الجمعة 19 / رمضان / 1445 - 29 / مارس 2024
‏[5] من قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ} الآية 11 إلى قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} الآية 17‏
تاريخ النشر: ١١ / رمضان / ١٤٢٩
التحميل: 4664
مرات الإستماع: 3273

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد.

وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ۝ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ ۝ يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ [الحج:11- 13]

وقال مجاهد وقتادة وغيرهما عَلَى حَرْفٍ: على شك، وقال غيرهم: على طرف، ومنه حرف الجبل أي طرفه، أي دخل في الدين على طرف فإن وجد ما يحبه استقر وإلا انشمر، وروى البخاري عن ابن عباس قال: وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ قال: كان الرجل يقدم المدينة، فإن ولدت امرأته غلاما ونتجت خيله قال هذا دين صالح، وإن لم تلد امرأته ولم تنتج خيله قال هذا دين سوء.

قال العوفي عن ابن عباس: كان أحدهم إذا قدم المدينة وهي أرض وبيئة، فإن صح بها جسمه ونتجت فرسه مهرا حسناً، وولدت امرأته غلاماً رضي به واطمأن إليه، وقال: ما أصبت منذ كنت على ديني هذا إلا خيراً، وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ -والفتنة البلاء- أي: وإن أصابه وجع المدينة وولدت امرأته جارية وتأخرت عنه الصدقة أتاه الشيطان فقال: والله ما أصبتَ منذ كنت على دينك هذا إلا شراً، وذلك الفتنة وهكذا ذكر قتادة والضحاك وابن جريج وغير واحد من السلف في تفسير هذه الآية، وقال مجاهد في قوله: انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِأي: ارتد كافراً.

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقوله -تبارك وتعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ قال: يعني على شك، هذا نقله عن مجاهد وقتادة، وقال غيرهم: على طرف، ومنه حرف الجبل أي: طرفه، وهذه المعاني التي ذكرها غير متنافية-والله تعالى أعلم.

فمن فسر الحرف بأنه الطرف فقد فسره بالأصل والمعنى في اللغة؛ فإن حرف الشيء هو طرفه، وحرف الجبل يعني طرفه، وحرف البناء، وحرف الخبز، ونحو ذلك أي: طرفه، ومن فسره بالشك فقد رجع إلى هذا المعنى؛ لأن الذي يعبد الله على شيء من التضعضع والريبة والشك، فإنه غير مستقر كالذي يكون على طرف الجبل مثلاً، فإنه لا يكون مستقراً كالذي يكون على الأرض مثلاً، فهذا وجه الارتباط بين أصل المعنى في كلام العرب، وبين تفسير من فسره بالشك، فإن هذا كله يرجع إلى معنى واحد بهذا الاعتبار، فقولك: إنسان غير مستقر وغير واثق معناه: أنه على شك، فهو بحسب ما يعرض له، متضعضع إن جاءت الأمور على ما يكره حركت عنده دواعي القلق والشك والريبة، فصار متلجلجاً متردداً، وعلى كل حال فهذه المعاني التي ذكرت غير متنافية. 

يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ يعني هذا بخلاف حال أهل اليقين فإن أهل اليقين إذا جاءتهم الشدائد والمصاعب والمصائب فإن ذلك يزيد من رسوخهم كما قال الله في قصة الأحزاب لما ذكر الموقفَين -موقفَ المنافقين وموقفَ أهل الإيمان- قال في موقف أهل الإيمان: وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُه ُوَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا [سورة الأحزاب:22].

المقصود -على أرجح أقوال المفسرين والله تعالى أعلم بقولهم: بـهَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ الإشارة إلى البلاء الذي يعقبه النصر والتمكين؛ لأن الله -تبارك وتعالى- قال: أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء [سورة البقرة:214] إلى غير ذلك من الآيات، فوعَدَ بالبلاء لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ [سورة آل عمران:186] فلما رأوا الأحزابَ قد أحاطوا بالمدينة تذكروا هذا الوعد فقالوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ فهو الابتلاء الذي يعقبه التمكين، ولا يكون التمكين إلا بعد الابتلاء وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا بينما تجد أهل النفاق لما رأوا الأحزاب ماذا قالوا؟ قالوا: مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا [سورة الأحزاب:12] فشتان ما بين هذا وهذا.

وعلى كل حال هذه الآية فيها عبرة عظيمة؛ فهي تبين أحوال الناس ومراتبهم، وبها يعرف الإيمان الثابت الراسخ، وبها يعرف الإيمان الضعيف الهش، وهذه الآية تدل المسلم على أمر: وهو أن البلاء لابد أن يحصل كما سبق في الآيات التي أشرت إليها، ولكن ينبغي للمؤمن أن يطلب من الله العافية؛ فإن العافية لا يعدلها شيء، والنصوص دلت على أن الإنسان لا يطلب البلاء، بل يطلب من ربه العافية، والنبي ﷺ يقول: لا تتمنوا لقاء العدو[1].

وهناك نماذج وأمثلة في هذا المعنى في القرآن وغيره، والله قال عن أؤلئك الذين طلبوا أحب الأعمال إلى الله فلما أخبروا أنه الجهاد تثاقلت نفوسهم، فأنزل الله : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ ۝ كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ [سورة الصف:2، 3] وأولائك الذين طلبوا من نبي لهم أن يبعث لهم ملكاً يقاتلون معه في سبيل الله في سورة البقرة أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُواْ لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ [سورة البقرة:246] فهذه فيها عبرة، فتساقطوا ولم يبق إلا القلة، ولذا فالإنسان لا يطلب البلاء بل يسأل ربه العافية، والنبي ﷺ يقول: لا ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه قالوا: وكيف يذل نفسه؟ قال: يتعرض من البلاء لما لا يطيق[2] فلا يدخل الإنسان في أمور من حسبة ونحوها، ثم بعد ذلك لا يطيق فيبتلى وينكسر، وقد يفتضح، فيطلب من ربه العافية، ولا يدخل إلا في الأمور التي يطيقها لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا [سورة البقرة:286] فرحم الله امرأً عرف قدر نفسه.

وقوله: خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ [سورة الحج:11] أي: فلا هو حصل من الدنيا على شيء، وأما الآخرة فقد كفر بالله العظيم، فهو فيها في غاية الشقاء والإهانة، ولهذا قال تعالى: ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ [سورة الحج:11] أي: هذه هي الخسارة العظيمة والصفقة الخاسرة.

المبين: يعني البيّن الواضح الذي لا خفاء فيه.

وقوله تعالى: يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنفَعُهُ [سورة الحج:12] أي من الأصنام والأنداد يستغيث بها ويستنصرها ويسترزقها وهي لا تنفعه ولا تضره ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ.

كما قال الله : وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ [سورة يونس:18] وهكذا في قوله -تبارك وتعالى: قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ ۝ أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ [سورة الشعراء:72، 73] فهذه من حيث هي لا تملك ضراً ولا نفعاً، والكفار الذين قالوا لإبراهيم ﷺ وخوفوه من آلهتهم أن تصيبه بشيء، فرد عليهم وقال: وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [سورة الأنعام:81] فهذه من حيث هي لا تضر ولا تنفع، والآية الأخرى قال: لَمَن ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ [سورة الحج:13] فهي تضر عابديها باعتبارٍ آخر: أنها توردهم المهالك، فيدخلون بسبب ذلك النار، هذا وجه الضرر من حيث هي فهي جمادات لا تنفع ولا تضر.

في الأولى: مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنفَعُهُ باعتبار أن هذا العابد لماذا يعبدها؟ رغبةً ورهبةً ورجاء النفع، ومن أجل دفع الضر عنه يعتقد أن هذه الأصنام لو ما عبدها يمكن أن تهلكه، تخسر تجارته يمكن أن تقع عليه كارثة، يموت أولاده... فهي لا تضر ولا تنفع بل عبادتها تورث الضرر وذلك أن من عبدها دخل معها النار ووكِل إليها وخذل في الوقت الذي يكون أحوج ما يكون فيه إلى ألطاف الله ورحماته، وفي قصة عكرمة في إسلامه لما ركب البحر وماج بهم البحر فقال قائد السفينة: إنه لا ينجيكم من هذه الكروب إلا الله، نهاهم أن يدعوا آلهتهم، فقال: إذا كان لا ينجي من ظلمات البحر إلا الله فإنه لا ينجي أيضاً... القصة معروفة.

قوله تعالى:يَدْعُو لَمَن ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ [سورة الحج:13] أي: ضرره في الدنيا قبل الآخرة أقرب من نفعه فيها، وأما في الآخرة فضرره محقق متيقن.

وقوله:  لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُقال مجاهد: يعني الوثن، يعني بئس هذا الذي دعاه من دون الله مولى، يعني وليا وناصراً، ولبئس العشير: وهو المخالط والمعاشر.

على كل حال في هذه الآية قوله يَدْعُو لَمَن ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ الله قال: يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنفَعُهُ بعض العلماء يقول: هذه في الأصنام؛ من يعبد الأصنام فهي لا تضره ولا تنفعه، والثانية: لَمَن ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ هذه في المعبودات مثل فرعون الذي كان يقول: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى [سورة النازعات:24] فلربما يقدسونه ويتقربون إليه ويعبدونه من أجل تحصيل بعض المنافع ودفع المخاوف، فالله يخبر أن هؤلاء أقرب في الضر إليه من النفع، هكذا ذكر بعض أهل العلم في الفرق بين الآيتين، ويمكن أن يقال غير هذا، أما قوله -تبارك وتعالى: ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُفيعني البعيد عن الحق، وبعضهم كابن جرير أو غيره يفسره بالطويل، أي ضلال طويل لا نهاية له.

قال سبحانه: إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحتِهَا الْأَنْهَارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ [سورة الحج:14] لما ذكر أهل الضلالة الأشقياء عطف بذكر الأبرار السعداء من الذين آمنوا بقلوبهم وصدقوا إيمانهم بأفعالهم، فعملوا الصالحات من جميع أنواع القربات، وتركوا المنكرات فأورثهم ذلك سكنى الدرجات العاليات في روضات الجنات، ولما ذكر تعالى أنه أضل أولائك وهدى هؤلاء قال: إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ.

مأخذ من قال بأن الآية الأولى: يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنفَعُهُ في غير العقلاء -في الأصنام، قال: إنه جاء بـ"ما" التي تكون لغير العاقل، كالجمادات.

والثانية: يَدْعُو لَمَن و"من" تستعمل للعاقل، فهذا مأخذ هذا القول، ثم قال: يَدْعُو لَمَن ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ قال مجاهد يعني الوثن، يعني بئس هذا المخالط الذي دعاه من دون الله مولى: يعني ولياً ونصيراً وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ يعني المخالط، هذا تفسير جيد وقريب لهذه الآية، والله تعالى أعلم.

وبعض أهل العلم كابن جرير يقول: لَبِئْسَ الْمَوْلَى المولى: ابن العم، ويطلق على الناصر؛ لأن الإنسان يستنصر ببني عمه وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ يعني المعاشر والمخالط، فابن جرير لا يحمل المولى والعشير على الوثن، فعنده لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ يعني هذا العابد، لبئس ابن العم والمعاشر من يفعل هذا الفعل؛ يعبد غير الله من الأصنام والأوثان التي لا تضره ولا تنفعه، فهو ذم للعابدين، هذا قول ابن جرير، والقول الأول: أنها ذم لهذه المعبودات، وأظن أن حملها على المعبودات كأنه أقرب إلى ظاهر القرآن، وهذا الذي قال به مجاهد، وقال به جماعة من المتأخرين، وممن اختار هذا القول الشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله.

إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ... الكلام فيها واضح، فهو سبحانه لما ذكر حال الكفار ذكر ما يقابله -على طريقة القرآن: الترغيب والترهيب- فذكر الأبرار ومنازلهم، تَجْرِي مِن تَحْتِهَا.. تجري من تحت قصورها وأشجارها.

قال سبحانه: مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاء ثُمَّ لِيَقْطَعْ فَلْيَنظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ ۝ وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يُرِيدُ [سورة الحج:15، 16]، قال ابن عباس: من كان يظن أن لن ينصر الله محمداً ﷺ في الدنيا والآخرة، فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ أي: بحبل إِلَى السَّمَاء أي: سماء بيته ثُمّ لْيَقْطَعْ يقول: ثم ليختنق به، وكذا قال مجاهد وعكرمة وعطاء وأبو الجوزاء وقتادة وغيرهم، فالمعنى من كان يظن أن الله ليس بناصر محمداً وكتابه ودينه، فليذهب فليقتل نفسه إن كان ذلك غائظه، فإن الله ناصره لا محالة، قال الله تعالى: إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُوم ُالْأَشْهَادُ [سورة غافر:51]، ولهذا قال: فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ قال السدي: يعني من شأن محمد ﷺ. وقال عطاء الخرساني: فلينظر هل يشفي ذلك ما يجد في صدره من الغيط؟

قوله -تبارك وتعالى: مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ اللَّهُ النصر هنا فسره أكثر أهل العلم على ظاهره، وهذا الذي نقله عن ابن عباس -ا: أن لن ينصر الله محمداً ﷺ في الدنيا والآخرة فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاء السبب: كل ما يتوصل به إلى الشيء يقال له سبب، ولهذا يقال: الحبل سبب؛ لأنه يتوصل به إلى الماء في البئر، ولا يصل الإنسان إليها بيده، وإنما يضع الدلاء بالحبال ويصل بها إلى الماء فيقال لها: سبب، والطرق الموصلة إلى السماء يقال لها أسباب، وفرعون حينما أمر وزيره ببناء الصرح قال: لَّعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ ۝ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى [سورة غافر:36، 37] فالسبب يطلق على كل ما يتوصل به إلى غيره.

فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاء والسماء تطلق على مطلق العلو، فكل ما علاك فهو سماء، فهذا السقف يقال له: سماء، والسحاب يقال له: سماء، والارتفاع عموماً يقال له: سماء، والسقف المعروف وَجَعَلْنَا السَّمَاء سَقْفًا مَّحْفُوظًا [سورة الأنبياء:32] يقال له: سماء، وقول ابن عباس يعني أنه السقف فيربط حبلا في السقف ويشنق نفسه، من كان يظن أن الله لا ينصر نبيه ﷺ فلينتحر، هذا اختصار المعنى: يشنق نفسه، فإن الله ناصر نبيه، وهذا قد لا يجد شفاءً إلا في الخلاص من هذه الحياة.

كفى بك داءً أن ترى الموتَ شافياً وحسْبُ المنايا أن يكنَّ أمانيا

ومن أهل العلم من قال: إن السماء هي السماء المعروفة، وفسر النصر بالنصر المعروف فالمعنى: من كان يظن أن الله لا ينصر نبيه ﷺ فليتوصل إلى أسباب السماوات ليقطع النصر من مصدره، من فوقه من السماء.

فكأنه أحاله إلى أمرٍ مستحيل، يعني لا أن يقتل نفسه ويشنق نفسه وينتحر، لا، إنما يصل إلى مصدر النصر ويقطعه.

والمعنى الآخر الذي مشى عليه ابن جرير، وهو أنه فسر النصر بالرزق، وجاء بشواهد من كلام العرب، وهذا معنى صحيح، النصر قد يطلق على الرزق، لكن هل هذا هو المعنى المتبادر؟ الجواب: لا، ولهذا فإن القرآن في الأصل يفسر بالمعنى المتبادر الظاهر دون المعنى قليل الاستعمال، وهذه قضية دائماً يقررها ابن جرير -رحمه الله، فإذا أجريناها على هذا فُسِّر النصر بالنصر المعروف وليس بالرزق.

ابن جرير -رحمه الله- يقول: من كان يظن أن الله لا يرزق نبيه ﷺ ومن معه من أهل الإيمان، وتعجل رزق الله أو استبطأه فليربط حبلاً في سقف بيته ويشنق نفسه، وينظر هل فعله هذا سيغير من قدر الله شيئا؟

وأرجح هذه المعاني -والله أعلم- أن النصر يحمل على ظاهره، وأن السماء المقصود بها السقف، والله أعلم.

قوله: ثُمّ لْيَقْطَعْ يقطع ماذا؟ يقطع مجاري النفس؛ فإن الإنسان إذا خنق نفسه سُدت مجاري النفس فيموت، إضافة إلى قطع مجاري الدم بعد الدماغ.

وقوله: وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ أي القرآن آيَاتٍ بَيّنَاتٍ أي واضحات في لفظها ومعناها، حجة من الله على الناس، وَأَنّ اللّهَ يَهْدِي مَن يُرِيدُ أي يضل من يشاء ويهدي من يشاء، وله الحكمة التامة والحجة القاطعة في ذلك لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ أما هو فلحكمته ورحمته وعدله وعلمه وقهره وعظمته لا معقب لحكمه، وهو سريع الحساب.

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [سورة الحج:17].

يخبر تعالى عن أهل هذه الأديان المختلفة من المؤمنين ومن سواهم من اليهود والصابئين -وقد قدمنا في سورة البقرة التعريف بهم واختلاف الناس فيهم- والنصارى والمجوس والذين أشركوا فعبدوا مع الله غيره، فإنه تعالى: يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِويحكم بينهم بالعدل، فيدخل من آمن به الجنة، ومن كفر به النار، فإنه تعالى شهيد على أفعالهم، حفيظ لأقوالهم، عليم بسرائرهم وما تُكنّ ضمائرهم.

في قوله -تبارك وتعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ هذه الآية في الفصل بين هذه الطوائف، والصابئون: العلماء اختلفوا فيهم كثيراً فمنهم من قال: هم طائفة من النصارى؛ لأن الله في بعض المواضع -من غير ذكر المجوس- وعَدَ المؤمن منهم بالجنة، وبعضهم قال: هم ناس على الفطرة، لم يكونوا من أهل الإشراك، ومنهم من قال: هم طائفة معروفة تسمى بالصابئين يعبدون الكواكب وهم الذين حصلت المناظرة بينهم وبين إبراهيم ﷺ، ولا تزال توجد طائفة إلى اليوم في العراق يقال لهم: الصابئة.

فالذي يظهر -والله تعالى أعلم- أن كلمة الصابئين تطلق على أقوام شتى، فتطلق على أناس على الفطرة يقال لهم هذا، وتطلق على من يعبدون الكواكب، ولربما أطلقت على طائفة من النصارى، والعرب كانوا يقولون لمن دخل في الإسلام: صبأ، لماذا يقولون: صبأ؟ ريما يكون ذلك باعتبار أنه عبد الله وحده، وكانوا يعرفون قوماً يقال لهم: الصابئة، يعبدون الله وحده، قد يكون ذكره بعض أهل العلم.

وعلى كل حال هذه الآية في الحكم بين الطوائف، وذكر معهم المجوس، لهذا لم يعِد بالجنة، وهذا الحكم بعض أهل العلم يقول: هو الفصل بينهم؛ ليعرف المحق من المبطل، وبعضهم يرى أن هذا الحكم هو بإدخال هؤلاء الجنة -يعني أهل الإيمان- وإدخال الكفار باختلاف طوائفهم النار، وهذا الذي اختاره ابن جرير -رحمه الله.

وفي هذه الآية قدم ذكر الصابئين على النصارى، وفي آية البقرة قدم النصارى على الصابئين، فمن أهل العلم من يقول: إن هؤلاء أهل الكتاب -يعني النصارى- فقدمهم هناك، وهنا قدمهم باعتبار الصابئين أسبق من الناحية التاريخية، والله تعالى أعلم، والتقديم والتأخير لا يكون على قاعدة مطردة في القرآن، فأحياناً بحسب تسلسل التاريخ وأحياناً بحسب الأفضل، قال تعالى: إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإْسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا [سورة النساء:163] وقال: وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ ومُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ [سورة الأحزاب:7] فذكر النبي ﷺ أولاً، والله أعلم.

  1. رواه البخاري: برقم: (6810) كتاب التمني -باب كراهية تمني لقاء العدو، ومسلم برقم: (4640) كتاب الجهاد والسير –باب كراهية تمني لقاء العدو.
  2. رواه الترمذي: (2254) كتاب الفتن –باب: (67) وصححه الألباني.

مواد ذات صلة