الجمعة 10 / شوّال / 1445 - 19 / أبريل 2024
[26] تتمة تفسير قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلاَّ خَطَأً}.
تاريخ النشر: ٠٢ / ذو القعدة / ١٤٢٦
التحميل: 3057
مرات الإستماع: 2355

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المفسر -رحمه الله تعالى:

وفي صحيح البخاري عن عبدالله بن عمر -ا- قال: بعث رسول الله ﷺ خالد بن الوليد إلى بني جذيمة فدعاهم إلى الإسلام، فلم يحسنوا أن يقولوا أسلمنا فجعلوا يقولون: صبأنا صبأنا، فجعل خالد يقتلهم، فبلغ ذلك رسولَ الله ﷺ فرفع يديه وقال: اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد[1] وبعث عليًّا فودى قتلاهم وما أتلف من أموالهم حتى ميلغة الكلب.

وهذا الحديث يؤخذ منه أن خطأ الإمام أو نائبه يكون في بيت المال.

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فهذه الرواية التي ذكر فيها أن خالدًا قتل هؤلاء حينما قالوا: صبأنا صبأنا تشتمل على كثير من المعاني والفوائد والأحكام، ومن ذلك: أن مثل هذا التعبير في قولهم: صبأنا صبأنا اعتبره منهم النبي ﷺ مع أنه ليس من الألفاظ الشرعية، ولا يقوم مقام الشهادتين، بل كان يستعمله الكفار في الاستهزاء بالمسلمين حيث كانوا يسمونهم الصابئة ويقولون: صبأ فلان، وهؤلاء القوم قد علق ذلك في أذهانهم على المسلمين، وظنوا أن من أراد أن يسلم فعليه أن يقول: "صبأت" لكثرة ما أذاعه الكفار، فظنوا أن المسلمين يحبونه ويقرونه وأن هذا هو الدين، فقالوا: صبأنا، بقدر جهدهم ومعرفتهم وعلمهم، فاعتبر ذلك النبي ﷺ منهم دخولًا في الإسلام.

ومن الفوائد والأحكام في هذا الحديث أيضًا: أن خالدًا قتلهم بهذا ولم يقتص النبي ﷺ لهم منه، مع أن ظاهر الأمر أنه قتل أناسًا قد دخلوا في الإسلام.

ومثل ذلك ما ورد في الخبر المشهور عن أسامة بن زيد وغير أسامة فذاك قال: أشهد أن لا إله إلا الله، ومع ذلك قتله ولم يقتص النبي ﷺ منه؛ لأنه متأول مجتهد في ذلك فهو ظن أنه قالها متعوذًا ولم يقلها صادقًا، فاعتبر أنه لا زال على كفره، فقتله بهذا الاعتبار.

وذاك رجل عنده غنم وظاهر الأمر أنه مسلم حيث اطمأن كل الاطمئنان حيث فر الناس، ويخبر المسلمين أنه مسلم بإلقاء السلام عليهم ومع ذلك قُتل وأخذت غنمه فنزلت الآية تقول: وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا [سورة النساء:94] أي: من أجل الغنائم والأغنام، فهؤلاء أخطؤوا ومع ذلك لم يقتص النبي ﷺ للمقتول وإنما بيَّن أن ذلك خطأ. 

فالمقصود أنه كان ﷺ في مثل هذه القضايا يبين لأصحابه الموقف الصحيح وتنتهي القضية، بمعنى أنك لو نظرت إلى أخطاء الصحابة في السيرة، وما يقع عادة في الجهاد في سبيل الله من بعض الأخطاء والتجاوزات والاجتهادات وما أشبه ذلك تجد أنه ﷺ كان يبيّن لهم وجه الصواب ثم تنتهي القضية بعد ذلك حيث تبين الصواب من الخطأ، وهكذا كان الخلفاء الراشدون يبيّنون الحق في مثل تلك الأخطاء التي تقع من بعض الأفراد وينتهي الأمر.

أما اليوم إذا وقعت من المجاهدين بعض الأخطاء فإنه تحصل شنائع للرد على تلك الأخطاء في الإعلام وعلى مستوى العالم كله من شرقه إلى غربه، حتى إن أول من سيتفرق عنهم هم الذين معهم، وهذا تصرف غير صحيح مع أخطاء المجاهدين؛ لأن الجهاد الشرعي في سبيل الله مظنة لوقوع أخطاء وتجاوزات لكنها تقوَّم فلا تُقَرّ، وليس معنى ذلك أن هذه الأخطاء تأتي على هذا الأصل الكبير الشرعي –الجهاد في سبيل الله- فهذا لا يجوز. 

وهكذا أخطاء المسلمين ليس من العدل أن تضخَّم بحيث يأتي الكفار ويضخِّمون الأمر ثم ينسبون ذلك الخطأ إلى الإسلام فهذا لا يرجع إلى الإسلام وإنما المخطئون هم الذين يتحملون هذه الأخطاء وتبعاتها ولا يصح أن نقبل نسبة ذلك إلى الإسلام، ومثل ذلك أيضًا يجب رد الأخطاء التي يرتكبها بعض رواد المساجد وأخطاء المعلمين وأخطاء طلاب العلم وأخطاء غيرهم من شرائح الأمة لكن لا يؤتى على الأصل الشرعي ويبطل أو يراد إبطاله بناء على أخطاء وقعت من أولئك الناس.

وعلى كل حال على الإنسان أن يراعي مثل هذه القضايا، ولا ينبغي غض الطرف عن الخطأ ولو صدر من إنسان قصده حسن، وما ضر المسلمين في عشرات السنين التي مضت مثل كتم هذه الأشياء وإنكارها وجحدها وأن ذلك غير صحيح ويُخفى عن الأمة زعمًا بأن ذلك من المصلحة ثم تنكشف الأمور عن بلايا ورزايا وخزايا فتذهب معها ثمرات هذه الأعمال جميعًا كجهاد الأعداء، وفي المقابل لا بد أن يبين الخطأ بأنه خطأ والمخطئ يجب إعلامه بخطئه وإيقافه عن هذا الخطأ إن أمكن لكن لا يؤتى على الأصل الشرعي، فالأصل الشرعي تبقى له منزلته ومكانته وحرمته وإلا ألغينا الإسلام بأخطاء المسلمين، والله المستعان.

وقوله: إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ [سورة النساء:92] أي: فتجب فيه الدية مسلمة إلى أهله إلا أن يتصدقوا بها فلا تجب.

التصدق المذكور في قوله تعالى: إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ [سورة النساء:92] يعني بإسقاط الدية، فهذا يسمى صدقة وهو كقوله في الدَّيْن: وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ [سورة البقرة:280] يعني وأن تصدقوا بإسقاط الدين أو بإسقاط بعضه.

وقوله: فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مْؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ [سورة النساء:92] أي: إذا كان القتيل مؤمنًا ولكنْ أولياؤه من الكفار أهل حرب فلا دية لهم وعلى القاتل تحرير رقبة مؤمنة لا غير.

وقوله: وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ الآية [سورة النساء:92] أي: فإن كان القتيل أولياؤه أهل ذمة أو هدنة فلهم دية قتيلهم، فإن كان مؤمنًا فدية كاملة.

يقول تعالى في الآية: فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مْؤْمِنٌ [سورة النساء:92] أي: إذا كان القتيل مؤمنًا ولكنْ أولياؤه من الكفار -أهل حرب، فهذا تنصيص على أنه مؤمن، ثم قال سبحانه: وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ [سورة النساء:92] فلم يذكر الإيمان إن كان المقتول من قوم كفار معاهدين، ولذلك فالحكم في القوم المعاهدين يشمل الكافر منهم أيضًا حيث يتحمل الإمام الدية فيدفعها من بيت مال المسلمين إن كان الذي قتل هذا القتيل من المعاهدين الجيش أو فلول الجيش؛ لأن الإمام هو الذي يتحمل تبعة أخطاء من تحت يده ممن يعملون لمهام الجهاد ونحو ذلك. 

أما إذا كان القاتل من آحاد الناس بأن تنازع معه فقتله فإنه يتحمل الدية بنفسه وليس الإمام؛ ولذلك فإن في قصة عمرو بن أمية الضمري المعروفة أنه لما حصل الغدر بالمسلمين في بئر معونة نجا هو من القتل وفي طريقه إلى المدينة وجد رجلين فأكل معهما وحادثهما فلما ناما عمد إليهما فقتلهما وأدخل الرمح في عين واحد منهما حتى سمع خشخشة عظامه فلما رجع إلى النبي ﷺ أخبره فتبيّن أن الرجلين بينهم وبين النبي ﷺ عهد وليسوا من الكفار الذين قتلوا السبعين من القراء، فذهب النبي ﷺ يجمع دية القتيلين، وكان قد أتى على يهود النضير وأرادوا قتله بإلقاء الحجر كما هو معلوم من قصة سبب غزوة بني النضير، فيلاحظ أن النبي ﷺ هو الذي تحمل الدية فأعطاهم إياها من بيت المال مع أن القتيلين من الكفار.

أي: فإن كان القتيل أولياؤه أهل ذمة أو هدنة فلهم دية قتيلهم، فإن كان مؤمنًا فدية كاملة، ويجب أيضًا على القاتل تحرير رقبة مؤمنة...

بمعنى أن الحكم في المستأمن من أهل الذمة –يعني من رعايا الدولة المسلمة التي فتحت وبقي بعض أهلها على الكفر- هو نفس الحكم الذي لمن كان بينكم وبينهم عهد وميثاق، حيث إن من كان هذا حاله لا يحل قتله إلا إذا نقض العهد، وإذا نقض العهد ليس قتله لآحاد الناس، والمقصود أن هذا المستأمن أو المعاهد إذا قتله أحد غير الإمام وجبت الدية لأوليائه.

في قول الحافظ ابن كثير: "فإن كان مؤمنًا" من قوله: "فإن كان مؤمنًا فدية كاملة ويجب أيضًا على القاتل تحرير رقبة مؤمنة" مقتضاه أن الله لم يقيد ذكر المقتول بالإيمان، وعليه يكون الحكم فيه ما ذكر بعده سواء كان المقتول مسلمًا أو كافرًا؛ وهذا القول كأنه قول وسط في هذه الآية، وذلك أن من أهل العلم -ككبير المفسرين ابن جرير -رحمه الله- من يقول: إن الفرق بين قوله تعالى: فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مْؤْمِنٌ وبين قوله: وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ أن كليهما غير مؤمنين إلا أن الأول من قوم عدو محاربين لكم والثاني من قوم بينكم وبينهم عهد. 

فالحافظ ابن كثير نظر إلى اللفظ في قوله: مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ ووجد أنه يحتمل أن يكون مؤمنًا ويحتمل أن يكون غير مؤمنٍ، فإن كان غير مؤمن فقد سبق النص الذي يفيد أن في أهل الذمة الدية –على خلاف في ذلك- مضافًا إلى ذلك قراءة الحسن -وهي قراءة غير متواترة كما هو معروف- (وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق وهو مؤمن فدية) من هنا رجح الحافظ أن هذا الحكم الأخير مختص بأهل الإيمان أعني أن فيه الدية والكفارة.

قال تعالى: وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةً فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ [سورة النساء:92] يعني أنه في حال كون المقتول غير مؤمن وهو من قوم بيننا وبينهم ميثاق فقد دل الشرع على أنهم يعطون الدية أيضًا -كما ثبت عن النبي ﷺ، وفيه الكفارة أيضًا، إما بتحرير رقبة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين. 

ومثاله لو أن إنسانًا صار له حادث فصدم شخصًا فاتضح أنه غير مسلم فإنه إضافة إلى الدية يعتق رقبة، فإن لم يجد فعليه صيام شهرين متتابعين ولا ينتقل إلى إطعام ستين مسكينًا كما في كفارة الظهار، ومن المؤسف أننا نسمع أناسًا يُسألون عن ديات عليهم وكفارات قتل فيقولون: سألنا إمام المسجد أو سألنا فلانًا فقال لنا: أطعم ستين مسكين، وهذه مشكلة، فالله المستعان.

ويجب أيضًا على القاتل تحرير رقبة مؤمنة فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ [سورة النساء:92] أي: لا إفطار بينهما بل يسرد صومهما إلى آخرهما، فإن أفطر من غير عذر من مرض أو حيض أو نفاس استأنف.

قوله: "استأنف" يعني وجب عليه أن يبدأ الشهرين من جديد وكأنه ما صام بعد، وأما الأعذار المبيحة للفطر في رمضان كالحيض والنفاس والمرض فهذه لا تقطع التتابع في الصيام.

ومن أهل العلم من ذكر قولًا هو أحوط للذمة في مثل هذا الصيام -من عليه صوم شهرين متتابعين- منهم الشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله- حيث يقول: إن من عليه صيام شهرين متتابعين فليوقع هذا الصوم في وقت لا ينقطع فيه، يعني لا يكون قطعه بيده هو، أما إذا نزل عليه شيء اضطرارًا فليس داخلًا في هذا، لكن أن يبدأ الصيام في شهر ذي القعدة –مثلًا- فهذا سيقطعه عيد الأضحى وأيام التشريق، ومثله من بدأ الصيام بعد دخول شهر شعبان فإنه سيقطع صيامه رمضان وعيد الفطر؛ لذلك نقول: صم بعد رمضان وقبل ذي القعدة، أو بعد أيام التشريق، فبذلك يمكنك أن تدفع قطعه إلا ما نزل بك من غير قصد ولا إرادة، والله أعلم.

وقوله: تَوْبَةً مِّنَ اللّهِ وَكَانَ اللّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا [سورة النساء:92] أي: هذه توبة القاتل خطأً إذا لم يجد العتق صام شهرين متتابعين.

وَكَانَ اللّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا [سورة النساء:92] قد تقدم تفسيره غير مرة.

ثم لما بيّن تعالى حكم القتل الخطأ شرع في بيان حكم القتل العمد فقال: وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا الآية [سورة النساء:93] وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد لمن تعاطى هذا الذنب العظيم الذي هو مقرون بالشرك بالله في غير ما آية في كتاب الله، حيث يقول سبحانه في سورة الفرقان: وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ الآية [سورة الفرقان:68] وقال تعالى: قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا الآية [سورة الأنعام:151].

والآيات والأحاديث في تحريم القتل كثيرة جدًا، فمن ذلك ما ثبت في الصحيحين عن ابن مسعود قال: قال رسول الله ﷺ: أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء[2].

وفي الحديث الآخر الذي رواه أبو داود عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله ﷺ: لا يزال المؤمن معنقًا صالحًا ما لم يصب دمًا حرامًا فإذا أصاب دمًا حرامًا َبلّح[3].

قوله –عليه الصلاة والسلام: معنقًا صالحًا يعني أنه ما لم يصب دمًا حرامًا فهو مبادر ومسرع في طاعة الله ومنبسط في عمله، ويحتمل أن يكون المراد أنه يسير سيرًا صحيحًا في الآخرة في الحساب وعلى الصراط فهو في عافية الله  وفي حالة مرْضيَّة ما لم يصب دمًا حرامًا.

ومعنى بلَّح في قوله –عليه الصلاة والسلام: فإذا أصاب دمًا حرامًا بلّح يقال: بلّح الرجل يعني انقطع سيره من التعب والإعياء من كثرة المشي، فالبعير مثلًا تجده ينطلق في قطع المسافات فإذا أصابه الإعياء الشديد انقطع، وهكذا المؤمن لا يزال يسير سيرًا في عافية الله فهو يسدد ويقارب حتى يصل إلى مطلوبه والنجاة فإذا أصاب دمًا حرامًا بلّح أي: أقعده هذا الذنب وقطعه كما قطع التعبُ البعيرَ من السير، نسأل الله العافية.

وفي حديث آخر: لَزوال الدنيا أهون عند الله من قتل رجل مسلم[4] وقد كان ابن عباس -ا- يرى أنه لا توبة لقاتل المؤمن عمدًا.

قوله: "كان ابن عباس يرى أنه لا توبة لقاتل المؤمن عمدًا" هذا منقول عن جماعة من الصحابة ومن بعدهم، من الصحابة أبو هريرة وعبد الله بن عمرو بن العاص، ومن التابعين أبو سلمة بن عبد الرحمن والحسن البصري وقتادة والضحاك وعبيد بن عمير كلهم كانوا يرون أنه لا توبة للقاتل عمدًا.

وروى البخاري عن ابن جبير قال: اختلف فيها أهل الكوفة فرحلت إلى ابن عباس فسألته عنها فقال: نزلت هذه الآية: وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ [سورة النساء:93] هي آخر ما نزل وما نسخها شيء[5].

قد يبدأ الإنسان بالإقبال على الله وصلاح الحال والاستقامة وما إلى ذلك، ثم بعد ذلك -نسأل الله العافية- قد يجره الشيطان إلى أشياء لا تأويل فيها إطلاقًا مع أن مقصوده يكون ما عند الله لكن ما عرف الطريق، لذلك كان الواجب على الإنسان أنه إذا اشتبه عليه أمر تركه واشتغل بما يعلم ويتوثق منه، وهذه الشريعة واسعة فهناك عبادات كثيرة جدًا يمكن للمرء أن يشتغل بها ليصل بها إلى الجنة إن قام بها لوجه الله ؛ فينبغي للمسلم أن يعمل الواجبات ويترك المحرمات، ولو أنه اشتغل بالأيتام بالمسح على آلامهم ودموعهم وإطعامهم، وكفالتهم وكذا الاعتناء بالأرامل والفقراء عمومًا فهذا باب واسع لو استغرق كل جهده فيه لوصل بذلك إلى الجنة فالنبي ﷺ يقول: أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا وأشار بالسبابة والوسطى وفرج بينهما شيئا[6].

ومن الطرق السهلة الموصلة إلى الجنة الدعوة إلى الله، فلو أن المرء اشتغل بدعوة الجاليات من غير المسلمين أو بدعوة المسلمين فهذا باب واسع، وهم بحاجة إلى أقل الجهود ويصل بإذن الله إلى الجنة.

وهكذا توجد أعمال كثيرة جدًا لا شبهة فيها مجمع على أنها من العمل الطيب والصالح الذي يوصل إلى الله -تبارك وتعالى- ويصل به الإنسان إلى أعظم المنازل، فالحاجة واسعة وقائمة ويستطيع الإنسان أن يعمل بما يصل به إلى الجنة، أما أن يدخل في أمور يقول عنها أهل العلم: إنها ضلال وانحراف لا تجوز بحال من الأحوال فهذا طريق للضياع والهلاك -نسأل الله العافية.

فعلى الإنسان أن يفكر ويُعمل عقله وينظر فإذا اشتبه عليه شيء تركه ولا يدخل في شيء إلا وهو واثق من أنه ينفعه في دنياه وآخرته، ولا يقول شيئًا إلا وهو قادر على إثباته وما عدا ذلك فيتركه، وليعلم أن الله -تبارك وتعالى- قد أسقط عليه الأمور التي يعجز عنها فلا يحاسبه عليها لكن للأسف أن الإنسان هو الذي يضيق على نفسه وهو الذي يدخل نفسه في أمور لا دخل له فيها، أو يفتي ويتكلم في أمور ما امتدت الأعناق إليه، وما انتظر الناس كلامه وما طلبوا فتواه، ولا يعدونه من أهل العلم أصلًا، ثم ما تدري بعد مدة إلا وقد انحرف تمامًا وانتكس، وانتقد الدين، ووقع في الدعاة إلى الله وفي أهل الخير، وجعلهم مادة للسخرية، وهو من قبل كان يحرم كل شيء حتى الملعقة والشوكة -نسأل الله العافية.

وكم من أناس نعرفهم ورأيناهم كانوا بهذه الطريقة ثم انحرفوا، فالمقصود أن الإنسان يبقى في ما وسع الله عليه ويلزم ما يعلم ويترك ما يلتبس عليه، ورحم الله امرأً عرف قدر نفسه.

فعليك أخي المسلم أن لا تتدخل في دقائق المسائل ولا تشتغل بها، بل انشغل بما تعرف فتعلم التجويد والطهارة والصلاة وما أشبه ذلك من القضايا التي تحسنها ومما هي من أساسيات الدين التي تخصك، والزم الجادة وكن مع أهل العلم الذين تثق بهم وبدينهم، وبخوفهم من الله -تبارك وتعالى- وبعلمهم.

وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.

  1. أخرجه البخاري في كتاب المغازي - باب بعث النبي ﷺ خالد بن الوليد إلى بني جذيمة (4084) (ج 4 / ص 1577).
  2. أخرجه البخاري في كتاب الديات (6471) (ج 6 / ص 2517) ومسلم في كتاب القسامة والمحاربين والقصاص والديات - باب المجازاة بالدماء في الآخرة وأنها أول ما يقضى فيه بين الناس يوم القيامة (1678) (ج 3 / ص 1304).
  3. أخرجه أبو داود في كتاب الفتن - باب في تعظيم قتل المؤمن (4272) (ج 4 / ص 167) وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (7693).
  4. أخرجه الترمذي في كتاب الديات - باب ما جاء في تشديد قتل المؤمن (1395) (ج 4 / ص 16) والنسائي في كتاب تحريم الدم – باب تعظيم الدم (3987) (ج 7 / ص 82) وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (5077).
  5. أخرجه البخاري في كتاب التفسير – باب تفسير سورة الفرقان (4485) (ج 4 / ص 1784) ومسلم في كتاب التفسير (3023) (ج 4 / ص 2317).
  6. أخرجه البخاري في كتاب الطلاق – باب اللعان (4998) (ج 5 / ص 2032).

مواد ذات صلة