الجمعة 10 / شوّال / 1445 - 19 / أبريل 2024
[10] من قول الله تعالى: {وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} الآية 48 إلى قوله تعالى: {وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} الآية 58
تاريخ النشر: ١٩ / ربيع الآخر / ١٤٢٦
التحميل: 7459
مرات الإستماع: 2608

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:

قال المفسر -رحمه الله تعالى- في تفسير قوله تعالى:

وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ ۝ وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللّهِ وَأُبْرِئُ الأكْمَهَ والأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللّهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ۝ وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَطِيعُونِ ۝ إِنَّ اللّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ [سورة آل عمران:48-51].

يقول تعالى مخبراً عن تمام بشارة الملائكة لمريم بابنها عيسى -عليه الصلاة والسلام: أن الله يعلمه الكتاب والحكمة، الظاهر أن المراد بالكتاب هاهنا الكتابة، والحكمة تقدم الكلام على تفسيرها في سورة البقرة.

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقوله -رحمه الله: "الظاهر أن المراد بالكتاب هاهنا الكتابة"، قال: المراد به الكتابة، لماذا لم يحمل الكتاب على الكتاب الموحى به إليه وهو الإنجيل مثلاً؟ أو التوراة وهو الكتاب الذي أنزل على موسى ﷺ وجاء عيسى -عليه الصلاة والسلام- مقرراً له؟ ما الذي حمل الحافظ ابن كثير على هذا؟

الذي حمله على هذا هو أن العطف يقتضي المغايرة، فالله سبحانه يقول: وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ [سورة آل عمران:48] والقاعدة أن التأسيس مقدم على التوكيد، فالكتاب هنا هو الكتابة، وهذا الذي اختاره ابن كثير -رحمه الله- قال به ابن جرير وجماعة، والقول به هنا ليس فيه تكلف، بل هو ظاهر غاية الظهور. 

ويشبهه -وإن كان دونه في الوضوح- قوله -تبارك وتعالى: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [سورة الجمعة:2] فالكتاب هنا يحتمل أن يكون القرآن. 

لكن إذا قلنا: إن الكتاب هنا هو القرآن سيكون قوله: يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ [سورة الجمعة:2] من قبيل التكرار، ولهذا قال جماعة من أهل العلم: إن الكتاب أيضاً في الآية الأخرى هو الكتابة، واستدلوا بهذا، واستدلوا بقرينة أخرى وهي أنه ناسب هنا ذكر الكتابة لذكر الأميين، فالنبي بعث في الأميين، والأمي هو الذي لا يعرف الكتابة، فامتن الله ببعثته عليهم فصارت الكتابة فاشية فيهم.

لكن هذا القول هنا في الوضوح ليس مثل القول في قوله تعالى: وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ [سورة آل عمران:48] فهذه الآية أوضح في الحمل على الكتابة؛ لأن قوله هناك: وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ مع يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ، يمكن أن يكون بمعنى أنه يعلمهم الكتاب ويقرأ القرآن، لكن هنا صرح بالتوراة والإنجيل.

قوله: "والحكمة تقدم الكلام على تفسيرها في سورة البقرة"، نعم تقدم الكلام على الحكمة وأن أصلها وضْع الشيء في موضعه وإيقاعه في موقعه، وتأتي بمعنى الفقه في الدين وتارة تأتي بمعنى النبوة، إلى آخره، وذكرنا وجه الجمع بين هذه الأقوال وأنها ترجع إلى أصل واحد، لكن الظاهر أن المراد بالكتاب هنا الكتابة، والحكمة يقول ابن جرير -رحمه الله: إنها السنّة هنا في هذه الآية، وليس المقصود سنة النبي ﷺ وإنما المقصود ما أوحاه الله إليه من غير الكتاب مما أوحى به إليه من ألوان الوحي والهدايات من غير الإنجيل، والله أعلم.

وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ فالتوراة هو الكتاب الذي أنزله الله على موسى بن عمران، والإنجيل الذي أنزله الله على عيسى ابن مريم -عليهما الصلاة والسلام- وقد كان عيسى يحفظ هذا وهذا.

وقوله: وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ [سورة آل عمران:49] أي: يجعله رسولاً إلى بني إسرائيل قائلاً لهم: أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم [سورة آل عمران:49].

هذا الذي ذكره ابن كثير جيد وهو أقرب هذه الأقوال، وليس فيه تعسف ولا تكلف في التقديرات ونحو ذلك، ومعلوم أنه إذا كان الكلام يقتضي تقديراً فإنه يقدر ما هو أبعد عن التكلف وأقرب إلى بلاغة القرآن وفصاحته وظاهر السياق، فكلام ابن كثير هذا كلام قريب، ولا تعرف قدره إلا إذا نظرت في كلام المفسرين فيما يقدرونه هنا، فهو يقول هنا: وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ [سورة آل عمران:49] أي: يعلمه الكتاب والحكمة ويجعله رسولاً إلى بني إسرائيل، وهذا الذي قال به أيضاً ابن جرير -رحمه الله.

وغيرهم يقول غير هذا، لكن لا يخلو من تكلف؛ إذ يقول بعضهم: ويعلمه الكتاب والحكمة ويكلمهم رسولاً إلى بني إسرائيل، هذا فيه بعد، ولا يناسب السياق.

وبعضهم يقول: ويعلمه الكتاب والحكمة وأرسلتُ رسولاً إلى بني إسرائيل، وهذا أيضاً غير متلائم كما في تقدير: ويجعله رسولاً إلى بني إسرائيل، وبعضهم يقول: هو معطوف على وجيهاً أي وجيهاً ورسولاً.

والأقرب أن التقدير ويجعله رسولاً إلى بني إسرائيل قائلاً لهم: أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم [سورة آل عمران:49].

وقوله: أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم جاءت "أن" فيها منصوبة مع أنها جملة القول والسبب في ذلك أنها متضمنة معنى القول وليست جملة القول الصريح التي تكسر فيها همزة إنَّ في نحو قوله تعالى: قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ [سورة مريم:30] أي أنه لما كان ذلك متضمناً معنى القول غير الصريح فتحت الهمزة.

قائلاً لهم: أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللّهِ.. الآية [سورة آل عمران:49].

قوله: أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ يفسرها قوله: أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللّهِ.. الآية [سورة آل عمران:49].

وكذلك كان يفعل، يصور من الطين شكل طير ثم ينفخ فيه فيطير عياناً بإذن الله الذي جعل هذا معجزة له تدل على أن الله أرسله.

هناك كلام كثير يذكر هنا لا حاجة إليه مثل: ما نوع هذه الطير، وهل كان يخلق أشياء أخرى بإذن الله غير الطير، ولماذا خصص هذه الأشياء المذكورة؟ فهذا الكلام كله لا حاجة إليه ولا فائدة من الاشتغال به.

وَأُبْرِئُ الأكْمَهَ [سورة آل عمران:49] هو الذي يولد أعمى، وهذا المعنى أبلغ في المعجزة وأقوى في التحدي، والأَبْرَصَ معروف، وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللّهِ [سورة آل عمران:49].

بعض أهل العلم يقول: هذه أصلاً الناس يعجزون عنها ولا يعرفون لها علاجاً فلذلك ذُكرت، وإلا فإن الله كان يشفي على يده ألوان العلل، لكن ذكرت هذه لأن الطب يقف أمامها عاجزاً في وقت قد انتشر وفشا في زمانه -عليه الصلاة والسلام.

قال كثير من العلماء: بعث الله كل نبي من الأنبياء بمعجزة تناسب أهل زمانه، فكان الغالب على زمان موسى السحر وتعظيم السحرة، فبعثه الله بمعجزة بهرت الأبصار وحيرت كل سحَّار، فلما استيقنوا أنها من عند العظيم الجبار انقادوا للإسلام وصاروا من الأبرار. 

وأما عيسى فبعث في زمن الأطباء وأصحاب علم الطبيعة، فجاءهم من الآيات بما لا سبيل لأحد إليه إلا أن يكون مؤيداً من الذي شرع الشريعة، فمن أين للطبيب قدرة على إحياء الجماد، أو على مداواة الأكمه والأبرص، وبعْث من هو في قبره رهين إلى يوم التناد؟

وكذلك محمد ﷺ بعثه في زمان الفصحاء والبلغاء ونحارير الشعراء، فأتاهم بكتاب من الله لو اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثله أو بعشر سور من مثله أو بسورة من مثله لم يستطيعوا أبداً وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا [سورة الإسراء:88]، وما ذاك إلا لأن كلام الرب لا يشبهه كلام الخلق أبداً.

 وقوله: وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ [سورة آل عمران:49] أي: أخبركم بما أكل أحدكم الآن وما هو مدخر في بيته لغده.

هذا من الغيب النسبي وليس من الغيب مطلقاً؛ لأن هذا الشخص الذي أُخبر هو يعلم ماذا أكل وماذا ادَّخر، بخلاف الإخبار عما في غدٍ مما يُطلع الله عليه أنبياءه، لكن هذا يخبره فيقول: أكلت كذا، وادخرت كذا، فيكون آية لهم في أمر قد عرفوه.

وما هو مدخر في بيته لغده، إِنَّ فِي ذَلِكَ أي: في ذلك كله لآيَةً لَّكُمْ أي: على صدقي فيما جئتكم به إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ [سورة آل عمران:49]، وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ [سورة آل عمران:50] أي: مقرراً لها ومثبتاً.

وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ [سورة آل عمران:50] فيه دلالة على أن عيسى نسخ بعض شريعة التوراة، وكشف لهم عن المغطّى فيما كانوا يتنازعون فيه خطأً، كما قال في الآية الأخرى: وَلِأُبَيِّنَ لَكُم بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ [سورة الزخرف:63]، والله أعلم.

هو لم يكن ناسخاً للتوراة، بل كان متعبداً بها، لكنه نسخ بعض الآصار والأغلال التي كانت عليهم، وجاءهم بهذه الآيات الواضحة التي لا تترك في الحق لبساً، ويقول: جئتكم مقرراً لما في التوراة ومخففاً عليكم بعض الآصار، ومبيناً لكم بعض الأمور التي تختلفون فيها، وهذا لا شك أنه من أعظم النعمة التي ساقها الله إلى بني إسرائيل.

وكلامه في غاية الاعتدال والصواب لمن يعقل، فهو ما جاءهم بشيء تنفر منه نفوسهم وطباعهم وإنما جاءهم مقرراً لشريعتهم ولكتابهم متعبداً بها فقابلوه بالكفر.

فالحاصل أنه تعبدهم الله بالتوراة لكن لشدة بغض النصارى لليهود وبسبب العداوة التي حصلت بينهم وبين اليهود تركوا العمل بالتوراة وبقوا بدون شريعة، ولم يكن عندهم قانون ونظام يحكم الحياة، والإنجيل لم يكن كتاب شريعة متكاملاً مثل التوراة وإنما فيه نسخ بعض الأشياء، وفيه أشياء كما يذكرون في الآداب والأخلاق والرقائق ونحو ذلك، فبقوا من غير شرع، فاخترعوا لهم كتاباً سموه: "الأمانة العظمى" وضعوا فيه القوانين وصاروا يعملون بها من ذلك الحين.

ثم قال: وَجِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ [سورة آل عمران:50] أي: بحجة ودلالة على صدقي فيما أقول لكم، فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَطِيعُونِ ۝ إِنَّ اللّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ [سورة آل عمران:50-51] أي أنا وأنتم سواء في العبودية له، والخضوع والاستكانة إليه، هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ [سورة آل عمران:51].

وقوله تعالى: فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللّهِ آمَنَّا بِاللّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ۝ رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنزَلَتْ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ۝ وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ [سورة آل عمران:52-54].

يقول تعالى: فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى أي: استشعر منهم التصميم على الكفر والاستمرار على الضلال.

هذا التفسير لـ"حسَّ" قريب، لا تكلف فيه، وأصل ذلك هو إدراك الشيء بالحاسة، وصار يعبر به عن العلم والإدراك والمعرفة.

والمقصود أن عيسى ﷺ علم منهم ذلك وأدركه وعرفه، وعلى كل حال صار ذلك معلوماً له مدركاً كالشيء المشاهد، والله  يقول: هَلْ تُحِسُّ مِنْهُم مِّنْ أَحَدٍ [سورة مريم:98]، فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ [سورة آل عمران:52] فسره هنا بقوله: إنه بمعنى الإعراض والجحود والمكابرة. 

ومن أهل العلم من يقول بأن الكفر هنا يعني إرادة قتله، فأحس منهم الكفر يعني أنهم يعزمون على قتله، وهذا فعلاً من الكفر، فهم كذبوه وجحدوا ما جاء به، وتمالئوا على قتله، فهذه الأقوال لا منافاة بينها.

قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللّهِ قال مجاهد: أي من يتبعني إلى الله؟ والظاهر أنه أراد من أنصاري في الدعوة إلى الله، كما كان النبي ﷺ يقول في مواسم الحج قبل أن يهاجر: من رجل يُؤويني حتى أبلغ كلام ربي، فإن قريشاً قد منعوني أن أبلغ كلام ربي[1].

ما الذي جعل الحافظ ابن كثير -رحمه الله- يقول: والظاهر أنه أراد: من أنصاري في الدعوة إلى الله؟

الذي حمله على ذلك هو التركيب والتعدية بـ"إلى" حيث قال: مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللّهِ [سورة آل عمران:52].

ابن جرير الطبري -رحمه الله- يجعل "إلى" هنا بمعنى "مع"، وقد ذكرنا مراراً أن حروف الجر تتناوب، فيستعمل بعضها في معنى بعض، فإذا فسرت "إلى" بمعنى "مع" فلا إشكال، حيث يكون المعنى من أنصاري مع الله، كقوله -تبارك وتعالى: وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ [سورة النساء:2] يعني مع أموالكم.

وبعض أهل العلم يحاول أن يقدر في الكلام تقديراً يصلح أن يُعدَّى بـ"إلى" فالحافظ ابن كثير هنا قال: "والظاهر أنه أراد من أنصاري في الدعوة؟ ". 

وبعضهم يقول: يوجد بعد أنصاري مقدر محذوف وقع حالاً، أى من أنصاري متوجهاً إلى الله، أو ملتجئاًً إلى الله، أو من أنصاري ذاهباً إلى الله؟

وبعضهم يقول قولاً قريباً من قول ابن كثير نحو من أنصاري في السبيل إلى الله، أو في الطريق إلى الله؟ فهذه مثل في الدعوة إلى الله، ويقال غير هذا أيضاً، لكن السبب في هذه الأقوال هو التعدية بـ"إلى" فإما أن نجعل "إلى" بمعنى "مع" وإما أن نقول: هناك تقدير، وهذا المقدر يصلح أن يُعدَّى بـ"إلى.

حتى وجد الأنصار فآووه ونصروه، وهاجر إليهم فواسوه ومنعوه من الأسود والأحمر - وأرضاهم- وهكذا عيسى ابن مريم انتدب له طائفة من بني إسرائيل فآمنوا به وآزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه، ولهذا قال الله تعالى مخبراً عنهم: قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللّهِ آمَنَّا بِاللّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ۝ رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنزَلَتْ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ [سورة آل عمران:52-53] الحواريون، قيل: كانوا قصَّارين.

الفقهاء يقولون في عقد البيع والشراء: لو باعه ثوباً واشترط قصارته، يعني خياطته أو غسله فالله أعلم..

وأصل الحواري هو الخالص من كل شيء، ولذلك مما قيل في الحَوَر أنه شدة بياض العين مع السواد، وهذا أجمل ولا شك من الذي بياض عينه أصفر، فهو الخالص من كل شيء، فالثياب ما كان شديد البياض، وحواري الرجل بمعنى خلاصة وصفوة أصحابه، فالحواريون هم خلاصة أصحاب المسيح -عليه الصلاة والسلام- وصفوتهم، وقيل لهم ذلك لصفاء نفوسهم أو لصفاء نياتهم، أو لخلوص صحبتهم ومحبتهم ونصحهم وصدقهم وما أشبه ذلك، فالصفوة والخلاصة يقال لها هذا.

وبعضهم نظر إلى شيء حسي مشاهد هوالبياض فقال: قيل لهم ذلك لشدة بياض ثيابهم، وبعضهم يقول: القصارين، وبعضهم يقول غير هذا مما لا دليل عليه، فالحواريون على كل هم خلاصة أصحاب عيسى ، وأما عددهم فلا طائل تحته، فبعضهم يقول: اثنا عشر، وبعض يقول: أكثر من هذا بكثير، وبعضهم يحاول أن يجمع بين هذه الإسرائيليات ويقول: إنهم كانوا كذا، والخلاصة أن كبارهم أو عرفاءهم كانوا اثنا عشر رجلاً.

الحواريون: قيل كانوا قصارين، والصحيح أن الحواري الناصر كما ثبت في الصحيحين أن رسول الله ﷺ لما ندب الناس يوم الأحزاب فانتدب الزبير ثم ندبهم فانتدب الزبير فقال النبي ﷺ: إن لكل نبي حوارياً وحواريَّ الزبير[2].

هذا المعنى الذي ذكره الحافظ ابن كثير استشهد عليه بهذا الحديث وهو معنىً صحيح أي الناصر، لكن هذا لا يعارض ما ذكر من أنهم صفوة وخلاصة أصحاب الأنبياء مثلاً، أو خاصة الأنبياء، فخلاصة أصحاب الأنبياء هم ناصروهم.

وروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس -ا- في قوله: فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ [سورة آل عمران:53]، قال: مع أمة محمد ﷺ وهذا إسناد جيد.

قوله -تبارك وتعالى- هنا: قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ [سورة آل عمران:53]: قص الله  علينا ذلك من أجل أن نقتدي بهم، كما قال في الآية الأخرى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ [سورة الصف:14]، فذكر الله ذلك من أجل أن تقتدي بهم هذه الأمة في نصرة نبيها ﷺ، والقرآن يفسر بعضه بعضا.

 وقوله هنا: فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ أي مع أمة محمد ﷺ، وبعضهم يقول: اكتبنا مع الشاهدين أي: لك بالوحدانية ولنبيك بالرسالة، ويمكن أن يعبر بعبارة أوسع من هذا كما يقول ابن جرير -رحمه الله: بالحق، أي اكتبنا مع الشاهدين بالحق، ومن الحق الشهادة بالوحدانية، وللنبي ﷺ وأنبيائه بالرسالة وما إلى ذلك من المعاني الداخلة تحتها أو: اكتبنا مع الشهداء الذين يشهدون لأممهم، فالأنبياء يشهدون والأمم تشهد وهذه الأمة تشهد، فلا يخص ذلك بأمة محمد ﷺ باعتبار أن هذه الأمة مما اختصها الله به أن تكون شاهدة على الأمم كما قال تعالى: وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ [سورة الحـج:78] ولكن الشاهدين أوسع من هذا، فالأنبياء يشهدون، وأتباع الأنبياء أيضاً يشهدون، كما قال الله : وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاء [سورة الزمر:69].

ثم قال تعالى مخبراً عن بني إسرائيل فيما هموا به من الفتك بعيسى -عليه الصلاة والسلام- وإرادته بالسوء والصلب حين تمالؤوا عليه ووشوا به إلى ملك ذلك الزمان، وكان كافراً فأنهوا إليه أن هاهنا رجلاً يضل الناس ويصدهم عن طاعة الملك، ويفند الرعايا ويفرق بين الأب وابنه، إلى غير ذلك مما تقلدوه في رقابهم ورموه به من الكذب، وأنه ولد زنية، حتى استثاروا غضب الملك، فبعث في طلبه من يأخذه ويصلبه وينكل به، فلما أحاطوا بمنزله، وظنوا أنهم قد ظفروا به نجاه الله تعالى من بينهم، ورفعه من روزنة ذلك البيت إلى السماء، وألقى الله شبهه على رجل كان عنده في المنزل، فلما دخل أولئك اعتقدوه في ظلمة الليل عيسى، فأخذوه وأهانوه وصلبوه ووضعوا على رأسه الشوك، وكان هذا من مكر الله بهم، فإنه نجَّى نبيه ورفعه من بين أظهرهم، وتركهم في ضلالهم يعمهون، يعتقدون أنهم قد ظفروا بطلبتهم، وأسكن الله في قلوبهم قسوة وعناداً للحق ملازماً لهم، وأورثهم ذلة لا تفارقهم إلى يوم التناد، ولهذا قال تعالى: وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ [سورة آل عمران:54].

هذا كما قال الله في الآيات الأخرى: وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ [سورة النساء:157].

وقوله تعالى: إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ۝ فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ ۝ وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ۝ ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ [سورة آل عمران:55-58].

قوله تعالى: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ [سورة آل عمران:55] المراد بالوفاة هاهنا النوم كما قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ الآية [سورة الأنعام:60].

العلماء استشكلوا ذكر الوفاة؛ لأن عيسى ﷺ رفع ولم يمت، وبالتالي منهم من ادعى في الآية التقديم والتأخير، أي قال الله: يا عيسى إني رافعك إليّ ومطهرك من الذين كفروا، إلى آخره ثم بعد ذلك متوفيك، وهذا خلاف الأصل، فالأصل أنه إذا دار الكلام بين الترتيب والتقديم والتأخير فالأصل فيه الترتيب.

ومنهم من أجراه على هذا النسق في الترتيب ولم يدَّعِ فيه التقديم والتأخير ثم بعد ذلك اختلفت أقوالهم في تفسير الوفاة، فمن أحسن ما قيل في ذلك ما ذكره الحافظ ابن كثير هنا من أن المقصود بالوفاة هي الوفاة الصغرى؛ لأنها تطلق على الوفاة الكبرى التي هي الموت وتطلق على الوفاة الصغرى التي هي النوم، كما قال تعالى: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ [سورة الزمر:42].

ومنهم من قال: إن الوفاة هنا بمعنى الاستيفاء والقبض، أي أن الله مستوفيك روحاً وجسداً، كما يعبر ابن جرير -رحمه الله- فيقول: أي قابضك إليَّ لكن ليس بمعنى الموت، لكن تقول: فلان استوفى حقه بمعنى أخذه، فتكون الوفاة هنا بمعنى الأخذ والقبض وما أشبه ذلك، وهذا قال به جماعة، ومنهم ابن جرير -رحمه الله.

ومنهم من يقول غير هذا، لكن ليس المقصود بها الموت قطعاً، وبالتالي فإن قول من قال: إن المقصود أن الله توفاه ست ساعات أو أربع ساعات أو نحو هذا، فهذا كلام يخالف الأدلة التي تدل على رفعه وأنه لم يمت.

ومنهم من يقول: إن المقصود بالوفاة هنا أن نهايته تكون بالوفاة، بمعنى أنهم لن يصلوا إليك وإنما نهايتك لن تكون بالقتل، لكن هذا لا معنى له أن يفسر به قوله تعالى: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ [سورة آل عمران:55]، وعلى كل حال لا يقال –قطعاً: إنه قد توفي بمعنى مات؛ لأن الله  لا يجمع على الإنسان موتتين بعد نفخ الروح. 

وأما قوله تعالى: رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ [سورة غافر:11]، فكلام أهل العلم في هذا معروف وهو أن الموتة الأولى هي حينما كانوا نطفاً أو كانوا في حال العدم أو غير ذلك، أما إذا صار إنساناً حياً فيه روح فإنه لا يموت موتتين، فالله يقول: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ [سورة الروم:40] وعيسى ﷺ من جملة هؤلاء الخلق.

قوله تعالى: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ، المراد بالوفاة هاهنا النوم، كما قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ الآية [سورة الأنعام:60] وقال تعالى: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا الآية [سورة الزمر:42].

وكان رسول الله ﷺ يقول إذا قام من النوم: الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا وإليه النشور[3]، وقال الله تعالى: وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا ۝ وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ [سورة النساء:156-157] إلى قوله... .

سيأتي -إن شاء الله- في قوله: وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ أنها تحتمل أن شبهه ألقي على رجل فظنوا أنه هو كما هو المتبادر، وتحتمل معنى آخر وهو أنه حصل لهم اشتباه والتباس في القضية، ولهذا يفسر هذا القائل قوله تعالى: وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا [سورة النساء:157] بمعنى أنهم لم يتحققوا هذا الأمر، وهذا كما تقول: قتلت هذه المسألة بحثاً، وهذا ذكره ابن حزم، لكن هذا فيه بعد، والله أعلم..

وقال الله تعالى: وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا ۝ وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ [سورة النساء:156-157] إلى قوله: وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا ۝ بَل رَّفَعَهُ اللّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ۝ وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا [سورة النساء:157-159] والضمير في قوله: قَبْلَ مَوْتِهِ عائد على عيسى أي وإن من أهل الكتاب.

يعني قبل موت عيسى ﷺ بمعنى إذا نزل في آخر الزمان يؤمن به من كان موجوداً من أهل الكتاب، ومعروف أنه يضع الجزية فلا يقبلها، ويحصل على يده ما ذكره النبي ﷺ.

ومن أهل العلم من قال: قوله: وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ [سورة النساء:159] أي قبل موت الكتابي نفسه، ومعناه أنه لا يموت واحد من أهل الكتاب إلا ويؤمن بعيسى الإيمان الصحيح، وهذا نقل عن بعض السلف، عن ابن عباس، حتى قيل له: إن الرجل يقتل أو يموت بلحظة أو يطير رأسه بالسيف، فقال: يؤمن به قبل أن يموت. 

وهذا خلاف قول عامة السلف فمن بعدهم في تفسير الآية الذين يقولون: لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ [سورة النساء:159] أي: ليؤمنن بعيسى قبل موت عيسى؛ والقاعدة أن الضمير يرجع إلى أقرب مذكور، والمذكور الأقرب هنا هو عيسى -عليه الصلاة والسلام.

والضمير في قوله: قَبْلَ مَوْتِهِ عائد على عيسى أي: وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن بعيسى قبل موت عيسى، وذلك حين ينزل إلى الأرض قبل يوم القيامة، على ما سيأتي بيانه، فحينئذ يؤمن به أهل الكتاب كلهم؛ لأنه يضع الجزية ولا يقبل إلا الإسلام.

وروى ابن أبي حاتم عن الحسن أنه قال في قوله تعالى: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ [سورة آل عمران:55] يعني وفاة المنام، رفعه الله في منامه.

وقوله تعالى: وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ [سورة آل عمران:55] أي برفعي إياك إلى السماء وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ [سورة آل عمران:55] وهكذا وقع؛ فإن المسيح لما رفعه الله إلى السماء تفرقت أصحابه شيعاً بعده، فمنهم من آمن بما بعثه الله به على أنه عبد الله ورسوله وابن أمته، ومنهم من غلا فيه فجعله ابن الله، وآخرون قالوا: هو الله، وآخرون قالوا: هو ثالث ثلاثة. 

وقد حكى الله مقالاتهم في القرآن، ورد على كل فريق، فاستمروا على ذلك قريباً من ثلاثمائة سنة، ثم نبغ لهم ملك من ملوك اليونان يقال له: قسطنطين، فدخل في دين النصرانية، قيل: حيلة ليفسده فإنه كان فيلسوفاً، وقيل: جهلاً منه، إلا أنه بدل لهم دين المسيح وحرفه، وزاد فيه ونقص منه، ووضعت له القوانين والأمانة الكبرى التي هي الخيانة الحقيرة، وأحل في زمانه لحم الخنزير.

يعني أن هذا الملك هو الذي أفسد دين النصارى، حتى قيل: إنه أدخل النصرانية في الوثنية ولم يدخل هو في النصرانية وحصل الاجتماع المعروف الشهير في التاريخ وأقروا فيه التثليث، وصار الموحدون مستضعفين مستذلين مضطهدين.

يبقى الإشكال في قوله -تبارك وتعالى- هنا: وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ [سورة آل عمران:55] يعني ما المراد؟ هل المراد أتباع المسيح من أهل التوحيد من الموحدين؟ فهؤلاء ما كان لهم ظهور بعد عيسى ﷺ بل بالعكس كانوا يتخطفون ويضطهدون، والنصارى مختلفون غاية الاختلاف حتى جاء قسطنطين هذا فزاد في الشر، أو أن المراد وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ [سورة آل عمران:55] يعني الذين ينتسبون إلى النصرانية أو قل ممن ينتسبون إلى عيسى ﷺ.

وقوله: فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أي فوق الذين كفروا به وهم اليهود، وليس الذين كفروا بالله؛ لأن النصارى لما قالوا بأن الله ثالث ثلاثة ونحو ذلك فهم أيضاً كفروا بالله، لكن النصارى يزعمون أنهم أتباع المسيح، وعلى هذا تكون الآية لا إشكال فيها، ولا شك أن النصارى حصل لهم ظهور على اليهود وصار اليهود يضطهدون في ممالك النصارى فهذا معروف في التاريخ، بل كانوا يتتبعون الواحد بعد الواحد، ويُؤخذون ويقتلون، وحصل أكثر من مرة أن ملوك الرومان واليونان كانوا يتتبعون اليهود حيث صدر أكثر من قرار بتتبع اليهود وقتلهم.

فهؤلاء الأتباع هل المقصود بهم أهل التوحيد أم المقصود بهم من ينتسبون إلى عيسى ولو كانوا على التثليث؟ الحافظ ابن القيم -رحمه الله- يقول: لما كان للنصارى شعبة من أتباع المسيح -عليه الصلاة والسلام- حيث آمنوا بعيسى ﷺ كانوا فوق اليهود، ولما كانت هذه الأمة ملتزمة بالحق كانت ظاهرة على النصارى، فمعنى كلام ابن القيم واضح، وهو أن قوله: وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ يعني من ينتسبون إليك ولو كانوا من أهل التثليث، فطائفة النصارى فوق طائفة اليهود.

ومن يقول: إن المقصود بالأتباع هم أهل الحق والتوحيد، فهذا الظهور يفسر ببعثِ محمد ﷺ، وذلك أنه لما جاء محمد ﷺ قتل اليهود وحاربهم وحصل ما حصل، وصاروا في غاية الاستذلال والضعف، ثم لما تُرك اتباعه ﷺ وضيع دينه، علا اليهود وارتفعوا كما هو مشاهد.

وأحل في زمانه لحم الخنزير، وصلوا له إلى المشرق، وصوروا له الكنائس، وزادوا في صيامهم عشرة أيام من أجل ذنب ارتكبه فيما يزعمون، وصار دين المسيح دين قسطنطين إلا أنه بنى لهم من الكنائس والمعابد والصوامع والديارات ما يزيد على اثني عشر ألف معبد، وبنى المدينة المنسوبة إليه.

وبعضهم يقول: إنه نقل صومهم من الحر إلى وقت الاعتدال أو البرد، ثم زاده عشرة أيام من أجل المعاوضة، وصار الصوم أربعين يوماً.

قوله: "وبنى المدينة المنسوبة إليه"، يعني القسطنطينية.

واتبعه الطائفة الملكية منهم، وهم في هذا كله قاهرون لليهود.

توجد طائفة من النصارى معروفة -ذكرها صاحب كتاب الملل والنحل- ينتسبون إلى الملك قسطنطين.

أيدهم الله عليهم؛ لأنهم أقرب إلى الحق منهم، وإن كان الجميع كفاراً عليهم لعائن الله.

كلام ابن كثير هذا يوافق كلام ابن القيم، وهو أن المقصود بالأتباع هم من ينتسبون إلى عيسى، أي من يدَّعون اتباعه -عليه الصلاة والسلام.

فلما بعث الله محمداً ﷺ فكان من آمن به يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله على الوجه الحق، كانوا هم أتباع كل نبي على وجه الأرض، إذ قد صدقوا الرسول النبي الأمي خاتم الرسل وسيد ولد آدم الذي دعاهم إلى التصديق بجميع الحق فكانوا أولى بكل نبي من أمته الذين يزعمون أنهم على ملته وطريقته مع ما قد حرفوا وبدلوا، ثم لو لم يكن شيء من ذلك، لكان قد نسخ الله بشريعته شريعة جميع الرسل بما بعث الله به محمداً ﷺ من الدين الحق الذي لا يغير ولا يبدل إلى قيام الساعة، ولا يزال قائماً منصوراً ظاهراً على كل دين، فلهذا فتح الله لأصحابه مشارق الأرض ومغاربها، واحتازوا جميع الممالك، ودانت لهم جميع الدول، وكسروا كسرى وقصروا قيصر وسلبوهما كنوزهما، وأنفقت في سبيل الله كما أخبرهم بذلك نبيهم عن ربهم في قوله: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا.. الآية [سورة النــور:55].

ولهذا لما كانوا هم المؤمنين بالمسيح حقاً، سلبوا النصارى بلاد الشام، وأجلوهم إلى الروم فلجؤوا إلى مدينتهم القسطنطينية، ولا يزال الإسلام وأهله فوقهم إلى يوم القيامة، وقد أخبر الصادق المصدوق أمته بأن آخرهم سيفتحون القسطنطينية، ويستفيئون ما فيها من الأموال، ويقتلون الروم مقتلة عظيمة جداً لم يرَ الناس مثلها ولا يرون بعدها نظيرها -وقد جمعت في هذا جزءاً مفرداً. 

ولهذا قال تعالى: وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ۝ فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ [سورة آل عمران:55-56]. 

وكذلك فعل تعالى في من كفر بالمسيح من اليهود أو غلا فيه أو أطراه من النصارى، عذبهم في الدنيا بالقتل والسبي وأخذ الأموال، وإزالة الأيدي عن الممالك وفي الدار الآخرة عذابهم أشد وأشق وما لهم من الله من واق.

وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ [سورة آل عمران:57] أي: في الدنيا والآخرة، في الدنيا بالنصر والظفر، وفي الآخرة بالجنات العاليات، وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ [سورة آل عمران:57].

 ثم قال تعالى: ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ [سورة آل عمران:58] أي: هذا الذي قصصناه عليك يا محمد في أمر عيسى ومبدأ ميلاده وكيفية أمره، هو مما قاله تعالى وأوحاه إليك ونزله عليك من اللوح المحفوظ، فلا مرية فيه ولا شك كما قال تعالى في سورة مريم: ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ ۝ مَا كَانَ لِلَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ [سورة مريم:34-35].

والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم. 

  1. أخرجه أبو داود في كتاب السنة - باب في القرآن (4736) (ج 4 / ص 376) والترمذي في كتاب فضائل القرآن عن رسول الله ﷺ (2925) (ج 5 / ص 184) وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (1947).
  2. أخرجه البخاري في كتاب الجهاد والسير - باب فضل الطليعة (2691) (ج 3 / ص 1046) ومسلم في كتاب فضائل الصحابة - باب من فضائل طلحة والزبير ا (2415) (ج 4 / ص 1879).
  3. أخرجه البخاري في كتاب الدعوات - باب وضع اليد اليمنى تحت الخد اليمنى باب وضع اليد اليمنى تحت الخد اليمنى (5955) (ج 5 / ص 2327) ومسلم في كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار - باب ما يقول عند النوم وأخذ المضجع (2711) (ج 4 / ص 2083).

مواد ذات صلة