الجمعة 19 / رمضان / 1445 - 29 / مارس 2024
[4] من قوله تعالى: {أَمْ لِلإنْسَانِ مَا تَمَنَّى} الآية:24 إلى قوله تعالى: {ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاء الْأَوْفَى} الآية:41
تاريخ النشر: ٢٤ / جمادى الأولى / ١٤٣٥
التحميل: 6288
مرات الإستماع: 13473

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المفسر -رحمه الله تعالى:

ثم قال تعالى: أَمْ لِلإنْسَانِ مَا تَمَنَّى [سورة النجم:24] أي: ليس كل من تمنى خيراً حصل له، لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ [سورة النساء:123]، ما كل من زعم أنه مهتدٍ يكون كما قال، ولا كل من ود شيئاً يحصل له.

 روى الإمام أحمد عن أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله ﷺ: إذا تمنى أحدكم فلينظر ما يتمنى، فإنه لا يدري ما يكتب له من أمنيته[1]، تفرد به أحمد.

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقوله -تبارك وتعالى- هنا: أَمْ لِلإنْسَانِ مَا تَمَنَّى "أم" هذه هي المنقطعة، وهي مفسَّرة ببل والهمزة، أي ليس كل من تمنى خيراً حصل له، وهذا الحديث الذي أورده في إسناده ضعف.

وقوله: فَلِلَّهِ الآخِرَةُ وَالأولَى أي: إنما الأمر كله لله، مالك الدنيا والآخرة، والمتصرف في الدنيا والآخرة، فهو الذي ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن.

كما قال الله : وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ [سورة النمل:91]، الدنيا والآخرة كلها لله -تبارك وتعالى، وهو مالك يوم الدين، فذلك اليوم العظيم هو ملك له -تبارك وتعالى- وما دونه من باب أولى، وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى [سورة الليل:13].

وقوله تعالى: وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى، كقوله: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلا بِإِذْنِهِ [سورة البقرة:255]، وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ [سورة سبأ:23]، فإذا كان هذا في حق الملائكة المقربين -عليهم السلام- فكيف ترجون أيها الجاهلون شفاعة هذه الأصنام والأنداد عند الله، وهو لم يشرع عبادتها ولا أذن فيها، بل قد نهى عنها على ألسنة جميع رسله، وأنزل بالنهي عن ذلك جميع كتبه؟!

هذه الآية تضمنت شرطين من شروط الشفاعة إِلا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى، يأذن للشافع أن يشفع، ويرضى بالشفاعة، أو يرضى عن المشفوع له، وكذلك قوله -تبارك وتعالى- في الآية الأخرى: وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ [سورة سبأ:23]، ولهذا قال الله في سورة البقرة: وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ [سورة البقرة:123]، فالشفاعة المنفية "ولا تنفعها شفاعة" تفهم على ضوء هذه الآيات -والله أعلم.

إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الأنْثَى ۝ وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا ۝ فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ۝ ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى [سورة النجم:27-30].

يقول تعالى منكراً على المشركين في تسميتهم الملائكة تسمية الأنثى، وجعلهم لها أنها بنات الله -تعالى الله عن ذلك- كما قال تعالى: وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ [سورة الزخرف:19]؛ ولهذا قال تعالى: وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْم أي: ليس لهم علم صحيح يصدّق ما قالوه، بل هو كذب وزور وافتراء، وكفر شنيع، إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا أي: لا يجدي شيئاً، ولا يقوم أبداً مقام الحق، وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله ﷺ قال: إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث[2].

وقوله: فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا أي: أعرِضْ عن الذي أعرَضَ عن الحق، واهجره.

في قوله هنا: إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا، "إن" هذه نافية، يعني ما يتبعون إلا الظن، والمقصود بالظن الذي يرد ذمه في القرآن هو التخرص والظنون الكاذبة فيما يطلب فيه العلم واليقين، وهذا لا ينافي أنه يجوز العمل بالظن في بعض الأحوال، والمقصود بالظن الذي يُعمل به هو طرف الرجحان؛ لأن القسمة كما هو معلوم رباعية فالعلم يعني اليقين، هذا أعلاه، ثم بعد ذلك تأتي الأقسام الثلاثة، فما استوى فيه الطرفان فهو الشك، والطرف الراجح الذي لم يصل إلى مرتبة اليقين يقال له: الظن، والطرف المرجوح يقال له: الوهم، فالوهم لا يجوز اتباعه، والشك لا يفيد، والطرف الراجح الذي هو الظن يجوز العمل به.

وكثير من المسائل يمكن أن نقول: هي من الظن، كجميع المسائل الاجتهادية، وهكذا، سواء كان ذلك في الفقه، أو كان ما يقوله المفسر، ففي كثير من المواضع إنما هو ظن راجح، يعني هل يستطيع أن يقطع ويجزم ويقول: هذا هو مراد الله بهذه الآية؟ ما يستطيع، يقول: الأقرب كذا، الأرجح كذا، فهذا ظن، ولا يكون ذلك مذموماً، ونصوص الشريعة تدل على هذا، فليس هذا هو المقصود بالظن الذي ذمه الله ، وذم متبعيه، إنما ذاك هو أن هؤلاء يتبعون الظنون الكاذبة والتخرصات، ويتركون العلم واليقين الذي جاء به الرسول ﷺ.

وقوله: عَن مَّن تَوَلَّى أي: أعرَضَ عن ذكرنا، قال: أعرِضْ عن الذي أعرَضَ عن الحق، واهجره، فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّى عَن ذِكْرِنَا، فسره بعضهم بالآخرة، وهذا التفسير إن قبل فغاية ما هنالك أنه داخل ضمن بعض المعاني التي ذكرها السلف.

وقال بعضهم: المراد به ذكر الله -تبارك وتعالى، وذكره يشمل ذكره بالقلب، واستحضار عظمته ومراقبته، فلم يذكره بقلبه، ويشمل ذكره باللسان، فهو غافل، كما هو حال المنافقين وَلاَ يَذْكُرُونَ اللّهَ إِلاَّ قَلِيلاً [سورة النساء:142]، ويشمل ذكره أيضاً بالجوارح بالتعبد بالأعمال الصالحة، فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّى عَن ذِكْرِنَا، أي: لم يذكر ربه -تبارك وتعالى، غافل القلب، معطل اللسان والجوارح من ذكر الله ، ومن كان كذلك فهو غافل عن ذكر الآخرة بهذا الاعتبار.

وبعضهم خص ذلك بالقرآن، تَوَلَّى عَن ذِكْرِنَا أي: مذكورنا؛ لأن الذكر مصدر، والمصدر يأتي بمعنى الفاعل وبمعنى المفعول، كما قال الله وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا [سورة طه:124] وهذه كتلك من حيث إن المصدر يحتمل المعنيين، وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي، يمكن أن يكون هنا الذكر مراداً به المعنى المصدري، عَن ذِكْرِي، ويمكن أن يكون بمعنى المفعول، فيحتمل أن يكون المراد أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي أي: لم يذكرني، ويحتمل أن يكون أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي أي مذكوري وهو كتابي وكلامي.

فالقرآن يقال له: ذكر، أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي أي: عن كتابي، تحتمل المعنيين، وكل واحد من هذين المعنيين صحيح، والقرآن يعبر به بالألفاظ القليلة الدالة على المعاني الكثيرة، وهذه الآية هنا فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّى عَن ذِكْرِنَا، أي: لم يذكر ربه، فغفل عنه بقلبه ولسانه وجوارحه، وأيضاً تَوَلَّى عَن ذِكْرِنَا أي: الكتاب الذي أنزله الله -تبارك وتعالى- تركه وهجره، وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا [سورة الفرقان:30].

قول الحافظ ابن كثير -رحمه الله- هنا: أي أعرِضْ عن الذي أعرَضَ عن الحق، واهجره، لا يخالف ما ذكرت؛ لأن الذي أعرض عن كتاب الله  يكون معرضاً عن الحق، ومن أعرض عن ربه -تبارك وتعالى- فلم يذكره بقلبه ولسانه وجوارحه يكون معرضاً عن الحق.

وقوله: وَلَمْ يُرِدْ إِلا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا أي: وإنما أكثر همه ومبلغ علمه الدنيا، فذاك هو غاية ما لا خير فيه، ولذلك قال تعالى: ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِأي: طلب الدنيا والسعي لها هو غاية ما وصلوا إليه.

هذا هو المتبادر أن الاسم الإشارة "ذلك" يرجع إلى ما قبله مما ذكر، فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّى عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ۝ ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ، الدنيا هي همهم الوحيد التي بها يفكرون، ومن أجلها يعملون، وعلمهم وبصرهم إنما هو متوجه إليها، ومن أهل العلم من قال: إن المراد ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ أن هذا يرجع إلى قول المشركين: إن الملائكة بنات الله، وهذا هو اختيار كبير المفسرين ابن جرير الطبري -رحمه الله، ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ هؤلاء الجهلة هذا هو علمهم وغاية ما وصلوا إليه، والمعنى الأول: ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ أي: إرادة الحياة الدنيا والعلم بها والبصر بها، بصير بأمر الدنيا جاهل بأمر الآخرة، هذا هو الأقرب -والله تعالى أعلم.

وفي الدعاء المأثور: "اللهم لا تجعل الدنيا أكبر هَمِّنا، ولا مَبلغَ علمنا".

وقوله تعالى:إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى أي: هو الخالق لجميع المخلوقات، والعالم بمصالح عباده، وهو الذي يهدي من يشاء، ويضل من يشاء، وذلك كله عن قدرته وعلمه وحكمته، وهو العادل الذي لا يجور أبدًا، لا في شرعه ولا في قَدَره.

وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى ۝ الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى [سورة النجم:31-32].

يخبر تعالى أنه مالك السماوات والأرض، وأنه الغني عما سواه، الحاكم في خلقه بالعدل، وخلَقَ الخلق بالحق، لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى أي: يجازي كُلاً بعمله، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر.

اللام في قوله: لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا لاحظ سياق الكلام، ذَلِكَ مَبْلَغُهُم مِّنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى ۝ وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى، اللام هذه لِيَجْزِيَ متعلقة بماذا من الكلام المذكور قبلها؟

يحتمل أن تكون متعلقة بما دل عليه الكلام في الآية الأخيرة، وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ، كأنه يقول: هو مالك ذلك، يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء [سورة فاطر:8]، لِيَجْزِيَ الَّذِينَ ليجزي المسيء بإساءته والمحسن بإحسانه، وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا، أن الله مالك الملك، يملك ذلك جميعاً لِيَجْزِيَ الَّذِينَ ليجزي المسيء، فالله مالك السماوات والأرض فهو يملك الهدى والضلال والعطاء والمنع، ويهدي من شاء من عباده، ويضل من شاء، لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا يجزي المسيئين والمحسنين كُلاً بعمله.

ويحتمل أن تكون متعلقة بقوله: وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى، ويكون ما بينهما جملة اعتراضية، يعني يكون الكلام هكذا، إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى، لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا، ويكون وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جملة اعتراضية، إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى ۝ وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا، فالملك ملكه والخلق عبيده، فتكون هذه جملة معترضة، ويحتمل أن تكون اللام هذه لام العاقبة، يعني أن عاقبة أمر الخلق الذين فيهم المحسن والمسيء أن الله يجزي المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته.

ثم فسر المحسنين بأنهم الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش، أي: لا يتعاطون المحرمات والكبائر، وإن وقع منهم بعض الصغائر فإنه يغفر لهم ويستر عليهم، كما قال في الآية الأخرى: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلا كَرِيمًا [سورة النساء:31]، وقال هاهنا: الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلا اللَّمَمَ، وهذا استثناء منقطع.

الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثْمِ وَالْفَوَاحِشَ قرأه حمزة والكسائي: الذين يجتنبون كبير الإثم والفواحش، كَبَائِرَ الإثْمِ وَالْفَوَاحِشَ، الفواحش من الكبائر، فهذا -والله تعالى أعلم- من عطف الخاص على العام، فالكبائر هي ما يقابل الصغائر، والعلماء تكلموا في حد الكبيرة بكلام كثير، ولعل من أحسن ما قيل فيها أنها كل ذنب ورد فيه عقوبة خاصة في الدنيا أو في الآخرة، أو وعيد -مثل الحدود في الدنيا السرقة والزنا وما أشبه ذلك- أو لعن، أو عقوبة مخصصة في النار أو نحو ذلك، فهذا كله من الكبائر، وما في معناه، أو كان بمنزلته أو أشد.

ومن أهل العلم كابن الصلاح قال: إن هذه السبع يلحق بها ما كان أشد منها أو في درجتها، الآن هناك أشياء غير مذكورة في السبع الموبقات، ولا مذكورة حتى في الكبائر، ما حكمها؟

يعني الآن من الكبائر التولي يوم الزحف، هذا إنسان لم يحتمل حينما رأى العدو فامتلأ قلبه فرقاً، فلم تثبت قدمه في أرض المعركة ففر لغلبة الخوف، هذه من السبع الموبقات المهلكات، وهي من جملة الكبائر، بل من أكبرها، أيْ أعظمُ هذا أو الذي يذهب ويخبر عن دواخل المسلمين، ومواطن الضعف عندهم يُعلم عدوهم بذلك فيستأصلهم، أي أعظم هذا الفار أو الذي هو جالس يخبرهم كعمل المنافقين، يخبرهم عن الثغرات التي يمكن أن يدخل منها العدو؟ ما في مقارنة، مع أن هذا لم يذكر في السبع الموبقات، فذكر هذه الأشياء لا يعني أن ذلك يختص بها، بل يدخل فيها ما كان مثلها أو أشد.

فهنا الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثْمِ وَالْفَوَاحِشَ، الكبائر تقابل الصغائر، والفواحش هي من جملة الكبائر، وتفسر بمعنيين، معنى عام، ومعنى خاص، والمعنى العام الذي تفسر به هو الأصل الذي دل عليه كلام العرب، والمعنى الخاص إنما هو في عرف الاستعمال غالباً.

فالمعنى العام: الفواحش هي كل ذنب عظيم، فالشيء الذي يكون كثيراً أو متعاظماً تقول له العرب ذلك، تقول: هذا مال فاحش، وعمل فاحش، وقول فاحش، "لم يكن النبي ﷺ فاحشاً ولا متفحشاً"[3]، وتقول: هذا دم فاحش، وهكذا، فالشيء الكثير يقال له ذلك، هذا في أصل اللغة، وأما في عرف الاستعمال فغالباً ما يطلق ذلك على لون من الذنوب وهو الزنا وما في معناه، يقال له: الفاحشة، وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً [سورة الإسراء:32].

وذكرنا مراراً أن بعض أهل العلم يفصل في هذه، ويقول: إن هذا اللفظ إذا جاء معرفاً بـ"ال" في القرآن فهو الزنا وما في معناه، وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نِّسَآئِكُمْ [سورة النساء:15] يعني: الزنا، وإنه إن جاء منكّراً فإن ذلك يحمل على الذنب العظيم، إن جاء منكراً، وإن جاء مقيداً بالبيان مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ [سورة الأحزاب:30]، وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ [سورة الطلاق:1] يعني: المطلقات، وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ.

فمن أهل العلم من يقول: إن هذا بمعنى عقوق الزوج، هكذا قال بعض أهل العلم، ولا يخلو من إشكال، والسياق يبين المراد، فهنا الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثْمِ وَالْفَوَاحِشَ، الفواحش: كل ذنب عظيم يقال له: فاحشة، ويدخل في ذلك الزنا دخولاً أولياً لغلبة ذلك وتوجهه إليه عند الإطلاق، حينما يقال: الفاحشة، والله أعلم.

وقال هاهنا: الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلا اللَّمَمَ، وهذا استثناء منقطع.

الاستثناء المنقطع عرفنا أنه بمعنى "لكن"، يعني إذا كان استثناءً منقطعاً يكون الكلام هكذا: الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثْمِ وَالْفَوَاحِشَ لكن اللمم يقعون فيه، فهذا بناء عليه -إذا قلنا: إنه استثناء منقطع- يكون اللمم ليس من جملة كبائر الإثم ولا الفواحش.

وإذا قلنا: إن الاستثناء من قبيل المتصل ولا شك أن الأصل في القرآن، وحتى في غيره من الكلام الأصل في الاستثناء الاتصال، وليس الانقطاع، لكن السياق يبين المراد، والقرائن والأدلة الأخرى، فهنا إذا كان الاستثناء متصلاً يكون الكلام هكذا: الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلا اللَّمَمَ، فيكون اللمم من جملة الفواحش أو الكبائر، لكن يقع منهم ذلك على سبيل الفلتة، ليس عادة، ولا كثيراً، ولا يصرون عليه، لربما وقع للواحد منهم وقوعاً نادراً، فيتوب.

والمقصود هنا بيان الاستثناء هل هو متصل أو لا؟ وما الذي يترتب عليه بناءً على ذلك؟

والمشهور الذي عليه جماهير أهل العلم سلفاً وخلفاً: أن الاستثناء منقطع، فاللمم ليس من جملة الفواحش، بمعنى أن المستثنى ليس من جملة المستثنى منه، ليس من جنسه أصلاً، مثلما تقول مثلاً: جاء القوم إلا فرساً، الفرس ليس منهم، وهذا استثناء منقطع.

واللمم يفسر بمعنيين، وكلاهما معروف في اللغة وفي كلام العرب وأشعارهم، فهو يطلق على الشيء القليل، يقال له: لمم، الشيء الصغير، تقول: ألمّ بالمكان أي قل لبثه به، ما طوّل، ألم بالمكان، الشيء القليل، والعرب أيضاً تعبر به عن معنى القرب والدنو من الشيء، كما قال النبي ﷺ: وإن مما أنبت الربيعُ ليقتل حبطاً أو يُلم كتب على ابن آدم حظه من الزنا فهو واقع فيه لا محالة[4]، وذكر زنا العينين وزنا اليد وزنا الرجل، فهذا من اللمم، لا بمعنى أن الإنسان يتقصد هذه الأشياء ويقول: إلا اللمم، ويحتج بهذه الآية، فإن الإصرار على الصغائر يصيّرها كبائر، ولهذا قال بعض أهل العلم: كل الذنوب كبائر لا يوجد صغائر وكبائر.

وهذا الكلام فيه إشكال، لكن يمكن أن يوجه بمعنى: فلتنظر إلى من عصيت، يعني هي في حق الله، يعني حينما يجترئ الإنسان على هذا الرب العظيم الأعظم فإن ذلك يعد كبيراً، لا تنظر إلى صغر المعصية ولكن انظر إلى عظمة من عصيت، ومن الناس من يضره هذا، كما ذكرنا في مناسبات شتى أن من الناس من يتضرر بالعلم، كما قال النبي ﷺ: وإن كل ما أنبت الربيعُ ليقتل حبطاً أو يُلم، إلا آكلة الخضرة أكلت حتى إذا امتدت خاصرتاها..[5] إلى آخره، فالربيع هذا لمّا سأل الرجل النبي ﷺ عن المال قال: أوَيأتي الخير بالشر؟ فقال: إن الخير لا يأتي بالشر، ولكن إن مما أنبت الربيعُ ليقتل حبطاً أو يُلم[6].

وهكذا العلم، من الناس من يضره العلم، شخص يراود شخصاً على فاحشة ويحتج له بالآية الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلا اللَّمَمَ، فهذا لا يصح بحال من الأحوال أبداً، هذا الإنسان مصر ومجرم وظالم على كل تقدير، حتى على تفسير هذا أنه يقع منه، ليس معنى ذلك أن يحتج بالآيات ليترخص فيها على الجرائم ومعصية الله ، لكن الإنسان قد تزل قدمه، يخطئ، يذنب، فلا يكون هذا هو نهاية المطاف، يتوب يبادر إلى التوبة، إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ [سورة الأعراف:201] عرف أنه مخطئ ورجع، وَإِخْوَانُهُمْ [سورة الأعراف:202] إخوان الشياطين، يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ [سورة الأعراف:202] استمروا، ويرى في ذلك انشراحاً وانبساطاً، وفرصاً لا يمكن أن تعوض، فيكون ذلك هو ديدنه وعمله.

الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلا اللَّمَمَ، وهذا استثناء منقطع؛ لأن اللمم من صغائر الذنوب ومحقرات الأعمال.

روى الإمام أحمد عن ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما- قال: ما رأيت شيئًا أشبه باللمم مما قال أبو هريرة عن النبي ﷺ، قال: إن الله تعالى كتب على ابن آدم حظه من الزنا، أدرك ذلك لا محالة، فزنا العين النظر، وزنا اللسان النطق، والنفس تَمنَّى وتَشْتَهِي، والفرج يُصدِّق ذلك أو يُكَذِّبه[7]، أخرجاه في الصحيحين.

روى ابن جرير أن ابن مسعود -رضي الله تعالى عنه- قال: "زنا العينين النظر، وزنا الشفتين التقبيل، وزنا اليدين البطش، وزنا الرجلين المشي، ويُصدّق ذلك الفرج أو يُكَذِّبه، فإن تقدم بفرجه كان زانيا، وإلا فهو اللَّمَم"[8]، وكذا قال مسروق، والشعبي.

وقال عبد الرحمن بن نافع -الذي يقال له: ابن لبابة الطائفي- قال: سألت أبا هريرة -رضي الله تعالى عنه- عن قول الله: إِلا اللَّمَمَ قال: القُبلة، والغمزة، والنظرة، والمباشرة، فإذا مس الختانُ الختانَ فقد وجب الغسل، وهو الزنا.

لا يفهم من هذا بحال من الأحوال أن الإنسان يترخص، ينظر إلى النساء وينظر إلى ما حرم الله وينظر إلى القنوات ويقول: إلا اللمم، هذا من اللمم، وما يدريك أن الله يغفر لك هذا، فالمغفرة تتوقف على وجود شروط وانتفاء موانع، ثم هذه الذنوب إذا تكاثرت فكما صوّر النبي ﷺ جاء هذا بعود وهذا بعود وهذا بعود، فتحرق صاحبها.

ثم أيضاً هذه الذنوب ما يدريك أنه لا يُختم للإنسان بها، ثم أيضاً الذنب يجر إلى ذنب ويدفع الطاعة، فإذا عصى الإنسان ربه فإن ذلك يدعوه إلى معصية أخرى، ثم أيضاً هذه المعصية يتغير معها القلب شيئاً فشيئاً حتى يطمس عليه، لاسيما بعض الذنوب.

ثم أيضاً أين الخوف من الله ، وأين مراقبته؟ فإن الاستخفاف به سبب أكيد لسخطه على العبد، وإذا سخط على العبد فلا خير فيه ولا في عيشه، إنما ما يقع من الإنسان، ولابد أن يقع من الإنسان، لابد فهذه الأمور لا يمكن أن يتوقاها، فيبادر إلى التوبة منها، وإلا لأحرقت الناس الذنوب، والله -تبارك وتعالى- كما في الحديث أن: الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مكفرات ما بينهن إذا اجتنب الكبائر[9]، وما ذكر من أثر الوضوء.

لكن لو فكر الإنسان في الأعمال التي يقع فيها كثير من الناس، التفريط في الصلاة حتى يخرج الوقت هذا ليس من اللمم، الغيبة التي هي فاكهة المجالس ليست من اللمم، البهتان ليس من اللمم، كثير من الأمور التي يواقعها الناس ليست من اللمم، الإنسان الذي يأتي لأولاده بدش يشاهدون فيه ما حرم الله هذا ليس من اللمم، ما من عبد يسترعيه الله رعية فيموت وهو غاش لهم إلا حرم الله عليه الجنة[10]، هذا من عظائم الذنوب، فكثير من الأشياء يتساهل فيها الناس، النساء الكاسيات العاريات ليس هذا من اللمم.

وقوله تعالى: إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ أي: رحمته وَسِعَت كل شيء، ومغفرته تَسَع الذنوب كلها لمن تاب منها، كقوله تعالى: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [سورة الزمر:53].

وقوله تعالى: هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأرْض أي: هو بصير بكم، عليم بأحوالكم وأفعالكم وأقوالكم التي تصدر عنكم، وتقع منكم حين أنشأ أباكم آدم من الأرض، واستخرج ذريته من صلبه أمثال الذَّر، ثم قسمهم فريقين: فريقاً للجنة وفريقاً للسعير، وكذا قوله: وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ قد كتب الملك الذي يُوَكَّل به رزقَه وأجَلَه وعمله، وشقي أم سعيد.

هذه الآية أو هذا التعقيب بعد قوله: الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ هذا فيه تهديد، فالله  عالم بالخفيات والأعمال والسرائر وما يجترمه العبد علانية أو سراً فكل ذلك الله مطلع عليه، فيجزي كُلاً بعمله، الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ، فهو عالم بهؤلاء، وعالم بمن يقعون في ذلك، عالم بالمجترئين عليه، وعالم بمن يتقيه ويخشاه، ولذلك نهى عن تزكية النفوس بعده فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ، لا تزكِّ نفسك.

والناس كما قال الإمام أحمد لما أثنى عليه رجل، قال: إنما نعيش في ستر الله، ولو كشفه عنا لافتضحنا، وهكذا الإنسان في ذنوبه وتقصيره لولا ستر الله لافتضح، فكل إنسان مقصر ومذنب، وإنما يستره ربه -تبارك وتعالى.

ومن الناس من يهتك ستره فيُفضح في العالمين، وليس معنى ذلك أنه الوحيد الذي عمل هذا، هناك كثيرون، ولكن الله -تبارك وتعالى- سترهم، فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ، وذلك يشمل المعنيين -والله أعلم، لا تزكِّ نفسك، بعض الناس إذا جاء يسأل يقدم بمقدمة، يقول: أنا ملتزم، أنا شاب ملتزم، وبعدين يبدأ يتكلم، ما تغتاب الناس في المجالس؟ ما تصور؟ هذا من الكبائر، ما تعق والديك؟ هذه أشياء متفشية من الكبائر التي قد عمت وطمت، والعقوق من أكبر الكبائر، يرفع صوته على أبيه أو أمه، أو يقول له: اجلس هنا، أو لا تذهب، لا تخرج هذه الليلة أو كذا، ويذهب، فهذا من العقوق، ليس هذا من اللمم.

فالشاهد فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ، لا تزكِّ نفسك، بل يجب أن تعترف وأن تعرف تقصيرك وذنوبك وإسرافك على نفسك، لكن أحياناً التزكية تكون بالإزراء على النفس، أحياناً، وَاللّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ [سورة البقرة:220]، ما يخفى عليه شيء، يجلس الإنسان يزري على نفسه، ويقول: أنا المذنب وأنا، وأنا وهو يقصد تزكية نفسه، يقال: ما شاء الله عليه متواضع، وقد يقولها من هو كذلك.

شيخ الإسلام -رحمه الله- كان يقول: أنا المُكدّي وابن المُكدّي، وكان يقول: ما مني شيء ولا لي شيء، فما كل من قال هذا يكون يزكي نفسه، لكن أحياناً يكون يزكي نفسه بهذا، الإزراء على النفس أحياناً في الملأ مدح لها، وَاللّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ ما يخفى عليه شيء.

فالشاهد: لا تزكِّ نفسك، فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ، وأيضاً لا تكون مداحاً، لا تزكِّ الآخرين، فكل واحد من هذين المعنيين صحيح، فإن نفوس أهل الإيمان مثلاً بمنزلة النفس الواحدة، كما قال الله في بني إسرائيل: فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ [سورة البقرة:54] ليس المراد أن يقتل نفسه، وإنما فليقتل بعضكم بعضاً، قتلَ بعضُهم بعضاً، قيل: أُلقي عليهم الغمام، وصار الرجل يضرب أباه بالسيف وأخاه، كذلك لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ [سورة النساء:29]، هل معنى ذلك أن يأكل الإنسان مال نفسه بالباطل، أو مال إخوانه؟ مال إخوانه، فهنا فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ أيضاً: لا تجلس تمدح، وتقول: فلان تقي، وفلان شهيد، وفلان كذا، الله -تبارك وتعالى- هو العليم بأهل التقوى.

ولهذا فإن النبي ﷺ نهى عن هذا وقال: إن كان فاعلاً لا محالة فليقل: أحسبه، والله حسيبه، ولا أزكي على الله أحداً[11]، إذا كان الإنسان لابد له من هذا، احتاج إليه، سئل عن هذا الشخص ليتزوج مثلاً، يقول: الله يقول: فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ، رجل مواظب على المسجد، رجل من أهل الخير والصلاح والتقوى وكذا، هكذا أحسبه، والله حسيبه، ولا أزكي على الله أحداً؛ لأنه قد يوجد فيه أشياء أنت لا تعلمها، أنت تتكلم بما ظهر لك، وقد يكون في باطن الأمر من أفجر عباد الله، بل قد يكون واقعاً في الشرك، قد يكون ساحراً، قد يكون دجالاً وأنت لا تدري، فقل: أحسبه، والله حسيبه، ولا أزكي على الله أحداً.

أما أن نتبنى شخصاً نزكيه ونقطع بهذا فهذا لمن شهد له الله  أو رسوله ﷺ، ولهذا لا نحكم لأحد بالجنة إلا لمن شهد له الله ، ومن أهل العلم كشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- من قال: من استفاض في الأمة صلاحه وخيريته وإمامته في الدين وما أشبه ذلك يمكن أن يقال، من أهل العلم من قال هذا، يعني الأئمة الكبار مثل مالك والشافعي وأحمد وسفيان الثوري وأمثال هؤلاء، هؤلاء أئمة في الدين، والإنسان لا حاجة له لمثل هذا، وإنما نشهد لمن شهد له الله وشهد له الرسول ﷺ بالجنة، ومن عداهم نقول: نرجو لهم الخير، ونرجو لهم المنازل العالية في الآخرة، لكن القطع بهذا فيه إشكال.

والرجل الذي أثنى الصحابة عليه وعلى بلائه في سبيل الله، فقال النبي ﷺ: هو في النار، فتبعه رجل منهم فوجده جرح جراحة شديدة فوضع السيف بين ثدييه وتحامل عليه ثم قتل نفسه[12]، وكذلك الرجل الذي قتل في سبيل الله فقالوا: هنيئاً له الجنة، أو نحو هذا، فأخبر النبي ﷺ أنه في النار إن الشملة التي غلّها لتسعر عليه في قبره[13]، نحن لا ندري، ولذلك تجد في البخاري باب لا يقال: فلان شهيد، فيه أثر عمر : تقولون لقتلاكم: فلان شهيد، فلان شهيد، الله أعلم بمن يقاتل في سبيله، فهل يعمل الإنسان معصية غير العمل السيئ الظاهر؟

نعم، تبقى قضية النية أصلاً تتقلب على الإنسان تقلباً سريعاً، ويصعب عليه أن يسيطر على هذه النية، وهذا الإنسان الذي يصلي أو يجاهد أو ينفق -الثلاثة الذين أول من تسعر بهم النار يوم القيامة- أو يطلب العلم قد تضطرب عليه نيته، وقد لا يحاسب نفسه، ولا يراقبها فيسترسل مع نية فاسدة، ولذلك تجد من الناس من يقاتل على الرئاسات وليس له هم إلا أن يحصل الشهرة بأي ثمن ولو بالكذب على الله ، ليس له هم إلا هذا -نسأل الله العافية، وكل من جاء يريد أن يعمل معه لقاء يعمل معه لقاء حتى لو كان أفجر الناس، ولو كان امرأة في غاية التبرج والسفور، المهم أنه يحصّل مزيداً من الأضواء، فأحياناً لا يكون العمل في الظاهر معصية، قد تكون أعماله التي يعملها في الظاهر حسنة لكن النية تضطرب على الإنسان فيحتاج إلى التعاهد لها، فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ، لا تزكِّ نفسك ولا يزكِّ بعضكم بعضاً.

وقوله: فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ أي: تمدحوها وتشكروها وتمنوا بأعمالكم، هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى، كما قال تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلا [سورة النساء:49].

وروى مسلم في صحيحه عن محمد بن عمرو بن عطاء قال: سَمّيتُ ابنتي بَرّةَ، فقالت لي زينب بنت أبي سلمة: إن رسول الله ﷺ نهى عن هذا الاسم، وسُمِّيتُ بَرَّة، فقال رسول الله ﷺ: لا تزكوا أنفسكم، إن الله أعلم بأهل البر منكم، فقالوا: بم نسميها؟ قال: سموها زينب[14].

وقد ثبت أيضا في الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن عبد الرحمن بن أبي بكْرَة عن أبيه -رضي الله تعالى عنه- قال: مدح رَجلٌ رجلاً عند النبي ﷺ، فقال رسول الله ﷺ: ويلك! قطعت عُنُقَ صاحبك -مرارًا- إذا كان أحدكم مادحاً صاحبه لا محالة فليقل: أحسب فلانا والله حسيبه، ولا أزكي على الله أحداً، أحسبه كذا وكذا، إن كان يعلم ذلك[15]، وكذا رواه البخاري، ومسلم، وأبو داود، وابن ماجه.

وروى الإمام أحمد عن همام بن الحارث قال: جاء رجل إلى عثمان فأثنى عليه في وجهه، قال: فجعل المقداد بن الأسود يحثو في وجهه التراب ويقول: "أمرنا رسول الله ﷺ إذا لقينا المداحين أن نحثو في وجوههم التراب"[16]، ورواه مسلم وأبو داود.

أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى ۝ وَأَعْطَى قَلِيلاً وَأَكْدَى ۝ أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى ۝ أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى ۝ وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى ۝ أَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ۝ وَأَنْ لَيْسَ لِلإنْسَانِ إِلا مَا سَعَى ۝ وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى ۝ ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأوْفَى [سورة النجم:33-41].

يقول تعالى ذَامًّا لمن تولى عن طاعة الله: فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى ۝ وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى [سورة القيامة:31، 32]، وَأَعْطَى قَلِيلاً وَأَكْدَىقال ابن عباس: أطاع قليلا ثم قطعه، وكذا قال مجاهد، وسعيد بن جبير، وعكرمة، وقتادة، وغير واحد، قال عكرمة وسعيد: كمثل القوم إذا كانوا يحفرون بئرًا، فيجدون في أثناء الحفر صخرة تمنعهم من تمام العمل، فيقولون: "أكدينا"، ويتركون العمل.

يقول الله -تبارك وتعالى: أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى هل يُقصد به إنسان بعينه الآيات تتحدث عنه، أو أنها تتحدث عن صفة ذميمة ينبغي للإنسان أن يتجنبها؟

أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى البعض يقول: هو الوليد بن المغيرة في القصة التي يذكرون، وما يروى من أنه لما أراد الدخول في الإسلام جاءه من صرفه عن هذا وقال: أنا أتحمل عنك عذاب الله ، على أن يعطيه شيئاً من المال مرة بعد مرة، قدراً معيناً اتفق معه عليه، فوافقه بهذا وأعطاه، ثم بعد ذلك بخل وانقطع، وَأَعْطَى قَلِيلاً وَأَكْدَى، فيكون تولى، تولى عن الإسلام.

ومنهم من يقول: هو العاص بن وائل، ومنهم من يقول: هو أبو جهل تولى عن الإسلام، وَأَعْطَى قَلِيلاً قال: إن القرآن، أو إن الرسول ﷺ لا يأمرنا إلا بخير، وَأَعْطَى قَلِيلاً، يعني: قال كلاماً حسناً قليلاً وَأَكْدَى انقطع، وحينما نريد أن نحدد أنها في فلان أو فلان لابد فيه من شيء ثابت صحيح، وإلا فيبقى أن هذا ذم لمن اتصف بهذه الصفة عموماً، وهذا الذي يعنينا، وسياق الآيات يدل على أن العطاء ليس هو المدح، ليس هو أن إنساناً من الناس أثنى على النبي ﷺ أو على القرآن، لا، وإنما هو عطاء، أعطى شيئاً، أعطى مالاً ثم انقطع، قد يكون ذلك وقع وحصل من إنسان بعينه لكن تبقى هذه الصفة صفة ذميمة تدل على معانٍ رديئة فيمن اتصف بها وكثيرة، توليه وإعراضه وضعف عقله، وشحه وبخله، وقلة صبره على العمل.

فالحاصل أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى تولى عن الإسلام، تولى عن الحق، وَأَعْطَى قَلِيلاً وَأَكْدَى، أعطى مالاً، أعطى قولاً حسناً في القرآن، في النبي ﷺ، والأقرب أنه أعطى شيئاً، مالاً أو نحو ذلك.

يقول: وَأَعْطَى قَلِيلاً ثم قطعه وَأَكْدَى، وهذه خلاصة المعنى، ودلالات هذه اللفظة وَأَكْدَى، النتيجة التي نتوصل إليها حينما نحلل هذه اللفظة في النهاية أنه انقطع، يقول: وكذا قال مجاهد، وسعيد بن جبير، وعكرمة، وقتادة، وغير واحد.

قال عكرمة وسعيد: كمثل القوم إذا كانوا يحفرون بئرًا، فيجدون في أثناء الحفر صخرة تمنعهم من تمام العمل، فيقولون: أكدينا، ويتركون العمل، إذا اعترضتْ كُُدية -بمعنى صخرة- أثناء الحفر، يعني كأنهم يقولون: عجزنا، فينقطعون، ولهذا فسره من فسره، قال: وَأَعْطَى قَلِيلاً وَأَكْدَى أعطى قليلاً ثم قطعه، فهؤلاء انقطعوا عن الحفر بسبب هذه الكُدية، أكدينا، وقال المعلق: كذا وقع في النسخ ولعله "أكدتنا"، بالتاء، إما بضمير الغائب أو بالمخاطب، ولا يلزم، أكدينا صحيحة لا إشكال فيها، والمعنى ظاهر، أكدينا ويتركون العمل، والعرب تقول: أكدى الرجل إذا قل خيره، وهو يرجع إلى هذا المعنى، ما يطلع منه شيء، مثل هذا الذي يحفر ثم ينقطع، فلا يصل إلى نتيجة، وَأَعْطَى قَلِيلاً وَأَكْدَى يعني انقطع.

وقوله تعالى: أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى أي: أعند هذا الذي قد أمسك يده خشية الإنفاق، وقطع معروفه، أعنده علم الغيب أنه سينفد ما في يده، حتى قد أمسك عن معروفه، فهو يرى ذلك عياناً؟!

قد يكون أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ أنه يحصل له مثلاً الخلاص والنجاة، مثل الذي يحتج على العطاء في الدنيا على العطاء في الآخرة، في سورة الكهف مثلاً ماذا قال: وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِّنْهَا مُنقَلَبًا [سورة الكهف:36]، فمثل هذا، أو الذي قال: إِنَّ لِي عِندَهُ لَلْحُسْنَى [سورة فصلت:50]، فمثل هؤلاء الذين يتركون العمل ويتكلون على الأماني الفارغة والظنون الكاذبة، نَحْنُ أَبْنَاء اللّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ [سورة المائدة:18]، لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً [سورة البقرة:80]، لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى [سورة البقرة:111]، أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى.

أي: ليس الأمر كذلك، وإنما أمسك عن الصدقة والمعروف والبر والصلة بخلاً وشحاً وهلعاً؛ ولهذا جاء في الحديث: أنفق بلالاً ولا تَخْشَ من ذي العرش إقلالا[17]، وقد قال الله تعالى: وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [سورة سبأ:39].

وقوله تعالى:أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى ۝ وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى قال سعيد بن جبير، والثوري: أي بلّغ جميع ما أمر به.

وقال ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما: وَفَّى لله بالبلاغ، وقال سعيد بن جُبَير: وَفَّى ما أمر به.

لاحظ هذا المعنى أشمل من الذي قبله "ما أمر به" يعني من الطاعة والبلاغ، وأشمل منه المعنى الذي بعده قول قتادة.

وقال قتادة: وَفَّى طاعة الله، وأدى رسالته إلى خلقه، وهذا القول هو اختيار ابن جرير.

وهو يشمل الذي قبله، وهذا هو الأحسن في تفسيره -والله أعلم؛ لأنه حذف المتعلق، والأصل أن حذف المتعلق يفيد العموم النسبي، يعني: في كل مقام بما يصلح له -حذف المتعلق، هنا ما قال: وإبراهيم الذي وفى بالرسالة، أو البلاغ، أو وفى بالعبادة، وإنما أطلق ذلك فيشمل أنه وفى بطاعة الله ، ووفى بالبلاغ والقيام بأعباء الدعوة، والصبر على أذى قومه، كل هذا داخل فيه، والله أعلم.

وهو يشمل الذي قبله، ويشهد له قوله تعالى: وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا [سورة البقرة:124] فقام بجميع الأوامر، وترك جميع النواهي، وبلغ الرسالة على التمام والكمال.

وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ المقصود بالكلمات هنا يعني التكاليف، الأوامر والنواهي فقام بذلك جميعاً.

فاستحق بهذا أن يكون للناس إماماً يُقتَدى به في جميع أحواله وأفعاله وأقواله.

ولهذا الله وصفه بأنه أمة، إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً [سورة النحل:120]، وهو الرجل الجامع لصفات الخير التي تفرقت في غيره في كل باب من الأبواب، تقول: فلان أمة.

قال الله تعالى: ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [سورة النحل:123].

روى الترمذي في جامعه عن أبي الدرداء وأبي ذر -رضي الله تعالى عنهما- عن رسول الله ﷺ عن الله أنه قال: ابن آدم اركع لي أربع ركعات من أول النهار أكفك آخره[18].

ثم شرع تعالى يبين ما كان أوحاه في صحف إبراهيم وموسى -عليهما السلام- فقال: أَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى أي: كل نفس ظلمت نفسها بكفر أو شيء من الذنوب فإنما عليها وزرها، لا يحمله عنها أحد.

كما قال الله : وَمَا هُم بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُم مِّن شَيْءٍ [سورة العنكبوت:12]، أَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى.

لا يحمله عنها أحد، كما قال تعالى: وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى [سورة فاطر:18].

تَدْعُ مُثْقَلَةٌ أي: نفس مثقلة بالأوزار والذنوب لا يحمل منه شيء ولو كان ذا قربى، ولو كان المدعو من قراباته.

وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى أي: كما لا يُحمل عليه وزر غيره كذلك لا يحصّل من الأجر إلا ما كسب هو لنفسه.

كلام أهل العلم في هذه الآية وتوجيهها والجمع بينها وبين الأدلة الأخرى التي تدل على أنه ينتفع بعمل غيره كلام كثير، مِنهم من قال: هذه الآية أصلاً منسوخة، وهذا بعيد، والنسخ كما في القاعدة "أنه لا يثبت بالاحتمال"، فإذا أعرضنا عن الأقوال الكثيرة الضعيفة والبعيدة والمتكلفة تبقى بعض الأقوال قريبة ومن أحسنها ما ذكره شيخ الإسلام -رحمه الله- من أن المراد، وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى أن الإنسان لا يملك إلا سعيه، ولا يملك سعي الآخرين، فهذا الذي قررته الآية، لكن الآية لم تنفِ أن غيره لو أعطاه من سعيه أنه يحصل له، الآية تتحدث أنه يملك عمله، كما أن الإنسان يملك ماله، وليس له يد على أموال الآخرين، فإذا أعطوه من مالهم صار له.

وهكذا قول النبي ﷺ: إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة: إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له[19]، ولو غيرُ الولد، إنسان حج عنه، أو اعتمر عنه، أو تصدق عنه أو دعا له يحصل له الأجر، فهذه الآية دلت على أنه إنما يملك سعيه ولا يملك سعي غيره، لكن لم تمنع -لم تنفِ- أن يصل إليه شيء من سعي غيره إذا تبرعوا به له، يملكون هذا.

والعلماء مختلفون في مسألة إهداء الثواب، هل يختص هذا بما ذكر في الأحاديث فقط، مثل قضية الحج، ونحو ذلك مثلما ورد في الصيام من مات وعليه صيام صام عنه وليه[20]، وقضية الصدقة -حديث سعد بن عبادة، ومثل هذه الأشياء، هل هو مختص بما ورد به الحديث أو أن ذلك يشمل الدعاء، ويشمل العبادات المالية عموماً، وما ترتب منها مثل الحج والعمرة، البدن يعني، أو أن ذلك يشمل الجميع كل الأعمال، فيدخل فيه إهداء ثواب قراءة القرآن، وما إلى ذلك من الأعمال، طواف مثلاً، طاف ويهدي ثواب هذه السبع لأحد من الناس.

والخلاف في هذا مشهور وكثير ومعروف، أما الأمور المالية فلا شك أنها تصل، والدعاء كذلك، والأحاديث تدل على هذا، والحج والعمرة، تبقى العبادات البدنية المحضة فيقال للناس: مثل هذا لا يشرع، لكن لو أنهم فعلوه وأهدوا الثواب، قرأ قرآناً وأهدى ثوابه لفلان من الناس، الذي أظنه أقرب -والله أعلم- أن الثواب يصل، أن ثوابه يصل، وهذه إحدى المسائل التي خالف فيها ابن القيم -رحمه الله- شيخه شيخ الإسلام بقوة، فهذا قول ذكره شيخ الإسلام وتبناه، وهو من أقربها وأحسنها.

ومن أهل العلم من يقول مثل ابن القيم، يقول: وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى بمعنى: أن نجاته تتوقف على سعيه وعمله، لا يتكئ على الآباء والأسلاف والأنساب والقرابات والشيوخ وما أشبه ذلك، ويظن أن ينجو بهذه الأمور، ليس لك إلا عملك، هذا هو المراد، وهذا معنى لا إشكال فيه، ولا ينافي القول الأول. 

ومن الأقوال القريبة في هذا أيضاً قول ابن عقيل الحنبلي: إن ذلك جميعاً يرجع إلى سعيه وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى، فيقول: الإنسان بسعيه حصل له الأولاد، فهم من سعيه، والزوجات، والأصحاب والأصدقاء والمعارف فهو بإحسانه إلى الناس وتلطفه بهم وما إلى ذلك صارت ألسنتهم تلهج بالدعاء له، فكل ذلك إنما متولد من عمله، يعني لو كان إنساناً سيئاً أو إنساناً سلبياً تماماً كان الناس ما ذكروه بالخير ولا دعوا له، فهو يقول: إن ذلك كله يرجع إلى سعيه والأعمال التي يزاولها من إحسانه إليهم، فيصل إليه من الأعمال والأجور من هؤلاء الناس.

وكذلك يحتج لهذا بأن الإنسان في سعيه وتقلبه مع الناس وكذا يحصل له أجور لا تحصل له بمفرده، يعني إذا صلى مع أخيه جماعة -انضم هذا إلى هذا في الصلاة- فصار بسبع وعشرين، صلاة الجماعة، وهكذا العبادات التي تقام في الجماعة، صلاة التراويح مثلاً ونحو هذا، وهكذا أعمال كثيرة مما يعملها مع غيره من الناس، فيحصل له بسبب ذلك من الأجر المضاعف الكثير، وهناك من العبادات أصلاً ما لا تقوم إلا جماعة، لا يقوم بها الإنسان بمفرده.

وأما الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه، عن أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله ﷺ: إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: من ولد صالح يدعو له، أو صدقة جارية من بعده، أو علم ينتفع به[21]، فهذه الثلاثة في الحقيقة هي من سعيه وكده وعمله، كما جاء في الحديث: إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه، وإن ولده من كسبه[22]، والصدقة الجارية كالوقف ونحوه هي من آثار عمله ووقفه، وقد قال تعالى: إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُم الآية [سورة يس:12]، والعلم الذي نشره في الناس فاقتدى به الناس بعده هو أيضا من سعيه وعمله.

فهذه الآثار تشمل المعنيين، الآثار مثل الخطى إلى المساجد، الخطى إلى مجالس العلم، إلى طاعة الله ، وكذلك أيضاً الآثار من وقف، أو صدقة جارية، أو علم ينتفع به، فهذه من الآثار التي يتركها الإنسان.

وثبت في الصحيح: من دعا إلى هُدى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه، من غير أن ينقص من أجورهم شيئا[23].

وقوله تعالى: وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى أي: يوم القيامة، كما قال تعالى: وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُون [سورة التوبة:105] أي: فيخبركم به، ويجزيكم عليه أتم الجزاء، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر، وهكذا قال هاهنا: ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأوْفَى أي: الأوفر.

  1. رواه الإمام أحمد في المسند، برقم (8689)، وقال محققوه: "إسناده ضعيف لضعف عمر بن أبي سلمة عند التفرد، إسحاق: هو ابن عيسى ابن الطباع، وأبو عوانة: هو الوضاح بن عبد الله اليشكري"، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع، برقم (4961).
  2. رواه البخاري، كتاب الأدب، باب ما ينهى عن التحاسد والتدابر، برقم (6064)، ومسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظن والتجسس والتنافس والتناجش ونحوها، برقم (2563).
  3. رواه البخاري، كتاب المناقب، باب صفة النبي ﷺ، برقم (3559)، ومسلم، كتاب الفضائل، باب كثرة حيائه ﷺ، برقم (2321).
  4. رواه البخاري، كتاب الاستئذان، باب زنا الجوارح دون الفرج، برقم (6243)، ومسلم، كتاب القدر، باب قدر على ابن آدم حظه من الزنى وغيره، برقم (2657).
  5. رواه البخاري، كتاب الرقائق، باب ما يحذر من زهرة الدنيا والتنافس فيها، برقم (6427).
  6. رواه الإمام أحمد في المسند، برقم (11158)، وقال محققوه: "إسناده صحيح على شرط الشيخين".
  7. رواه الإمام أحمد في المسند بهذا اللفظ، برقم (7719)، وقال محققوه: "إسناده صحيح على شرط الشيخين".
  8. رواه البيهقي في شعب الإيمان، برقم (7060).
  9. رواه مسلم، كتاب الطهارة، باب الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر، برقم (233).
  10. رواه مسلم، كتاب الإيمان، باب استحقاق الوالي الغاش لرعيته النار، برقم (142).
  11. رواه البخاري، كتاب الشهادات، باب إذا زكى رجل رجلا كفاه، برقم (2662)، ومسلم، كتاب الزهد والرقائق، باب النهي عن المدح إذا كان فيه إفراط وخيف منه فتنة على الممدوح، برقم (3000).
  12. رواه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب لا يقول فلان شهيد، برقم (2898)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب غلظ تحريم قتل الإنسان نفسه وإن من قتل نفسه بشيء عذب به في النار وأنه لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة، برقم (112).
  13. رواه البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة خيبر، برقم (4234)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب غلظ تحريم الغلول وأنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون، برقم (115).
  14. رواه مسلم، كتاب الآداب، باب استحباب تغيير الاسم القبيح إلى حسن وتغيير اسم برة إلى زينب وجويرية ونحوهما، برقم (2142).
  15. رواه البخاري، كتاب الشهادات، باب إذا زكى رجل رجلا كفاه، برقم (2662)، ومسلم، كتاب الزهد والرقائق، باب النهي عن المدح إذا كان فيه إفراط وخيف منه فتنة على الممدوح، برقم (3000)، وأحمد في المسند، برقم (20462)، وقال محققوه: "حديث صحيح، وهذا إسناد رجاله ثقات رجال الشيخين غير حماد بن سلمة فمن رجال مسلم".
  16. رواه مسلم، كتاب الزهد والرقائق، باب النهي عن المدح إذا كان فيه إفراط وخيف منه فتنة على الممدوح، برقم (3002).
  17. رواه الطبراني في المعجم الكبير، برقم (1020)، وفي الأوسط برقم (2572)، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (1512).
  18. رواه أبو داود، أبواب صلاة السفر، باب صلاة الضحى، برقم (1289)، والترمذي واللفظ له، أبواب الوتر، باب ما جاء في صلاة الضحى، برقم (475)، وأحمد في المسند، برقم (22469)، وقال محققوه: "حديث صحيح، وهذا إسناد رجاله ثقات"، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (4339).
  19. رواه مسلم، كتاب الوصية، باب ما يلحق الإنسان من الثواب بعد وفاته، برقم (1631).
  20. رواه البخاري، كتاب الصوم، باب من مات وعليه صوم، برقم (1952)، ومسلم، كتاب الصيام، باب قضاء الصيام عن الميت، برقم (1147).
  21. رواه مسلم، كتاب الوصية، باب ما يلحق الإنسان من الثواب بعد وفاته، برقم (1631).
  22. رواه النسائي، كتاب البيوع، باب الحث على الكسب، برقم (4452)، وأحمد في المسند، برقم (24032)، وقال محققوه: "حديث حسن لغيره، وهذا إسناد ضعيف"، وصححه الألباني في إرواء الغليل برقم (2162).
  23. رواه مسلم، كتاب العلم، باب من سن سنة حسنة أو سيئة ومن دعا إلى هدى أو ضلالة، برقم (2674).

مواد ذات صلة