الخميس 18 / رمضان / 1445 - 28 / مارس 2024
[1] من قوله تعالى: {وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا} الآية:1
تاريخ النشر: ٠٣ / رمضان / ١٤٣٤
التحميل: 8676
مرات الإستماع: 11527

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فأعقب الله -تبارك وتعالى- بعد أن ذكر ما للمكذبين الكافرين من العذاب- بذكر نعيم أهل الجنة كما هي عادة القرآن؛ ليجمع العبد بين الخوف والرجاء، فقال: إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا [سورة النبأ:31] الذين اتقوا الله بفعل أوامره واجتناب نواهيه لهم مفاز، فوز وظفر عظيم بتحصيل المطلوب، والنجاة من المرغوب، فأدخلهم الله الجنة، وما فيها من النعيم المقيم، والحور العين، والولدان، وأعتقهم من النار.

ثم ذكر بعض ما في هذا النعيم قال: حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا [سورة النبأ:32]، فلهم بساتين محاطة، فيها من ألوان الثمار والأشجار ما لا يُقادَر قدره، وفيها من الأعناب وغير الأعناب مما تلذ له الأنفس، ويكون بهجة للناظرين، ومتعة للنفوس. 

قال: وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا [سورة النبأ:33] مع هذه المحالّ الواسعة الباردة الجميلة ذات الثمار والأشجار الأنيقة لهم أيضًا أجمل النساء، وهن الكواعب اللاتي قد امتلأن شبابًا فلا يتطرق إليهن أدنى ترهل، قد صرن بهذه المثابة تفلّكتْ ثُدِيُّهن، وذلك لكمال شبابهن ونضارتهن، وهن في سن متقاربة، أَتْرَابًا، أو في سن متحدة، وهي اكتمال سن الشباب.

قال: وَكَأْسًا دِهَاقًا [سورة النبأ:34]، فهم مع هذه الثمار والأشجار والبساتين وهؤلاء النساء الحسان كذلك أيضًا يشربون من كأس مَلأى مُتْرعة متتابعة، يشربون خمرة صافية، لا أذى فيها ولا كدر، وليس فيها ما يذهب العقول ويستنزفها، ومع ذلك فلا يطرق مسامعهم ما يكدر نفوسهم، فالجنة ليس فيها لغو حتى تلك المجالس التي يشربون فيها هذه الكأس، لا يحصل معها تخليط ولا هذيان، ولا يسمعون سبًا ولا فحشًا، كما لا يسمعون أيضًا تكذيبًا؛ لأن الجنة أصلًا ليس فيها كذب.

جَزَاء مِّن رَّبِّكَ عَطَاء حِسَابًا [سورة النبأ:36]، هذا كله مما وصفه الله هو جزاء من الله على أعمالهم، وأعطاهم فوق أعمالهم، حيث إن الله -تبارك وتعالى- أعطاهم عطاءً جزلًا كثيرًا، هذا الرب الذي من معاني ربوبيته العطاء والجزاء والثواب، هو رب السماوات والأرض، الذي بيده كل شيء، فخزائن السماوات والأرض بيده، ويدخل في ذلك الجنة والنار.

وَمَا بَيْنَهُمَا [سورة النبأ:37] من الهواء، وسائر المخلوقات التي تكون بين السماء والأرض كالسحاب، إلى غير ذلك مما لا يعلمه إلا الله ، هو الرحمن، فإن ذلك صادر عن رحمته، ورحمته وسعت كل شيء، فكما أنه استوى على العرش الذي هو أوسع المخلوقات كذلك أيضًا اتصف بصفة الرحمة، ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا [سورة الفرقان:59]، الرحمة التي لا يخرج عنها مخلوق، وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ [سورة الأعراف:156].

فالجنة وما فيها من النعيم كل ذلك من آثار رحمته، وهداية هؤلاء ابتداءً وما وفقهم إليه كل ذلك من آثار رحمته، بل إن وجود النار وتعذيب أهل النار بالنار كل ذلك يتصل برحمته، وذلك أنه لا يتبين حقيقة النعيم إلا بضده.

ثم تأمل ما ذكره الله في سورة الرحمن، فإن الله لما ذكر أنواع النعيم الذي يكون لأهل الجنة كان يعقب ذلك بقوله: فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ سورة الرحمن يعني: النعم، ولما ذكر طرفًا من العذاب عقبه بمثل ذلك، والقرآن لا يوجد فيه تكرار محض، وكل جملة من هذه الجمل في سورة الرحمن، فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ فهي متصلة بالذي قبلها مباشرة، يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ ۝ فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ [سورة الرحمن:44، 45]، وبهذا يتميز نعيم أهل الجنة ويظهر، وبضدها تتميز الأشياء، هذا الرب العظيم الأعظم.

لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا [سورة النبأ:37] لا يجترئ أحد على مخاطبته بأي لون من المخاطبة، سواءً كان ذلك بالشفاعة، والتقدم بها بين يديه إلا بإذنه -تبارك وتعالى، أو كان بغيرها، وهذا يدل على كمال ملكه، وكمال عظمته، فإن أهل الدنيا يُجترَأ عليهم، ويُتقدم بالشفاعة بين يديهم من غير استئذان لهم، وهكذا يخاطبون من غير استئذان، أما الله -تبارك وتعالى- فكما قال: يَوْمَ يَأْتِ يعني: يوم القيامة، لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ [سورة هود:105]، ولذلك ذلك اليوم هو اليوم الحقيقي وما بعده كأنه أوهام، ولهذا قيل له: مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ [سورة الفاتحة:4] مع أنه مالك للدنيا والآخرة، لكن ذلك اليوم الحقيقي الذي لا يدعي فيه أحد شيئًا، لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ [سورة غافر:16].

فهنا قال: يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ [سورة النبأ:38] في ذلك اليوم يقوم الروح جبريل ﷺ، كما يقوم الملائكة هؤلاء العظام صَفًّا لَّا يَتَكَلَّمُونَ من خوف الله وعظمته، فالله -تبارك وتعالى- يغضب في ذلك اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، فيكون الجميع في غاية الوَجَل، إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحْمَنُ أن يتكلم، وَقَالَ صَوَابًا، في هذا الكلام، فليس هناك مجال لمُبطِل أن يتفوه بباطله.

ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ [سورة النبأ:39]، ذلك اليوم العظيم الذي تتجلى فيه الحقائق، ويلقى كل أحد جزاءه، هو اليوم الحق، الثابت، الواقع لا محالة، وما عداه فكأنما هو أحلام وأوهام، فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا [سورة النبأ:39]، هذا اليوم الذي وصف بهذه الأوصاف قد عرفتموه بصفته التي لا يلتبس بها، هو يوم لا بد من حصوله ووقوعه بما فيه من الأهوال والأوجال، فليختر المرء لنفسه.

فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا مرجعًا بسبيل يسلكها توصله إلى المعبود ، وذلك لا يتأتى إلا باتباع نبيه ﷺ، وهذا الاتباع لرسول الله ﷺ في السبيل يمكن أن يكون بالتميّز بشيء من الأعمال الصالحة التي يُفتح على العبد بها، فهذا قد يكون طريقه إلى الله -تبارك وتعالى- بالذكر والقراءة والإكثار من ذلك، وهذا بالصلاة، وهذا بالصدقة، وهذا بالقيام على الضعفاء والمساكين، والأرملة، واليتيم، وما إلى ذلك، فهذا يعيش مع القرآن، وهذا يعيش مع الصلاة، وهذا يعيش مع الصدقة، فيستغرق أنفاسه في ذلك، المهم أن يبحث له عن مزرعة لآخرته، فلا يبقى بطّالًا، والآخرة دار لا تصلح للمفاليس، كل إنسان يبحث عن مزرعة، يبحث عن شيء، يبحث عن عمل، يبحث عما أعطاه الله من المواهب والقُدَر والإمكانات، فيستغل ذلك فيما يجد نفسه فيه، ولا يكون شغله بما لا يعنيه من القيل والقال، والوقيعة في أعراض الناس، بئس الزاد إلى المعاد أعراض العباد، من الناس من ليس له هم ولا شغل إلا هذا -نسأل الله العافية، والله يقول: فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا.

إِنَّا أَنذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا [سورة النبأ:40]، كل ما هو آتٍ فهو قريب، والقيامة قريبة، والأيام تنقضي سراعًا، وهذه الدنيا سماها الله بالعاجلة، مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ [سورة الإسراء:18]، إلى أن قال الله: وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا [سورة الإسراء:19]، فالأولى وهي الدنيا سماها بالعاجلة، مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ فهي سريعة تنقضي، وقيل لها دنيا قيل: لدنو مرتبتها وانحطاطها وسفولها، فعلى أي شيء يكون التعلق بها؟

عند ذلك اليوم يَنظُرُ الْمَرْءُ [سورة النبأ:40] كل أحد ينظر فيعرف موطئ قدمه وحقيقة ما كان عليه، يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا، عندها يُنَبَّأُ الْإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ [سورة القيامة:13]، تعرض عليه جميع الأعمال، فينظر في هذه الصحف وما مُلئت به، فالمبطل والكافر يتحسر ويندم حيث لا ينفعه الندم، ويقول: يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا، حينما يرى البهائم يقتص بعضها من بعض ثم يقال لها: كوني ترابًا، فتتحول إلى تراب، يتمنى لو أنه صار بهذه المثابة.

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، اللهم اغفر لنا ولشيخنا وللمستمعين ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

بسم الله الرحمن الرحيم

وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا ۝ وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا ۝ وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا ۝ فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا ۝ فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا ۝ يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ ۝ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ ۝ قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ ۝ أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ ۝ يَقُولُونَ أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ ۝ أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً ۝ قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ ۝ فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ ۝ فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ [سورة النازعات:1-14].

هذه السورة سورة النازعات هي من السور المكية، وهذه السورة أيضًا تسمى بالطامة، وبالساهرة، ولكن الاسم المشهور هو النازعات، ويقال أيضًا: والنازعات.

وموضوع هذه السورة: هي تتحدث أيضًا عن البعث والنشور، وعن قدرة الله على ذلك، وعن تكذيب هؤلاء الكافرين بهذه العقيدة،

وما ذكره الله فيها من خبر موسى ﷺ: اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى [سورة النازعات:17]، فإن ذلك -والله أعلم- من أجل أن هؤلاء الذين كذبوا بالبعث من الذين بُعث فيهم رسول الله ﷺ، متوعَّدون ببأس الله وبطشه، وعقوبته ونكاله، كما فعل بفرعون حيث أخذه الله نكال الآخرة والأولى، فموضوع السورة هو البعث والنشور.

قال ابن مسعود، وابن عباس، ومسروق، وسعيد بن جبير، وأبو صالح، وأبو الضحى، والسُّدي: وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا الملائكة، يعنون حين تنزع أرواح بني آدم، فمنهم من تأخذ روحه بعُسر فَتُغرِق في نزعها، ومنهم من تأخذ روحه بسهولة وكأنما حَلَّته من نشاط، وهو قوله: وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا قاله ابن عباس.

قوله: وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا، ما نقله هنا عن هؤلاء الصحابة والتابعين من أن المراد بذلك الملائكة هذا هو قول الجمهور، لكن بعضهم يورده مطلقًا، يقول: الملائكة تنزع الأرواح، وبعضهم يقيده في الأول وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا يقول: تنزع أرواح الكفار، يقيد ذلك بالكفار، وفي الثاني وَالنَّاشِطَاتِ يقيده بالمؤمنين كما سيأتي، وذلك أن النزع كما يقول أهل اللغة -وذكره الحافظ ابن القيم -رحمه الله: هو جذب الشيء بشدة، نزعه من يده: أخذه وجذبه جذبًا قويًا، هذا هو حقيقة النزع.

وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا، ومن ثَمّ قال من قال: إن المراد الملائكة تنزع أرواح الكافرين؛ لأنها تتفرق في أجسادهم، فتنزعها الملائكة نزعًا كما يُنزع السَّفُود -كما قال النبي ﷺ من الصوف المبلول، تُنزع من أقاصي الجسد، ولا يبعد أن يكون قول من قال: إنها الملائكة بإطلاق أنهم يقصدون في الأول يعني تنزع أرواح الكافرين، وفي الثاني تَنشِط أرواح المؤمنين، من أجل أن لا يكون هناك تكرار، لا يكون الثاني هو عين الأول، وذلك أن النشط كما سيأتي أخف من النزع، وهؤلاء أهل لغة ويميزون بين هذه المعاني، فقالوا: تنزع أرواح الكافرين وتجذبها بقوة جذبًا شديدًا، كما يشد الرامي بالقوس السهم إلى آخر مداه، كيف يكون القوس؟ يجذبه إلى آخر المدى إذا أراد أن يرمي، وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا تجذبها جذبًا قويًا من أقاصي الجسد، وهذا قول الجمهور.

وبعضهم يقول كالسدي: إنها النفوس، النازعات هي النفوس حين تغرق في الصدور، وبهذا الاعتبار يكون النازعات من قبيل اللازم وليس المتعدي، يعني إذا قلنا: الملائكة تنزع الأرواح فهذا متعدٍّ، أما إذا قيل: هي النفوس تغرق في الأجساد فيكون من قبيل اللازم، الفعل بمعنى الفعل اللازم، بمعناه وإن لم يكن لفظ النازعات فعلًا، هذا قول السدي وفيه بُعد، وهو خلاف قول عامة أهل العلم على تفرق أقوالهم.

ومنهم من يقول كمجاهد: هو الموت ينزع النفوس، وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا، الموت ينزع النفوس هذا يمكن أن يُربط بالمعنى الأول بوجه من الوجوه، باعتبار أن الملائكة تستخرج النفوس من الأجسام، تنزعها نزعًا قويًا عند الموت، فيكون عبّر بالموت بهذا الاعتبار، لكن الموت أن يأتي الملك وينتزع الروح، قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ [سورة السجدة:11]، ولي الموت بنفسه هو الذي يخرج الروح، تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ [سورة الأنعام:61]، أعوان ملك الموت، على أحد القولين، أو أن المقصود بالمجموع واحد وهو ملك الموت، والأقرب: أنه ملك موكل بذلك وله أعوان.

وبعضهم كقتادة والحسن يقول: وَالنَّازِعَاتِ هي النجوم، تنزع من ناحية إلى ناحية، من المشرق إلى المغرب، وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا، فيكون معنى ذلك حينما تتهيأ للمغيب فإن ذلك يكون، تنزع من أفق إلى أفق، فغرقا يعني: غروب هذه النجوم، فهي تغرب وتغيب وتطلع من أفق لآخر، وهذا قال به جمع من أصحاب المعاني كأبي عبيدة معمر بن المثنى في كتابه مجاز القرآن، وكذلك قال به الأخفش، وغير هؤلاء.

وبعضهم يقول كعطاء وعكرمة: إن النازعات هي القِسِيّ، ويقال: القَسي بلغة أهل مصر قديمًا قَسي، والمشهور عند المحدثين القِسي، هي القِسي حينما تنزع بالسهام، فهو الرامي يبلغ بها إلى المنتهى إذا أراد الرمي، وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا، باعتبار أنها تنزع بالسهام، القسي تنزع بالسهام، فنسب ذلك إليها، قيل: والنازعات، مع أن بعض أهل العلم يقول: هنا لابد من تقدير إضافة إليها، يعني: ذوات النزع، يعني ينزع بها، لكن إذا قيل: تنزع بالقسي، يكون ذلك من صفتها، ولا يحتاج إلى تقدير.

وبعضهم يقول: المراد بالنازعات الغزاة والرماة، أقسم الله بهم، ألا إن القوة الرمي[1]، وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ [سورة الأنفال:60]، وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا، عند الرمي والشد للقوس والوتر.

وهذه أقاويل، والمشهور أن الأقسام هذه في هذه المواضع الخمسة أنها جميعًا في الملائكة، هذا قول الجمهور من السلف فمن بعدهم، وهو قول المحققين، وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا، وهنا حذف المفعول في جميع هذه المواضع، وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا، أنها تنزع ما ذكر، وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا، بماذا؟ وهكذا وَالسَّابِحَاتِ وفَالسَّابِقَاتِ لم يُذكر مفعول.

ابن القيم -رحمه الله- يقول: العلة في ذلك هي أن المقصود هو هذا الفعل لا المفعول، فلم يذكر من أجل أن لا تتوجه الأذهان إلى المفعول فيظن أنه هو المقصود، وإنما المقصود هذا الفعل الذي هو النزع والنشط والسبح والسبق والتدبير، وما إلى ذلك مما يكون هو المراد بهذا الموضع، يعني: المقصود الأفعال وليس المفعول، فقال الله: وَالنَّازِعَاتِ ما قال: والنازعات لأرواح الكافرين، والناشطات لأرواح المؤمنين، وإنما اكتفى بالفعل.

وابن القيم -رحمه الله- رجح أن المقصود الملائكة، والقرينة على ذلك أن ما بعده في الآخر وهو قوله: فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا المقصود به الملائكة بالإجماع، قالوا: هذا كله جاء على نسق واحد، ثم جاء أيضًا بعضه بالعطف بالفاء مما يدل على أنه يرجع لما قبله، فكل ذلك واحد له أفعال وأوصاف متعددة، فيكون من قبيل عطف الأوصاف، والأوصاف تعطف تارة بإسقاط حرف العطف، وتارة بذكر حرف العطف، إلى الملكِ القَرْمِ وابنِ الهُمامِ، ولم يقل: والقرم، وإنما قال:

إلى الملكِ القَرْمِ وابنِ الهُمامِ وليثِ الكتيبةِ في المُزدَحَم

أتى بالعطف وبدون العطف، مثل سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى ۝ الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى [سورة الأعلى:1، 2] بدون حرف عطف، وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى ۝ وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى [سورة الأعلى:3، 4]، فتارة يُسقَط حرف العطف، وتارة يذكر، فيكون هذا من قبيل الأوصاف المتنوعة للملائكة، مع أن ابن القيم -رحمه الله- وجه الأقوال الأخرى توجيهًا حاصله: أن هؤلاء الذين فسروا كأنهم أرادوا المثال -التفسير بالمثال، وهو توجيه لا بأس به حسن، مع أن المقصود الملائكة.

قال ابن القيم -رحمه الله: "قلت: النازعات اسم فاعل من نزع، ويقال: نزع كذا، إذا اجتذبه بقوة، ونزع عنه إذا خلاه وتركه بعد ملابسته له، ونزع إليه إذا ذهب إليه ومال إليه، وهذا إنما توصف به النفوس التي لها حركة إرادية للميل إلى الشيء، أو الميل عنه"[2].

بدأ يمهد للمعنى الذي سيذكره في الجمع.

وقال -رحمه الله: "وأحق ما صدق عليه الوصف الملائكة"[3].

قوله: "أحق" يعني: ليس للحصر، أحق يعني: أولى به الملائكة، ولكن لا ينفي عما عداه، العبارة دقيقة.

وقال -رحمه الله: "ولأن هذه القوة فيها أكمل، وموضع الآية فيها أعظم، فهي التي تُغرِق في النزع إذا طلبت ما تنزعه أو تنزع إليه، والنفس الإنسانية أيضًا لها هذه القوة، والنجوم أيضًا تنزع من أفق إلى أفق"[4].

فقول السدي: النفس الإنسانية تنزع في الجسد تغرق فيه.

وقال -رحمه الله: "فالنزع حركة شديدة، سواء كانت من ملك، أو نفس إنسانية، أو نجم، والنفوس تنزع إلى أوطانها، وإلى مألفها، وعند الموت تنزع إلى ربها، المنايا تنزع النفوس، والقِسِيّ تنزع بالسهام، والملائكة تنزع من مكان إلى مكان، وتنزع ما وُكلت بنزعه، والخيل تنزع في أعنّتها نزعًا تغرق فيه الأعنة لطول أعناقها، فالصفة واقعة على كل من له هذه الحركة التي هي آية من آيات الرب تعالى، فإنه هو الذي خلقها وخلق محلها، وخلق القوة والنفس التي بها تتحرك، ومن ذكر صورة من هذه الصور فإنما أراد التمثيل"[5].

يعني ما ألغى الأقوال الأخرى، قال: هذا كله يصدق عليه النزع، فكأن هؤلاء فسروا بالمثال، يعني جعله من قبيل اختلاف التنوع لا اختلاف التضاد، فما احتاج إلى الترجيح بين هذه الأقوال، وإن كان يقول: إن الملائكة أحق بهذا الوصف وأولى به.

وابن جرير لما ذكر هذه الأقوال كعادته قال: الله لم يحدد واحدًا منها، فيمكن أن يكون كذا، ويمكن أن يكون كذا، ويمكن أن يكون كذا، ويمكن أن يكون كذا، يعني كأنه يرى أن تحديد أحد هذه المعاني من قبيل التحكم بغير دليل، ما عندنا دليل على أن المراد كذا، فيقول: يجوز كذا، ويجوز كذا، وطريقة ابن القيم أدق، حيث وجهها هذا التوجيه، وجعل ذلك من قبيل التفسير بالمثال، وكلام ابن القيم لا تجدونه في شيء من كتب التفسير أبدًا، حتى الكلام على النفوس، يعني الذي يذكره المفسرون عادة ويناقشونه حتى الذين يُضعفون ويردون قول السدي، ويذكرون وجوهًا في تضعيفه هم يتكلمون عن أن النفس تتفرق في الجسد، ويقولون: المعنى قاصر، غير متعدٍّ، وابن القيم ذكر شيئًا آخر، انتقال النفوس، حركة النفوس، انتقال النفوس إلى ربها، كل ذلك جعله أوصافًا للنفس، لم يجعل ذلك في وصف واحد كما يقول المفسرون عادة، وهذا كثير في كلام ابن القيم -رحمه الله.

قوله تعالى: وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا، الملائكة تنزع أرواح الكفار، وعلى كلام ابن القيم في الجمع بين هذه الأقوال أن ذلك يصدق على كل ما يمكن أن يتصف بذلك، وسيأتي لهذا نظائر كثيرة، وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ [سورة البلد:3]، وَالْفَجْرِ [سورة الفجر:1]، وَالْعَصْرِ [سورة العصر:1].

فالحاصل أن هنا وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا، غرقًا هنا بعضهم يقول: مصدر، وابن القيم يقول: اسم مصدر، وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا، مصدر، أو اسم مصدر أقيم مقام المصدر، يعني إغراقًا، وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا أي: إغراقًا، إغراقًا في النزع، إذا قلنا: الملائكة تنزع الأرواح من الأجساد، أو أرواح الكفار يكون إغراقًا في النزع، حيث تنزعها، تنزع الأرواح من أقاصي الأجساد.

أو أنه حال يعني: وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا أي: ذوات إغراق، معنى أغْرَقَ في الشيء: أوغل فيه، وبلغ مداه وغايته ونهايته، وهذا الإغراق، تقول: أغرق في هذه المسألة، أغرق في هذه القضية، أغرق في هذا الموضوع، يعني بلغ مداه، بلغ المنتهى، ومن ثَمّ فسره من فسره بنزع القِسِيّ، باعتبار أن الرامي يشد الوتر ويجذب القوس إلى المنتهى، وهكذا وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا يعني: الملائكة تنزع الأرواح من أقاصي الأجساد فتستوفيها، ولذلك إذا الإنسان بدأ بالموت تبدأ أطرافه السفلية تتلاشى منها الحياة شيئًا فشيئًا حتى تبلغ الروح التراقي –الحلقوم، فيكون الجسد انتهى، تتوقف وظائف الكبد والكلى، ثم تتوقف الرئتان، ثم بعد ذلك يبدأ يغرغر ويحشرج، ثم بعد ذلك يزيغ البصر لا يتحكم فيه صاحبه، فتخرج روحه، فهذا معنى تستخرج الروح من أقاصي الجسد، وهنا وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا أي: إغراقًا في النزع، حيث تنزعها من أقاصي البدن، وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا.

وأما قوله تعالى: وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا فقال ابن مسعود: هي الملائكة.

ورُوي عن علي، ومجاهد، وسعيد بن جُبَير، وأبي صالح مثلُ ذلك.

وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا قال ابن عباس: يعني الملائكة تنزع الأرواح، يعني: تَنشِط النفوس، يعني: تخرجها من الأجساد، كما يُنشَط العقال الذي يربط بيد البعير، فإذا حُلّ نهض البعير، يقال: فلان كأنما نشِط من عقال، يعني: كأنما أُطلق وثاقه فقام ليس به بأس، فإذا حُل هذا القيد نشِط صاحبه، أو نشِط البعير، ويقال: نَشَطَ الرجلُ الدلوَ، يعني: أخرجها من البئر، والنشاط هو الجذب بسرعة.

فالنازعات الملائكة، والناشطات أيضًا الملائكة تنزع الأراوح، تجذب الأرواح من الأجساد، والفرق بين الأول والثاني: أن النزع جذب بقوة وشدة، والنشط دونه كما يقول الواحدي في الفرق بينهما، فنزع أرواح الكفار يكون بشدة وعنف وقسوة، وأما أهل الإيمان فإن ذلك يكون برفق، وسهولة، ولين، إذًا الله أقسم بالنازعات وبالناشطات، فالملائكة تنزع الأرواح بشدة تناسب الكفار، وبرفق ولين يناسب أهل الإيمان، والذين يقولون: الملائكة تَنشِط النفوس تخرجها من الأجساد، كما يُنشَط العقال من يد البعير إذا حُلّ عنه، ونَشَطَ الرجلُ الدلوَ من البئر، يعني: أخرجها، هذا الجذب هذا معنى النشط.

بعضهم كمجاهد يقول: هو الموت يَنشِط نفس الإنسان، وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا، الموت، ووجهتُ لكم هذا من قبل في النازعات، باعتبار أننا إذا قلنا: الناشطات هي الملائكة تستخرج الأرواح، فإذا استخرجت الأرواح ما الذي يحصل نتيجة ذلك؟ هو الموت، فالموت ليس هو الذي يستخرجها، إنما الذي يستخرجها الملَك، فعبارة مجاهد لا تخرج عن هذا القول في مؤداها وحقيقتها، وإن كان اللفظ يختلف، فمجاهد -رحمه الله- لا يقول: إن الموت هو الذي يخرج الأرواح، وإنما الذي يخرجها الملَك، كما قال الله .

السُّدي جرى على قوله السابق في النازعات، فقال: وَالنَّاشِطَاتِ هي: النفوس، حيث تُنشَط من القدمين يعني: تبدأ الحياة تنسل من القدمين، لا أن الروح تخرج من القدمين، فروحه تخرج من فمه، لكنها تبدأ من القدمين، تبدأ الحياة تنسل، تخرج ابتداءً من القدمين إلى أعلى، وهكذا.

عكرمة وعطاء يقولون: هي الأوْهاق.

قتادة والحسن ومن أصحاب المعاني الأخفش يقولون: هي النجوم، النجوم حيث تنشِط من أفق إلى أفق، مثلما قالوا في النازعات، وهذا سيكون على هذا الاعتبار تكرارًا.

أيضًا أبو عبيدة في مجاز القرآن، وقبله قتادة يقولون: هي الوحوش، حيث تنشِط من بلد إلى بلد، ومن ناحية إلى ناحية، تنتقل، ترتحل، تهاجر، وبعضهم يقول: هي أرواح المؤمنين حينما تُستخرج، فذلك إخراج الملائكة لها -كما سبق، بخلاف الكافرين فإنها تُنزع فيناسبها ما سبق، وهذا هو الأقرب -والله تعالى أعلم- أن الناشطات هي الملائكة، وصفت بهذا في متعلق خاص وهو استخراجها لأرواح المؤمنين، حيث تستخرجها برفق، فتنسل الروح كما تنسل القطرة مِن فِي السِّقاء، بسهولة، ورفق، ولين.

وقوله تعالى: فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا رُوي عن عليٍّ، ومسروق، ومجاهد، وأبي صالح، والحسن البصري: يعني الملائكة.

هذا جميعًا في الملائكة، وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا يعني: الملائكة، باعتبار أنها تسبح في الفضاء، تحلق في الفضاء، لما أمرها الله به، يعني: أنها تأتمر بأمره، فتسبح في هذا الفضاء الواسع الهائل امتثالًا لأمر الله -تبارك وتعالى، فأقسم بالملائكة بهذه الصفة، وبعضهم يقول: الملائكة تسبح في الأبدان لإخراج الروح، كما يسبح الغواص في البحر لإخراج شيء منه، وهذا قد لا يكون، السبح هو من صفة الملائكة، لكن هل الملائكة تدخل في داخل البدن حتى تستخرج الروح؟ هذا أمر غيبي الله أعلم به، فلا حاجة لهذا الإيغال في معنى لم يرد عليه دليل، وإنما ذلك من صفة الملائكة، والذي يذكره عادةً أهل العلم يقولون: تسبح في الفضاء، تنزل وتصعد امتثالًا لأمر الله -تبارك وتعالى؛ ولهذا قال مجاهد وأبو صالح: الملائكة ينزلون من السماء مسرعين لأمر الله .

وبعضهم يقول: هي الخيل تسبح في الغزو، فأقسم الله  بها.

وبعضهم كقتادة والحسن يقولون: النجوم تسبح في أفلاكها، وبعضهم يقول: هي السفن، كل هذه أقوال على طريقة ابن القيم في توجيه النازعات، ولو أردنا أن نسير على هذا المهيع فنقول: إن ذلك يصدق على كل ما يتصف بهذه الصفة –السبح- من السفن، والخيل في الغزو، والأفلاك والنجوم هذه التي تسبح بهذا الفضاء، وأحق من وصف بذلك، وأحق من يصدق عليه هذا على أتم الوجوه وأكملها الملائكة -عليهم السلام؛ ولهذا ابن جرير -رحمه الله- لما ذكر هذه المعاني فعل كما فعل في النازعات، ذكر المعاني وقال: الله لم يحدد معنى، يجوز أن يكون كذا، ويجوز أن يكون كذا، ويجوز أن يكون كذا، لكن الذي عليه الجمهور أنها الملائكة في خصوص نزع الأرواح، وإذا قلنا: إن التأسيس مقدم على التوكيد كما هي القاعدة يكون النزع أقوى، فيكون مناسبًا لأرواح الكفار، والنشط أسهل فيكون ذلك في أرواح المؤمنين، وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا.

وقوله: فَالسَّابِقَاتِ، قال: رُوي عن عليٍّ ومسروق ومجاهد وأبي صالح، والحسن البصري، يعني: الملائكة، هذا أيضًا قول الجمهور، فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا بعضهم يقول كمسروق ومجاهد: الملائكة تسبق الشياطين بالوحي، وهذا رده المحققون من أهل العلم، قالوا: لا يمكن؛ لأن الشياطين كما قال الله : إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ [سورة الشعراء:212]، لا يمكن أن يسترقوا الوحي الذي ينزل على الرسل، لكن يمكن أن يسترقوا الخبر الذي يكون في أمور كائنة، أو نحو ذلك، يتخطفون السمع فينزلون به على الكاهن، لكن الوحي الذي ينزل على الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- لا يتأتى للشياطين، فهذا المعنى بعيد.  

وبعضهم كأبي رَوْق يقول: هي الملائكة سبقت ابن آدم بالخير والعمل الصالح، وهو مروي أيضًا -أو قريب منه- عن غيره كمجاهد، ومقاتل يقول: هي الملائكة تسبق بأرواح المؤمنين إلى الجنة، فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا، تسبق بأرواحهم، تسرع بها إلى الجنة، فلا يمهلونها بيد ملك الموت، فيأخذونها ويجعلونها في حنوط من حنوط الجنة، كما جاء عن النبي ﷺ.

وبعضهم كالربيع يقول: هي نفوس أهل الإيمان تسبق إلى الملائكة شوقًا إلى الله ، يعني هي تريد أن تخرج بسرعة من أجل شوقها إلى ربها -تبارك وتعالى.

وبعضهم يقول: هو الموت يسبق الإنسان، وهذا مروي عن مجاهد.

وبعضهم يقول: هي النجوم يسبق بعضها بعضًا في السير، وهو مروي عن قتادة والحسن ومعمر بن راشد.

وبعضهم يقول: هي الخيل التي تسبق إلى الجهاد، كما يقوله عطاء.

وبعضهم يقول: هي الأرواح التي تسبق الأجساد إلى الجنة أو النار وتعذب قبل الأجساد.

وهذه أقاويل، وقيل غيرها أيضًا، والمشهور الذي عليه الجمهور أنها الملائكة، فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا تسبق في امتثال أمر الله وتحقيق مراده، تمتثل مسرعة، مُسابِقة بلا تأخر ولا تباطؤ، ولا تردد، ولاحظْ هنا أن الله عطف بالواو، قال: وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا ۝ وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا ۝ وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا، ثم بالفاء فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا ۝ فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا، فبعضهم يقول: وعطف السابقات بالفاء؛ لأنها مسبَّبة من التي قبلها، يعني: الملائكة تسبح فتسبق إلى أمر الله -تبارك وتعالى، وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا ۝ فَالسَّابِقَاتِ، تسبح فتسبق فتكون الفاء كأنها للتعليل أو السببية، يعني كأن الذي بعدها مرتب على الذي قبلها، سبحت فسبقت، هكذا قال بعضهم، ولكن اعترض على هذا بالمدبرات، قالوا: هل المدبرات مرتب على ما قبله؟ هل السبق للتدبير؟

وبعضهم قال: نعم، سبقت امتثالًا لأمر الله ، سبحت فسبقت فدبّرت ما أُمرت به، ووُكل إليها تدبير.

وبصرف النظر عن العطف بالفاء فإن الجمهور على أن السابحات هي الملائكة، وأن السابقات أيضًا هي الملائكة، وكل ذلك في الملائكة، أما المدبرات فبالإجماع أنها الملائكة.

ويقول هؤلاء: إن السبق يكون من أجل التدبير، هذا للأرواح، وهذا للقطر، وهذا للوحي، وهذا لغير ذلك من الأعمال التي أناطهم الله بها، وأناطها بهم.

وقوله تعالى: فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا قال علي، ومجاهد، وعطاء، وأبو صالح، والحسن، وقتادة...

إذا كنتم تريدون أن أُكمل شيئًا على الأقل أكمل الكلام على جواب القسم، أين جواب القسم؟

يعني هذه الأقسام كما ترون، أو نكمل في المدبرات أمرًا، ثم نتكلم على جواب القسم.

وقوله تعالى: فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًاقال علي، ومجاهد، وعطاء، وأبو صالح، والحسن، وقتادة، والربيع بن أنس، والسدي: هي الملائكة، زاد الحسن: تدبر الأمر من السماء إلى الأرض، يعني: بأمر ربها .

هذا بالإجماع، ونقل الإجماع جماعة مثل ابن القيم والسمعاني، يعني وبعضهم مثل ابن عطية يقول: لم أقف على خلاف فيه، يعني كأنه يقول: إجماع، أن المدبرات هم الملائكة، تدبر الأمر من السماء إلى الأرض، يعني: بأمر ربها -تبارك وتعالى، تدبر ما أُمرت بتدبيره.

يبقى جواب القسم عن هذه المذكورات، الآن أقسم الله بهذه جميعًا، بالنازعات، والناشطات، والسابحات، والسابقات، والمدبرات، خمسة أقسام، والقسم لا يكون إلا بمعظم، هذه القاعدة، فهذه الأقسام الخمسة أين جوابها؟

بعضهم يقول: الجواب محذوف، وتقديره: لتبعثنّ، والسورة تتحدث عن البعث، وهؤلاء يكذبون بالبعث، فجاء لهم بأشياء تتعلق بنزع الأرواح، وتدبير الأمور والمقادير، فأقسم بالنازعات التي تنزع أرواح الكافرين، والناشطات التي تَنشِط أرواح أهل الإيمان، والسابقات التي تبادر لأمر الله وتنفيذه، والسابحات التي تسبح، والملائكة تسبح في الفضاء... إلى آخره، وأنهم سيبعثون، أن البعث أمر واقع لا محالة كما يقول الفراء: لمعرفة السامعين به، فهو أمر مدرك معلوم، والسياق يدل عليه، ويدل عليه أيضًا قرينة، وهي قوله: أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا نَّخِرَةً ۝ قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ، فالسياق كله في قضية البعث، وجدال هؤلاء فيه.

وبعضهم يقول: إن الجواب هو قوله: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَى [سورة النازعات:26] يعني: في يوم القيامة، وذكر موسى وفرعون، لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَى، لكن هذا فيه بُعد، الفاصل طويل، والذهن لا يربط بهذه الطريقة، والقرآن أوضح الكلام وأبين الكلام، فيكون المقسم عليه حاضرًا في أذهان السامعين.

وبعضهم يقول: هَلْ أتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى [سورة النازعات:15] هذا هو الجواب، هَلْ أتَاكَ يعني: قد أتاك، باعتبار أن الاستفهام تقريري، قد أتاك حديث موسى، وهذا أيضًا لا يخلو من بعد.

وبعضهم يقول: الجواب: يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ، وهذا كذلك أيضًا لا يخلو من بعد.

وبعضهم يقول: يحتمل أن يكون هناك تقديم وتأخير، يعني كأنه قال: فَإِذَا هُم بِالسَّاهِرَةِ، وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا، وهذا خلاف الأصل؛ لأن الأصل في الكلام الترتيب، ومهما أمكن حمل الكلام على الترتيب فلا يلجأ إلى دعوى التقديم والتأخير، وهنا يمكن حمله.

ابن القيم -رحمه الله- في كتابه التبيان في أقسام القرآن، في عدد من المواضع، يقول: لا يوجد جواب أصلًا، وإنما المقصود التنويه بهذه الأمور ولفت النظر إليها، ويكفي هذا عن الجواب؛ لأنه يشعر به.

قال ابن القيم -رحمه الله: "وجواب القسم محذوف يدل عليه السياق وهو البعث المستلزم لصدق الرسول ﷺ، وثبوت القرآن، أو أنه من القسم الذي أريد به التنبيه على الدلالة"[6].

يعني ما دل عليه المذكور.

وقال "رحمه الله: "والعبرة بالمقسم به دون أن يراد به مقسمًا عليه بعينه، وهذا القسم يتضمن الجواب المقسم عليه وإن لم يذكر لفظًا، ولعل هذا مراد من قال: إنه محذوف للعلم به، لكن هذا الوجه ألطف مسلكًا"[7].

يعني على الطريقة التي يذكرها الآن ابن القيم بكلامه الأخير، أنه ما يحتاج إلى تقدير، يعني: ما يحتاج أن يقال: الجواب محذوف مقدر بـ لتبعثن، ابن القيم يقول: ما يحتاج، فإن ذلك يُستشف من هذه الأمور المقسم بها، فيصل المعنى إلى قلب السامع فيفهمه دون أن نقدّر.

وقال "رحمه الله: " فإن المقسم به إذا كان دالا على المقسم عليه مستلزمًا استغنى عن ذكره بذكره، وهذا غير كونه محذوفًا لدلالة ما بعده عليه، فتأمله.

ولعل هذا قول من قال: إنه إنما أقسم برب هذه الأشياء وحذف المضاف، فإن معناه صحيح لكن على غير الوجه الذي قدروه فإن إقسامه سبحانه بهذه الأشياء لظهور دلالتها على ربوبيته ووحدانيته وعلمه وقدرته وحكمته فالإقسام بها في الحقيقة إقسام بربوبيته وصفات كماله فتأمله"[8].

يعني ابن القيم يقول: إن السامع حينما يسمع هذه الأقسام يصل إلى فهمه المراد من هذه الأمور التي ذكرها الله على سبيل التعيين والتخصيص، وَالنَّازِعَاتِ، وَالنَّاشِطَاتِ إلى آخره، فيكون الكلام مشعرًا بالمراد وهو قدرة الله ، وعظمته، قدرته على بعث الأجساد.

  1. رواه مسلم، كتاب الإمارة، باب فضل الرمي والحث عليه، وذم من علمه ثم نسيه، برقم (1917).
  2. التبيان في أقسام القرآن، لابن القيم (ص:134).
  3. المرجع السابق.
  4. المرجع السابق.
  5. المرجع السابق (ص:135).
  6. التبيان في أقسام القرآن (ص:139).
  7. المصدر السابق.
  8. المصدر السابق.

مواد ذات صلة