الجمعة 19 / رمضان / 1445 - 29 / مارس 2024
[16] من قول الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ} الآية 44 إلى قوله تعالى: {فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً} الآية 46
تاريخ النشر: ١٨ / شوّال / ١٤٢٦
التحميل: 3277
مرات الإستماع: 2384

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المفسر -رحمه الله تعالى:

وهذه الأمة مختصة بمشروعية التيمم دون سائر الأمم كما ثبت في الصحيحين عن جابر بن عبد الله -ا- قال: قال رسول الله ﷺ: أعطيت خمسًا لم يعطهن أحد قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصلِّ وفي لفظ: فعنده طهوره ومسجده[1]وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه وبعثت إلى الناس عامة[2].

وتقدم في حديث حذيفة عند مسلم: فضلنا على الناس بثلاث: جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة، وجعلت لنا الأرض مسجدًا وتربتها طهورًا إذا لم نجد الماء[3].

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فيقول ﷺ: أعطيت خمسًا وفي الحديث الآخر: فضلنا على الناس بثلاث وفي بعض الأحاديث غير ذلك، وكل ذلك لا يدل على الحصر -وإنما تذكر هذه الأحاديث جملة من الخصال التي اختص الله بها نبيه ﷺ أو هذه الأمة- فهي كثيرة جدًا، وقد ذكر الحافظ ابن حجر -رحمه الله- في الفتح سبع عشرة خصلة، وبعضهم ذكر ستين خصلة، وبعض المتأخرين أوصل ذلك إلى ثلاثمائة أو أكثر، وعلى كل حال هذه الأحاديث لا تدل على الحصر.

وقوله ﷺ: أعطيت خمسًا لم يعطهن أحد قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر.. إن قيل: هل الأنبياء قبله نصروا بالرعب بأقل من ذلك؟ يقال: هذا يحتمله هذا اللفظ كما أنه قد يُفهم من بعض الأحاديث الأخرى أن ذلك يختص به مطلقًا فيما بلغ ذلك أو ما كان دونه.

وذكر الشهر قد يكون -كما يقول بعضهم- لأن أبعد عدو في ذلك الوقت عن النبي ﷺ كان يبلغ مسيرة شهر، يعني في الشام.

وقوله –عليه الصلاة والسلام: وجعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا هل هذه قضية واحدة أم قضيتان؟ يعني هل كان السابقون يصلون في كل مكان أم أنهم لم يكونوا يصلون إلا في كنائسهم التي أعدت للعبادة؟

الثاني هو الأقرب، وإذا كان كذلك صارت الخصال في هذا الحديث ستًا إلا إذا قيل: الشرط والمشروط –أي الطهارة والصلاة- شيء واحد، فبهذا الاعتبار تكون خمسًا.

وقوله: أحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي لا شك أنه لم يحل للمتقدمين لا القليل ولا الكثير، فقد كانت تأتي نارٌ فتحرق الغنيمة.

وقوله: وأعطيت الشفاعة الشفاعة أنواع فمنها ما هو مختص بالنبي ﷺ وهي الشفاعة العظمى، ومنها شفاعته لعمه أبي طالب، وأما بقية الأنواع فيشترك فيها النبي ﷺ مع غيره، مثل إخراج أهل الكبائر ومن استوجب النار أن لا يدخلها، إلى آخره.

وأما عموم البعثة فهذا الحديث يدل عليه، ولا يشكل على هذا أن نوحًا -عليه الصلاة والسلام- بعث إلى جميع من في الأرض فأغرقهم الله بعد أن قال: رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا [سورة نوح:26] ولا يحتاج في هذا أن يقال: لعل نبيًا بعث إلى قوم آخرين في زمن نوح -عليه الصلاة والسلام- وأن ذلك لم ينقل فظاهر النصوص يدل على أن الله قد أهلك أهل الأرض فلم يبق منهم أحد، ولهذا قال: وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمْ الْبَاقِينَ [سورة الصافات:77] فما بقي إلا من كان مع نوح، ولهذا يقول الله : ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ [سورة الإسراء:3] ويقول: وَآيَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ [سورة يــس:41] يعني أنه أطلق اسم الذرية على الآباء، فلا يحتاج مثل هذا إلى تكلف في الجواب، والله أعلم. 

وإنما يمكن أن يقال فيه: إن قوم نوح -عليه الصلاة والسلام- الذين بعث إليهم وأهلكهم الله كانوا قومه، فما كان الناس كما كانوا في زمن النبي ﷺ أممًا كثيرة، وإنما كانوا قلة بالنسبة لعهد النبي ﷺ أو لعصرنا هذا، فنوح أول رسول بعث إلى من وجد من الناس في ذلك الوقت وهم قومه فكل من كان موجودًا هم قوم نوح -عليه الصلاة والسلام، ثم بعد ذلك لما دعاهم وأصروا على الكفر، وذكر الله عبادتهم وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا [سورة نوح:23] وأن هؤلاء كانوا من الصالحين في قوم نوح، فهم كانوا أمة واحدة لها معبودات ولها تاريخ واحد ولها قدواتها، وما كانوا أممًا لقلة الناس في ذلك الوقت بالنسبة لمن بعدهم فأهلكهم الله فالمقصود أن هذا لا يشكل على الحديث في أن النبي ﷺ بُعث إلى الأحمر والأسود، والله أعلم.

وقال تعالى في هذه الآية الكريمة: فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا [سورة النساء:43] أي: ومن عفوه عنكم وغفرانه لكم أن شرع التيمم وأباح لكم فعل الصلاة به إذا فقدتم الماء توسعة عليكم ورخصة لكم، وذلك أن هذه الآية الكريمة فيها تنزيه الصلاة أن تفعل على هيئة ناقصة من سكر حتى يصحو المكلف ويعقل ما يقول، أو جنابة حتى يغتسل، أو حدث حتى يتوضأ إلا أن يكون مريضًا أو عادمًا للماء فإن الله قد أرخص في التيمم والحالة هذه رحمة بعباده ورأفة بهم وتوسعة عليهم، ولله الحمد والمنة.

ذكر سبب نزول مشروعية التيمم:

روى البخاري عن عائشة -ا- قالت: خرجنا مع رسول الله ﷺ في بعض أسفاره حتى إذا كنا بالبيداء -أو بذات الجيش- انقطع عقد لي، فأقام رسول الله ﷺ على التماسه وأقام الناس معه وليسوا على ماء وليس معهم ماء فأتى الناس إلى أبي بكر فقالوا: ألا ترى إلى ما صنعت عائشة؟ أقامت برسول الله ﷺ وبالناس وليسوا على ماء وليس معهم ماء! فجاء أبو بكر ورسول الله ﷺ واضع رأسه على فخذي قد نام فقال: حبست رسول الله ﷺ والناس وليسوا على ماء وليس معهم ماء؟! قالت عائشة: فعاتبني أبو بكر وقال ما شاء الله أن يقول، وجعل يطعن بيده في خاصرتي، ولا يمنعني من التحرك إلا مكان رسول الله ﷺ على فخذي، فقام رسول الله ﷺ حين أصبح على غير ماء فأنزل الله آية التيمم فتيمموا، فقال أسيد بن الحضير -: ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر، قالت: "فبعثنا البعير الذي كنت عليه فوجدنا العقد تحته" وقد رواه البخاري ومسلم[4].

هذه الآية من سورة النساء قبل آية المائدة، ومعلوم أن آية المائدة من آخر ما نزل، وهذه الآية التي في سورة النساء كانت في تلك الوقعة إذ نزلت عند بلوغ النبي ﷺ في مقفله من غزوته -عليه الصلاة والسلام- حين بلغ ذات الجيش وهي ناحية قريبة من المدينة أو البيداء وهذه الآية ذكرت صفة الوضوء، والوضوء كان ولا شك قبل نزول هذه الآية بوقت كثير، ولذلك فهذا يمثل به العلماء -رحمهم الله- على ما نزل من الآيات بعد شرع الحكم، فمن القرآن ما ينزل قبل شرع الحكم أو قبل وقوع مقتضاه أو نحو ذلك ولا يقصد بالحكم الحلال والحرام كقوله تعالى: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ [سورة القمر:45] فهذه نزلت في مكة ورددها النبي ﷺ في المدينة لما نصره الله في يوم بدر، ومن أمثلة ذلك -على قول بعض المفسرين- قوله تعالى: فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ [سورة الكوثر:2] فهي مكية ومع ذلك قال بعض المفسرين: يعني صلاة العيد ونحر الأضاحي، وصلاة العيد والأضاحي إنما شرعت بعد ذلك، وعلى كل حال هذا قول مرجوح لكن المقصود هنا التمثيل.

 ومن أمثلة ذلك أيضًا قوله تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى ۝ وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى [سورة الأعلى:14-15] فهي مكية ومع ذلك قال بعض المفسرين في قوله: قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى [سورة الأعلى:14] أي: أخرج زكاة الفطر، وقوله: وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى [سورة الأعلى:15] أي: الذكر والتكبير في العيد ثم صلاة العيد مع أنه لم يكن هناك صلاة عيد ولا زكاة فطر في مكة، وهكذا توجد أمثلة معروفة في ذلك تتفاوت في قوتها.

ومن القرآن ما ينزل مع شرع الحكم وهذا هو الغالب مثل آية التيمم، ومنه ما ينزل بعد شرع الحكم مثل هذه الآية التي تتعلق بالوضوء، فالوضوء كان بمكة وهذه الآية نزلت في المدينة فتأخر نزول الآية التي تتحدث عن الوضوء مع أنه كان مشروعًا قبل ذلك.

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلاَلَةَ وَيُرِيدُونَ أَن تَضِلُّواْ السَّبِيلَ ۝ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللّهِ نَصِيرًا ۝ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِن لَّعَنَهُمُ اللّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلًا [سورة النساء:44-46].

يخبر تعالى عن اليهود -عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة- أنهم يشترون الضلالة بالهدى ويعرضون عما أنزل الله على رسوله ويتركون ما بأيديهم من العلم عن الأنبياء الأولين في صفة محمد ﷺ ليشتروا به ثمنًا قليلًا من حطام الدنيا.

وَيُرِيدُونَ أَن تَضِلُّواْ السَّبِيلَ [سورة النساء:44] أي: يودون لو تكفرون بما أنزل عليكم أيها المؤمنون وتتركون ما أنتم عليه من الهدى والعلم النافع، وَاللّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ [سورة النساء:45] أي: هو يعلم بهم ويحذركم منهم.

وَكَفَى بِاللّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللّهِ نَصِيرًا [سورة النساء:45] أي: كفى به وليًا لمن لجأ إليه ونصيرًا لمن استنصره.

 ثم قال تعالى: مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ [سورة النساء:46] "مِن" في هذا لبيان الجنس كقوله: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ [سورة الحـج:30].

إذا كانت لبيان الجنس فمعنى هذا أن "مِن" في قوله: مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ ليست تبعيضية، ومعنى أنها لبيان الجنس أنه يبين حقيقة اليهود وأن ذلك ليس مختصًا ببعضهم، أما إذا قلنا" إنها تبعيضية، فيكون ذلك في طائفة منهم فحسب وليس في كلهم.

وقوله في هذه الآية: مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ [سورة النساء:46] إذا قلنا: إن هذا يتعلق بما ذكر قبله مباشرة فيكون المعنى وكفى بالله وليًا وكفى بالله نصيرًا من الذين هادوا أي ناصرًا للمؤمنين من اليهود فهذا احتمال، ويحتمل أن يكون ذلك عائدًا إلى ما ذكر قبله من قوله: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ [سورة النساء:44] ثم ذكر أوصافهم أنهم يشترون الضلالة ويريدون أن تضلوا السبيل ويحرفون الكلم عن مواضعه.

ويحتمل أن تكون جملة جديدة تبين حقيقة من حقائق اليهود حيث ذكر الله أولًا أنهم يشترون الضلالة ويريدون أن تضلوا السبيل، ثم قال: من الذين هادوا قوم يحرفون الكلم عن مواضعه.

ويمكن أن يكون المعنى مِن الذين هادوا مَن يحرفون الكلم عن مواضعه، أي أن "مِن" تكون تبعيضية على هذا القول، وابن جرير -رحمه الله- يرجح أنها تعود إلى قوله: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ [سورة النساء:44] أي أن الذين أوتوا الكتاب هم الذين هادوا، يعني اليهود.

وقوله: يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ [سورة النساء:46] أي: يتأولون الكلام على غير تأويله ويفسرونه بغير مراد الله قصدًا منهم وافتراء.

هذا باعتبار أن التحريف معنوي، وعلى هذا لا يكون ذلك مختصًا باليهود بل وقع هذا أيضًا في هذه الأمة ويقع كثيرًا ولا زال يقع من خلال حمل الآيات على غير محملها لتعصب مذهبي أو لبدعة أو لهوى أو لغير ذلك، وهذا كثير جدًا.

وإذا كان المراد التحريف اللفظي فهذا وقع لليهود ولم يقع لهذه الأمة، والله يقول: وَمَا قَدَرُواْ اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاء بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِّلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُم مَّا لَمْ تَعْلَمُواْ أَنتُمْ وَلاَ آبَاؤُكُمْ قُلِ اللّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ [سورة الأنعام:91].

والأقرب -والله تعالى أعلم- أن اليهود وقعوا في ذلك جميعًا، فهم وقعوا في التحريف اللفظي وفي التحريف المعنوي، والنُّسَخ الموجودة من كتابهم الذي يسمونه بالكتاب المقدس تدل على هذا دلالة واضحة.

وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا [سورة النساء:46] أي: يقولون سمعنا ما قلته يا محمد ولا نطيعك فيه، هكذا فسره مجاهد وابن زيد وهو المراد، وهذا أبلغ في كفرهم وعنادهم وأنهم يتولون عن كتاب الله بعد ما عقلوه وهم يعلمون ما عليهم في ذلك من الإثم والعقوبة.

وقوله: وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ [سورة النساء:46] أي: اسمع ما نقول لا سمعت، رواه الضحاك عن ابن عباس -ا- وهذا استهزاء منهم واستهتار -عليهم لعنة الله.

وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ [سورة النساء:46] يحتمل أن يكون المعنى اسمع حال كونك غير مسمع، وهذا يحتمل أن يكون قصدوا به الدعاء على النبي ﷺ أي اسمع لا سمعت كما قال ابن كثير -رحمه الله- وهو اختيار ابن جرير أيضًا، وهذا من شدة استهزائهم بالنبي ﷺ وقولهم هذا كقول إنسان لآخر: اسمع أصابك الله بالصمم.

وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ [سورة النساء:46] أي: يوهمون أنهم يقولون: راعنا سمعك بقولهم: "راعنا" وإنما يريدون الرعونة بسبهم النبي ﷺ وقد تقدم الكلام في هذا عند قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا [سورة البقرة:104].

لفظة راعنا تحتمل معنى أمهلنا أي لا تعجل علينا أو انظرنا، وهذا معنى لا إشكال فيه، وتحتمل معنى الرعونة وهي الجفاء والغلظة وما إلى ذلك من المعاني المقاربة، تقول: فلان أرعن، يعني لا يحسن التصرف، فهم كانوا يقولون: راعنا، فلما كانت اللفظة تحتمل وصف النبي ﷺ بالرعونة وتحتمل أن يكون المراد بها طلب الإمهال والإنظار نهى الله عنها؛ لأنهم كانوا يقصدون بها المعنى السيئ، فقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا [سورة البقرة:104] فجاء بكلمة بديلة لا تحتمل الباطل، ولما قالوا سمعنا وعصينا، قال: وَاسْمَعُواْ [سورة البقرة:93] أي سماع إجابة وقبول.

قوله: لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ [سورة النساء:46] اللَّي أصله الفتل، فهم يطلقون العبارات الموهمة ويقصدون بها المعاني الباطلة تلاعبًا بالألفاظ كما في قولهم: السام عليك، يوهمون أنهم أرادوا السلام، ولهذا يؤخذ من هذه الآية -كما هو معروف- أن الإنسان لا يتكلم بالعبارات الموهمة التي تحتمل معانيَ صحيحة ومعانيَ باطلة لا في الاعتقاد ولا في غيره. 

والناس كثيرًا ما يسألون عن بعض الكلمات وبعض العبارات التي قد يكتبونها في بطاقات أو في أشعار أو نحو ذلك وتحتمل معنىً صحيحًا ومعنىً باطلًا، ولذلك لما كان الناس لا يفهمون أنه إذا أريد بها كذا فهي كذا لأنها تحتمل كذا كان المطلوب من الإنسان عدم التعبير إلا بالعبارات الصحيحة الواضحة التي لا تحتمل المعاني الباطلة؛ فهذا الأصل لا يحوج الناس إلى أن يتكلفوا في حمل كلامه على المعنى الطيب الصحيح.

ولهذا قال تعالى عن هؤلاء اليهود الذين يريدون بكلامهم خلاف ما يظهرونه: لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ [سورة النساء:46] يعني: بسبهم النبي ﷺ.

قوله تعالى: وَطَعْنًا فِي الدِّينِ [سورة النساء:46] أي: بسبهم النبي ﷺ وهذا المعنى لا يتنافى مع قول من قال: إن معنى وَطَعْنًا فِي الدِّينِ أي أنهم يقولون: لو كان نبيًا لعلم أنا نسبه، فإذًا هو ليس بنبي، وهذا مثل ما جاء في قوله -تبارك وتعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى [سورة المجادلة:8] فمن أشهر الأقوال فيها أنهم اليهود، وقيل: الآية في المنافقين لكن يوجد في الآية قرينة ترجح أن المراد اليهود إذ يقول تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ [سورة المجادلة:8] ثم قال بعد ذلك: وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ [سورة المجادلة:8] فهذه يفعلها اليهود، والقرينة التي تدل على أن المراد اليهود أنهم كانوا إذا جاءوا إلى النبي ﷺ يقولون: السام عليك[5].

ثم قال بعد ذلك: وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ [سورة المجادلة:8] هذه الجملة تحتمل أن يكون المعنى أن الإنسان يقول ذلك في قرارة نفسه وتحتمل أن تكون بمعنى أنهم يقولون ذلك فيما بينهم إذا خلوا وانفردوا فيتحدثون سرًا ويقولون في أنفسهم لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ [سورة المجادلة:8] وهذه الجملة تحتمل معنيين أيضًا، الأول: لولا يعذبنا الله بما نقول، بكونه يقول: وعليكم، فلو كان نبيًا لاستجيب له فلما لم يستجب له دل على أنه غير نبي.

الثاني: أنهم يقولون: لو كان كذلك لعذبنا الله ؛ لكونه نبيًا فلما لم يعذبنا دل على أن نبوته غير صحيحة.

وقوله تعالى: وَطَعْنًا فِي الدِّينِ [سورة النساء:46] باعتبار أنهم يسبون النبي ﷺ ومن سب النبي ﷺ فهذا من أعظم الطعن في الدين، أو باعتبار أنهم يقولون: لو كان نبيًا لعذبنا الله بسبنا له؛ لكونه نبيًا، فلما لم يعذبنا دلَّ ذلك على أنه غير نبي، أو لَعَلم أنا نسبه فلما لم يعلم دل ذلك على أنه غير نبي.

ثم قال تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِن لَّعَنَهُمُ اللّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلًا [سورة النساء:46] أي: قلوبهم مطرودة عن الخير مبعدة منه فلا يدخلها من الإيمان شيء نافع لهم، وقد تقدم الكلام على قوله تعالى: فَقَلِيلًا مَّا يُؤْمِنُونَ [سورة البقرة:88] والمقصود: أنهم لا يؤمنون إيمانًا نافعًا.

هم يؤمنون ببعض الكتب، ويؤمنون ببعض الرسل، ويؤمنون بما يوافق أهواءهم، ويكفرون بما وراء ذلك، وهذا إيمان لا ينفع صاحبه.

والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.

  1. لفظ أحمد (22190) (ج 5 / ص 248) وإسناده حسن.
  2. أخرجه البخاري في أبواب المساجد - باب قول النبي ﷺ: جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً (427) (ج 1 / ص 168) ومسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة (521) (ج 1 / ص 370) واللفظ للبخاري.
  3. أخرجه مسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة (522) (ج 1 / ص 371).
  4. أخرجه البخاري في كتاب فضائل الصحابة - باب قول النبي ﷺ: لو كنت متخذا خليلاً (3469) (ج 3 / ص 1342) ومسلم في كتاب الحيض – باب التيمم (367) (ج 1 / ص 279).
  5. أخرجه البخاري في كتاب الدعوات - باب الدعاء على المشركين (6032) (ج 5 / ص 2349) ومسلم في كتاب السلام - باب النهي عن ابتداء أهل الكتاب بالسلام وكيف يرد عليهم (2165) (ج 4 / ص 1706).

مواد ذات صلة