السبت 11 / شوّال / 1445 - 20 / أبريل 2024
[3] من قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} الآية:29 إلى قوله تعالى: {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ} الآية:46
تاريخ النشر: ١٣ / جمادى الآخرة / ١٤٣٤
التحميل: 5934
مرات الإستماع: 3414

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، وبعد.

قال الإمام الحافظ ابن كثير -يرحمه الله- في قوله:

وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاء قَدِيرٌ ۝ وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ ۝ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ [سورة الشورى:29-31]

يقول تعالى: وَمِنْ آيَاتِهِ الدالة على عظمته، وقدرته العظيمة، وسلطانه القاهر: خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا أي: ذرأ فيهما، أي: في السموات والأرض.

مِنْ دَابَّةٍ وهذا يشمل الملائكة والجن والإنس وسائر الحيوانات، على اختلاف أشكالهم وألوانهم ولغاتهم، وطباعهم وأجناسهم، وأنواعهم، وقد فرقهم في أرجاء أقطار السموات والأرض وَهُوَ مع هذا كله: عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ أي: يوم القيامة يجمع الأولين والآخرين، وسائر الخلائق في صعيد واحد، يسمعهم الداعي، وينفذهم البصر، فيحكم فيهم بحكمه العدل الحق.

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقوله -تبارك وتعالى: وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا لما ذكر الله السموات والأرض أعاد الضمير إليهما مثنى: وَمَا بَثَّ فِيهِمَا فهذا كما قال الحافظ ابن كثير -رحمه الله: أي: في السموات وفي الأرض.

ولا إشكال في هذا.

خلافًا لمن قال: إن الضمير المثنى هنا يرجع إلى أحدهما، وهو الأرض.

وهؤلاء كأنهم نظروا إلى أن الدواب إنما تكون في الأرض، وأن ذلك يقال لكل ما دب، كأنهم استشكلوا أن تكون الملائكة مثلاً يقال لها ذلك.

والله -تبارك وتعالى- أعاد الضمير إلى المذكورين قبله، وظاهره -وهو الذي عليه المحققون خلافًا لبعض أصحاب كتب المعاني: أن ذلك يرجع إليهما، والله -تبارك وتعالى- قد خلق في السموات وخلق في الأرض ما أخبرنا عنه، وما لا نعلمه.

فالآية على ظاهرها، ومن ثم فلا يقال: إن هذا ثني فيه الضمير والمقصود أحد المذكورين.

هذا يرد في القرآن، ولكنه في هذا الموضع ليس كما قيل، والله أعلم.

وقد مضى بعض الأمثلة على ذلك، كقوله تعالى: وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا [سورة الجمعة:11].

انفَضُّوا إِلَيْهَا بعضهم يقول: الضمير هنا يرجع إلى أحد المذكوريْن، وهو التجارة، باعتبار أنها هي المقصودة.

وبعضهم يقول: أعاده إليها؛ لأنها هي الأشرف، والضمير راجع إليهما معًا.

فالمقصود: هذا يقابل النوع الذي قيل فيه: إن الضمير المثنى يرجع إلى أحد المذكورين، والله أعلم.

وقوله: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ أي: مهما أصابكم أيها الناس من المصائب فإنما هو عن سيئات تقدمت لكم: وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ أي: من السيئات، فلا يجازيكم عليها بل يعفو عنها: وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ [سورة فاطر:45].

وفي الحديث الصحيح: والذي نفسي بيده، ما يصيب المؤمن من نصب ولا وَصَب، ولا هم ولا حزَن، إلا كفر الله عنه بها من خطاياه، حتى الشوكة يشاكها[1].

وروى الإمام أحمد: عن معاوية -هو ابن أبي سفيان -رضي الله عنهما- قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: ما من شيء يصيب المؤمن في جسده يؤذيه إلا كَفَّرَ الله عنه به من سيئاته[2].

وروى الإمام أحمد أيضاً: عن عائشة قالت: قال رسول الله ﷺ: إذا كثرت ذنوب العبد، ولم يكن له ما يكفرها ابتلاه الله بالحَزَنِ؛ لِيُكفِّرَها[3].

قوله -تبارك وتعالى: وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ بعض السلف حمل ذلك على معنى خاص، وهو الحدود، قالوا: إنها مقابل الجناية التي صدرت من العبد، ولكن هذا أيضًا لا دليل عليه، فظاهر الآية العموم، بل هي نص صريح في العموم، كما هو ظاهر: وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فـمُّصِيبَةٍ هنا نكرة في سياق الشرط، وقد سبقت بـ"من" وقد بينا أن ذلك ينقلها من الظهور في العموم إلى التنصيص الصريح في العموم: وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ أيّ مصيبة: فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وأن "الفاء" هذه الداخلة على الجواب تدل على ترتيب ما بعدها على ما قبلها، هذا الذي يسمونه بدلالة الإيماء والتنبيه، وهي تدل على التعليل: فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ فكل ما يقع للإنسان من المكاره إنما هو بسبب جنايته، قال: وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ وقد ذكر الواحدي: أن هذه أرجى آية في كتاب الله ، وذلك أن الله -تبارك وتعالى- جعل ذنوب المؤمنين على صنفين: الصنف الأول: ما يجازيهم عليه بالمصائب، فهذا النوع الأول، فتكون كفارة.

والنوع الثاني: هو الذي قال فيه: وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ بمعنى أنه لا يَبقى عليه ذنوب، فهي إما أن تكون مقابلة بمصائب تكفرها، يجازيهم عليهم بهذا، وإما أنه يعفو، فيقدم العبد على ربه -تبارك وتعالى- في الآخرة ليس عليه شيء، هكذا قال الواحدي، وكأنه فهم هذا من حديث جاء عن النبي ﷺ في هذه الآية خاصة، وإن لم يذكر فيه أنها أرجى آية، ولكن جاء فيه التنويه بهذه الآية، باعتبار أنها اشتملت على هذا المعنى، ولكن الحديث لا يصح، ضعيف، وليس بالضرورة أن يكون الأمر كما قال، يعني أن الله -تبارك وتعالى- يقول: وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ بمعنى أنه لا يعاجلكم بالعقوبة، وليس معنى ذلك: أنه لا يحاسبهم على ذلك في الآخرة، والنصوص الكثيرة الدالة على دخول طوائف من هذه الأمة النار -حديث الشفاعة، وغير أحاديث الشفاعة- تدل على هذا المعنى، أن من أهل الإيمان من يدخلون النار، والنبي ﷺ يقول: دخلت امرأة النار في هرة ربطتها، فلم تطعمها،ولم تدعهاتأكل من خشاش الأرض[4]، إلى غير ذلك.

فليس بصحيح -والله أعلم- أن يقال: إن ذنوب أهل الإيمان إما أن تكون مقابلة بمصائب في الدنيا، فتكون مكفرة لها، وإما أن تكون من قبيل العفو، والنبي ﷺ قال: إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير[5] هذا في عذاب القبر.

وقوله هنا: وروى الإمام أحمد عن عائشة -رضي الله عنها- قول النبي ﷺ: إذا كثرت ذنوب العبد ولم يكن له ما يكفرها ابتلاه الله تعالى بالحَزن؛ ليكفرها[6]، هذا لا يصح، الحديث ضعيف.

وفي قوله تعالى: مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ [سورة النساء:79].

ولما قال المؤمنون في يوم أحد: أَنَّى هَذَا [سورة آل عمران:165]؟ أجاب الله -تبارك وتعالى: قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ فالمقصود هنا أنه بيّن أن المصائب التي تقع للناس والنكبات، أن ذلك بجنايتهم، وبسبب ما كسبت أيديهم، ولكن ليس المقصود في سياق هذه الآيات: أن الله -تبارك وتعالى- يجازيهم على ذلك في الدنيا، ويكون ذلك في الآخرة معفوًّا مغفورًا، فقد تكون الأشياء التي تحصل لهم في الدنيا لا تكافئ الجناية التي فعلوها، يعني المصيبة التي وقعت له قد تكون يسيرة بالنسبة إلى عظيم الجناية، فيبقى له في الآخرة ما يوجب العذاب إلا أن يعفو الله  عنه، وهكذا الأشياء التي لم يجازيهم عليها في الدنيا، ولهذا قال الله : وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى [سورة فاطر:45] فهم لا يحتملون، لو أن الله يؤاخذهم على كل تقصير، كل جناية، وكل ذنب لهلكوا.

وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالأَعْلامِ ۝ إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ ۝ أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ ۝ وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ [سورة الشورى:32-35].

يقول تعالى: ومن آياته الدالة على قدرته الباهرة وسلطانه: تسخيره البحر لتجري فيه الفلك بأمره، وهي الجواري في البحر كالأعلام، أي: كالجبال، قاله مجاهد، والحسن، والسدي، والضحاك، أي: هي في البحر كالجبال في البر.

قوله: وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ الجواري جمع جارية، وهي السفن، كما هو معلوم.

فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ قال: كالجبال، وهذا الذي عليه الجمهور، والعرب تسمي الجبل علَمًا، والخنساء تقول في أخيها صخر:

وإنّ صَخراً لَتَأتمُّ الهُداةُ بِهِ كأنّهُ عَلَمٌ في رأسِهِ نارُ

يعني كأنه جبل في رأسه نار، هذا هو المشهور، وهذا الذي عليه عامة المفسرين.

وذهب مجاهد إلى أن المراد بقوله: كَالْأَعْلَامِ يعني القصور.

وأصل العلَم في كلام العرب هو كل ما ارتفع على الأرض، فيقال له: علم، كل شيء مرتفع عندهم يقولون له: علم، كما يقول ذلك الخليل بن أحمد.

وعلى هذا يكون قول مجاهد: القصور، باعتبار أنها مرتفعة، لارتفاعها، ولكن تفسير ذلك بالجبال هو المتبادر، وهو الأشهر، وحمل الكلام على الظاهر المتبادر الأشهر في لغة العرب هو الأولى، كما هو معروف، وقد مضى هذا مرارًا، يعني كأنها جبال.

إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ أي: التي تسير في البحر بالسفن، لو شاء لسكّنها حتى لا تتحرك السفن، بل تبقى راكدة لا تجيء ولا تذهب، بل واقفة على ظهره، أي: على وجه الماء.

إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ أي: في الشدائد.

شَكُورٍ أي: إن في تسخيره البحر وإجرائه الهواء بقدر ما يحتاجون إليه لسيرهم لدلالاتٍ على نعمه تعالى على خلقه.

لِكُلِّ صَبَّارٍ أي: في الشدائد.

شكور أي: في الرخاء.

هنا ذكر الصبار، وهو عظيم الصبر، كثير الصبر، والشكور وهو كثير الشكران، وذلك أن الإنسان لا يخلو من حالين: إما حال رخاء، أو حال بلاء وشدة، فهو بحاجة إلى الصبر، كما أنه بحاجة إلى الشكر.

والناس في هذا إزاء نعم الله  سواء في ركوبهم البحر، أو غير ذلك هم إما أن يكونوا في عافية ونعمة ورخاء، فهم بحاجة إلى الشكر، وكثير من الناس يغفل في حال النعمة، وينسى المنعم -تبارك وتعالى، فهؤلاء لا يكون لهم آية فيما سخر الله -تبارك وتعالى- من هذه المراكب العظام التي هي كالجبال في البحر، تنقلهم من مكان إلى مكان آخر.

وكذلك أيضًا إذا كانوا في حال شدة لربما غلب عليهم اليأس والقنوط، ونسوا أفضال الله -تبارك وتعالى، ونعمه المتوالية المتواترة عليهم، فإنما يعتبر بذلك وينتفع -سواء في هذه الآيات المذكورة، أو في غيرها- من كان جامعًا بين الصبر والشكر، فإنه يكون على حال من الاستقامة، فهو يقدر ما أعطاه الله  من المنن والأفضال والنعم، وإذا سُلب منه شيء من ذلك فإنه لا يقنط ولا ييأس، ولا ينسى سوالف النعم، وإنما هو يعتبر في هذا كله، يعتبر في حال الشدة، ويعتبر في حال الرخاء.

وقوله: أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا أي: ولو شاء لأهلك السفن وغرّقها بذنوب أهلها الذين هم راكبون عليها وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ أي: من ذنوبهم، ولو أخذهم بجميع ذنوبهم لأهلك كل من ركب البحر.

وقال بعض علماء التفسير: معنى قوله: أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا أي: لو شاء لأرسل الريح قوية عاتية، فأخذت السفن وأحالتها عن سيرها المستقيم، فصرفتها ذات اليمين أو ذات الشمال، آبقة لا تسير على طريق، ولا إلى جهة مقصد.

وهذا القول هو يتضمن هلاكها، وهو مناسب للأول، وهو أنه تعالى لو شاء لسكّن الريح فوقفت، أو لقوّاه فشردت وأبقت وهلكت.

يعني هذا معنى: يُوبِقْهُنَّ الآبق هو الشارد، العبد الآبق الذي فر من سيده.

أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا فهذه إذا جاءت الريح شديدة عاصفة فإنها تحولها عن مجراها، ولا تسير بحسب ما أرادها ملاحوها، أو راكبوها.

ولكن من لطفه ورحمته أنه يرسله بحسب الحاجة، كما يرسل المطر بقدر الكفاية، ولو أنزله كثيرًا جدًّا لهدم البنيان، أو قليلا لما أنبت الزرع والثمار، حتى إنه يرسل إلى مثل بلاد مصر سَيْحًا من أرض أخرى غيرها؛ لأنهم لا يحتاجون إلى مطر، ولو أنزل عليهم لهدم بنيانهم، وأسقط جدرانهم.

وقوله: وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ أي: لا محيد لهم عن بأسنا ونقمتنا، فإنهم مقهورون بقدرتنا.

هنا: وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ ۝ إِن يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ، يُسْكِنِ هذا جواب الشرط مجزوم.

فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ ۝ أَوْ يُوبِقْهُنَّ يعني هذه الحالة الثانية: إِن يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ تبقى واقفة لا تتحرك، أو تكون الريح عاصفة، فتذهب على غير مرادهم: أَوْ يُوبِقْهُنَّ فهذا معطوف على قوله: يُسْكِنِ.

بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَن كَثِيرٍ هذا تكلموا فيه كثيرًا في إعرابه، يعني: وَيَعْفُ عَن كَثِيرٍ هل هذا معطوف أيضًا على: يُسْكِنِ، أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا؛ لأنه لو حصل ذلك لما كان ذلك من قبيل المعفو.

وإذا علم أن المراد بذلك التقسيم زال الإشكال، فالله -تبارك وتعالى- يذكر هذه الأحوال، فالله -تبارك وتعالى- إما أن يعاقبهم، فتسكن الريح، فلا تسير بهم هذه السفن، أو تكون الريح عاصفة، فتجري هذه السفن على غير مرادهم، أو أن الله يتجاوز ويعفو، فلا يحصل شيء من ذلك، فهذا ذكر في سياق التقسيم.

فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ۝ وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ ۝ وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ۝ وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ [سورة الشورى:36-39].

يقول تعالى محقرًا لشأن الحياة الدنيا وزينتها، وما فيها من الزهرة والنعيم الفاني، بقوله: فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا أي: مهما حصلتم وجمعتم فلا تغتروا به، فإنما هو متاع الحياة الدنيا، وهي دار دنيئة فانية زائلة لا محالة.

وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أي: وثواب الله خير من الدنيا، وهو باقٍ سرمدي، فلا تقدموا الفاني على الباقي؛ ولهذا قال: لِلَّذِينَ آمَنُوا أي: للذين صبروا على ترك الملاذ في الدنيا.

وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ أي: ليعينهم على الصبر في أداء الواجبات، وترك المحرمات.

وهذا من أعظم الآيات التي تحمل على الزهد في الحياة الدنيا، وتبصر المؤمن بحقيقة ما يحصل له منها، من هذا الحطام والملاذ، أيًّا كان نوعها، فإن هذه الآية عامة: فَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا يعني أنه زائل مضمحل، لا بقاء له: فَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى فيؤثر الباقي على الفاني، فيتصدق وينفق ويبذل، ويعمل في طاعة الله ، ويكون الحامل له على ذلك، والدافع له هو توكله على ربه -تبارك وتعالى، فترتفع وتتلاشى عنه المخاوف، من جراء نفقته، أو جراء عمله بطاعة ربه ، فكل ما يحصل بيد الإنسان فهو داخل في هذا العموم، فلا يفرح الإنسان بشيء من هذا الحطام، ولا يغتر به، هو متاع الحياة الدنيا، عما قليل يزول، وينتهي، أو يفارقه الإنسان.

هذا إذا علم أيضًا معه أن هذه الأشياء التي يعطاها الإنسان قبل أن يفارقها، أو أن تفارقه هو ما يلبث عما قليل أن يزهد فيها، وأن يذهب رونقها، ولا تصير بعد ذلك تجذبه، أو تلفت نظره، أو تستهويه، هذا شيء مشاهد، إن كان ذلك في البساتين والمناظر التي تهواها النفوس، وما فيها من الخضرة والجمال، وإن كان ذلك في الأثاث، وإن كان ذلك في المساكن، أو المراكب، هو يفرح بها في أولها، في بدايتها، تأسره وتجذبه، ثم ما يلبث إذا عافسها أن يذهب هذا الرونق.

وهذا اعتبِرْه في كل شيء، يعني الإنسان الذي لم يُعطَ من الدنيا ما يستطيع أن يجرب معه، أو يحكم بمثل هذا، يمكن أن يجرب هذا في أي شيء يسير يستهويه، مزهرية جميلة، تحفة جميلة، أسَرَتْه حتى اشتراها، فإذا وضعها في البيت، فهو يرمقها بين حين وآخر، تستهويه وتعجبه، لكن بعد مدة لا تكون هذه إطلاقًا، كأنها غير موجودة، قد تكون لوحة جميلة، قد يكون فيها كتابات، فهو لا يقرؤها أبدًا، وكأنها ليست موجودة أصلاً.

هذا مثال بسيط، كل شيء، ما يعطاه الناس هو هكذا، الذين يسكنون في أعظم القصور هي ما تستهويهم بعد ذلك، هي في البداية فقط، فالذين يدخلون ينبهرون، وتطيش أبصارهم هنا وهناك، ويرون أشياء مبهرة، ولكن هي بالنسبة لأهلها لا تؤثر فيهم أبدًا، اعتبِرْ هذا في مكان عملك، في أي مكان، الذي يدخل لأول وهلة ينظر إلى هذا المبنى الكبير، ولكنه بعد ذلك ما صار يؤثر فيه، وهكذا، أنت الآن في هذا المسجد أول مرة تدخل لربما تنظر، ويلفت نظرك أشياء، ولكن بعد أن ألفتَ ذلك ما صرت تستهوي النظر إليها.

ثم قال: وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وقد قدمنا الكلام على الإثم والفواحش في "سورة الأعراف" وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ.

هنا: وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ.

كَبَائِرَ الْإِثْمِ يعني الذنوب الكبار.

وقد مضى الكلام على ضابط الكبيرة، فمن أهل العلم من يقول: ما ورد فيها وعيد خاص، أو لعن، أو حد، وما إلى ذلك.

وبعضهم يوسع في دائرتها، فيقول: هي كل ما كان عظيمًا كبيرًا، ليس من قبيل الصغائر في نظر أهل الإيمان، يعني كل ما استعظموه، كل ما كان عظيمًا، ليس من قبيل الصغائر، فهو من الكبائر.

ولم يرد تحديد للكبائر بنص في الكتاب ولا في السنة، وإنما العلماء اجتهدوا في ذلك، والشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله- في "أضواء البيان" في هذا الموضع ذكر أقوال العلماء في تحديد الكبيرة، وذكر تطبيقات وأمثلة على الكبائر، من خلال النصوص، ذكر تطبيقات يعني تارة يطلق عليه أنه فاحشة، فجاء بنصوص من هذا القبيل: أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّن الْعَالَمِينَ [سورة الأعراف:80].

وتارة يصفه الله  بأنه عظيم، أو بأنه كبر، أو نحو ذلك: وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاء إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاء سَبِيلاً [سورة النساء:22].

وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً [سورة الإسراء:32].

وكذا ما ورد فيه اللعن، إلى غير ذلك، فيراجع كلامه -رحمه الله، وقد أطال في الكلام على هذه القضية وتطبيقاتها، وأقوال العلماء فيها.

وهنا في هذه الآية، ذكر الفواحش: كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ الكبائر هي الذنوب العظام، خلاف الصغائر وَالْفَوَاحِشَ هي من الكبائر، فهنا عطفها عليها، والعطف يقتضي المغايرة، ومن هنا قال بعض السلف: إن ذلك ما يوجب الحد خاصة وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ يعني الكبائر وَالْفَوَاحِشَ موجبات الحدود، كما يقوله مقاتل.

وبعضهم خص ذلك بنوع مما يوجب الحدود، وهو الزنا، وهذا باعتبار -والله أعلم- أن الفاحشة تطلق في عرف الاستعمال غالبًا على الزنا، وما في معناه: أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وبعضهم يقول -كما بينت هذا في سورة الأحزاب عند قوله تعالى: مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ [سورة الأحزاب:30]: إن الفاحشة إذا جاءت معرفة بـ"أل" فهي الزنا، أو ما في معناه.

وإذا جاءت منكّرة فالمقصود بها الذنب العظيم، وإذا جاءت مقيدة بالبيان فهي عقوق الزوج خاصة: مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ لكن هذا لا دليل عليه، فأصل الفاحشة في اللغة هي الخصلة المتناهية في القبح، ويقال ذلك للشيء الكثير العظيم، يقال: "هذا مال فاحش، ودم فاحش، وقول فاحش، وفعل فاحش".

فالخصلة المتناهية في القبح يقال لها: "فاحشة" وهنا: يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ، فالفواحش هنا هي من جملة الكبائر، لكنها أخص منها، فهي نوع من الكبائر، يمكن أن يقال: إن ذلك: "الزنا" وما في معناه.

ويمكن أن يقال: إن كل ما كان مستقبحًا، مستكرهًا، مستبشعًا يقال له: "فاحشة" يعني كبيرة، وبالإضافة إلى ذلك فهي غاية في القبح.

قوله: كَبَائِرَ الْإِثْمِْ بينا -سابقا- أنه يطلق إزاء معنيين، يطلق على العمل نفسه، يقال: هذا إثم، يعني المعاصي يقال لها: آثام، ويطلق على نتيجة ذلك، يعني ما يترتب على المعصية، فتقول: من فعل كذا فهو آثم، يأثم عليه، إثم.

الْإِثْمِْ هذا هو الجزاء، فيقال لهذا وهذا.وذكرنا في مناسبات سابقة: أن العرب قد تطلقه على نوع خاص من الجرائم، أو من الآثام، أو من المعاصي، وهو الخمر، وذكرنا شاهدًا على هذا من قبل، وهو قول الشاعر:

شربْتُ الإثمَ حَتَّى ضَلَّ عقلِي كذاكَ الإثمُ تَذْهبُ بالعقولِ

يقصد الخمر، باعتبار أنها أم الآثام، أصل الآثام، كانت العرب تسميها: إثمًا، وهي تشربها!.

وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ أي: سجيتهم تقتضي الصفح والعفو عن الناس، ليس سجيتهم الانتقام من الناس.

وقد ثبت في الصحيح: أن رسول الله ﷺ ما انتقم لنفسه قط، إلا أن تنتهك حرمات الله[7].

تأمل هنا: وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ يعني ذكر هنا الجانبيْن اللذين يحصل بهما الإقدام على المعصية:

الأول: وهو القوة الغضبية، فبها يحصل القتل، وإلحاق الأذى بالآخرين، والعدوان، وما إلى ذلك، بهذه القوة الغضبية، فهي باب من أبواب المعصية، والجرأة على حدود الله -تبارك وتعالى.

الجانب الثاني: وهو القوة الشهوانية، فذكر هنا: وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ فهم إزاء هذه الشهوة يضبطونها، وليست هي التي تقودهم، وأيضًا فيما يتصل بالغضب يكون هؤلاء هم الذين يتحكمون في مشاعرهم وتصرفاتهم، فلا يصدر منهم إلا ما يجمل وما يليق.

وهنا ذكر الغضب، يعني: وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ لأنه كما قيل:

ليست الأحلامُ في حالِ الرِّضا إنّما الأحلامُ في حالِ الغضبْ

هو ذكر حالة الغضب، هي التي تستدعي هنا الثناء والمدح، إذا حصل معه الغفر والعفو، مع تحرك الدواعي في نفس الإنسان للانتقام.

وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ لا يغفر في حال هدوء النفس، وسكون المشاعر، فهذا أمر متوقع، لكن حينما يكون ذلك مع قوة الغضب، وما يؤثره في دفع الإنسان للانتقام فهذا هو الكمال، فذكر هذين الأمرين اللذين تحصل بهما العدالة، وتتحقق بهما الاستقامة، وبهذا تقوم المروءات، ويكون الإنسان على حالة مرضية، فلا تقوده الشهوات، ولا يكون أيضًا في حال من الغضب، والإنسان يحصل له السكر إما بهذا وإما بهذا، يعني الغشاوة التي تحصل على العقل وتغطيه، وتذهب بمبادئه، والمفاهيم التي كان يقررها أو تعلمها، أو تربى عليها، هذا الغضب يكون على العقل مثل الغطاء، فيتصرف تصرفات ثم يندم، وهكذا إذا تحركت الشهوة واضطرمت، فإنه يكون على العقل مثل الغطاء، فإذا قضى نهمته ندم، فهؤلاء تحركهم هذه النوازع، وإنما ذلك يكون لضعف الوازع في قلب الإنسان، وازع الدين، وكذلك أيضًا ضعف العقل، فإن كمال العقل يقتضي أن يزمّ الإنسان نفسه في الحالتين، حالة الغضب، وحالة الشهوة.

وقوله: وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ أي: اتبعوا رسله وأطاعوا أمره، واجتنبوا زجره.

وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وهي أعظم العبادات لله .

وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ تأمل هذه من جملة الاستجابة، لكنه خصها لأهميتها، فهذا من عطف الخاص على العام، بمنزلة الصلاة في مكانتها.

وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ أي: لا يبرمون أمرًا حتى يتشاوروا فيه، ليتساعدوا بآرائهم في مثل الحروب وما جرى مجراها، كما قال تعالى: وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ [سورة آل عمران:159].

ولهذا كان -عليه الصلاة السلام، يشاورهم في الحروب ونحوها، ليطيب بذلك قلوبهم.

وهكذا لما حضرت عمر بن الخطاب الوفاة حين طعن، جعل الأمر بعده شورى في ستة نفر، وهم: عثمان، وعلي، وطلحة، والزبير، وسعد، وعبد الرحمن بن عوف أجمعين، فاجتمع رأي الصحابة كلهم على تقديم عثمان عليهم .

وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ وذلك بالإحسان إلى خلق الله، الأقرب إليهم منهم فالأقرب.

وقوله: وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ أي: فيهم قوة الانتصار ممن ظلمهم، واعتدى عليهم، ليسوا بعاجزين ولا أذلة، بل يقدرون على الانتقام ممن بغى عليهم، وإن كانوا مع هذا إذا قدروا عفوا، كما قال يوسف لإخوته: لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ  [سورة يوسف:92].

مع قدرته على مؤاخذتهم ومقابلتهم على صنيعهم إليه، وكما عفا رسول الله ﷺ عن أولئك النفر الثمانين الذين قصدوه عام الحديبية، ونزلوا من جبل التنعيم، فلما قدر عليهم مَنَّ عليهم مع قدرته على الانتقام، وكذلك عفوه عن غَوْرَث بن الحارث، الذي أراد الفتك به حين اخترط سيفه وهو نائم، فاستيقظ ، وهو في يده صَلْتًا، فانتهره فوضعه من يده، وأخذ رسول الله ﷺ السيف من يده، ودعا أصحابه، ثم أعلمهم بما كان من أمره، وأمر هذا الرجل، وعفا عنه[8].

والأحاديث والآثار في هذا كثيرة جدًّا، والله  أعلم.

تأمل هنا: أن الله قال قبل ذلك: وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ وندب إلى الغفر والعفو في مواضع، كما هو معلوم: وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ  [سورة فصلت:34]، فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ  [سورة البقرة:109]، وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ  [سورة آل عمران:134] وما أشبه ذلك.

ففي جميع المواضع تجد الحث على العفو، ومدح العافين.

في هذا الموضع الله -تبارك وتعالى- يقول: وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ، أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ والبغي هو العدوان هُمْ يَنتَصِرُونَ فما محل ذلك؟

هنا الحافظ ابن كثير -رحمه الله- فسره بقوله: أي: فيهم قوة الانتصار ممن ظلمهم، واعتدى عليهم، ليسوا بالعاجزين، ولا الأذلين، بل يقدرون على الانتقام ممن بغى عليهم، وإن كانوا مع هذا إذا قدروا عفوا.

هذا كلام ابن كثير، يعني أنه لا منافاة بين كونهم يغفرون ويعفون، مع كونهم ينتصرون: إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ.

يعني أن عفوهم ليس عن ضعف ومهانة، وعجز عن المؤاخذة، وإنما ذلك لكمالاتهم، فهم قادرون على الانتقام، ومع ذلك يعفون.

وبمثل هذا فسره الحافظ ابن القيم -رحمه الله- بأن عندهم قدرة على الانتصار، فيهم قوة الانتصار والتمكن من ذلك، لكن إذا قدروا وتمكنوا عفوا، فيكون ذلك العفو هو الكمال.

وهنا تأمل بعده قال: وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ فحث على العفو، ورغب فيه، مع قوله: وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ فهؤلاء مدحهم الله  بأنهم أهل تمكن واقتدار ممن بغى عليهم، ولكنهم إذا تمكنوا فإنهم يغفرون ويصفحون ويعفون، ندبَهم إلى العفو في الآية التي بعدها، هكذا قال ابن القيم، وكذلك ابن كثير -رحم الله الجميع.

ويمكن أن يقال -والله تعالى أعلم- وقد قال بهذا بعض أهل العلم: إن العفو هو المرغب فيه، وهو الكمال، إلا أنه في بعض المقامات يكون الانتصار هو الأكمل، وذلك إذا كان العفو يورثه مذلة ومهانة، وهذه قضية تختلط فيها حظوظ النفس، لكن إذا كان ذلك حقيقة يورثه مذلة ومهانة ففي هذه الحال يقال: وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ يعني مثل ماذا؟

الآن لو نظرنا إلى الحال الجارية في سوريا -نسأل الله أن ينصرهم- لو جاء أحد، وقال: عفا الله عما سلف، والعفو والصفح، وما إلى ذلك، هذا مقام عفو، ومقام صفح؟

هذا مقام: وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ ليس هذا مقام عفو وصفح لهؤلاء الذين طغوا في البلاد، فأكثروا فيها الفساد.

وهكذا قد يكون الإنسان أجيرًا عند أحد من الناس، لا يرقب فيه إلًّا ولا ذمة، يسخر من دينه، ومن مذهبه، ومن صلاته ومن هيئته، ومن نسبه، ومن بلده، وما إلى ذلك، فهنا العفو قد يورثه مزيدًا من المذلة والمهانة مع هذا الذي لا يرقب فيه إلًّا ولا ذمة، فهذا مقام: وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ.

ولا أقصد أنه ينتصر بيده، وإنما يقاضي هذا الإنسان، وينتصف منه، فلو جاءه إنسان وقال له: وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ  [سورة آل عمران:134] إذا كان يورثه مهانة ومذلة فليس هذا مقام عفو، يمكن أن يقال: إن ذلك بهذا القيد: وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ حيث كان العفو يورثه مذلة ومهانة، فالمؤمن لا يكون ذليلاً، فعند ذلك يكون الانتصار هو الكمال، -والله أعلم.

ابن القيم له كلام في هذا، قال الإمام ابن القيم -رحمه الله: "قال تعالى: وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ".

طبعًا بعضهم حملها على الكفار، يعني: إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ والآية ليس فيها ما يدل على التخصيص.

قال: "فإن قيل: فكيف مدحهم على الانتصار والعفو وهما متنافيان؟

قيل: لم يمدحهم على الاستيفاء والانتقام، وإنما مدحهم على الانتصار، وهو القدرة والقوة على استيفاء حقهم، فلما قدروا ندبهم إلى العفو، قال بعض السلف في هذه الآية: كانوا يكرهون أن يستذلوا، فإذا قدروا عفوا".

انظر وتأمل هذا التفسير يجري على كلام ابن كثير وابن القيم.

قال: "فمدحهم على عفو بعد قدرة، لا على عفو ذل وعجز ومهانة، وهذا هو الكمال الذي مدح سبحانه به نفسه في قوله: فَإِنَّ اللّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا  [سورة النساء:149]، وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ  [سورة المائدة:74].

وفي أثر معروف: "حملة العرش أربعة: اثنان يقولان: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، لك الحمد على حلمك بعد علمك، واثنان يقولان: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، لك الحمد على عفوك بعد قدرتك".

ولهذا قال المسيح -صلوات الله وسلامه عليه: إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ  [سورة المائدة:118] أي: إن غفرت لهم غفرت عن عزة، وهي كمال القدرة، وحكمة وهي كمال العلم، فغفرت بعد أن علمت ما عملوا وأحاطت بهم قدرتك، إذ المخلوق قد يغفر بعجزه عن الانتقام، وجهله بحقيقة ما صدر عن المسيء، والعفو من المخلوق ظاهره ضيم وذل، وباطنه عز ومهابة، والانتقام ظاهره عز، وباطنه ذل، فما زاد الله بعفو إلا عزًّا، ولا انتقم أحد لنفسه إلا ذل، ولو لم يكن إلا بفوات عز العفو، ولهذا ما انتقم رسول الله ﷺ لنفسه قط".

ليس هذا بلازم: أنه ما انتقم أحد إلا ذل، ولهذا شرع القصاص، ولا يكون ذلك مورثًا للمذلة حينما يقتص الإنسان ممن جنى عليه، ولكن مرتبة العفو أعلى.

يقول: "وتأمل قوله سبحانه: هُمْ يَنتَصِرُونَ كيف يفهم منه أن فيهم من القوة ما يكونون هم بها المنتصرين لأنفسهم، لا أن غيرهم هو الذي ينصرهم، ولمّا كان الانتصار لا تقف النفوس فيه على حد العدل غالبًا..".

يعني أنه قال: وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا يعني يكون ذلك بالمثل.

هذا الجواب يرد عليه إشكال يعني الذي ذكره ابن كثير وابن القيم أن هذا الذي حصلت له القدرة ثم عفا أنه فسر هذا بقوله: وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ هذا الذي عفا هل يكون قد انتصر فعلاً، قد يقال: إنه لم ينتصر، عفا، لم ينتصر، لكنه عفا عن قدرة، لكن في المآل هو عفا، ما انتصر لنفسه، والنبي ﷺ عفا عن غورث بن الحارث، سقط السيف من يده، فأخذه النبي ﷺ وقال: من يمنعك مني؟[9].

فالحاصل: أن النبي ﷺ عفا عنه، ما انتصر لنفسه، ولذلك الجواب الذي ذكرته قد يقال: أنه لا يرد عليه إشكال، وهو أن ذلك حينما يكون في مقام يكون العفو مورثًا له مذلة، فهنا يمدح الانتصار، ليس العفو دائمًا، من الناس من لا يستحق العفو، يعني هذا إنسان مستخف ومستهتر بالأسواق، أو امرأة مستخفة ومستهترة تسخر بالهيئة، وتسخر بالمحتسبين، وتتطاول عليهم، وما إلى ذلك، فرفعت عليها قضية، ثم جاءت بين يدي القاضي، فهل هنا يندب هذا المحتسب، ويقال له: فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ هكذا يقال، أو هنا يقال: وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ؟ يقال: هذا مقام ينبغي أن تؤدب فيه هذه، وأن تعرف قدرها، إنسان يتطاول يستخف ويستهتر، ويؤذي الناس، ولا يقف عند حد، ويتبجح أنه لا يستطيع أحد أن يوقفه، أو أن يحاسبه، فإذا جاء من ينتصر منه، هل نقول له: تعفو عنه، هذا مقام عفو، أو نقول: هذا مقام انتصار، وإياك أن تعفو؟

نقول له: إياك ثم إياك أن تعفو، هذا الذي يقال في بعض المقامات، مما يحصل فيه الاستخفاف ببعض المحتسبين، والإساءة إليهم أمام الملأ، وقد يصل إلى الضرب والإهانة، والكلام القبيح الذي يوجه إليهم أمام الناس في سوق، في مكان عام، ثم يرفع قضية، ثم يقال له: تعفو وتصفح، أليس كذلك؟

لكل مقام مقال، العفو يصلح في بعض المقامات، والعقوبة تصلح في بعض المقامات.

أسارى بدر، حكم الأسارى يختلف بعض الشيء، فالأسارى الإمام مخير فيهم بين ثلاثة أمور، هو مخير فيهم فينظر، وما كان فيه التخيير كما سبق في القواعد الفقهية شرح قواعد ابن سعدي هناك قاعدة هي: إن كان التخيير لأمر يرجع إلى المكلف، فذلك للتشهي، وإن كان يرجع إلى غيره، فذلك بحسب المصلحة، مثل: إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ [سورة المائدة:33] هل هذا للتشهي بالنسبة للإمام أو بحسب المصلحة؟

بحسب المصلحة، فإذا كان يرى أن المصلحة تقتضي الصلب والقتل، فهنا هو المتعين.

وكذلك في قوله -تبارك وتعالى- في كفارة اليمين: إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ  [سورة المائدة:89] فهنا هل هذا يرجع إلى المكلف، فيكون للتشهي، أو يكون بحسب المصلحة، يعني بحسب الحاجة مثلاً؟ يراعى فيه ذلك، فما كان يرجع إلى المكلف فهو للتشهي، يعني يختار الأرفق به، وإن كان يرجع إلى غيره، فيكون بحسب المصلحة.

فهنا بالنسبة للأسارى يكون ذلك الإمام مخيرًا فيهم، بحسب ما يراه من المصلحة، فكانت المصلحة تقتضي في أول معركة مع المشركين: مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ  [سورة الأنفال:67] يعني يكثر القتل، فيكسر العدو، ثم بعد ذلك فإذا: أَثْخَنتُمُوهُمْ يعني قتلاً: فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء  [سورة محمد:4].

لكن لا يتسابقون على أسرهم وتقييدهم قبل الإثخان فيهم، فهذا شأن الأسرى، فالنبي ﷺ قَتل -يعني في غير هذا- لما جيء بالأسرى عقبة بن أبي معيط، جيء به أسيرًا، لكن النبي ﷺ أمر بضرب عنقه في الصفراء، لما بلغ الصفراء مقفله من بدر أمر بضرب عنقه، فقتل، هذا لم يشمله العفو.

وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ۝ وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ ۝ إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ۝ وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ  [سورة الشورى:40-43].

قوله تعالى: وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا كقوله تعالى: فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ [سورة البقرة:194]، وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ  [سورة النحل:126].

يعني أن بعض أهل العلم يقولون: سماها سيئة وهي من باب القصاص باعتبار المشاكلة في اللفظ، يعني أنه عبر بعبارة تشاكل العبارة التي قبلها، فهذا الذي حصل من العدوان هو سيئة، فحينما يقابل ويقتص منه فهل هذا يقال له: سيئة؟

بعضهم يقول: هذا من باب المشاكلة، لما ذكر عدوانه، وسماه بهذا سيئة سمى الاقتصاص سيئة من باب المشاكلة اللفظية، والمشاكلة هي نوع من المجاز على خلاف في ذلك عند أهل المجاز.

وهذا ليس بلازم، يعني حتى على القول بالمجاز لا يلزم  تكون هذه من قبيل المشاكلة، وذلك أن أصل كلمة: سيئة تقال لما يسوء: مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ  [سورة النساء:79] فهذا الذي يصيبه من مرض، أو يصيبه من شوكة، أو غير ذلك، من نكبة، أو نحو هذا، سماه سيئة، وذلك بأنه يسوء صاحبه، الشيء الذي يسوء الإنسان يقال له: سيئة، أيًّا كان، فبهذا الاعتبار هذا الانتقام أو الاقتصاص من هذا الجاني: وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا [سورة الشورى:40] هذا القصاص منه، ماذا يقال له؟ ما أثره على ذلك المقتص منه؟

يسوءه، فقيل له: سيئة، بهذا الاعتبار: وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا ولا حاجة لأن يقال: هذا من قبيل المشاكلة، لأن هذا يسوء أصلاً من وقع له، إذًا هو سيئة بالنسبة إليه.

والسياق الذي ذكرت فيه هذه الآية -كما أشار ابن القيم -رحمه الله: أنه لما كان الانتصار لا تقف النفوس فيه على حد العدل غالبًا قال الله : وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا لا يكون الانتصار بأكثر من هذا، ولهذا قال الله : وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا  [سورة الإسراء:33].

وذكرنا هناك أن الإسراف في القتل يكون بقتل غير القاتل، كما كانت العرب تفعل، يقولون: لا يكافئه هذا القاتل، فيقتلون شيخ القبيلة مثلاً، أو فارس القبيلة، أو يقتلون جمعًا من الناس بواحد لم يتسببوا في قتله، ولم يشتركوا فيه، فيقولون: هذا ما يكافئه واحد، أو يمثل بالقاتل مثلاً، يتشفى، فكل هذا داخل في "فلا يسرف في القتل"، كل هذه الصور الثلاث داخلة فيه.

فشرع العدل وهو القصاص، وندب إلى الفضل وهو العفو؛ كقوله تعالى: وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ [سورة المائدة:45].

ولهذا قال هاهنا: فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ أي: لا يضيع ذلك عند الله، كما صح في الحديث: وما زاد الله عبدًا بعفو إلا عزًّا[10].

وقوله: إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ أي: المعتدين، وهو المبتدئ بالسيئة.

يعني الجاني، أما هذا المقتص فإنه لا ذنب عليه، ولا سبيل عليه.

وبعضهم يقول: إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ يعني من يتعدى في القصاص.

وهذا ظاهره العموم: وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ [سورة الشورى:40] فيدخل في هذا كل ظالم، سواء كان المبتدئ في الجناية، أو كان المعتدي في القصاص.

ثم قال: وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ أي: ليس عليهم جناح في الانتصار ممن ظلمهم.

وقوله: إِنَّمَا السَّبِيلُ أي: إنما الحرج والعنت.

عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أي: يبدءون الناس بالظلم، كما جاء في الحديث الصحيح: المُستبّان ما قالا فعلى البادئ، ما لم يَعْتَدِ المظلوم[11].

أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ أي: شديد موجع.

قوله هنا: وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ "اللام" هذه لام الابتداء، خلافًا لمن قال: إنها للقسم، كما يقوله ابن عطية.

وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ أي: ليس عليهم جناح في الانتصار ممن ظلمهم، ليس عليهم مؤاخذة، ولا ذنب.

إِنَّمَا السَّبِيلُ أي: إنما الحرج والعنت: عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ.

يَظْلِمُونَ النَّاسَ يقول: يبدءون الناس بالظلم.

والذي عليه عامة المفسرين: الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يعني في تعاطيهم وتعاملهم، وما يأتون وما يذرون، في النفوس والأموال، بغير الحق.

وعن محمد بن واسع قال: قدمت مكة، فإذا على الخندق قنطرة، فأُخذت فانطُلق بي إلى مروان بن المهلب، وهو أمير على البصرة، فقال: حاجتك يا أبا عبد الله، قلت: حاجتي إن استطعت أن تكون كما كان أخو بني عدي، قال: ومن أخو بني عدي؟ قال: العلاء بن زياد، استعمل صديقًا له مرة على عمل، فكتب إليه: أما بعد: فإن استطعت ألا تبيت إلا وظهرك خفيف، وبطنك خميص، وكفك نقية من دماء المسلمين وأموالهم، فإنك إذا فعلت ذلك لم يكن عليك سبيل: إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ فقال مروان: صدق والله ونصح، ثم قال: ما حاجتك يا أبا عبد الله؟ قلت: حاجتي أن تلحقني بأهلي، قال: نعم"[12]، رواه ابن أبي حاتم.

ثم إن الله تعالى لما ذم الظلم وأهله، وشرع القصاص، قال نادبًا إلى العفو والصفح: وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ أي: صبر على الأذى وستر السيئة: إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ.

قال سعيد بن جبير: يعني لَمِن حقِّ الأمور التي أمر الله بها، أي: لمن الأمور المشكورة، والأفعال الحميدة، التي عليها ثواب جزيل، وثناء جميل.

لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ يعني من الأمور التي يعزم عليها، لفضلها، وعلو مرتبتها، لكونها من محابِّ الله ، وما لها من الآثار الجميلة في الدنيا والآخرة.

وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ  [سورة لقمان:17] فهكذا تورث مثل هذه الخصال آثارًا حميدة في الدنيا والآخرة، فهي مما يعزم، من الأمور التي يعزم عليها، يعني تستحق أن يتوجه إليها العزم، وتتوجه الهمم في تحصيلها وتطلبها.

وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ ۝ وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ ۝ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ [سورة الشورى:44-46].

يقول تعالى مخبرًا عن نفسه الكريمة أنه ما شاء كان ولا راد له، وما لم يشأ لم يكن فلا موجد له، وأنه من هداه فلا مُضِل له، ومن يضلل فلا هادي له، كما قال: وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا  [سورة الكهف:17].

ثم قال مخبرًا عن الظالمين، وهم المشركون بالله: لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ أي: يوم القيامة يتمنون الرجعة إلى الدنيا: يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ كما قال تعالى: وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ۝ بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ [سورة الأنعام:27، 28].

وقوله : وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا أي: على النار.

خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ أي: الذي قد اعتراهم بما أسلفوا من عصيان الله تعالى.

يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ قال مجاهد: يعني ذليل، أي ينظرون إليها مُسَارقَةً خوفًا منها، والذي يحذرون منه واقع بهم لا محالة، وما هو أعظم مما في نفوسهم -أجارنا الله من ذلك.

نظر المسارقة: مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ مثل الذي يُعرض على السيف، فهو ينظر إليه من طرف خفي، ينظر إليه مسارقة.

وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا أي: يقولون يوم القيامة.

إِنَّ الْخَاسِرِينَ أي: الخسار الأكبر.

الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أي: ذُهب بهم إلى النار فعدموا لذتهم في دار الأبد، وخسروا أنفسهم، وفرق بينهم وبين أصحابهم وأحبابهم وأهاليهم وقراباتهم، فخسروهم.

هذا المعنى الذي ذكره ابن كثير هو متضمن لجواب سؤال: أن هؤلاء الأهل قد يكونون في الجنة، وهو في النار، فقد لا يكون هؤلاء في النار، فإذا كانوا في النار فلا شك أنه قد خسرهم؛ لأنه مشغول بالعذاب عن كل أحد، فهنا قد يكون هؤلاء في الجنة.

وهذا الجواب الذي ذكره الحافظ ابن كثير، أو هذا التفسير هو مضمن للجواب، أن هذا الذي دخل النار فُرق بينه وبين أهله، فهو لا يلقاهم إلى الأبد، وصار مشغولاً بجزائه وعذابه وحسابه الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يعني هو في عذاب، وفرق بينه وبين الأحباب، فبقي يواجه هذا المصير وحده.

وهذا الجواب واضح: الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ ولا حاجة لأن يقال -كما قال بعض المفسرين: خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ أهليهم: يعني من الحور العين لو أنهم دخلوا الجنة، ففاتهم ذلك، بسبب كفرهم، فكانوا خاسرين لأنفسهم، وخاسرين لأهلهم، بهذا الاعتبار، لا حاجة إليه، لكن هؤلاء الأهل حتى لو دخلوا الجنة، فهذا قد خسر كل شيء، فرق بينه وبينهم.

أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ أي: دائم سرمدي أبدي، لا خروج لهم منها، ولا محيد لهم عنها.

يعني هذه الجملة: أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُّقِيمٍ يحتمل أن تكون من بقية كلام المؤمنين: وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ فيكون من بقية كلامهم: أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُّقِيمٍ وهذا هو الأصل أن يكون الكلام على نسق واحد، من قائل واحد.ويحتمل أن يكون ذلك من قبيل الموصول لفظًا، المفصول معنى، فيكون من كلام الله -تبارك وتعالى.

وقوله: وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي: ينقذونهم مما هم فيه من العذاب والنكال. وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ أي: ليس له خلاص.

  1. رواه البخاري، كتاب المرضى، باب ما جاء في كفارة المرض، رقم (5641)، ومسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب ثواب المؤمن فيما يصيبه من مرض أو حزن، رقم (2573) بلفظ: ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب، ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم، حتى الشوكة يشاكها، إلا كفر الله بها من خطاياه.
  2. رواه أحمد (16899) وقال محققو المسند: "إسناده صحيح على شرط مسلم".
  3. رواه أحمد (25237) وقال محققو المسند: "إسناده ضعيف"، وضعفه الألباني في ضعيف الترغيب والترهيب، رقم (1994).
  4. رواه البخاري، كتاب بدء الخلق، باب خمس من الدواب فواسق يقتلن في الحرم، رقم (3318)، ومسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم تعذيب الهرة ونحوها من الحيوان الذي لا يؤذي، رقم (2619).
  5. رواه البخاري، كتاب الوضوء، باب ما جاء في غسل البول، رقم (218)، ومسلم، كتاب الطهارة، باب الدليل على نجاسة البول ووجوب الاستبراء منه، رقم (292).
  6. رواه أحمد (25237)، وقال محققو المسند: "إسناده ضعيف"، وضعفه الألباني في ضعيف الترغيب والترهيب، رقم (1994).
  7. جزء من حديثرواه البخاري، كتاب المناقب، باب صفة النبي ﷺ، رقم (3560)، ومسلم، كتاب الفضائل، باب مباعدته ﷺ للآثام، رقم (2327) بلفظ: (... وما انتقم رسول الله ﷺ لنفسه إلا أن تنتهك حرمة الله، فينتقم لله بها).
  8. رواه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب من علق سيفه بالشجر في السفر عند القائلة، رقم (2910)، ومسلم، كتاب الفضائل، باب توكله على الله تعالى وعصمة الله تعالى له من الناس، رقم (843) بمعناه.
  9. المصدر السابق.
  10. رواه مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب استحباب العفو والتواضع، رقم (2588).
  11. رواه مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب النهي عن السباب، رقم (2587).
  12. رواه ابن أبي حاتم، (10/ 3279) رقم (18487)، وابن أبي شيبة في المصنف، رقم (35725).

مواد ذات صلة