الخميس 18 / رمضان / 1445 - 28 / مارس 2024
(5) من قوله تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا} الآية:51 إلى قوله تعالى: {وَزَادَهُمْ نُفُورًا} الآية:60
تاريخ النشر: ٠٢ / ذو الحجة / ١٤٣٠
التحميل: 6044
مرات الإستماع: 3600

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

اللهم اغفر لنا ولشيخنا وللحاضرين والمستمعين.

قال المصنف -رحمه الله تعالى- في تفسير قوله تعالى:

وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا ۝ فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا ۝ وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَّحْجُورًا ۝ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاء بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا [سورة الفرقان:51-54].

يقول تعالى: وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا يدعوهم إلى الله ، ولكن خصصناك يا محمد بالبعثة إلى جميع أهل الأرض وأمرناك أن تبلغهم القرآن: لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ [سورة الأنعام:19]، وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ [سورة هود:17]، لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا [سورة الشورى:7]، قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا [سورة الأعراف:158].

وفي الصحيحين: بعثت إلى الأحمر والأسود[1]، وفيهما: "وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة"[2]؛ ولهذا قال تعالى: فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُم بِهِ يعني: القرآن، قاله ابن عباس، جِهَادًا كَبِيرًا، كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ [سورة التوبة:73]، و [سورة التحريم:9] الآية، وقوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌأي: خلق الماءين الحلو والملح، فالحلو كالأنهار والعيون والآبار، وهذا هو البحر الحلو العذب الفرات الزُّلال، قاله ابن جريج، واختاره ابن جرير، وهذا المعنى لا شك فيه، فإنه ليس في الوجود بحر ساكن وهو عذب فرات، والله إنما أخبر بالواقع لينبه العباد على نعمه عليهم ليشكروه، فالبحر العذب هذا هو هذا السارح بين الناس، فرقه الله تعالى بين خلقه لاحتياجهم إليه أنهاراً وعيوناً في كل أرض بحسب حاجتهم وكفايتهم لأنفسهم وأراضيهم.

وقوله تعالى: وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ أي: مالح مر زُعاق لا يستساغ، وذلك كالبحار المعروفة في المشارق والمغارب، البحر المحيط وما يتصل به من الزقاق، وبحر القُلزم.

يعني: بحر القلزم يعني البحر الأحمر.

وبحر اليمن وبحر البصرة وبحر فارس وبحر الصين والهند وبحر الروم وبحر الخزر وما شاكلها وشابهها من البحار الساكنة التي لا تجري، ولكن تموج وتضطرب وتلتطم في زمن الشتاء وشدة الريح، ومنها ما فيه مد وجزر، ففي أول كل شهر يحصل منه مد وفيض، فإذا شرع الشهر في النقصان جزرت حتى ترجع إلى غايتها الأولى، فإذا استهل الهلال من الشهر الآخر شرعت في المد إلى الليلة الرابعة عشرة، ثم تشرع في النقص، فأجرى الله وهو ذو القدرة التامة- العادة بذلك، وكل هذه البحار الساكنة خلقها الله مالحة؛ لئلا يحصل بسببها نتن الهواء فيفسد الوجود بذلك، ولئلا تَجوَى الأرض بما يموت فيها من الحيوان.

ولما كان ماؤها مالحاً كان هواؤها صحيحاً وميتتها طيبة؛ ولهذا قال رسول الله ﷺ: وقد سئل عن ماء البحر: أنتوضأ به؟ فقال: هو الطهور ماؤه الحل ميتته[3]، رواه الأئمة مالك والشافعي وأحمد وأهل السنن بإسناد جيد.

وقوله تعالى: وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا أي: بين العذب والمالح، برزخاً أي: حاجزاً وهو اليبس من الأرض، وَحِجْرًا مَّحْجُورًا أي: مانعاً من أن يصل أحدهما إلى الآخر، كقوله تعالى: مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ ۝ بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَّا يَبْغِيَانِ ۝ فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ [سورة الرحمن:19-21]، وقوله تعالى: أَمَّن جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ [سورة النمل:61]، وقوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاء بَشَرًا... الآية، أي: خلق الإنسان من نطفة ضعيفة فسواه وعدله وجعله كامل الخلقة ذكراً وأنثى كما يشاء.

فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا فهو في ابتداء أمره ولد نسيب ثم يتزوج فيصير صهراً، ثم يصير له أصهار وأختان وقرابات، وكل ذلك من ماء مهين؛ ولهذا قال تعالى: وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا.

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقوله -تبارك وتعالى: وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا، قال الحافظ هنا: يعني القرآن، جاهدهم بالقرآن، وهذا هو اختيار كبير المفسرين ابن جرير -رحمه الله، والله -تبارك وتعالى- أمر نبيه ﷺ بمجاهدة الكافرين والمنافقين: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ، ومعلوم أن المنافقين لم يؤمر النبي  ﷺ بجهادهم بالقتال، فقول من قال هنا بأنه القرآن يقرب أيضاً من قول من قال من السلف بأن المراد به الإسلام، وَجَاهِدْهُم بِهِ أي: بالإسلام، فإن الإسلام كما هو معلوم يرجع إلى القرآن، فهو المصدر الذي أنزله الله -تبارك وتعالى- على هذه الأمة، هو الكتاب المبين، والسنة شارحة لهذا القرآن.

وبعض أهل العلم يقول: وَجَاهِدْهُم بِهِ أي: بالسيف، وهذا يكون فيه الضمير الهاء في "به" قد عاد إلى غير مذكور، لابد أن يقال: إنه يفهم من السياق ولكنه في الواقع غير متبادر.

والأحسن هنا -والله تعالى أعلم- أن يقال: إن الضمير يرجع إلى القرآن.

فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُم بِهِ إذا قلنا: القرآن كذلك أيضاً الضمير يرجع إلى غير مذكور، وهكذا إذا قيل: الإسلام، ولكن الذي يتبادر -والله تعالى أعلم- هو أن المقصود بذلك: وَجَاهِدْهُم بِهِ أي: بالقرآن وما أنزل الله عليك، وذلك أن الله -تبارك وتعالى- قال: وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا ۝ فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا جاهدهم به، يعني: بما أنزلنا إليك، والذي أنزله هو القرآن، هو الإسلام، جاهدهم بهذا الدين، وذلك ببيان الحق بدلائله والرد على المبطلين وإبطال ما يتشبثون به من شبهات وتُرّهات يعتقدون أنها حجج، فهذا من مجاهدته.

ولذلك فإن المنافقين في زماننا ليس هناك أقوى ولا أنفع ولا أجدى فيما يملكه الداعي إلى الله -تبارك وتعالى- والعالم من مجاهدتهم بالقرآن، تبين للناس حقائق الدين، والقرآن قد تضمن كل ما يحتاج إليه الناس، ولا يأتون شيئاً من الأباطيل إلا وفي القرآن ما يرد عليهم، إما صراحة وإما ضمناً، والله -تبارك وتعالى- يقول: وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا [سورة الفرقان:33]، لا يحتجون بحجة ولا يوردون شبهة ولا اعتراضاً إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيراً، فهذا من مجاهدتهم به، والله المستعان.

وقوله -تبارك وتعالى: وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ المرج يأتي بمعنى الخلط؛ ولهذا قال كثير من المفسرين: مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ أي: خلط، وهكذا قد يأتي بمعنى الإرسال والتخلية، يقال له مرج، لما قال النبي ﷺ لعبد الله بن عمرو: إذا رأيتم الناس قد مَرِجت عهودهم، وخفت أماناتهم، وكانوا هكذا، وشبك بين أصابعه..[4]، ذلك بمعنى الاختلاط، وكذلك أيضاً يقال: مَرِجت عهودهم يعني: أنها تنقض ولا يوقف عندها ولا يكون لهؤلاء عهد وأمان.

فهنا مرج البحرين إذا قلنا: إن المرج يأتي بمعنى الخلط، فعليه يبعد أن يقال بأن قوله: وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا أي: من اليابسة، حاجزاً من اليابسة، كما قال ابن كثير هنا، فهذا ليس من الخلط في شيء، يعني: جعل بينهما فاصلاً من اليابسة، فهذه أنهار وهذه بحار يفصل بينها أرض يابسة فلا يختلط هذا بهذا، فيبقى هذا على عذوبته وهذا على خصائصه من الملوحة وما إلى ذلك، وقول من قال بأن المقصود به الإرسال، في الواقع لا يخرج عما ذكرت، هو الذي مرج البحرين هذا عذب فرات وهذا عذب، فهو يرجع إلى معنى الخلط، إذا تأملته فإنه حينما يرسل هذا على هذا فإن ذلك لا يفسد خصائص البحر الملح ولا البحر العذب.

وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَّحْجُورًا برزخ هذا هو الحاجز، منهم من يقول كما قال ابن كثير -رحمه الله: يعني من اليابسة، لكن هذا يشكل عليه ما سبق، وإنما -والله تعالى أعلم- المراد أنه أرسل هذا على هذا، إذا قلنا بمعنى الإرسال أو التخلية، وهذا يقتضي الخلط، فهذا القدر من المعنى قال به طائفة من السلف.

تفصيل هذه الجملة، وإن شئت أن تقول: فلسفة هذه القضية، ما يذكره المعاصرون أو بعض المعاصرين اليوم من صور وأمور تتعلق بطبيعة هذا الأمر، يعني تحتمله الآية يمكن أن يكون تفسيراً لقوله: وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا والبرزخ هو الحاجز هو الفاصل بين شيئين، ولهذا كانت الحياة البرزخية هي بين الحياة الدنيا والحياة الآخرة، برزخ، فبعضهم يقول: هذا البرزخ هو ماء يحمل خصائص محددة تختلف عن خصائص الماء الحلو وخصائص الماء الملح، تعيش فيه الكائنات التي تختص به، وله بيئته وله طبيعته، لا يتبدل ولا يتغير، فيقولون: هذا هو الحاجز.

وبعضهم يقول: إن الماء الذي ينزل في البحار، ما يصب من مياه الأنهار يبقى محافظاً على خصائصه، ويقولون: إنهم اكتشفوا أن المياه التي تنحدر في البحر تأخذ مسارات محددة وأنها تبقى محافظة على خصائصها، هكذا يقولون.

وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَّحْجُورًا بمعنى: أنه لا يكون ذلك نهاية المطاف بالنسبة لهذا الماء الحلو حينما ينزل في البحر، وإنما يبقى له خصائصه ومساراته في داخل هذا الماء الملح، فلو كان هذا الكلام ثابتاً فيمكن أن يكون ذلك أو بعض ذلك من تفسير ما سبق من أن البرزخ هو الحاجز، هو حاجز لا نراه بالعين، والقول بأنه من اليابسة بعيد؛ لأنه يخالف المعنى الذي ذكره أهل العلم كابن جرير -رحمه الله- بأنه يأتي بمعنى التخلية وبمعنى الخلط في أصل هذه المادة، يعني: في كلام العرب.

إذن كيف يكون هذا البرزخ الذي بينهما؟

السلف يقولون: حاجز، تفاصيل هذه الجملة يمكن أن تكون ببعض ما يذكره المعاصرون من علماء البحار، إن ثبت ذلك، فإنه لا يبعد أن يفسر به هذا الحاجز، لا يبعد، فيكون ذلك من قبيل الزيادة في الفهم والتفصيل، يعني: ليس بمعنى جديد يعود إلى أقوال السلف بالإبطال، هذا هو المطلوب، لا يمكن لهؤلاء ولا لغيرهم أن يأتوا بمعنى يقولون: هذا هو معنى الآية، وإن السابقين أخطئوا في فهمه، ما فهموه، هم فهموه بحسب المعطيات العلمية في عصرهم ولكنهم فاتهم المعنى المقصود، ونحن عرفناه بما أعطانا الله وأتاح من إمكانات العلم إلى آخره، ما يقولونه هذا كلام مرفوض، لا يمكن أن يخطئ السلف ، مُخطِّئوا الأمة ما يفهمون الآية، يفهمونها بطريقة غير صحيحة، ثم يأتي أحد بعد ذلك، ويقول: هذا هو المعنى الصحيح وما قبله غلط، لكن غاية ما هنالك إذا كانت الآية تحتمل، والمعنى الذي ذُكر ثابت أو القضية أو النظرية، والحقيقة إن كان ذلك من الحقائق العلمية فإنه يكون من قبيل الزيادة في الفهم، يعني: من قبيل التفسير والتوضيح والتفصيل لهذا الكلام المجمل فقط، هذه الحالة التي يمكن أن ينظر فيها في هذه الأشياء التي تذكر.

وبعضهم يقول: إن هذا الحاجز يكون بين البحر والبحر، كالخليج والبحر، عند التقاء البحار يوجد حاجز، وأنهم اكتشفوا هذا، هذا البحر له خصائصه، وهذا البحر له خصائصه، ويقولون: هذا المراد بقوله تعالى: مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ ۝ بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَّا يَبْغِيَانِ هنا مرج البحرين غير محدد حلو أو ملح، لكن هنا في قوله -تبارك وتعالى: وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ يحتمل أن تكون هذه الآية تفسيراً لما أجمل هناك.

مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يعني: أن أحدهما حلو والآخر ملح، يحتمل هذا، ويحتمل أن يكون ذلك ليس من باب العام والخاص، وإنما يكون ذلك واقعاً على لون، وهذا واقع على لون آخر، يعني هذا في الحلو والملح، وذاك في البحرين مطلقاً، والبحر هو الماء الكثير المستبحر في لغة العرب، فالبحيرات يقال لها: بحر، والأنهار بهذا الاعتبار يقال لها: بحر، بنص هذه الآية: هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ فالنهر يقال له: بحر، والبحر أيضاً يقال له: بحر، وإن كان عرف الناس اليوم إطلاق البحر على الماء الملح الكثير المعروف، ويطلقون على الحلو النهر وما أشبه ذلك، لكن لا يُحمل كلام الله ، لا تحمل نصوص الشرع على اصطلاح حادث، هذا ما يصح.

فالشاهد أن الآية تحتمل من هذه الوجوه، بمعنى أن قوله: مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يحتمل أن يكون ملحاً وحلواً بهذا الشمول، وأن الآية باقية على حالها، ويحتمل أن تكون مبيَّنة مفسَّرة بآية الفرقان، هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَّحْجُورًا.

فالحاصل: أن ما يذكرونه من وجود خصائص هذا الحاجز وهو حاجز مائي، وأنه تعيش فيه كائنات معينة.. إلى آخره، لا يبعد أن يكون من جملة التفسير لهذا الحاجز، لا يبعد، وإن كنا لا نقطع بهذا لكنه لا يعود على أقوال السلف بالإبطال، هذا مهم، وكون الماء الحلو ينزل في البحار ويبقى يحمل خصائصه أو نحو ذلك فهم يقولون هذا، والذي يعرفه الناس منذ القدم هو أنه يوجد أيضاً في البحار عيون عذبة نابعة، وأهل البحر ممن يركبونه منذ أزمان متطاولة يعرفون هذا، حتى إنهم يبقون فيه الشهور الطويلة وينفد ما عندهم من مياه وأزواد فيتزودون من البحر في طعامهم مما يستخرجون منه، ويتزودون من الماء من عيون يعرفون مواقعها في داخل البحر يملئون منها القراب، يغوصون ويملئون قربهم من داخل البحر، هذا معروف، ويعرفه أناس قد عاينوا هذا وعرفوه وركبوا البحر، وقد لا يكون الواحد منهم ممن يقرأ أو يكتب من العامة لكن لهم خبرة في هذا الجانب.

هذه المعاني تُحتمل، مما يُحكى في هذا وإن كان قد يخالف في ظاهره بعض ما يذكرون من أن هذا الماء الحلو يبقى يحافظ على خصائصه يعني يبقى على عذوبته في مسارات وأوضاع داخل البحر لا تذهب به، قد يخالف ما يقوله الآخرون منهم من أن نزول المياه مياه الأمطار ومياه الأنهار على البحر أن ذلك يحصل به التعادل والتماسك فيبقي البحر على خصائصه ونسبة الملوحة فيه؛ لأنه يتبخر منه كميات كبيرة بالشمس، فلو بقي على هذه الحال لانعقد ملحاً لا تصلح الحياة به -حياة الكائنات التي تعيش داخل البحر، فتأتي مياه الأمطار وتأتي مياه الأنهار لتعوض هذا النقص، فيبقى محافظاً على اعتداله وطبيعته التي جعله الله عليها، والله حكيم.

وقول ابن كثير -رحمه الله: وهذا المعنى لا شك فيه، فإنه ليس في الوجود بحر ساكن وهو عذب فرات، فابن كثير -رحمه الله- تكلم بحسب ما يعلم، وإلا فإنه يوجد بحر ساكن وهو عذب فرات، ليست فقط الأنهار هي العذبة وإنما البحيرات، وهذا مشاهد ومعروف لكنه بعيد جداً عن بيئة ابن كثير -رحمه الله- في بلاد الشام، وإلا فالبحيرات المعروفة كبحيرة فكتوريا مثلاً في أفريقيا تمر بنحو سبع دول، بحيرة ضخمة كبيرة جداً كالبحر تماماً، وقفت عليها ورأيتها، بحر تماماً، فالبحر الذي تشاهده لا فرق بينه وبينها إلا أنها عذبة.

الأمواج والسفن وهذه الأشياء التي توضع: بيان المواضع العميقة بحيث لا يتعداها أحد، يعني المنطقة عميقة بعد ذلك وموج مضطرب تماماً، هي بحر إلا أنه في غاية العذوبة، هذا بحر ساكن، لا يقصد بالبحر الساكن أنه ليس فيه موج، وإنما يقصد أنه ليس بجار، ليس بمثابة الأنهار، هذه البحيرات ساكنة، وما ذكره هنا يقول ملح مر: مِلْحٌ أُجَاجٌ قال: أي: مالح، والأفصح أن يقال: الماء الملح، ويصح لغة أن يقال: ماء مالح، لكن الأفصح أن يقال: ماء ملح، يعني: مالح، قال: ملح أي مالح مر زُعاق، فابن كثير -رحمه الله- جمع المعنيين، فإن قوله: مِلْحٌ أُجَاجٌ، بعضهم يقول: ملح أجاج أي: شديد الملوحة، وبعضهم يقول: مر، كلمة أجاج تأتي لهذا وهذا، بالغ الملوحة وبالغ المرارة.

العذب الفرات يعني: شديد العذوبة، والملح الأجاج: شديد الملوحة ويقال أيضاً: شديد المرارة، بعضهم يقول هذا، وبعضهم يقول هذا، وابن كثير جمع المعنيين، وهذا من محاسن هذا التفسير، شديد الملوحة ملح أجاج، وهذه نسبية، يعني: إذا قارنته بالعذب الفرات فهو ملح أجاج، لكن هذا الملح الأجاج حينما تقارن بعضه ببعض فإنه يتفاوت كثيراً، ولهذا تجد الماء الذي في المحيط لا يقارن بالماء الذي في الخليج مثلاً، يعني هذا الماء الذي عندنا هنا في الخليج مثلاً هو من أكثر المياه ملوحة، أكثر البحار ملوحة في العالم، يعني يتفوق عليه البحر الميت، لكنه من أشد المياه حيث إنه إذا أصاب عين الإنسان مثلاً الإنسان قد يتأذى من ذلك، بينما مياه المحيط لا يتأذى الإنسان منها إطلاقاً؛ لأن ملوحته أدنى من هذا بكثير، يعني: تسبح فيه وأنت فاتح العينين، ويصيب العين، ولا تحتاج أن تغمضها؛ ولذلك ترون أن مياه المحيطات على شواطئها أشجار بأنواعها، بينما هذا لا ينبت على شاطئه.

يقول: بحر القلزم وبحر اليمن... يسمونه البحر العربي، بحر القلزم عرفنا أنه الأحمر، وبحر البصرة يعني: رأس الخليج العربي وما يلي البصرة يقال له: بحر قديماً، هذه أسماء قديمة، ما يلي رأس الخليج وهو الآن لا يطل على البصرة، ولكن البصرة قديماً وتوابعها تطل على الخليج العربي، على رأس الخليج العربي، وما يسمى بالكويت الآن كانت تسمى قديماً كاظمة، وهي أول منطقة فتحها خالد بن الوليد في فتوح العراق، تنظرون في أول معركة وقعت مع الفرس كانت كاظمة، فالبصرة بهذا الاعتبار بحر البصرة رأس الخليج العربي.

يقول: بحر البصرة وبحر فارس، يقصد به نفس الخليج العربي، في بعض تسمياته القديمة يقال له: بحر فارس، وهذه القضية الآن يعني ليست محل تسليم إطلاقاً.

ومعروف أن أطراف الخليج مما يلي بلاد فارس تسكنه القبائل العربية.

يقول: وبحر الصين، يعني: المحيط هناك، وبحر الهند ومما يليها، وبحر الروم، بحر الروم الذي هو البحر الأبيض المتوسط وما شاكل ذلك.

وما ذكره هنا يقول: ففي أول كل شهر يحصل منه مد وفيض، وابن كثير لا يخفى عليه أن منتهى المد في وسط الشهر ليلة الخامس عشر مثلاً يكون منتهى المد، هو لم يفته هذا، كلامه وما ذكر هنا صحيح، لكنه يقصد أنه يبدأ بالتدريج من أول الشهر، أول الشهر ثاني يوم يزداد قليلاً ثالث يوم، فإذا وصل إلى منتصف الشهر كان في المنتهى، ثم بعد ذلك من ليلة السادس عشر والسابع عشر يبدأ النقصان شيئاً فشيئاً فيتناهى النقصان في آخر ليلة من الشهر، فإذا بدأ الشهر من جديد بدأت عملية المد، مثل ما يقال في زيادة الليل والنهار.

فما ذكره هنا صحيح، ولا يقصد أن المد يكون في أول الشهر.

وهنا يقول: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاء بَشَرًا يعني: خلق الإنسان من نطفة ضعيفة، نطفة من الماء المهين، لقد خلقنا الإنسان من ماء مهين، وبعض أهل العلم يقول: إن المقصود هنا بالماء ما جاء في قوله -تبارك وتعالى: وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ [سورة الأنبياء:30]، مع أن الآية الأخرى: وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ اختلفوا في المراد بالماء: هل هو النطفة، هل هذا باعتبار المخلوقات التي تخلق من النطف، أو أنه الماء الذي يقوم به قوام الحياة يشرب منه الإنسان والحيوان وما إلى ذلك؟

فالشاهد: أن قوله -تبارك وتعالى: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاء بَشَرًا الأقرب أن يكون المراد به النطفة؛ لأن المقصود هنا بيان القدرة على الخلق، هذا الماء الذي هو ماء مهين خُلق منه الإنسان يصير بعد ذلك إلى مخلوق آخر ويكون نسباً وصهراً، فهنا يقول ابن كثير -رحمه الله: فهو في ابتداء أمره ولد نسيب، يعني: له نسب، فلان بن فلان، هذه أمه وهذا أبوه ينتسب إلى أجداده، ثم يتزوج فيصير صهراً، يعني باعتبار الإنسان المعين، خلق من الماء بشراً، فهذا البشر جعله جعل هذا البشر نسباً: فلان بن فلان، وصهراً بعد ذلك في الحال الثانية لما يتزوج يكون له أصهار، فهذا أبو زوجته، وهذه أم زوجته، وهذا حمٌ.. وما أشبه هذا، فهذا الذي ذكره الحافظ ابن كثير.

وبعض أهل العلم كالضحاك وابن جرير ذكر بأن النسب هو المذكور في قوله -تبارك وتعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاَتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ [سورة النساء:23] هذه السبع محرمات من النسب، وخمس محرمات من جهة المصاهرة، فقال: وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِ إلى آخر ما ذكر، فالعلاقة إما أن تكون بالنسب أو بالمصاهرة، هكذا قال ابن جرير -رحمه الله- وسبقه إلى هذا القول الضحاك، وهذا لا يخالف ما قاله ابن كثير، فابن كثير بيّن أصل المعنى، وهؤلاء ذكروا هذه التفاصيل: المحرمات من النسب، والمحرمات من الرضاع، فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا.

وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا ۝ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا ۝ قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَن شَاء أَن يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا ۝ وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا ۝ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلـَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا ۝ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا [سورة الفرقان:55-60].

يخبر تعالى عن جهل المشركين في عبادتهم غير الله من الأصنام التي لا تملك لهم ضراً ولا نفعاً بلا دليل قادهم إلى ذلك، ولا حجة أدتهم إليه، بل بمجرد الآراء والتشهي والأهواء، فهم يوالونهم ويقاتلون في سبيلهم، ويعادون الله ورسوله والمؤمنين فيهم؛ ولهذا قال تعالى: وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا أي: عوناً في سبيل الشيطان على حزب الله، وحزب الله هم الغالبون.

كما قال تعالى: وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنصَرُونَ ۝ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُندٌ مُّحْضَرُونَ [سورة يس:74، 75] أي: آلهتهم التي اتخذوها من دون الله لا تملك لهم نصراً، وهؤلاء الجهلة للأصنام جند محضرون يقاتلون عنهم ويذبون عن حوزتهم، ولكن العاقبة والنصرة لله ولرسوله وللمؤمنين في الدنيا الآخرة.

قال مجاهد: وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا قال: يظاهر الشيطان على معصية الله ويعينه.

هذا المعنى الذي ذكره مجاهد -رحمه الله- هو الذي قال به عامة السلف -، قال: وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا الظهير هو المعين، وكيف يكون الكافر على ربه ظهيراً؟ حينما يعبد غير الله -تبارك وتعالى- يكون من حزب الشيطان، وبهذا الاعتبار يكون ظهيراً للشيطان وحزبه على ربه -تبارك وتعالى- ورسله وأتباع الرسل -عليهم الصلاة والسلام، وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا والناس أسرى لأفكارهم ومعتقداتهم كما يقال، فإذا كان الإنسان على عبادة، إذا كان على دين منحرف وعلى ملة منحرفة فإنه يكون بهذا الاعتبار من أولياء الشيطان، ويكون بهذا عدواً ومحاداً ومحارباً لله ولرسله -عليهم الصلاة والسلام؛ ولهذا قيل للكافرين وعبر عن ما هم فيه بأنه محادّة، "إن الذين يحادون الله ورسوله..".

وأصل المحادة كأن هذا في حد وهذا في حد، وأعداء، وأصل العداوة أن يكون هذا في عُدوة وهي شاطئ الوادي من جهة وهذا في عدوة -هذا في جانبه الآخر، هذا معنى المحادة والمشاقة، أن يكون هذا في شق وهذا كذلك في الناحية الأخرى، وبهذا الاعتبار يكون الكافر على ربه ظهيراً، هذا المعنى هو الذي عليه عامة السلف، وإن قال بعضهم بغير هذا، وهذا هو اختيار ابن جرير -رحمه الله.

بعضهم يقول: وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا أي: أن الله -تبارك وتعالى- يُعرض عنه، ويكون مَهيناً على الله ، يعني بمعنى كما يقال: فلان ترك فلاناً وراء ظهره، يعني: لم يعبأ به ولم يكترث به، لكن هذا المعنى فيه بُعد، والأقرب -والله وأعلم- هو كما قال الله : وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ [سورة التحريم:4] أي: نصير ومعين.

قال ابن القيم -رحمه الله تعالى: "قول الله -تعالى ذكره: وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا هذا من ألطف خطاب القرآن وأشرف معانيه، وأن المؤمن دائماً مع الله على نفسه وهواه وشيطانه وعدو ربه"[5].

فالمؤمن دائماً مع الله على نفسه وشيطانه وهواه، هذا المؤمن مع الله، فالمؤمن على شيطانه ظهير، والكافر على ربه ظهير.

وقال -رحمه الله: "وهذا معنى كونه من حزب الله وجنده وأوليائه، فهو مع الله على عدوه الداخل فيه والخارج عنه يحاربهم ويعاديهم ويغضبهم"[6].

الداخل فيه هو الهوى، النفس الأمارة بالسوء، والخارج عنه الشيطان من شياطين الإنس والجن، ولابد يعني كلما حقق الإنسان الإيمان كلما كانت هذه المظاهرة على أعداء الله أكثر، وكلما ضعف إيمانه كلما ضعفت هذه المظاهرة، حتى يصير إلى حال لا يرفع لذلك رأساً، فالأمر كأنه لا يعنيه.

وقال -رحمه الله: "يحاربهم ويعاديهم ويغضبهم له سبحانه، كما يكون خواص الملِك معه على حرب أعدائه، والبعيدون منه فارغون من ذلك"[7].

فالأمر بالنسبة لهم لا يعنيهم، وأهم شيء عنده أن يحصل على مال ويأكل ويشرب، وموضوع قضية هذا كافر وهذا ضال، وهذا مجوسي، وهذا يهودي، وهذا نصراني، لا يعنيني الموضوع، فالقضية لا تعنيه، ولذلك ممكن مثل هذا أنه يرشح أحد هؤلاء، في بلاد تسمع أن هؤلاء رشحوا نصرانيا، وهؤلاء رشحوا..، وقد لا يفترق عنده مثلاً في قضية تتعلق بتعيينات مثلاً يعين أستاذاً في الكلية في الجامعة معيداً إلى آخره، تقول: هذا الإنسان لا يصح تمكينه، إنسان يحمل عقيدة ضالة زائغة، تفاجأ أن البعض يقول لك: يا أخي له عقيدته وأنا لا شأن لي بهذا، ونحن لا ننظر بهذا الاعتبار، هو ما يعنيه، فالمؤمن لابد أن يكون مع الله، وهؤلاء إذا كانوا أعداء لله فلابد أن يكون ظهيراً عليهم.

وقال -رحمه الله: "والبعيدون منه فارغون من ذلك غير مهتمين به، والكافر مع شيطانه ونفسه وهواه على ربه، وعبارات السلف على هذا تدور:

ذكر ابن أبي حاتم عن عطاء بن دينار عن سعيد بن جبير قال: عوناً للشيطان علي ربه بالعداوة والشرك.

وقال ليث عن مجاهد قال: يظاهر الشيطان على معصية الله ويعينه عليها.

وقال زيد بن أسلم: ظَهِيرًا أي: موالياً، والمعنى: أنه يوالي عدوه على معصيته والشرك به، فيكون مع عدوه معيناً له على مساخط ربه"[8].

هذا يرجح المعنى الذي ذكره ابن كثير، ظهيراً أي: معيناً موالياً نصيراً.

وقال -رحمه الله: "فالمعية الخاصة التي للمؤمن مع ربه وإلهه قد صارت لهذا الكافر والفاجر مع الشيطان، ومع نفسه وهواه وقربانه؛ ولهذا صدّر الآية بقوله: وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ، وهذه العبادة هي الموالاة والمحبة والرضا بمعبوديهم المتضمنة لمعيتهم الخاصة، فظاهَروا أعداء الله على معاداته ومخالفته ومساخطه، بخلاف وليه سبحانه، فإنه معه على نفسه وشيطانه وهواه، وهذا المعنى من كنوز القرآن لمن فهمه وعقله، وبالله التوفيق"[9].

المثل الذي ذكره يقول: فإن خواص الملك يكونون معه على أعدائه فيعادون من يعاديه، الآن تصور لو أن ملكاً من الملوك له خواص يقربون أعداءه ولا يبالون بما هم فيه من عداوتهم للملك، والأمر لا يعنيهم، ولا ينظرون للناس بهذا الاعتبار، فلا يقبلهم الملك ولا يمكن أن يمكن لهم، بل هم يسارعون في عداوة من عاداه ومباعدته والتحرز منه غاية التحرز، وهذا مشاهد في أقطار الدنيا، فلو جاء أحد يدعي التجرد في زعمه، ثم بعد ذلك أراد أن ينظر للناس بعيداً عن هذه الاعتبارات فلا يمكن أن يقره الملك طرفة عين.

والذي يدعي الإسلام، بل لربما يدعي أنه من الدعاة إلى الله، ثم بعد ذلك إذا نظرت إلى المعايير والمقاييس ومنطلقاته في فهمه وأحكامه وآرائه تجدها بعيدة تماماً، يقول لك: نحن لا ننظر للناس بهذه الاعتبارات، هذا عنده إنصاف الآن في زعمه، فتجده لا يفرق بين الرجل من الأخيار من الصالحين من أهل السنة وبين النقيض من أصحاب البدع الغليظة، ويمكن أن يرشح هذا وأمثاله لأعمال، لأن يكون أستاذاً في الجامعة أو نحو ذلك، يقول لك: عقيدته لا تعنيني، كيف عقيدته ما تعنيك؟

إذا كنت تؤمن بالله فاعلم أن الكافر على ربه ظهير، والمؤمن على الشيطان وحزبه ظهير، هذا إذا كان الإيمان صحيحاً حياً، ولكن للأسف الكثير من المفاهيم تغيرت واختلط على كثير من الجهال أمور لُبست عليهم، فظنوا أن هذا من الحق والعدل والإنصاف والتجرد، وهذا غير صحيح، وهذا لا يقف عند حد، يعني ممكن لغيره أن يأتي ويقول: هذا اليهودي والنصراني مثلنا، كما أننا نريد أن نذهب ونتعبد في بلادهم ونقيم مساجد و و.. إلى آخره، هم نفس الشيء يريدون أن يتعبدوا، فتجد بعض المنتسبين إلى الدين أو العلم ممن اختلط عليه هذا أساء الفهم أو لهوًى يقول لك: وما المانع أن نفتح لهم الكنائس، والمعابد لليهود وكذا، كما أننا نريد أن نتعبد الله هم يريدون أن يتعبدوا الله أيضاً؟ لاحظتم الشبهة، لكن عندما نعرف أن هؤلاء على باطل ونحن على حق هنا تأتي قضية أخرى وهي أن هذا إقصاء، وهذه مشكلة.

فالقضية نحن على حق وهؤلاء على باطل، إذا كان الأمر كذلك فنحن من هذا المنطلق نقول: لا يمكّن للباطل وأهل الباطل، ومن ثَمّ لا يمكن أن يظهروا شعائرهم ودينهم، لكن لو نظرنا بنظرة دنيوية بحتة فقد يتفلسف الإنسان بمثل هذه الفلسفات، لكن عندنا شرع يحكمنا وأصل كبير وهو الولاء والبراء.

ثم قال تعالى لرسوله -صلوات الله وسلامه عليه: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا أي: بشيراً للمؤمنين ونذيراً للكافرين، مبشراً بالجنة لمن أطاع الله، ونذيراً بين يدي عذاب شديد لمن خالف أمر الله.

قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ أي: على هذا البلاغ وهذا الإنذار من أجرة أطلبها من أموالكم، وإنما أفعل ذلك ابتغاء وجه الله، لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ [سورة التكوير:28]، إِلا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً أي: طريقاً ومسلكا ومنهجاً يقتدي فيها بما جئت به.

قوله -تبارك وتعالى: إِلا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً الاستثناء هنا منقطع على الراجح، وإن وجد من قال بأنه متصل، فيكون المعنى قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ لكن مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً التصدق، التقرب إلى الله بما يبذل من أموال، فهذا باب في التعبد والتقرب إلى الله ، لكن لا يرجع إليّ من ذلك شيء، فذلك يعني أنه متجرد من طلب أموالهم، وليس له حظ في ذلك، متنزه عنها.

ولا شك أن هذا هو الطريق المفتاح لقلوبهم، وأن سؤال الأموال منهم أن ذلك إِن يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ [سورة محمد:37] فالناس يثقل عليهم من سأل منهم الأموال، وقد يتثاقلون عن إجابته أو يردون دعوته بهذا الاعتبار، ومن ثَمّ كما سبق أنه ينبغي لمن يتصدى للدعوة أن يكون متجرداً لا يطلب بهذه الدعوة شيئاً لنفسه، لا من الحظوظ المادية –الأموال، ولا يطلب بذلك ولايات ومناصب، كما لا يطلب بذلك أيضاً حظوظاً معنوية من الشهرة، والمنزلة في قلوب الخلق والحظوة عندهم، فإن ذلك يضعف أثر الدعوة ويكون ثقيلاً على القلوب، ولا يحصل لكلامه نفع، وعلى قدر ما يكون عند الإنسان من التجرد على قدر ما يُبارَك في علمه أو كلامه أو في دعوته، ويكون له من القبول والمحبة في قلوب الخلق.

والحاصل: أنه لا يصح بحال من الأحوال أن تكون الدعوة تجارة، ممكن الإنسان يتاجر ببيع وشراء ولكن لا يتاجر بالدعوة، فمن تحولت عنده الدعوة إلى تجارة فإن ذلك مؤذن برد دعوته وعدم القبول، وقد تكلمت على هذا المعنى في بعض المناسبات السابقة لكنه في غاية الأهمية؛ لأن هذا للأسف أصبح الآن مرضاً يتفشى وينتشر، والشيطان يقعد لكل أحد فيأتي لربما من اشتغل بالدعوة إلى الله فيحصل الأموال الطائلة بسبب دعوته.

ممكن ببرنامج من حلقات قصيرة في قناة من القنوات يُكوّن أربعمائة ألف ريال، أنا أتحدث عن أشياء واقعية، ممكن حلقة واحدة بثلاثين ألف ريال، الشريط الواحد بأربعمائة ألف ريال، شريط كاسيت محاضرة، ختمة قرآن، أربعمائة ألف ريال، أربعمائة وخمسون ألف ريال، ممكن هذا، اشتراك في حملة حج مائة ألف ريال، فهذا خطير.

فإذا قلنا: إن الداعية قد يسقط بسبب الاشتغال بالدنيا اشتغل بالتجارة أو نحو ذلك بأن يلهو عن دعوته وينشغل وينصرف، وطالب العلم ينصرف بالانشغال بالدنيا والبيع والشراء، فهذا أخطر: أن يبقى في الصورة على دعوته ولكنه اتخذها تجارة يحصل بها الملايين مما لا يحصله في لربما بيع أو شراء.

المقصود: أن الدعوة ليست تجارة، ويُتفطن لهذا، على قدر تجردنا على قدر ما يحصل من النفع والبركة والخير والقبول، ونحن أحوج ما نكون هذه الأيام إلى هذه الأوصاف، وهذا معنى أو أحد المعاني الداخلة تحت قوله: وَلَكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ [سورة آل عمران:79].

ثم قال تعالى: وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ أي: في أمورك كلها كُن متوكلاً على الله الحي الذي لا يموت أبداً، الذي هو الأوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [سورة الحديد:3] الدائم الباقي السرمدي الأبدي، الحي القيوم، ربّ كل شيء ومليكه، اجعله ذُخْرك وملجأك، وهو الذي يُتَوكل عليه ويفزع إليه، فإنه كافيك وناصرك ومؤيدك ومظفرك، كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [سورة المائدة:67].

في قوله -تبارك وتعالى- هنا: وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ ذكر الحي ما قال: توكل مثلاً على العزيز، في هذا الموضع هنا ذكر الحي، فذكْرُ الحياة له مغزى وهو أن التوكل على المخلوقين لا يجدي على صاحبه شيئاً؛ لأنهم يموتون، فإذا اعتمدت على مخلوق ضعيف ثم مات هذا المخلوق وانتهى ولم يبق له معتمد ولا مستند ولا ناصر، فينقطع ذلك الحبل الذي استوثق به وتمسك به، ولكنه إذا كان توكله على الحي الذي لا يموت فإن الله -تبارك وتعالى- يكون له معيناً ونصيراً ومُخلِّصاً في كل الأحوال.

وقوله تعالى: وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ أي: اقرن بين حمده وتسبيحه؛ ولهذا كان رسول الله ﷺ يقول: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك[10] أي: أخلِص له العبادة والتوكل، كما قال تعالى: رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلا [سورة المزمل:9]، وقوله تعالى: فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ [سورة هود:123]، وقال تعالى: قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا [سورة الملك:29].

يعني هذه المعاني يحتاج إليها الإنسان، ونحن نغفل عنها، يعني الله يأمره بالتوكل قال: وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ فيرتبط الإنسان مع هذه الأمور، التوكل يكون قائماً بالقلب، تصدقه أحوال الإنسان ومزاولاته، وأيضاً مع هذا التوكل يكون مشتغلاً بتسبيحه وتحميده، سبحان الله وبحمده، يردد هذا ويكثر منه، وتجد في القرآن أشياء من هذا القبيل كثيرة نغفل عنها مع أننا نقرؤها كثيراً ولكنها ذات أثر بالغ في تحقيق المطلوب في هذه المعاني، والله تعالى أعلم.

وقوله: وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا أي: لعلمه التام الذي لا يخفى عليه خافية، ولا يعزب عنه مثقال ذرة.

وقوله: الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ.. الآية، أي: هو الحي الذي لا يموت، وهو خالق كل شيء وربه ومليكه الذي خلق بقدرته وسلطانه السماوات السبع في ارتفاعها واتساعها، والأرضين السبع في سفولها وكثافتها، فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ أي: يدبر الأمر ويقضي الحق وهو خير الفاصلين.

قوله: ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ بمعنى: علا وارتفع، العلو والارتفاع، كما جاء عن أئمة السلف، وبه قال كبار أهل اللغة، ابن الأعرابي والخليل بن أحمد.

وقوله: ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا أي: استعلِم عنه مَن هو خبير به عالم به فاتبعه واقتدِ به، وقد عُلِم أنه لا أحد أعلم بالله ولا أخبر به من عبده ورسوله محمد -صلوات الله وسلامه عليه- سيد ولد آدم على الإطلاق في الدنيا والآخرة، الذي لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى، فما قاله فهو الحق، وما أخبر به فهو صدق، وهو الإمام المحكم الذي إذا تنازع الناس في شيء وجب ردّ نزاعهم إليه، فما وافق أقواله وأفعاله فهو الحق، وما خالفها فهو مردود على قائله وفاعله كائناً من كان، قال الله تعالى: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ.. [سورة النساء:59] الآية، وقال تعالى: وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ [سورة الشورى:10]، وقال تعالى: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلا [سورة الأنعام:115] أي: صدقاً في الإخبار، وعدلاً في الأوامر والنواهي؛ ولهذا قال تعالى: فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا.

الله -تبارك وتعالى- يقول: وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ ظاهر الخطاب أنه موجه للنبي ﷺ، ولا شك أن مثل هذا الخطاب متوجه لأمته.

ثم ذكر صفته -تبارك وتعالى- مِن خلق السماوات والأرض، والاستواء على العرش، واتصافه بالرحمة التي هي أوسع الصفات، لا يخلو منها مسلم ولا كافر ولا إنسان ولا حيوان، استوى على أوسع المخلوقات وهو العرش، بأوسع الصفات وهي الرحمة، "الرحمن".

فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا اسأل به أي: بالرحمن، والباء هنا يحتمل أن تكون بمعنى عن، أسأل عنه خبيراً، يعني: مَن يعرفه حق المعرفة، وأحق من يوصف بهذا هو النبي ﷺ، فهو أعلم الأمة بربه -تبارك وتعالى، ومن أهل العلم كابن جرير من يقول: إن المعنى: فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا أسأل به يعود إلى أقرب مذكور، الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا أي: بالرحمن، خَبِيرًا أسأل به أي: بالرحمن، خبيراً بخلقه، خلق السماوات والأرض، لا يخفى عليه شيء من أحوال خلقه وأعمالهم، فهو خبير بهم.

والفرق بين المعنيين:

المعنى الأول: فَاسْأَلْ بِهِ أي: أسأل عنه خبيراً، من عرف صفته وكماله ينبئك عن ذلك.

المعنى الثاني: فَاسْأَلْ بِهِ -، خَبِيرًا يعني: أن الله خبير بخلقه، فهو خالق السماوات والأرض، لا يخفى عليه شيء نحو الخلق، فيكون الخطاب موجهاً، يعني كما يقول ابن جرير: فَاسْأَلْ بِهِ أي: أسأل به يا محمد، اسأل يا محمد خبيراً بالرحمن، فهو خبير بخلقه، والقرينة عنده فيما يظهر هي ما ذكر قبله، الذي خلق السماوات والأرض.

بعدما أمره بالتوكل: وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ ثم لما أمره بذلك قال: وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا، ثم ذكر صفته: الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا بذنوب أو بأحوال أو بأعمال خلقه، فتكون القرينة ما سبق، وهذا قول ابن جرير، والآية تحتمل هذا، وهذا.

فَاسْأَلْ بِهِ أي: اسأل عنه، والمعنى الثاني: فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا يعني: بأحوال خلقه ؛ لأنه كما قال: وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا؛ لأنه هو الذي خلقهم وخلق السماوات والأرض، لا يخفى عليه من أحوالهم شيء.

ثم قال تعالى منكراً على المشركين الذين يسجدون لغير الله من الأصنام والأنداد: وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُأي: لا نعرف الرحمن، وكانوا ينكرون أن يُسَمَّى الله باسمه الرحمن، كما أنكروا ذلك يوم الحديبية حين قال النبي ﷺ للكاتب: اكتب بسم الله الرحمن الرحيم، فقالوا: لا نعرف الرحمن ولا الرحيم، ولكن اكتب كما كنت تكتب: باسمك اللهم[11]؛ ولهذا أنزل الله تعالى: قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى [سورة الإسراء:110] أي: هو الله وهو الرحمن، وقال في هذه الآية: وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أي: لا نعرفه ولا نُقر به، أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا أي: لمجرد قولك؟ وَزَادَهُمْ نُفُورًا، فأما المؤمنون فإنهم يعبدون الله الذي هو الرحمن الرحيم، ويُفْرِدُونه بالإلهية ويسجدون له، وقد اتفق العلماء -رحمهم الله تعالى- على أن هذه السجدة التي في الفرقان مشروعٌ السجودُ عندها لقارئها ومستمعها، كما هو مقرر في موضعه، والله أعلم.

قوله -تبارك وتعالى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ يدل على إنكارهم لهذا الاسم الكريم، ويدل على ذلك الحديث الذي ذكره في قصة الحديبية، ولكن هل كانوا ينكرونه فعلاً، ويعتقدون ذلك، ولا يعرفون أنه الرحمن، وأن هذا شيء قد استجد عليهم لا عهد لهم به؟ أو أنهم قالوا ذلك على سبيل المكابرة؟

ذهب جمع من أهل العلم ومنهم ابن جرير -رحمه الله- وقد سبق الكلام على هذا في بعض المناسبات في الأسماء الحسنى وكذلك في أول التفسير- إلى أنهم كانوا يعرفون الرحمن، ووُجد في الجاهلية من تسمى بعبد الرحمن، وكذلك أيضاً جاء في أشعارهم قول بعضهم:

ألا قضَبَ الرحمنُ ربِّي يمينَها  

ذكرها ابن جرير في أول التفسير.

جاء في كلامهم في شعرهم في الجاهلية؛ ولهذا قال بعض أهل العلم: إنهم قالوا هذا على سبيل المكابرة، فكانوا يعرفون الرحمن، وعلى هذا يكون الإنكار على سبيل المكابرة، وقوله هنا: أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا يقول: أي: لمجرد قولك نسجد للشيء الذي لا نعرفه؟ وفي القراءة الأخرى المتواترة: أَنَسْجُدُ لِمَا يَأْمُرُنَا وهذه القراءة بعضهم وجهها وفسرها بأن المراد: أَنَسْجُدُ لِمَا يَأْمُرُنَا يعني: مَن عُرف بأنه الرحمن، يعني: مسيلمة الكذاب وهو يأمرهم بعبادة غير الله -تبارك وتعالى، قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ يعني: نحن لا نعرف إلا رحمن اليمامة، أَنَسْجُدُ لِمَا يَأْمُرُنَا ولكن هذا لا يخلو من بُعد -والله تعالى أعلم، والأقرب أن يكون المعنى: قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا أي: محمد ﷺ، وبعضهم قال: أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا أي: الرحمن.

قوله: وَزَادَهُمْ نُفُورًا هنا الحافظ ابن كثير يقول: فأما المؤمنون... إلى آخره، وَزَادَهُمْ نُفُورًا بعض أهل العلم يقول: زادهم أي: ذكر الرحمن نفوراً، استنكفوا واعترضوا وأبوا من السجود له.

ألا ضربتْ تلك الفتاةُ هجينَها ألا قضَبَ الرحمنُ ربِّي يمينَها

هذا قول بعض الجاهليين، وكذلك قول سلامة بن جندل:

عَجِلتم علينا عَجلتيْنا عليكُمُ وما يشأ الرحمنُ يَعقدْ ويُطلقِ

هذا في تفسير ابن جرير، فالشاهد هنا: وَزَادَهُمْ نُفُورًا يعني: ذكْر الرحمن، ذكْر هذا الاسم، أنهم أنكروه وعارضوه، وبعضهم يقول: وَزَادَهُمْ نُفُورًا أي: الأمر بالسجود، وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وزادهم الأمر بالسجود نفوراً، وهذا يوافق قول من قال كابن جرير -رحمه الله: إن قوله: وَزَادَهُمْ نُفُورًا أي: عبادة الله ، الأمر بعبادته والإخلاص له وما أشبه ذلك، وهذا داخل ضمن ما سبق من قول من قال بأن الذي زادهم نفوراً هو الأمر بالسجود للرحمن، يعني: لا تسجدوا لغيره، لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ [سورة فصلت:37].

يكون ذلك على سبيل الإطلاق، إن كان موجهاً للنبي ﷺ فهو خطاب متوجه لأمته: فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا لا يكون المقصود معيناً، وإنما فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا يعني: ممن عرفه معرفة حقة بأسمائه وصفاته، كما قال: فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ [سورة الأنبياء:7] يعني: من لهم بصر وعلم بالكتاب، وليس المقصود هنا من مثل هذا السياق أو هذا الخطاب أن النبي ﷺ يسأل أحداً من الناس عن ربه -تبارك وتعالى- ليتعرف على كماله وأوصافه، ليس هذا المقصود، وإنما مثل هذا يرِد لبيان الكمال الذي لربما أنكره هؤلاء الكفار أو حصل منهم ما يوجب التنقّص لله -تبارك وتعالى، يقول: فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا يعني: ليس توجيهاً أن النبي ﷺ يذهب ويسأل أحداً من المعين، ليس هذا المقصود، باعتبار أن الخطاب هنا ليس للنبي ﷺ، أو إذا قلنا: خطاب النبي ﷺ متوجه إلى الأمة -المقصود خطاب الأمة- وأن النبي ﷺ أعرف الخلق يسأل مَن؟ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا أولى مَن يدخل في ذلك النبي ﷺ، فإنما يُعرف كمال الله مما جاء على لسانه ﷺ من الوحي الكتاب والسنة.

  1. رواه الإمام أحمد في المسند، برقم (14264)، وقال محققوه: "إسناده صحيح على شرط الشيخين"، وبرقم (21299)، وقال محققوه: "حديث صحيح، وهذا إسناد حسن من أجل محمد بن إسحاق، وقد توبع، وباقي رجاله ثقات رجال الشيخين، يعقوب: هو ابن إبراهيم بن سعد بن إبراهيم الزهري".
  2. رواه البخاري، في أوائل كتاب التيمم، برقم (335).
  3. رواه أبو داود، كتاب الطهارة، باب الوضوء بماء البحر، برقم (83)، والترمذي، أبواب الطهارة عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء في ماء البحر أنه طهور، برقم (69)، والنسائي، كتاب الطهارة، باب ماء البحر، برقم (59)، وبرقم (332)، في كتاب المياه، باب الوضوء بماء البحر، وابن ماجه، كتاب الطهارة وسننها، باب الوضوء بماء البحر، برقم (386)، وأحمد في المسند، برقم (8735)، وقال محققوه: "حديث صحيح"، وصححه الألباني في صحيح أبي داود (1/ 146)، برقم (76)، وقال: "قلت: إسناده صحيح، وصححه البخاري والترمذي والحاكم وابن خزيمة وابن حبان وابن المنذر والطحاوي والبغوي والخطابي وابن منده والبيهقي وعبد الحق والنووي والذهبي وآخرون"، وصححه في صحيح الجامع، برقم (2877).
  4. رواه أبو داود، كتاب الملاحم، باب الأمر والنهي، برقم (4343)، وابن ماجه، كتاب الفتن، باب التثبت في الفتنة، برقم (3957)، وأحمد في المسند، برقم (6987)، وقال محققوه: "إسناده صحيح، رجاله رجال الصحيح غير هلال بن خبّاب، فقد روى له أصحاب السنن، وهو ثقة، أبو نُعيم: هو الفضل بن دكين"، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة، برقم (205)، وفي صحيح الجامع، برقم (3259).
  5. الفوائد، لابن القيم (ص: 79).
  6. المصدر نفسه.
  7. المصدر نفسه.
  8. المصدر السابق (ص:80).
  9. المصدر السابق (ص:80).
  10. رواه البخاري، كتاب الأذان، باب الدعاء في الركوع، برقم (794)، وبرقم (817) في كتاب الأذان، باب التسبيح والدعاء في السجود، ومسلم، كتاب الصلاة، باب ما يقال في الركوع والسجود، برقم (484).
  11. رواه مسلم، كتاب الجهاد والسير، باب صلح الحديبية في الحديبية، برقم (1784).

مواد ذات صلة