الثلاثاء 14 / شوّال / 1445 - 23 / أبريل 2024
‏ [1] من قوله تعالى: {الم تَنزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ} الآية:1 إلى قوله تعالى: {ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} الآية:6‏
تاريخ النشر: ٠٧ / ذو القعدة / ١٤٣٢
التحميل: 4626
مرات الإستماع: 6079

بسم الله الرحمن الرحيم

تفسير سورة "الم" السجدة، وهي مكية:

فضل سورة "الم" السجدة:

قوله: هي مكية، بعضهم يستثني بعض الآيات بناء على معنىً يلوح له، والأصل في السورة النازلة بمكة أن جميع الآيات مكية، وأن النازلة في المدينة كل الآيات مدنية، وأن مرجع ذلك إلى النقل، يعني لا يُستثنى من هذا شيء فيقال: إلا هذه الآية، إلا بالنقل، وأما باعتبار المعنى: كون هذا المعنى يتحدث عن اليهود، أو يتحدث عن المنافقين فمثل هذا لا يكفي وحده؛ لأن من القرآن ما ينزل قبل وقوعه -قبل وقوع حكمه، وليس المقصود بالحكم الحلال والحرام، وإنما المقصود ما تضمنه مما أخبر عنه، وتحدث عنه، فلا إشكال، والعلماء يجيبون عن هذا بأجوبة معروفة، فهذه الدعاوى الكثيرة التي تجدونها في كتب التفسير إلا آية كذا، إلا آية كذا، لمجرد معنى لاح للمفسر فإن هذا لا عبرة به، والله تعالى أعلم.

قال: روى البخاري في كتاب الجمعة عن أبي هريرة ، قال: كان النبي ﷺ يقرأ في الفجر يوم الجمعة: الم ۝ تَنزيلُ السجدة، وهَلْ أَتَى عَلَى الإنْسَانِ [سورة الإنسان:1]. ورواه مسلم أيضاً.

وروى الإمام أحمد عن جابر قال: كان النبي ﷺ لا ينام حتى يقرأ الم ۝ تَنزيلُ السجدة وتَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ [سورة الملك:1] تفرد به أحمد.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

بسم الله الرحمن الرحيم

الم ۝ تَنزيلُ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ۝ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ[سورة السجدة:1-3].

قد تقدم الكلام على الحروف المقطعة في أول سورة "البقرة" بما أغنى عن إعادته هاهنا.

هذه الحروف المقطعة لا معنى لها في نفسها، على الأرجح، وأنها تشير إلى الإعجاز، أن هذا القرآن مركب من الحروف التي تركبون منها الكلام، ومع ذلك أنتم عاجزون عن الإتيان بمثله.

وقوله: تَنزيلُ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ أي: لا شك فيه ولا مرية أنه نزل، مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

قوله: تَنزيلُ الْكِتَابِ يحتمل أن يكون خبراً لمبتدأ محذوف، أو أن يكون المبتدأ هو قوله: الم، وما بعده خبر، إلى غير ذلك من الاحتمالات.

تَنزيلُ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ، قال هنا: لا شك فيه ولا مرية، والريب أخص من الشك، هو شك خاص، ليس كل شك يكون ريباً، فالريب كما في قوله تعالى: ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ [سورة البقرة:2] شك مع قلق، الشك الذي يحصل معه قلق يكون ارتياباً، تقول: أنا مرتاب من كذا، في قلبي ريب من الأمر الفلاني، في قلبي ريب من فلان، شك مع قلق، بخلاف ما لو قلت: أنا عندي شك في الأمر الفلاني، شك مقلق، فالقرآن ليس فيه شيء من هذا.

وتَنزيلُ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ يحتمل أن يكون المراد: لاَ رَيْبَ فِيهِ، بمعنى أنه لا يتضمن ما يوجب الريب، وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا [سورة النساء:82]، فإذا قرأه التالي له فإنه لا يجد فيه ما يثير الريب، ما يثير الشكوك والريب من التناقض أو الضعف في التراكيب والعبارات وما أشبه ذلك، وإنما قد أحكمه الله في ألفاظه ومعانيه، ليس فيه ما يوجب الريب، وأن النفي إذا جاء في صفات الله فإنه يقتضي ثبوت كمال ضده، وذلك يكون في الله ، وأوصافه. 

وكذلك في النبي ﷺ، كقوله مثلاً: وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى [سورة النجم:3]، وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ [سورة التكوير:24]، وكذلك القرآن وأوصاف القرآن، فهذه الثلاث إذا جاء النفي فيها فإنه يقتضي ثبوت كمال ضده، فإذا قال الله عن القرآن: لاَ رَيْبَ فِيهِ فإن هذا يقتضي أنه متضمن لكمال اليقين، وأن من أراد اليقين فعليه أن يقبل على هذا القرآن، وذكرت في الكلام على مقاصد المتدبرين في العام الماضي في رمضان -ليس رمضان هذا القريب، الذي قبله- أن من هذه المقاصد أن يقرأه من أجل أن يتحقق من مصدر هذا القرآن المتكلم به، أنه من عند الله ، وهذا إنما يكون لمن احتاج إلى ذلك، كان عنده تردد، فتجد من الناس من يقرأ القرآن ليصل إلى هذه النتيجة، فيعلم أن هذا ليس من كلام البشر ولا يمكن أن يصدر عن البشر؛ لأمور كثيرة، فهنا "لا ريب فيه" متضمن لكمال اليقين، فهذا معنى أنه نفى عنه الريب، يعني: ليس فيه ما يوجب الريب.

المعنى الثاني: لا رَيْبَ فِيهِ أنه من الله، لا شك أنه من الله، فيكون الكلام يرتبط بعضه ببعض هنا، أعني أوله وآخره مع هذه الجملة، تَنزيلُ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لا شك أنه من الله، ولكن على المعنى الذي قبله، تنزيل الكتاب من رب العالمين، فتكون هذه الجملة معترضة، فيها ذكر صفة هذا الكتاب، تَنزيلُ الْكِتَابِ لا شك فيه، لا يتضمن ما يوجب الريب، وأنه منزل من الله -تبارك وتعالى. 

وفي سورة البقرة إذا وقفت عند قوله تعالى: ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ، فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ، ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ يعني: هذا الكتاب دخول "ال" عليه تدل على الوصف الكامل، تقول: هذا الرجل، هذه الشجاعة، هذا العلم، ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ، لا شك، فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ، وذكرت حينها أن الوقف على قوله: ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ أبلغ في المعنى؛ لأن الأول يفهم منه: فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ، فيه هدى، لكن الثاني جعله كله هدى، ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ، هو هدى، وهذا أبلغ، هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ، فهذا أبلغ، كون القرآن بهذه المثابة ويقال عنه هذا: ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ.

ثم قال تعالى مخبراً عن المشركين: أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ، بل يقولون: افْتَرَاهُ أي: اختلقه من تلقاء نفسه.

باعتبار أن "أم" هذه هي المنقطعة، بمعنى "بل".

بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ أي يتبعون الحق.

قوله هنا: لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ، بعضهم يقول: إن "ما" هذه موصولة، ويكون المعنى: لتنذر قوماً الذي أنذر، لكنه بعيد كل البعد في هذه الآية، لكن لو قيل هذا في قوله: لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ [سورة يس:6] يعني: لتنذرهم الذي أُنذر آباؤهم، لكن هنا: مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ، الذي أتاهم نذير من قبلك، لا يكون ذلك، ولهذا فإن "ما" هنا نافية، مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ، قيل: هم العرب، وبعضهم يعبر يقول: أهل الفترة، باعتبار أن النبي ﷺ بعث لجميع الأمم، وأن النبي ﷺ بعث على فترة من الرسل، وانقطاع من السبل، فالذين بعث فيهم النبي ﷺ من أهل الفترة بعدما اضمحلت آثار الرسالة فهؤلاء ما أتاهم من نذير من قبلك. 

من قال: العرب، فهذا باعتبار أنه ما جاءهم نبي بعد إسماعيل -عليه الصلاة والسلام، كما قال الله عنهم في مواضع من كتابه ما يدل على هذا المعنى، أَن تَقُولُواْ إِنَّمَا أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَآئِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا وَإِن كُنَّا عَن دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ [سورة الأنعام:156] يعني: لئلا تقولوا، فلم ينزل عليهم كتاب، ليسوا بأهل كتاب، ولهذا امتنّ عليهم بقوله: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ [سورة الجمعة:2]، وقال: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا [سورة فاطر:32]، وهم هذه الأمة، بعدما كان ينزل على بني إسرائيل، فـمَّا أَتَاهُم، هذه "ما" نافية.

مَّا أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ أيّ نذير، بمعني: رسول، و"مِن" هذه إذا دخلت على النكرة في سياق النفي أو النهي أو الشرط أو الاستفهام -وهي المقامات التي تدل فيها النكرة على العموم- فإنها تنقلها من الظهور في العموم إلى التنصيص الصريح في العموم، يعني أقوى الدلالة على العموم، مَّا أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ أيّ نذير، ولهذا ما يوجد في بعض كتب التواريخ يذكرون أسماء رجال من العرب، يقولون: هذا نبي كان للعرب، وحصل له كذا، وحصل له كذا هذا لا صحة له، وتجدونه في بعض كتب التفسير، وقد مضى بعض ذلك عند قوله -تبارك وتعالى: وَأَصْحَابُ الرَّسِّ [سورة ق:12]، فكل هذا لا يصح، والله أعلم.

لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ مضى الكلام على مثل هذا، أن "لعل" تكون بمعنى التعليل، أي: من أجل أن يهتدوا، وأنها تأتي بمعنى الترجي، ويرد السؤال على هذا كيف يحصل الترجي في القرآن من كلام الله ، والله يعلم عواقب الأمور، وإنما يكون الترجي مما لا يعلم العواقب؟

والجواب عن هذا أن الخطاب قد يتوجه إلى المخاطب باعتبار نظره، باعتبار حاله هو كقوله تعالى لموسى وهارون -عليهما السلام: فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا [سورة طه:44] يعني: على رجائكما يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى.

اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ ۝ يُدَبِّرُ الأمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ ۝ ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ[سورة السجدة:4-6].

يخبر تعالى أنه الخالق للأشياء، فخلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام، ثم استوى على العرش.

هذه الأيام الستة، من أهل العلم من السلف فمن بعدهم من يقول: إنها ستة أيام من أيام الدنيا، من أيامنا هذه، وبعضهم يقول: إنها ستة أيام من أيام الله ، وَإِنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ [سورة الحج:47]، وهذا قال به الضحاك، فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ، والله قادر على خلقها بـ"كن"، وما يذكره بعضهم من أن ذلك يفهم منه ويتعلم منه الأناة غير مدفوع، سواء قيل: إن تلك ستة أيام من أيام الله ، أو ستة أيام من أيام الدنيا، مع كون الله قادر على خلقها بـ"كن".

قال: وقد تقدم الكلام على ذلك.

مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أي: بل هو المالك لأزمّة الأمور، الخالق لكل شيء، المدبر لكل شيء، القادر على كل شيء، فلا ولي لخلقه سواه، ولا شفيع إلا من بعد إذنه.

الولي يأتي بمعنى الناصر، والشفيع معروف من يشفع غيره، فيتقوى به؛ ليحصّل حاجته وطلبته، فمثل هذا كما سبق أنه لا يتأتى لأحد، وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً [سورة البقرة:123]، فليس له ناصر من دون الله ينصره ويخلصه، ولا شفيع يشفع له ويتوسط فيُترك، فليس ثمة إلا الصدق مع الله  والإقبال عليه والتوبة، والعمل بطاعته ومرضاته.

أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ يعني: أيها العابدون غيره، المتوكلون على من عداه، تعالى وتقدس وتنزه أن يكون له نظير أو شريك أو نديد، أو وزير أو عديل، لا إله إلا هو ولا رب سواه.

مثل هذه الآيات أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ جاء بها بعد هذه المعاني من كمال ملكه ، وقدرته وخلقه وربوبيته، وكما في الآيات السابقة قبل ذلك، كل هذا يوجب للإنسان أن يتذكر، وأن يعتبر، وأن يتفكر، وأن يدرك أنه لا سبيل له إلا بأن يعبد الله وحده لا شريك له، لا يلتفت للمخلوقين، ولا يتصنع لهم بعمله، ولا يخاف إلا الله، ولا يرجو إلا الله، ولا يتوكل إلا على الله، فبيده مقاليد الأمور، وأن المخلوقين لا يملكون له قليلاً ولا كثيراً لا في الدنيا ولا في الآخرة، فيغسل يده منهم، هذه الخلاصة. 

هذه الآيات لمّا يذكر الله خلقه وتدبيره، وتصريفه للأمور، ثم يقول: مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ يورث هذا المعنى في نفس المؤمن، لا يتعلق قلبه بالمخلوق ولا يكون له أدنى التفات إليه مهما كان هذا المخلوق، ولو أن الناس توصلوا إلى هذا، وتجردت قلوبهم هذا التجرد لبلغوا مرتبة الإحسان، أن يعبد الله كأنه يراه، ولكن القلوب عليها ما عليها من الغفلة، فينسى الإنسان هذا فيضعف، فإذا ضعف بدأ يلتفت هنا وهناك، ويتعلق بالقشة.

وقوله تعالى: يُدَبِّرُ الأمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ أي: يتنزل أمره من أعلى السماوات إلى أقصى تخوم الأرض السابعة، كما قال الله تعالى: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الأرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنزلُ الأمْرُ بَيْنَهُنَّ الآية.

وترفع الأعمال إلى ديوانها فوق سماء الدنيا، ومسافة ما بينها وبين الأرض مسيرة خمسمائة سنة، وسُمْك السماء خمسمائة سنة.

وقال مجاهد، وقتادة، والضحاك: النزول من الملك في مسيرة خمسمائة عام، وصعوده في مسيرة خمسمائة عام، ولكنه يقطعها في طرفة عين.

هنا في آية السجدة، يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاء إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ، فيكون على هذا القول -قول مجاهد وقتادة والضحاك: أن الألف سنة هو نزول الملك من السماء إلى الأرض ثم الصعود، هو ينزل في هذا الوقت اليسير، المرأة تكلم النبي ﷺ، وتجادله في زوجها، قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا [سورة المجادلة:1] وهي عنده، وينزل الملك من السماء، فهذا النزول يقطع مسيرة خمسمائة عام نزولاً وخمسمائة عام صعوداً بالنسبة لحساباتنا نحن، والعادة أن مثل هذا إذا قيل: مسيرة كذا، أنه يقدر بسير الإبل القاصد، يعني المعتدل، والإبل تقطع في يومها وليلتها في سيرها القاصد يعني مع الناس والأحمال، وتنزل ويستريحون بعد كل مرحلة من المراحل، تقطع ما يقرب من أربعين كيلو متراً في اليوم والليلة، فإذا حسبت لتتصور تقريب ذلك يعني خمسمائة سنة كم يقرب ذلك من الكيلو مترات، فقط من أجل أن يتصور الإنسان أن الذهن يتوقف عند هذه الأمور، ولا يتصور عظمة هذا فقط مما قيل بأنه المسافة بين السماء والأرض، وأن أهل الفلك لم يدركوا شيئاً يذكر، يعني من عظمة خلق الله ، فكيف بالله ؟!

فالمقصود أن هذا قول، مع أني لا أعلم حديثاً صحيحاً ثابتاً في المسافة بين السماء والأرض وما بين كل سماء وسماء، ورد فيها حديث لكن فيه ضعف، فهذا قال به جماعة من أهل العلم، أن المقصود هنا الصعود والنزول، وهذا اختاره ابن جرير، ومن المعاصرين الشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله، ويكون اليوم الآخر في سورة المعارج تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ۝ فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا ۝ إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا ۝ وَنَرَاهُ قَرِيبًا ۝ يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاء كَالْمُهْلِ ۝ وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ ۝ وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا ۝ يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ [سورة المعارج:4-11] هذا يوم القيامة، فهما يومان، هذا الذي في سورة السجدة، هذا الذي يصعد وقت الصعود والنزول، والآخر في سورة المعارج هو يوم القيامة.

والذي ذكره الله -تبارك وتعالى- في سورة الحج وَإِنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ [سورة الحج:47]، أن هذه الأيام عند الله ، وبهذا يزول الإشكال، وأهل العلم لهم أقاويل في هذا غير ما ذكر، كقول بعضهم: إن ذلك جميعاً يرجع إلى يوم القيامة، يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاء إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ، يوم القيامة، بعضهم يقول: باعتبار تفاوت أحوال الناس، المؤمن والكافر، فالكفار يطول عليهم جداً، فيكون بقدر خمسين ألف سنة، ويخفف على المؤمن. 

وبعضهم يقول: إن يوم القيامة أيام، ويقولون: إن اليوم لا يقصد به ما يكون من طلوع الشمس إلى غروبها مثلاً، وإنما العرب تعبر باليوم عن الوقت، يقولون: فلان له يوم، يعني له وقت يجد فيه غِبّ ما يفعل، فبعضهم يقول: يوم القيامة طويل جداً، وفيه أحوال وأوقات، بعضهم يقول: المقصود أحوال ليوم القيامة، فيحصل النزول والعروج في حال تكون بهذه المثابة، ألف سنة مثلاً، ومن يقول: أوقات يقول: مِن ذلك ألف سنة، ومن ذلك خمسون ألف سنة، فيحصل النزول والعروج يوافق الألف وقد يوافق أيضاً الخمسين ألفاً، هكذا يقول بعض أهل العلم، وبعضهم يقول غير ذلك.

وابن عباس -رضي الله تعالى عنه- لما سأله ابن أبي مليكة، توقف فيها قال: هما يومان الله أعلم بهما.

وتوقف سعيد بن المسيب -رحمه الله، فقال له ابن أبي مليكة: سألت ابن عباس عنها، قال: فماذا أجاب؟ قال: توقف فيها، فقال ابن المسيب: إذا كان هذا حبر الأمة قد توقف فيها!.

قال: هما يومان، مع أنه جاء في بعض الروايات عن ابن عباس -رضي الله عنهما- تفسير ذلك بما سمعتم، أن الألف هو وقت النزول والعروج، وأن الخمسين ألف سنة هو يوم القيامة.

هذا القول من أقوال أهل العلم لعله من أوضحها وأبعدها عن الإشكال، والعلماء -رحمهم الله- ذكروا عن هذا أجوبه أخرى، لكن قد لا تخلو من بعد، فالله أعلم.

وقوله تعالى: يُدَبِّرُ الأمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ أي: يتنزل أمره من أعلى السماوات إلى أقصى تخوم الأرض السابعة، كما قال الله تعالى: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ [سورة الطلاق:12] الآية.

ولهذا قال تعالى: فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ ۝ ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أي: المدبر لهذه الأمور الذي هو شهيد على أعمال عباده، يرفع إليه جليلها وحقيرها، وصغيرها وكبيرها، هو الْعَزِيزُ الذي قد عَزَّ كلَّ شيء فقهره وغلبه، ودانت له العباد والرقاب، الرَّحِيمُ بعباده المؤمنين، فهو عزيز في رحمته، رحيم في عزته وهذا هو الكمال: العزة مع الرحمة، والرحمة مع العزة، فهو رحيم بلا ذل.

هذا الوصف الثالث الذي يتكلم عليه ابن القيم -رحمه الله- من اجتماع الوصفين، أو من اجتماع الاسمين، فالعزة قد تكون سبباً لشيء من الصلف، لكن عزة الله مع رحمة، كما أن الرحمة وحدها قد يكون فيها شيء من التذلل، ولكن رحمة الله مع عزة، ومن فتح الله قلبه ونظر في القرآن بعين بصيرته، ورأى تصريف هذه الآيات، وذكر هذه الأسماء الحسنى عقب ما يذكره الله من هذه المعاني العظام فإن ذلك يورث تعظيم المعبود في قلبه، ومراقبته، ويوحده العبد، ولا يلتفت إلى غيره، والله أعلم.

مواد ذات صلة