الجمعة 19 / رمضان / 1445 - 29 / مارس 2024
[19] من قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ} الآية 118 إلى قوله تعالى: {وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} الآية 129
تاريخ النشر: ٠٨ / شعبان / ١٤٢٦
التحميل: 7185
مرات الإستماع: 2595

بسم الله الرحمن الرحيم

تفسير قوله تعالى:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ ۝ هَاأَنتُمْ أُوْلاء تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ۝ إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ [سورة آل عمران:118-120].

يقول -تبارك وتعالى- ناهياً عباده المؤمنين عن اتخاذ المنافقين بطانة، أي: يطلعونهم على سرائرهم وما يضمرونه لأعدائهم، والمنافقون بجهدهم وطاقتهم لا يألون المؤمنين خبالاً أي: يسعون في مخالفتهم وما يضرهم بكل ممكن.

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقوله -تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ [سورة آل عمران:118] أي من غيركم من الكفار بجميع طوائفهم وأصنافهم، والبطانة شبهت بما يلي الجسد من الثياب، وإن شئت أن تقول: بما يلي البطن من الثياب، فهؤلاء لما كانوا من خاصتهم ومن المقربين الذين يطلعون على دخائلهم وما يختص بهم كانوا بمنزلة ما يلي الجسد من الثياب لشدة قربهم منهم ومعرفتهم واطلاعهم على أحوالهم، كاتخاذهم كُتَّاباً يطلعون على دخائل الأمور، أو اتخاذهم مستشارين أو نحو ذلك.

قوله: لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً أي لا يقصرون في أي نقص يستطيعون إيصاله إليكم، فهم لا يدخرون في ذلك جهداً، بل كل شيء يدخل عليكم الفساد من جهتهم فهم مجتهدون في تحصيله.

والخبال يطلق على الفساد سواء كان ذلك في البدن أو العقل أو المال، فقوله: لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً أي: لا يفتئون ولا يقصرون بل يبذلون كل جهد مستطاع في إضعافكم وكل ما يجلب الوهن إليكم.

لا يألون المؤمنين خبالاً أي: يسعون في مخالفتهم وما يضرهم بكل ممكن وبما يستطيعونه من المكر والخديعة، ويودون ما يُعْنتُ المؤمنين ويخرجهم ويَشُقّ عليهم.

وقوله: لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ أي من غيركم من أهل الأديان، وبطانة الرجل هم خاصّة أهله الذين يطلعون على داخلة أمره.

وقد روى البخاري والنسائي وغيرهما عن أبي سعيد أن رسول الله ﷺ قال: ما بعث الله مِن نبي ولا استخلف من خليفة إلا كانت له بطانتان، بطانة تأمره بالخير وتحضه عليه، وبطانة تأمره بالسوء وتحضه عليه، والمعصوم من عصم الله[1].

وروى ابن أبي حاتم عن ابن أبي الدِّهْقانة قال: قيل لعمر بن الخطاب -: إن هاهنا غلاماً من أهل الحيرة حافظ كاتب فلو اتخذته كاتباً؟ قال: قد اتخذت إذًا بطانة من دون المؤمنين.

ففي هذا الأثر مع هذه الآية دليل على أن أهل الذمة لا يجوز استعمالهم في الكتابة التي فيها استطالة على المسلمين واطلاع على دواخل أمُورهم التي يُخْشَى أن يُفْشوها إلى الأعداء من أهل الحرب؛ ولهذا قال تعالى: لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ [سورة آل عمران:118].

ثم قال تعالى: قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ [سورة آل عمران:118] أي: قد لاح على صَفَحات وجوههم وفلتات ألسنتهم من العداوة مع ما هم مشتملون عليه في صدورهم من البغضاء للإسلام وأهله ما لا يخفى مثله على لبيب عاقل؛ ولهذا قال تعالى: قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ [سورة آل عمران:118].

وقوله تعالى: هَاأَنتُمْ أُوْلاء تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ [سورة آل عمران:119] أي: أنتم أيها المؤمنون تحبون المنافقين بما يظهرون لكم من الإيمان فتحبونهم على ذلك وهم لا يحبونكم لا باطناً ولا ظاهراً.

وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ أي: ليس عندكم في شيء منه شك ولا ريب، وهم عندهم الشك والريب والحَيرة.

قوله: وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ يمكن أن يكون الكتاب هنا اسم جنس، وكما في أصول الفقه وفي أصول التفسير أن المفرد -اسم الجنس- قد يراد به العموم، وهذا من أمثلته، وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ ومثل ذلك المفرد المضاف إلى معرفة سواء كان المضاف إليه ضميراً أو كان اسماً ظاهراً، وقد يأتي المفرد مراداً به الجمع إذا كان اسم جنس، فالله يقول: أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاء [سورة النــور:31] يعني أو الأطفال، وقوله: وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ [سورة آل عمران:119] أي بالكتب كلها، قال تعالى: كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ [سورة البقرة:285].

وروى محمد بن إسحاق عن ابن عباس -ا: وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ [سورة آل عمران:119] أي: بكتابكم وكتابهم، وبما مضى من الكتب قبل ذلك، وهم يكفرون بكتابكم، فأنتم أحق بالبغضاء لهم منهم لكم. [رواه ابن جرير].

وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ [سورة آل عمران:119] والأنامل أطراف الأصابع، قاله قتادة.

وهذا شأن المنافقين يظهِرون للمؤمنين الإيمان والمودّة، وهم في الباطن بخلاف ذلك من كل وجه، كما قال تعالى: وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ [سورة آل عمران:119] وذلك أشد الغيظ والحنق، قال الله تعالى: قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ [سورة آل عمران:119] أي: مهما كنتم تحسدون عليه المؤمنين ويغيظكم ذلك منهم فاعلموا أن الله متم نعمته على عباده المؤمنين ومكمل دينه ومُعْلٍ كلمتَه ومظهر دينَه، فموتوا أنتم بغيظكم إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ [سورة آل عمران:119].

يعني هؤلاء من شدة الحنق تصطك أسنانهم على أناملهم، ومعلوم أن من بلغ به الحنق غايته فإنه قد تصطك أسنانه بعضها على بعض، وقد تصطك على أنامله أو نحو ذلك، فهذا يمثل به على شدة الحنق، والذين يحللون التحليلات النفسية يعبرون عن ذلك بتفريغ الطاقة، أي أنه لشدة حنقه ربما صك بعض أسنانه على بعض بقوة، ويقولون: إن هذا كالذي عنده طاقة شديدة في الحركة وفي نحو ذلك فيهز رجله وهو جالس أو ينكت بشيء أو يتحرك أو يحرك يده، أو يحرك شيئاً معه، أو نحو هذا، وعلى كل حال لا شك أن هذا يعبر به عن شدة الغيظ، فهو يريد أن يفرغ هذا الغيظ فلا يجد شيئاً غير أن يلتقم أنامله من شدة ما يتمنى أن يظفر بكم.

إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ [سورة آل عمران:119] أي: هو عليم بما تنطوي عليه ضمائركم وتُكنُّه سَرَائرُكُم من البغضاء والحسد والغلِّ للمؤمنين، وهو مجازيكم عليه في الدنيا بأن يريكم خلاف ما تؤمّلون، وفي الآخرة بالعذاب الشديد في النار التي أنتم خالدون فيها، فلا خروج لكم منها.

ثم قال تعالى: إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا [سورة آل عمران:120] وهذه الحال دالة على شدة العداوة منهم للمؤمنين وهو أنه إذا أصاب المؤمنين خصب، ونصر وتأييد، وكثروا وعزّ أنصارهم، ساء ذلك المنافقين، وإن أصاب المسلمين سَنَة -أي جَدْب- أو أُديل عليهم الأعداء؛ لما لله تعالى في ذلك من الحكمة -كما جرى يوم أحد- فَرح المنافقون بذلك.

في قوله تعالى: إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا [سورة آل عمران:120] فرّق هذا التفريق فعبر بالمس في الحسنة وعبر بالإصابة في السيئة إشارة إلى أن الكفار يستاءون ويحزنون إن حصل للمؤمنين أدنى خير فهم لا يريدون أن يقع للمؤمنين خير قليل ولا كثير، وأما في السيئة فإنهم لا يفرحون إذا وقع لهم شيء يسير من المكاره وإنما الذي يسرهم هو وقوع المكاره الجَزْلة والنكايات والمصائب العظيمة، وهكذا هو حال المبغض المعادي. 

ولذلك فإن عداوتنا للكفار تقتضي أن نستاء من ارتفاع مؤشر العملات عندهم، أو سوق الأسهم ولو شيئاً يسيراً، وأما في المصائب فنحن نسأل دائماً ونتطلع أن تكون المصيبة جَزْلة، ونفرح لما يقع لهم من الكوارث والمصائب والدواهي العظام ونستبشر بهذا ونتمنى أن تكون آثارها مدمرة وأن الخسائر قد بلغت غايتها ولا نفرح بالمصائب اليسيرة التي تقع لهم، وهذا هو حال المتعادين عادة، فهم لشدة عداوتهم لأهل الإيمان يفرحون بالمصائب التي تقع لهم وهي ذات وقع واعتبار ونكاية.

وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا الآية [سورة آل عمران:120] يرشدهم تعالى إلى السلامة من شر الأشرار وكيدِ الفجار باستعمال الصبر والتقوى والتوكل على الله الذي هو محيط بأعدائهم، فلا حول ولا قوة لهم إلا به، وهو الذي ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ولا يقع في الوجود شيء إلا بتقديره ومشيئته، ومن توكل عليه كفاه.

ثم شرع تعالى في ذكر قصة أحد وما كان فيها من الاختبار لعباده المؤمنين والتمييز بين المؤمنين والمنافقين وبيان صَبْر الصابرين فقال تعالى: وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ۝ إِذْ هَمَّت طَّآئِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ وَاللّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ۝ وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [سورة آل عمران:121-123].

هناك قاعدة تقول: إن "إذ" منصوبة دائماً بـ"اذكر" مقدراً، فيكون المعنى: واذكر إذ غدوت من أهلك تُبوِّئ المؤمنين مقاعد للقتال، فيمكن أن يكون ذلك على سبيل الاستئناف -جملة جديدة- يذكر فيها ما وقع لهم في أحد.

ومثل ابن جرير -رحمه الله- يربط بين هذه الآية وبين الآيات السابقة، فهو في السابق قال: إن تصبروا على طاعة الله وعن معصيته وما يقع لكم من الآلام والمصائب وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئاً، وإن خالفتم أمري ولم تصبروا على طاعتي فإنه يقع لكم ما وقع لمن قبلكم، واذكروا إذ غدا النبي ﷺ إلى أحد، فذكرهم بهذا المصاب والهزيمة التي وقعت وما حصل فيها من الجراح والقتل بسبب المعصية وقلة الصبر، فالذين نزلوا من الجبل لم يمتثلوا أمر الله وكان ذلك من قلة صبرهم وتقواهم فكانت النتيجة أن هزموا، فعلى هذا الاعتبار يكون ذلك مرتبطاً بما قبله، والعلم عند الله .

المرادُ بهذه الوقعة يوم أُحُد عند الجمهور.

هذا الذي عليه عامة أهل العلم، وابن عباس -ا- يقول عن سورة آل عمران: هذه أحدية، يعني أنها تتحدث عن غزوة أحد، ومن هنا إلى رأس ستين آية كل ذلك يتحدث عن غزوة أحد مع ما يتخلله من الكلام على بعض القضايا مثل الربا ونحو ذلك، وإلا فإن الكلام هو في غزوة أحد، وبعض أهل العلم قال: هذا في غزوة بدر، وبعضهم قال: في غزوة الخندق، ولكن هذا بعيد.

ولو استشكل هذا بأن النبي ﷺ كما جاء في بعض الروايات في السير أنه خرج بعد صلاة الجمعة وفي بعضها أنه خرج يوم السبت، في بعضها أنه خرج بعد صلاة الجمعة لما شاور أصحابه كما هو معروف ثم دخل ولبس آلة الحرب فخرج مساء الجمعة، فهذا قد يستشكل مع قوله تعالى: وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ [سورة آل عمران:121] فقالوا: هو لم يخرج في أول الصباح، فمن هنا قال بعض أهل العلم: إنها ليست في أحد، لكن الذي عليه عامة أهل العلم أنها في أحد، وهذا لا شك فيه والله تعالى أعلم. 

وأما وجه هذا التعبير، وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ [سورة آل عمران:121] فإن هذا وإن كان في أصل الاستعمال يقال عن الذي يخرج في أول النهار لكن صار يستعمل في غير هذا على سبيل التوسع لمطلق الخروج في أي وقت، وهذا مثل استعمالات لفظ "أضحى" أي إذا دخل في وقت الضحى لكنه صار يعبر به على سبيل التوسع في الاستعمال فيما يمكن أن يكون بمعنى صار، تقول: أضحى زيد عليلاً أي: صار عليلاً، وإن كان أصل معناه دخل في وقت الضحى، والله أعلم.

المرادُ بهذه الوقعة يوم أُحُد عند الجمهور، قاله ابن عباس -ا- والحسن وقتادة، والسُّدِّي، وغير واحد، وكانت وقعةُ أحد يومَ السبت من شوال سنة ثلاث من الهجرة، وقال عكرمة: يوم السبت للنصف من شوال، فالله أعلم.

يعني أن النبي ﷺ خرج يوم الجمعة، وصارت الوقعة في يوم السبت.

وكان سببها أن المشركين حين قتل من قتل من أشرافهم يوم بدر وسلمت العيرُ بما فيها من التجارة التي كانت مع أبي سفيان، فلما رجع قفَلُهُم إلى مكة قال أبناء من قُتل ورؤساء من بقي لأبي سفيان: ارصد هذه الأموال لقتال محمد، فأنفقوها في ذلك، وجمعوا الجموع والأحابيش وأقبلوا في نحو من ثلاثة آلاف حتى نزلوا قريباً من أحد تلقاء المدينة، فصلى رسولُ الله ﷺ يومَ الجمعة، فلما فرغ منها صَلى على رجل من بني النجار، يقال له: مالك بن عمرو، واستشار الناس: أيخرج إليهم أم يمكث بالمدينة؟ فأشار عبد الله بن أُبيّ بالمقام بالمدينة، فإن أقاموا أقاموا بشرِّ محبس وإن دخلوها قاتلهم الرجال في وجوههم ورماهم النساء والصبيان بالحجارة من فوقهم، وإن رجعوا رجعوا خائبين.

وأشار آخرون من الصحابة ممن لم يشهد بدراً بالخروج إليهم، فدخل رسول الله ﷺ فلبس لأمته وخرج عليهم.

قوله: "فلبس لأمته"، يعني لبس أداة الحرب، وكل أداة الحرب يقال لها: لأمة، السيف والرمح والمغفر، والدرع وما أشبه هذا مما يلبسه المحارب ويحمله معه يقال له: لأمة الحرب.

فلبس لأمته وخرج عليهم وقد ندم بعضهم وقالوا: لعلنا استكرَهْنَا رسول الله ﷺ فقالوا: يا رسول الله إن شئت أن نمكث؟ فقال رسول الله ﷺ: ما ينبغِي لنَبِي إِذا لبس لأمته أن يرجِع حتى يحكم الله له[2] فسار في ألف من أصحابه، فلما كانوا بالشوط رجع عبد الله بن أبي في ثلث الجيش مغضباً.

الشوط مكان بين جبل الرماة وبين المدينة.

رجع عبد الله بن أبي في ثلث الجيش مغضباً؛ لكونه لم يرجع إلى قوله، وقال هو وأصحابه: لو نعلم اليوم قتالاً لاتبعناكم، ولكنا لا نراكم تقاتلون اليوم.

واستمر رسول الله ﷺ سائراً حتى نزل الشعب من أحد في عدوة الوادي، وجعل ظهره وعسكره إلى أحد وقال: لا يقاتلن أحد حتى نأمره بالقتال.

قوله: حتى نزل الشعب من أحد في عدوة الوادي، يعني في جانب الوادي، وذلك أنك لو وقفت متجهاً إلى المدينة وأنت على جبل الرماة فإنك ستجد الوادي يمر بينك وبين المدينة، وهذا الوادي هو الذي أرسل النبي ﷺ عليه أمثال حمزة ومجموعة من الجيش، وبالنسبة للرماة فقد كانوا ينضحون خيل المشركين؛ لئلا تعلو المسلمين ولئلا يتسلل أحد من جهة هذا الوادي؛ لأن المنطقة إلى ناحية المدينة كانت مزارع ونخيل، وهذا الوادي يمكن أن يمر به الفرسان أو نحو ذلك ولا يشاهدهم الناس.

كما أن هذا الوادي -إن لم تخنِّي الذاكرة- هو امتداد لما يعرف الآن بوادي العَاقول الذي يأتي من طريق القصيم من عند حرة النار، فالسائر فيه يأتي ويمر من جانب جبل الرماة، فالمسلمون كان ظهرهم إلى الجبل حيث كانت فيه مساحات كأنها داخل الجبل قليلاً وكان الرماة يحمونهم؛ لئلا يعلوهم المشركون، فكانوا يحتمون بالجبل ومن الناحية الثانية بجبل الرماة.

وتهيأ رسول الله ﷺ للقتال وهو في سبعمائة من أصحابه وأمَّر على الرماة عبد الله بن جبير أخا بني عمرو بن عوف والرماة يومئذ خمسون رجلاً فقال لهم: انضحوا الخيل عنا ولا نؤتين من قبلكم، والزموا مكانكم إن كانت النوبة لنا أوعلينا، وإن رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تبرحوا مكانكم[3].

وظاهر رسول الله ﷺ بين درعين، وأعطى اللواء مصعب بن عمير أخا بني عبد الدار. وأجاز رسول الله ﷺ بعض الغلمان يومئذ وأرجأ آخرين، حتى أمضاهم يوم الخندق بعد هذا اليوم بقريب من سنتين.

وتعبأت قريش وهم ثلاثة آلاف ومعهم مائتا فرس قد جنبوها فجعلوا على ميمنة الخيل خالد بن الوليد، وعلى الميسرة عكرمة بن أبي جهل، ودفعوا إلى بني عبد الدار اللواء. ثم كان بين الفريقين ما سيأتي تفصيله في مواضعه عند هذه الآيات إن شاء الله تعالى.

ولهذا قال تعالى: وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ [سورة آل عمران:121] أي: تنزلهم منازلهم وتجعلهم ميمنة وميسرة وحيث أمرتهم.

أصل التبوء هو اتخاذ المباءة، تقول: فقد باء بغضب من الله، فليتبوأ مقعده من النار، فهو اتخاذ المباءة، أي المكان الذي ينزل فيه الإنسان وقوله: تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ أي أن النبي ﷺ يحدد موقع جيش المسلمين، فيضع الميمنة هاهنا والميسرة هاهنا وظهورهم إلى الجبل، بمعنى أنه يُعبِّئ الجيش بحيث يعرف كل مقاتل موقعه في هذا الجيش.

أي: تنزلهم منازلهم وتجعلهم ميمنة وميسرة وحيث أمرتهم وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [سورة آل عمران:121] أي: سميع لما تقولون عليم بضمائركم.

وقوله تعالى: إِذْ هَمَّت طَّآئِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ الآية [سورة آل عمران:122].

يعني وإن كان وقع منهم هذا النقص حيث هموا بالانصراف إلا أن هذه تزكية لهم وشهادة أن ولاءهم لله ولم يكن ولاؤهم للكفار أو للمنافقين أو أن ولاءهم مطعون فيه، فليسوا بمنافقين وإنما وقع لهم شيء من الضعف، حيث هموا بالرجوع إلى المدينة، ولكن الله ثبتهم، وهذه الشهادة هي التي قال فيها أبو سفيان: ما يسرني أنها لم تنزل، لقول الله: وَاللّهُ وَلِيُّهُمَا [سورة آل عمران:122].

وفي قوله تعالى في سورة الأحزاب: وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِن قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ [سورة الأحزاب:15] كثير من المفسرين يقولون: المراد به بنو حارثة وبنو سلمة الذين قال الله فيهم هنا: إِذْ هَمَّت طَّآئِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ [سورة آل عمران:122] فهم تابوا من هذا وعاهدوا الله أن لا يقع ذلك منهم ثم لما كان في يوم الخندق كان بعضهم يتنصل ويعتذر، ويقولون: إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ [سورة الأحزاب:13] حيث إنها مكشوفة خارج الخندق مما يلي ناحية مسجد القبلتين، أي خارج الخندق، والخندق مباشرة تحت الجبل المعروف الآن بجبل سلع في السيح، فهم يقولون: هي مكشوفة للعدو فكان بعضهم يتنصل، وإن شئت فقل ضعفاء الإيمان والمنافقون.

وقوله تعالى: وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ بِبَدْرٍ [سورة آل عمران:123] أي: يوم بدر، وكان في يوم جمعة وافق السابع عشر من شهر رمضان من سنة اثنتين من الهجرة، وهو يوم الفرقان الذي أعز الله فيه الإسلام وأهله ودمغَ فيه الشرك وخرَّب محِلَّه مع قلة عدد المسلمين يومئذ، فإنهم كانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً فيهم فرسان وسبعُون بعِيراً، والباقون مشاة ليس معهم من العدد جميع ما يحتاجون إليه، وكان العدو يومئذ ما بين التسعمائة إلى الألف في سوابغ الحديد والبَيض، والعدة الكاملة والخيول المسومة.

في قوله: "والبَيض" البيض جمع بيضة، وهي الخوذة من الحديد التي يضعها المقاتل على رأسه، وهي غير المغفر، فالمغفر مثل الدرع يضعه المقاتل على رأسه، حيث يضع تحته مثل الطاقية وهو من فوقها كالدرع تماماً منسوج من حلق ويحمي به رأسه، والمغفر كذلك عبارة عن حديد مصمت صبة واحدة وليس حلقات، وأظنه مثل طاقية الحديد تماماً.

في سوابغ الحديد والبَيض، والعدة الكاملة والخيول المسومة والحلي الزائد، فأعز الله رسوله، وأظهر وحيه وتنزيله، وبيَّض وجه النبي وقبيله، وأخْزى الشيطان وجيله، ولهذا قال تعالى ممتناً على عباده المؤمنين وحِزبه المتقين: وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ [سورة آل عمران:123] أي: قليل عددكم؛ ليعلموا أن النصر إنما هو من عند الله، لا بكثرة العدد والعُدَد؛ ولهذا قال تعالى في الآية الأخرى: وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا [سورة التوبة:25] إلى وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [سورة التوبة:27].

وبدر: محلة بين مكة والمدينة، تعرف ببئرها، منسوبة إلى رجل حفرها يقال له: بدر بن النارين.

وقوله: فَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [سورة آل عمران:123] أي: تقومون بطاعته.

يعني من أجل أن تشكروه، وهذا باعتبار أن "لعل" المراد بها هنا التعليل وليس الترجي.

إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَن يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُنزَلِينَ ۝ بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُسَوِّمِينَ ۝ وَمَا جَعَلَهُ اللّهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُم بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ۝ لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنقَلِبُواْ خَآئِبِينَ ۝ لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذَّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ ۝ وَلِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [سورة آل عمران:124-129].

اختلف المفسرون في هذا الوعد هل كان يوم بَدْر أو يوم أُحُد على قولين: أحدهما: أن قوله: إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ [سورة آل عمران:124] متعلق بقوله: وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ بِبَدْرٍ [سورة آل عمران:123].

ورُوي هذا عن الحسن البصري وعامر الشعبي والرَّبِيع بن أنس وغيرهم، واختاره ابن جرير.

قال عباد بن منصور عن الحسن في قوله: إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَن يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ [سورة آل عمران:124] قال: هذا يوم بَدْر [رواه ابن أبي حاتم].

ثم روى عن عامر الشعبي أن المسلمين بلغهم يوم بدر أن كُرْز بن جابر يُمدّ المشركين فشق ذلك عليهم، فأنزل الله تعالى: أَلَن يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُنزَلِينَ [سورة آل عمران:124] إلى قوله: مُسَوِّمِينَ [سورة آل عمران:125].

الملائكة نزلوا في ثلاث غزوات هي بدر والخندق وحنين، وما يتبع الخندق وهو قريظة، أما بدر فمما لا شك فيه هو نزول الألف، لقوله تعالى: أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ [سورة الأنفال:9]، فهذا لا شك فيه، وهل قاتلوا في يوم بدر؟

الراجح أنهم قاتلوا، وفي صحيح مسلم: أقدم حيزوم، وهو فرس جبريل -عليه الصلاة والسلام، وجاء في هذا آثار وأحاديث عن النبي ﷺ وعن الصحابة الذين شهدوا الوقعة وكانوا يعرفون به من قُتل من المشركين ممن قتلهم الملائكة مثل ضرب السوط الذي قد تغير وازرق أو اخضر، فهؤلاء من قتلى الملائكة، وجاء في الآثار أنهم كانوا يتبعون رجلاً فسقط رأسه قبل أن يصله السيف، فكل هذا يدل على أن الملائكة قاتلوا.

فالمقصود أن عدد الملائكة في يوم بدر لا يقل عن الألف، وهذا لا شك فيه، لقوله تعالى: أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ [سورة الأنفال:9] فهذا وعد من الله تعالى بأنه سيمدهم بألف منهم إلا أن ذكر الألف لا يمنع الزيادة على الألف؛ لأنه قال: مُرْدِفِينَ فهذا يعني أنهم يمكن أن يزاد عليهم.

وهنا يقول تعالى: أَلَن يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُنزَلِينَ [سورة آل عمران:124] ثم قال: بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُسَوِّمِينَ [سورة آل عمران:125].

وقوله: مِّن فَوْرِهِمْ هَذَا أي: من ساعتهم هذه -يعني المشركين- أو من ناحيتهم هذه أو من غضبهم هذا، حيث يقال لمن غضب إنه فار، والمشركون إنما خرجوا من مكة إلى أحد للتشفي لما وقع لهم من القتل في بدر، فقوله: مِّن فَوْرِهِمْ هَذَا أي: من غضبتهم هذه -على أحد المعاني- أو يكون من فورهم من ساعتهم، أو من فورهم من هذه الناحية، أو كان المقصود به المدد الذي سيأتي من كرز هذا، فالمقصود أن هذا وعد معلق بثلاثة أشياء هي: الصبر والتقوى ومجيء هؤلاء.

على كل حال نزول الألف في بدر لا شك فيه، وأما الزيادة على الألف فهل هي المقصودة هنا في بدر أو في أحد؟ الأقرب أن هذا أيضاً في بدر، ومسألة هل تحقَّقَ الشرطُ فزادهم الله  وصاروا ثلاثة آلاف ثم خمسة؟ هذا فيه خلاف بين أهل العلم، لكن أصل نزول الملائكة في يوم بدر هذا لا شك فيه وكذلك هل قاتلوا؟ الراجح أنهم قاتلوا، ويدل على هذا أدلة كثيرة، أما في الخندق فقد أرسل الله عليهم الريح وأنزل جنوداً زلزل بهم العدو كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا [سورة الأحزاب:9] فالله زلزل بهم ولم يقع قتال كما قال تعالى: وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ [سورة الأحزاب:25]

فالحاصل أنه في الخندق لم يحصل قتال وإنما حصل زلزلة للمشركين، ثم في غزوة بني قريظة لما دخل النبي ﷺ يغتسل ووضع السلاح جاء جبريل وقال: وضعتم السلاح وإن الملائكة لم تضع أسلحتها، وأمر النبي ﷺ أن يأمر أصحابه أن يخرجوا إلى قريظة، قال جبريل -عليه الصلاة والسلام: فإني مزلزل بهم.

وفي يوم حنين يقول تعالى: وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ ۝ ثُمَّ أَنَزلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا [سورة التوبة:25-26] فالملائكة نزلت في يوم حنين، وكثير من أهل العلم يقولون: إنهم نزلوا لتثبيت المؤمنين وإنهم لم يقاتلوا في يوم حنين، والعلم عند الله .

فالحاصل أن الأقرب أن هذه الآيات في يوم بدر، وقوله: إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَن يَكْفِيكُمْ [سورة آل عمران:124] يمكن أن يكون كما قال ابن جرير -رحمه الله- وجماعة من السلف ومن بعدهم: إنه متعلق بقوله: ولقد نصركم الله ببدر إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم أن يمدكم، وهكذا إذا قيل متعلق بكذا، فتربط أجزاء الكلام بهذه الطريقة.

فبلغت كُرْزًا الهزيمة، فلم يمد المشركين ولم يمد الله المسلمين بالخمسة، وقال الرَّبِيع بن أنس: أمد الله المسلمين بألف، ثم صاروا ثلاثة آلاف، ثم صاروا خمسة آلاف، فإن قيل: فما الجمع بين هذه الآية -على هذا القول- وبين قوله تعالى في قصة بدر: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ [سورة الأنفال:9] إلى قوله: إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [سورة الأنفال:10] 
فالجواب: أن التنصيص على الألف هاهنا لا ينافي الثلاثة الآلاف فما فوقها، لقوله: مُرْدِفِينَ بمعنى يَرْدفُهم غيرُهم ويَتْبَعهم ألوف أخر مثلهم، وهذا السياق شبيه بهذا السياق في سورة آل عمران، فالظاهر أن ذلك كان يوم بدر كما هو المعروف من أن قتال الملائكة إنما كان يوم بدر، والله أعلم.

ابن جرير جزم بالألف في يوم بدر وتوقف في الثلاثة الآلاف والخمسة الآلاف، فقال: ليس عندنا دليل نستطيع الوقوف عنده أنه نزل هذا العدد ثلاثة آلاف أو خمسة آلاف، لكن يحتمل أن يكون هؤلاء قد نزلوا، أو لم ينزلوا، فليس هناك ما يرفع الخلاف، أما ألف فهو مجزوم به، أما في أحد فلم يُمَدوا بالملائكة على الراجح.

وقوله: بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ [سورة آل عمران:125] يعني: تصبروا على مُصَابرة عَدُوّكم وتتقوني وتطيعوا أمري.

وقوله تعالى: وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَذَا [سورة آل عمران:125] قال الحسن وقتادة والربيع والسُّدِّي أي من وجههم هذا، وقال العَوْفيّ عن ابن عباس -ا... 

قوله: من وجههم هذا، يعني من خروجهم هذا.

وقال العَوْفيّ عن ابن عباس -ا- من سفرهم هذا.

وهذا بمعنى الأول، فقوله: من فورهم هذا، أو من وجههم أو من سفرهم هذا، كل ذلك بمعنىً واحد، وهذا من اختلاف التنوع.

ويقال: من غضبهم هذا.

يقال: من غضبهم هذا باعتبار معنى الفوران وهو الغضب، أي: فاروا غضباً فمخرجهم كان بناء على هذا الغضب، وعلى كل حال كل ذلك واقع فيهم فيمكن أن يقال: من فورهم هذا أي: من مخرجهم ووجههم الذي خرجوا فيه غضبة بمصابهم في يوم بدر.

القول الثاني: أن هذا الوعد متعلق بقوله: وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ [سورة آل عمران:121].

نحن عرفنا أن الراجح في قوله: وَإِذْ غَدَوْتَ أنها في يوم أحد وليست في يوم بدر، فإذا كان وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم أن يمدكم، فعلى هذا الاعتبار لم يحصل الصبر مع أنهم وعدوا بثلاثة ويزيدون إلى خمسة، فلما لم يحصل منهم الصبر ولا التقوى حيث خالفوا أمر رسول الله ﷺ فحصلت الهزيمة ولم يمدهم الله بالملائكة، لكن الأرجح هو الأول، والله أعلم.

وذلك يوم أحد، ولكن لم يحصل الإمداد بالملائكة يومئذ؛ لقوله تعالى: بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ [سورة آل عمران:125] فلم يصبروا بل فروا فلم يُمَدوا بملك واحد.

وقوله تعالى: يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُسَوِّمِينَ [سورة آل عمران:125] أي: معلَّمين بالسِّيما.

قوله: يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم المدد هو إعطاء الشيء حالاً بعد حال، أو شيئاً بعد شيء.

وقوله -تبارك وتعالى: مُسَوِّمِينَ [سورة آل عمران:125] هذه قراءة متواترة والقراءة الأخرى أيضاً متواترة وهي مسوَّمِين وعلى هذه القراءة الثانية يكون المعنى معلَّمين بعلامات يُعرفون بها، وقد جاء في بعض الروايات عن بعض السلف وليس فيه دليل صريح واضح يجب الوقوف عنده في هذه العلامة والسمة فيما أعلم، فمنهم من يقول: العمائم، بعضهم يقول: صفر، وبعضهم يقول: سود، وبعضهم يقول: بيض، وبعضهم يقول: حمر، وبعضهم يقول غير هذا.

فالمقصود أنه على قراءة مسوَّمِين أي: أنهم قد وضعت لهم علامات، والقراءة الثانية مسوِّمِين، أي قد جعلوا علامات لأنفسهم، فهذا هو الفرق بين مسوَّمين ومسوِّمين.

وقال أبو إسحاق السَّبِيعي عن حارثة بن مضرب، عن علي بن أبي طالب  قال: كان سِيَما الملائكة يوم بدر الصوف الأبيض، وكان سيماهم أيضا في نواصي خيلِهم.

وقال مكحول: مسوَّمين بالعمائم، وكان سيما الملائكة يوم بدر عمائم سود ويوم حنين عمائم حمر.

وروى عن ابن عباس -ا- قال: لم تقاتل الملائكة إلا يوم بدر.

وروى ابن أبي حاتم عن يحيى بن عباد: أن الزبير كان عليه يوم بدر عمامة صفراء مُعْتَجرًا بها فنزلت الملائكة عليهم عمائم صفر.

وجاء في بعض الروايات أنها خضر وفي بعضها أنها حمر أي في وقعة بدر، وهنا في الرواية التي سبقت أنها في يوم بدر عمائم سود، وفي يوم حنين عمائم حمر، وفي بعض الروايات أنها في يوم بدر عمائم حمر، وعلى كل حال هذا كله فيه مثل هذا التفاوت والاختلاف، والمقصود أنه كانت لهم علامة، والله تعالى أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.

  1. أخرجه البخاري في كتاب الأحكام - باب بطانة الإمام وأهل مشورته (6773) (ج 6 / ص 2632).
  2. أخرجه الحاكم (2588) (ج 2 / ص 141) وصححه الألباني في صحيح السيرة.
  3. فقه السيرة للغزالي وصححه الألباني.

مواد ذات صلة