ما في هذه الأحاديث أوكد من هذا": يقصد من ناحية الدلالة على أكدية العقيقة، هل هي واجبة؟ يقول: هذا أشد شيء في العقيقة أي قوله: مرتهن بعقيقته؛ لأنه توقف في مسألة الوجوب، فيقول: هذا آكد ما ورد فيها، أي أقوى ما ورد فيها.

"وقال يعقوب بن بختان سئل أبو عبد الله عن العقيقة، فقال: ما أعلم فيه شيئاً أشد من هذا الحديث: الغلام مرتهن بعقيقته.

وقال حنبل: قال أبو عبد الله: ولا أحب لمن أمكنه وقدر أن لا يعق عن ولده ولا يدعه؛ لأن النبي ﷺ قال: الغلام مرتهن بعقيقته، وهو أشد ما روي فيه، وإنما كره النبي ﷺ من ذلك الاسم، فأما الذبح فالنبي ﷺ قد فعل ذلك".

بعضهم قال: نفس العقيقة من عمل الجاهلية وأنه لا يشرع، فأنكر الإمام أحمد على هؤلاء، فهو هنا يقول: الاسم فقط هو الذي يكره؛ لأن فيه معنى العقوق.

"وقال أحمد بن القاسم: قيل لأبي عبد الله العقيقة واجبة هي؟ فقال: أما واجبة فلا أدري، لا أقول واجبة، ثم قال: أشد شيء فيه: أن الرجل مرتهن بعقيقته، وقد قال أحمد في موضع آخر: مرتهن عن الشفاعة لوالديه.

وأما قوله: ويدمى، فقد اختلف في هذه اللفظة، فرواها همام عن يحيى عن قتادة فقال: ويدمى، وفسرها قتادة بما تقدم حكايته، وخالفه في ذلك أكثر أهل العلم، وقالوا: هذا من فعل أهل الجاهلية، وكرهه الزهري ومالك والشافعي وأحمد وإسحاق.

قال أحمد: أكره أن يدمى رأس الصبي، هذا من فعل الجاهلية، وقال عبد الله بن أحمد: سألت أبي عن العقيقة تذبح ويدمى رأس الصبي أو الجارية؟ فقال أبي: لا يدمى، وقال الخلال: أخبرني العباس بن أحمد أن أبا عبد الله سئل عن تلطيخ رأس الصبي بالدم؟ فقال: لا أحبه إنه من فعل الجاهلية، قيل له: فإن هماماً كان يقول: يدميه، فذكر أبو عبد الله عن رجل قال: كان يقول: يسميه، ولا أحب قول همام في هذا.

وأخبرنا أحمد هاشم الأنطاكي قال أحمد: اختلف همام وسعيد في العقيقة، قال أحدهما: يدمى، وقال الآخر: يسمى، وعن أحمد رواية أخرى: أن التدمية سنة.

قال الخلال: أخبرني عصبة بن عصام قال: حدثنا حنبل، قال: سمعت أبا عبد الله في الصبي يدمى رأسه، قال: هذه سنة ومذهبه الذي رواه عنه كافة أصحابه الكراهية.

قال الخلال: وأخبرني عصبة بن عصام في موضع آخر: حدثنا حنبل قال: سمعت أبا عبد الله يقول: يحلق رأس الصبي. وأخبرني محمد بن علي حدثنا صالح وأنبأنا أحمد بن محمد بن حازم حدثنا إسحاق كلهم يذكر عن أبي عبد الله قال: الدم مكروه، لم يروه إلا في حديث سمرة.

أخبرني محمد بن الحسين أن الفضل حدثهم أنه قال لأبي عبد الله: فيحلق رأسه؟ قال: نعم، قلت: فيدمى؟ قال: لا، هذا من فعل الجاهلية، قلت: فحديث قتادة عن الحسن كيف هو ويدمى؟ قال: أما همام فيقول: ويدمى، وأما سعيد فيقول: ويسمى.

وقال في رواية الأثرم قال ابن أبي عروبة: يسمى وقال همام: ويدمى، وما أراه إلا خطأً.

وقد قال أبو عبد الله بن ماجه في سننه: حدثنا يعقوب بن حميد بن كاسب حدثنا عبد الله بن وهب حدثني عمرو بن الحارث عن أيوب بن موسى أنه حدثه عن يزيد بن عبد الله المزني أن رسول الله ﷺ قال: يعق عن الغلام ولا يمس رأسه بدم[12]، وقد تقدم حديث بريدة: كنا في الجاهلية إذا ولد لأحدنا غلام ذبح شاة ولطخ رأسه بدمها، فلما جاء الإسلام كنا نذبح شاة ونحلق رأسه ونلطخه بزعفران.

وقد روى البيهقي وغيره من حديث ابن جريج عن يحيى بن سعيد عن عمرة عن عائشة قالت: كان أهل الجاهلية يجعلون قطنة في دم العقيقة ويجعلونه على رأس الصبي، فأمر النبي ﷺ أن يجعل مكان الدم خلوقاً.

قال ابن المنذر: ثبت أن النبي ﷺ قال: أهريقوا عليه دماً وأميطوا عنه الأذى[13]، والدم أذى، فإذا كان النبي ﷺ قد أمرنا بإماطة الأذى، الدم أذى وهو من أكبر الأذى، فغير جائز أن ينجس رأس الصبي بالدم".

الدم الذي يخرج من أوداج الذبيحة وهي تذبح هو الدم المسفوح النجس، قال تعالى: أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ [سورة الأنعام:145] يعني نجس.

وقوله: إخباراً عن أم مريم أنها قالت: وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ [سورة آل عمران:36]، أي عوذتها بالله من شر الشيطان، وعوذت ذريتها وهو ولدها عيسى فاستجاب الله لها ذلك.

أصل المعاذ هو الملجأ والموئل، فقوله: وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا كما تقول: أعوذ بالله: أي ألجأ إليه وألوذ به وأعتصم به من الشيطان الرجيم.

كما روى عبد الرزاق عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: ما من مولود يولد إلا مسه الشيطان حين يولد فيستهل صارخاً من مسه إياه إلا مريم وابنها ثم يقول أبو هريرة -: اقرؤوا إن شئتم: وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ [سورة آل عمران:36] [أخرجاه][14].
  1. أخرجه مسلم في كتاب الأقضية - باب نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور (1718) (ج 3 / ص 1343).
  2. أخرجه مسلم في كتاب الفضائل - باب رحمته ﷺ الصبيان والعيال وتواضعه وفضل ذلك (2315) (ج 4 / ص 1807).
  3. أخرجه البخاري في كتاب العقيقة - باب إماطة الأذى عن الصبي في العقيقة (5155) (ج 5 / ص 2083) وأبو داود في كتاب الضحايا- باب في العقيقة (2839) (ج 3 / ص 65).
  4. مسند أحمد (20269) (ج 5 / ص 22) وسنن أبي داود في كتاب الضحايا - باب في العقيقة (2839) (ج 3 / ص 65) قال أبو داود وليس يؤخذ بهذا.
  5. أخرجه البخاري في كتاب العقيقة - باب إماطة الأذى عن الصبي في العقيقة (5154) (ج 5 / ص 2082).
  6. أخرجه البخاري في كتاب العقيقة - باب إماطة الأذى عن الصبي في العقيقة (5155) (ج 5 / ص 2083).
  7. أخرجه أبو داود في كتاب الضحايا - باب في العقيقة (2836) (ج 3 / ص 64) والترمذي في كتاب الأضاحي – باب ما جاء في العقيقة (1513) (ج 4 / ص 96) وابن ماجه في كتاب الذبائح - باب العقيقة (3162) (ج 2 / ص 1056) وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (4105).
  8. أخرجه الترمذي في كتاب الأضاحي - الأذان في أذن المولود (1516) (ج 4 / ص 98) والنسائي في كتاب العقيقة - باب كم يعق عن الجارية (4217) (ج 7 / ص 165) وصححه الألباني في المشكاة برقم (4152).
  9. أخرجه أحمد بهذا اللفظ (20206) (ج 5 / ص 17)
  10. سنن ابن ماجه في كتاب الذبائح - باب العقيقة (3165) (ج 2 / ص 1056) وصحيح ابن ماجه للألباني برقم (3165).
  11. سبق تخريجه.
  12. أخرجه ابن ماجه في كتاب الذبائح - باب العقيقة (3166) (ج 2 / ص 1057) وهو في صحيح ابن ماجه للألباني برقم (3166).
  13. سبق تخريجه في الحاشية رقم (5).
  14. أخرجه البخاري في كتاب التفسير - باب تفسير سورة آل عمران (4274) (ج 4 / ص 1655) ومسلم في كتاب الفضائل - باب فضائل عيسى (2366) (ج 4 / ص 1838).

مواد ذات صلة