الجمعة 19 / رمضان / 1445 - 29 / مارس 2024
[5] من قول الله تعالى: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ} الآية 12 إلى قوله تعالى: {إِنَّ اللّهَ كَانَ تَوَّابًا رَّحِيمًا} الآية 16.
تاريخ النشر: ٢٥ / شعبان / ١٤٢٦
التحميل: 4213
مرات الإستماع: 2616

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المصنف -رحمه الله تعالى:

وقوله تعالى: وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ [سورة النساء:11] إلى آخره، الأبوان لهما في الميراث أحوال:

أحدها: أن يجتمعا مع الأولاد فيفرض لكل واحد منهما السدس، فإن لم يكن للميت إلا بنت واحدة فرض لها النصف، وللأبوين لكل واحد منهما السدس، وأخذ الأب السدس الآخر بالتعصيب، فيجمع له والحالة هذه بين الفرض والتعصيب.

الحال الثاني: أن ينفرد الأبوان بالميراث، فيفرض للأم والحالة هذه الثلث، ويأخذ الأب الباقي بالتعصيب المحض، ويكون قد أخذ ضعفي ما فرض للأم وهو الثلثان، فلو كان معهما والحالة هذه زوج أو زوجة أخذ الزوج النصف، والزوجة الربع، ثم تأخذ الأم بعد فرض الزوج والزوجة ثلث الباقي في المسألتين؛ لأن الباقي كأنه جميع الميراث بالنسبة إليهما، وقد جعل الله لها نصف ما جعل للأب فتأخذ ثلث الباقي ويأخذ الأب ثلثيه.

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

ما ذكره ابن كثير من كون الأم تأخذ ثلث المال الباقي في الصورة الثانية، هذا الذي عليه عامة أهل العلم، وبهذا الاعتبار يكون نصيب الأب –زوج الأم- غالباً أكثر من نصيب الأم، والعلة ما ذكرناه من أن الرجل ينتظر الزيادة دائماً والمرأة تنتظر النقص دائماً، وخالف في المسألة ابن عباس -ا- إذ يرى أنها تأخذ ثلث المال من أصله، لا ثلث الباقي.

والحال الثالث من أحوال الأبوين: وهو اجتماعهما مع الإخوة، سواء كانوا من الأبوين، أو من الأب، أو من الأم.

كما يدل عليه إطلاق الإخوة في الآية فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ [سورة النساء:11].

فإنهم لا يرثون مع الأب شيئاً، ولكنهم مع ذلك يحجبون الأم عن الثلث إلى السدس.

وهذا ما يسمى بحجب النقصان، وإنما نقص نصيب الأم ليزيد نصيب الأب لكونه صاحب النفقة، ومشاقّ البيت ومتطلباته غالباً تكون على كاهله، فكانت هذه الزيادة في سهمه؛ ليستعين بها على تكاليف من كلف بالقيام على شئونهم، والله أعلم.

فيفرض لها مع وجودهم السدس فإن لم يكن وارث سواها وسوى الأب أخذ الأب الباقي، وحكم الأخوين فيما ذكرناه كحكم الإخوة عند الجمهور.

وبعض أهل العلم ينقل الإجماع على هذا، ولم يخالف في المسألة إلا ابن عباس.

وروى ابن أبي حاتم عن قتادة قوله: فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ [سورة النساء:11] أضروا بالأم ولا يرثون، ولا يحجبها الأخ الواحد من الثلث، ويحجبها ما فوق ذلك، وكان أهل العلم يرون أنهم إنما حجبوا أمهم عن الثلث أن أباهم يلي إنكاحهم ونفقته عليهم دون أمهم، وهذا كلام حسن.

والجد بمنزلة الأب فيحجب الإخوة وهو قول أبي بكر وأبي الدرداء ومعاذ وعائشة –- وكثير من أصحاب النبي ﷺ.

وخالف في هذه المسألة علي بن أبي طالب، وزيد بن ثابت، وجماعة فروا أن الإخوة الأشقاء أو لأب يرثون مع الجد، وهذه المسألة من المسائل القليلة التي اختلف فيها الصحابة .

وقوله: مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ [سورة النساء:11] أجمع العلماء سلفاً وخلفاً أن الديْن مقدم على الوصية، وذلك عند إمعان النظر يفهم من فحوى الآية الكريمة.

وفي قراءة ابن كثير وابن عامر وعاصم بفتح الصاد مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا [سورة النساء:11]، وللعلماء كلام في تقديم الوصية على الديْن في الآية، مع أن الدين في الأصل مقدم على الوصية: 

فبعض أهل العلم يرى أن التقديم بالذكر لا يدل على شيء في الآية؛ لأن المقصود هو التقديم على قسم الميراث، فينظر إلى الوصية والدين الذي على الميت فيخرج ذلك قبل أن يقسم المال على الورثة، ولا اعتبار للترتيب الوارد في الآية.

وقال آخرون: قدمت الوصية؛ لأنها دون الدين، وهي حق لغير الورثة، وعادة ما تكون من حظ الفقراء والمساكين فيخشى أن تضيع أو يفرط بها لانعدام المُطالِب، أما الدين فهو حق ثابت يتعلق بالغير له مطالبين به وعليه حجة غالباً.

وقيل: قدمت الوصية لكثرة وقوعها، فإن غالب من يترك مالاً يوصي، فقدمت لهذا الاعتبار.

وقيل: قدمت الوصية؛ لأنها ناشئة من الميت، بخلاف الدين فهو شيء واقع حاصل ثابت ما ينسى ولا يضيع. وقيل: قدمت الوصية؛ لكونها تُخرج بلا عوض فأشبهت الميراث، والذي يخرج بلا عوض عادة ما تتباطأ النفوس في إيفائه، وتتثاقل الهمم في إخراجه.

فهذه أمور يلتمسها بعض العلماء -رحمهم الله- في سبب تقديم الوصية على الدين، والله أعلم بالصواب.

وقوله: آبَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً [سورة النساء:11] أي: إنما فرضنا للآباء والأبناء وساوينا بين الكل في أصل الميراث، على خلاف ما كان عليه الأمر في الجاهلية، وعلى خلاف ما كان عليه الأمر في ابتداء الإسلام من كون المال للولد، وللوالدين الوصية كما تقدم عن ابن عباس -ا، إنما نسخ الله ذلك إلى هذا ففرض لهؤلاء ولهؤلاء بحسبهم؛ لأن الإنسان قد يأتيه النفع -الدنيوي أو الأخروي أو هما- من أبيه ما لا يأتيه من ابنه، وقد يكون بالعكس، ولهذا قال: آبَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً أي: كأن النفع متوقع ومرجو من هذا، كما هو متوقع ومرجو من الآخر، فلهذا فرضنا لهذا ولهذا، وساوينا بين القسمين في أصل الميراث، والله أعلم.

فلا يدرى الإنسان من هو أقرب له نفعاً في الدنيا والآخرة الآباء أو الأبناء؟ فقد ينفعه أحدهما أكثر من الآخر والعكس محتمل، فربما يكون الولد هو من ينفع الأب، وربما يكون الولد هو المنتفع من الأب كما قال سبحانه: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا [سورة الطور:21]، وبناء على ذلك فإن الله قد فرض في الميراث لهؤلاء وهؤلاء جميعاً.

وقوله: فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ أي: هذا الذي ذكرناه من تفصيل الميراث وإعطاء بعض الورثة أكثر من بعض، هو فرض من الله حكم به وقضاه.

وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ الذي يضع الأشياء في محالها، ويعطي كلاً ما يستحقه بحسبه، ولهذا قال: إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيما حَكِيمًا.

وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّهُنَّ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّكُمْ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُم مِّن بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلاَلَةً أَو امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ فَإِن كَانُوَاْ أَكْثَرَ مِن ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاء فِي الثُّلُثِ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَآ أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَآرٍّ وَصِيَّةً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ [سورة النساء:12].

يقول تعالى: ولكم أيها الرجال نصف ما ترك أزواجكم إذا متن عن غير ولد.

وإن نزل، كولد الولد، وابن الابن حكمه حكم الولد.

فَإِن كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ  وقد تقدم أن الدين مقدم على الوصية، وبعده الوصية، ثم الميراث، وهذا أمر مجمع عليه بين العلماء، وحكم أولاد البنين وإن سفلوا حكم أولاد الصلب.

ثم قال: وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ [سورة النساء:12] إلى آخره، وسواء في الربع أو الثمن الزوجة والزوجتان، الاثنتان والثلاث والأربع يشتركن فيه.

وقوله: مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ إلى آخر الكلام عليه كما تقدم.

وقوله تعالى: وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلاَلَةً [سورة النساء:12]

أشهر ما قيل في إعراب الكلالة أنها منصوبة على الحال، أي حال كونه ذا كلالة.

الكلالة: مشتقة من الإكليل، وهو الذي يحيط بالرأس من جوانبه.

والمراد هنا من يرثه من حواشيه، لا أصوله ولا فروعه كما روى الشعبي عن أبي بكر الصديق -: أنه سئل عن الكلالة فقال: أقول فيها برأيي فإن يكن صواباً فمن الله، وإن يكن خطأً فمني ومن الشيطان، والله ورسوله بريئان منه، الكلالة: من لا ولد له ولا والد، فلما ولي عمر قال: إني أستحي أن أخالف أبا بكر في رأي رآه، رواه ابن جرير وغيره.

وروى ابن أبي حاتم في تفسيره عن ابن عباس -ا- قال: كنت آخر الناس عهداً بعمر بن الخطاب، فسمعته يقول: القول ما قلت، فقلت: وما قلت؟ قال: الكلالة: من لا ولد له ولا والد.

وهكذا قال علي بن أبي طالب وابن مسعود -ا، وصح من غير وجه عن ابن عباس، وزيد بن ثابت -، وبه يقول الشعبي، والنخعي، والحسن البصري، وقتادة، وجابر بن زيد، والحكم، وبه يقول أهل المدينة، وأهل الكوفة والبصرة، وهو قول الفقهاء السبعة، والأئمة الأربعة، وجمهور السلف والخلف بل جميعهم، وقد حكى الإجماع على ذلك غير واحد.

وقالت طائفة: الكلالة اسم للميت نفسه الذي لا ولد له ولا والد.

وقيل: تطلق على هؤلاء الوارثين بهذه المثابة، يعني الحواشي.

وقيل: تطلق الكلالة على نفس المال الذي يعطى لهؤلاء الحواشي.

والصواب: أن أحسن ما تفسر به الكلالة، وأشهر ما قيل في معناها هو ما نقله الحافظ ابن كثير، واشتقاق الكلالة من الإكليل الذي يحيط بالرأس ولا يعلو عليه، فكأن الورثة ما عدا الولد والوالد قد أحاطوا بالميت من حوله لا من طرفيه أعلاه وأسفله كإحاطة الإكليل بالرأس، وأما الوالد والولد فهما طرفا الرجل فإذا ذهبا كان بقية النسب كلالة.

والإطالة في معرفة تفاصيل هذه المسألة يعتبر من فضول العلم، وفي أحسن أحواله من ملح العلم، فلا يحسن أن ينشغل العبد به.

وقوله تعالى: وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ [سورة النساء:12] أي: من أم كما هو في قراءة بعض السلف منهم سعد بن أبي وقاص -، وكذا فسرها أبو بكر الصديق فيما رواه قتادة عنه، فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ فَإِن كَانُوَاْ أَكْثَرَ مِن ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاء فِي الثُّلُثِ [سورة النساء:12].

والإجماع قائم على ذلك.

وإخوة الأم يخالفون بقية الورثة من وجوه:

أحدها: أنهم يرثون مع من أدلوا به، وهي الأم.

فخالفوا القاعدة المطردة أن من أدلى بواسطة لا يرث معه.

الثاني: أن ذكورهم وإناثهم في الميراث سواء.

فلا يقسم لهم الميراث جرياً على القاعدة العامة في الفرائض أن للذكر مثل حظ الأنثيين، وهذا بالإجماع.

الثالث: أنهم لا يرثون إلا إذا كان ميتهم يورث كلالة، فلا يرثون مع أب، ولا جد، ولا ولد، ولا ولد ابن.

فما زاد على الفروض يأخذوه تعصيباً، بينما الأم إذا وجدت مع أخ واحد فإنها تأخذ الثلث، وإذا وجدت مع مجموعة من الإخوة فإنها تأخذ السدس، ولا تأخذ بقية المال مثل الأب في هذا، وكذلك إذا وجد الابن فإنه يأخذ الباقي تعصيباً، يعني بعد الفروض.

الرابع: أنهم لا يزادون على الثلث وإن كثر ذكورهم وإناثهم.

وقوله: مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَآ أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَآرٍّ أي: لتكون وصيته على العدل، لا على الإضرار والجور والحيف، بأن يحرم بعض الورثة أو ينقصه أو يزيده على ما قدر الله له من الفريضة.

ويدخل في المنع من نفاذ الوصية ما إذا أوصى بالثلث أو دونه بقصد المضارة، بأن صرح لبعض الناس بذلك فلا تنفذ وصيته.

فمتى سعى في ذلك كان كمن ضاد الله في حكمته وقسمته، وقد ثبت في الحديث الصحيح أن رسول الله ﷺ قال: إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث[1].

والملاحظ أن الآية لما ذكرت ميراث الآباء والأبناء لم تتطرق إلى مسألة المضارة، ولعل علة ذلك راجعة كما ذكر الحافظ ابن القيم -رحمه الله- إلى أن قصد المضارة قليل الورود في ميراث الآباء والأبناء، بخلاف الورثة من الحواشي فإنها كثيرة الوقوع معهم، والله أعلم.

تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيم ۝ وَمَن يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِين [سورة النساء:13-14].

أي: هذه الفرائض والمقادير التي جعلها الله للورثة بحسب قربهم من الميت واحتياجهم إليه، وفقدهم له عند عدمه هي حدود الله فلا تعتدوها ولا تجاوزوها، ولهذا قال: وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ أي: فيها، فلم يُزد بعض الورثة ولم يُنقص بعضاً بحيلة ووسيلة، بل تركهم على حكم الله وفريضته وقسمته يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيم [سورة النساء:13].

وَمَن يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِين [سورة النساء:14] أي: لكونه غيّر ما حكم الله به وضاد الله في حكمه، وهذا إنما يصدر عن عدم الرضا بما قسم الله وحكم به، ولهذا يجازيه بالإهانة في العذاب الأليم المقيم.

روى الإمام أحمد عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: إن الرجل ليعمل بعمل أهل الخير سبعين سنة فإذا أوصى حاف في وصيته، فيختم له بشر عمله فيدخل النار، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الشر سبعين سنة، فيعدل في وصيته فيختم له بخير عمله فيدخل الجنة[2]، قال: ثم يقول أبو هريرة: اقرءوا إن شئتم: تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ إلى قوله: عَذَابٌ مُّهِينٌ.

وروى أبو داود في باب الإضرار في الوصية من سننه، عن أبي هريرة -: أن رسول الله ﷺ قال: إن الرجل ليعمل أو المرأة بطاعة الله ستين سنة ثم يحضرهما الموت فيضاران في الوصية فتجب لهما النار[3] وقال: قرأ عليّ أبو هريرة من هاهنا: مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَآ أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَآرٍّ حتى بلغ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيم [سورة النساء:13]، وهكذا رواه الترمذي وابن ماجه، وقال الترمذي: حسن غريب. وسياق الإمام أحمد أتم وأكمل.

الحديث بهذا السياق مداره على شهر بن حوشب وفيه ضعف، لكن أصل الحديث في الخواتيم ثابت معروف ونصه: إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى لا يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها... [4] إلى آخره.

وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نِّسَآئِكُمْ فَاسْتَشْهِدُواْ عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً مِّنكُمْ فَإِن شَهِدُواْ فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّىَ يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً ۝ وَاللَّذَانَ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِن تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمَا إِنَّ اللّهَ كَانَ تَوَّابًا رَّحِيمًا [سورة النساء:16]، كان الحكم في ابتداء الإسلام أن المرأة إذا زنت فثبت زناها بالبينة العادلة حبست في بيت فلا تمكن من الخروج منه إلى أن تموت، ولهذا قال: وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن [سورة النساء:15]: يعني الزنا، مِن نِّسَآئِكُمْ فَاسْتَشْهِدُواْ عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً مِّنكُمْ فَإِن شَهِدُواْ فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّىَ يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً، فالسبيل الذي جعله الله هو الناسخ لذلك.

هذا المثال مما يستشهد به الأصوليون عند الكلام على مسألة المغيَّى بغاية، هل هو نسخ أو لا؟ ومعلوم أن الغاية تنقسم إلى قسمين:

الأول: غاية محددة بحد، ويضرب لها الأصوليون أمثلة افتراضية مثل لو قال: افعلوا كذا إلى نهاية الشهر، افعلوا كذا إلى نهاية الأسبوع، فإذا انتهى الأسبوع فإنهم لا يطالبون بفعله فلا يكون هذا من قبيل النسخ إجماعاً.

الثاني: غاية غير محددة ”مجهولة أو مجملة“، ومثالها المشهور هذه الآية: وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نِّسَآئِكُمْ فَاسْتَشْهِدُواْ عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً مِّنكُمْ فَإِن شَهِدُواْ فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّىَ يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً، وقد جاء في قوله ﷺ: خذوا عني، خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلاً، البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب الرجم[5]، وكذلك آية الرجم التي نسخ لفظها وبقي حكمها، فهل هذا مبين للسبيل الذي ذكره الله ، أو أنه من قبيل النسخ بالحكم السابق؟ 

فالجواب أن يقال: سواء قلنا إن هذا الحكم نسخ أو أنه من قبيل المغيَّى بغاية فلا ضير؛ لأن الحكم الثابت أن البكر تجلد مائة وتغرب عاماً، وأن الثيب ترجم، فلا حاجة للجدل الطويل الذي يذكره بعض الأصوليين عند الكلام على هذه الآية، والله أعلم.

قال ابن عباس -ا: كان الحكم كذلك حتى أنزل الله سورة النور فنسخها بالجلد أو الرجم.

وكذا روي عن عكرمة وسعيد بن جبير والحسن وعطاء الخرساني وأبي صالح وقتادة وزيد بن أسلم والضحاك: أنها منسوخة، وهو أمر متفق عليه.

روى الإمام أحمد عن عبادة بن الصامت قال: كان رسول الله ﷺ إذا نزل عليه الوحي أثّر عليه، وكرب لذلك، وتربّد وجهه، فأنزل الله ذات يوم، فلما سُرِّي عنه قال: خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلاً الثيب بالثيب، والبكر بالبكر، الثيب جلد مائة ورجم بالحجارة، والبكر جلد مائة ثم نفي سنة[6]، وقد رواه مسلم وأصحاب السنن من طرق عن عبادة بن الصامت عن النبي ﷺ، ولفظه: خذوا عني خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلاً البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم[7]، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.

وقوله تعالى: وَاللَّذَانَ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَآذُوهُمَا [سورة النساء:16] أي: واللذان يأتيان الفاحشة فآذوهما.

اختلف أهل التأويل في المراد بقوله سبحانه: وَاللَّذَانَ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَآذُوهُمَا [سورة النساء:16]، على أقوال:

فقيل: المقصود بها فاحشة اللواط، أخذاً من صيغة التذكير في الآية، وهذا القول فيه بعد.

وقيل: وَاللَّذَانَ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَآذُوهُمَا [سورة النساء:16] أي: الرجل والمرأة، وإنما عبر بصيغة التذكير تغليباً للذكور على الإناث كما هي العادة، وهذا أيضاً لا يخلو من إشكال وبعد؛ لأن الله قال قبلها: وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نِّسَآئِكُمْ فَاسْتَشْهِدُواْ عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً مِّنكُمْ فَإِن شَهِدُواْ فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّىَ يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً [سورة النساء:15] فذكر حكم المرأة دون أن يتطرق إلى سواهن.

وقال بعضهم: إن الآية الأولى في النساء المحصنات فإنهن يمسكن في البيوت؛ لأن جريمتهن أشد، ولذا كانت عقوبتهن أكثر من مجرد الأذى، والثانية في الرجل والمرأة غير المحصنين فإنهما يؤذيان بالشتم والتوبيخ والزجر الشديد، وهذا اختاره كبير المفسرين ابن جرير الطبري -رحمه الله- وفيه بعد، وذلك أنه لم تجرِ العادة بتغليب الإناث على الذكور.

وقال بعضهم: إن الآية الأولى في النساء خاصة محصنات وغير المحصنات، بدلالة صيغة التأنيث في الآية، والآية الأخرى وردت في الرجال بصنفيهم المحصنين وغير المحصنين. 

والمحصن: هو من وطء في نكاح صحيح، يعني بلا شبهة زنا أو نحوه، وهذه القول رجحه جماعة، كالنحاس، واستحسنه القرطبي في الجامع لأحكام القرآن، وغير هؤلاء كثير، وهو أقرب هذه الأقوال، ويليه في القوة قول من قال: إن الآية الأولى مختصة بالنساء؛ لأنهن يحبسن، والثانية في الرجال والنساء؛ لأنهم يشتركون في الأذى، وعبر بصيغة الذكور تغليباً كما جرت العادة بتغليب الذكور على الإناث، والله أعلم.

فَآذُوهُمَا قال ابن عباس -ا- وسعيد بن جبير وغيرهما: أي بالشتم والتعيير والضرب بالنعال، وكان الحكم كذلك حتى نسخه الله بالجلد أو الرجم، وقال مجاهد: نزلت في الرجلين إذا فعلا -لا يكني وكأنه يريد اللواط، والله أعلم.

وقد روى أهل السنن عن ابن عباس -ا- قال: قال رسول الله ﷺ: من رأيتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به[8] .

هذا حكم الله فيمن ارتكب جريمة اللواط.

وقوله: فَإِن تَابَا وَأَصْلَحَا [سورة النساء:16] أي: أقلعا ونزعا عما كانا عليه وصلحت أعمالهما وحسنت، فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمَا أي: لا تعنفوهما بكلام قبيح بعد ذلك؛ لأن التائب من الذنب كمن لا ذنب له إِنَّ اللّهَ كَانَ تَوَّابًا رَّحِيمًا [سورة النساء:16].

وقد ثبت في الصحيحين: إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها الحد ولا يُثرِّب عليها[9] أي: ثم لا يعيرها بما صنعت بعد الحد، الذي هو كفارة لما صنعت.

والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه وآله وصحبه.

  1. رواه أبو داود برقم (2872) (3/73)، والترمذي برقم (2121) (4/434)، والنسائي برقم (3641) (6/247)، وابن ماجه برقم (2713) (2/905)، وصححه الألباني في صحيح وضعيف الجامع الصغير برقم (2600).
  2. رواه ابن ماجه برقم (2704) (2/902)، وأحمد برقم (7728) (2/278)، وضعفه الألباني في صحيح وضعيف الجامع الصغير برقم (3382).
  3. رواه أبو داود برقم (2869) (3/72)، والترمذي برقم (2117) (4/431)، وضعفه الألباني في صحيح وضعيف سنن أبي داود برقم (2867).
  4. رواه البخاري في كتاب الأنبياء – باب قول الله تعالى: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً [سورة البقرة:30] برقم (3154) (3/1212)، ومسلم في كتاب القدر– باب كيفية الخلق الآدمي في بطن أمه وكتابة رزقه وأجله وعمله وشقاوته وسعادته برقم (2643) (4/2036).
  5. رواه مسلم في كتاب الحدود – باب حد الزنى برقم (1690) (3/1316).
  6. رواه أحمد في مسنده برقم (22767) (5/318)، قال شعيب الأرنؤوط: إسناده صحيح على شرط مسلم رجاله ثقات رجال الشيخين غير حطان بن عبد الله فمن رجال مسلم.
  7. رواه مسلم في كتاب الحدود – باب حد الزنا برقم (1690) (3/1316).
  8. رواه أبو داود برقم (4464) (4/269)، والترمذي برقم (1456) (4/57)، وابن ماجه برقم (2561) (2/856)، وصححه الألباني في صحيح وضعيف الجامع الصغير برقم (2422).
  9. رواه البخاري في كتاب البيوع – باب بيع المدبر برقم (2119) (2/777)، ومسلم في كتاب الحدود – باب رجم اليهود أهل الذمة في الزنى برقم (1703) (3/1328).

مواد ذات صلة