السبت 11 / شوّال / 1445 - 20 / أبريل 2024
[2] من قوله تعالى: {بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ} الآية:9 إلى قوله تعالى: {وَآتَيْنَاهُم مِّنَ الْآيَاتِ مَا فِيهِ بَلَاء مُّبِينٌ} الآية:33
تاريخ النشر: ١٢ / رجب / ١٤٣٤
التحميل: 7263
مرات الإستماع: 3770

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، اللهم اغفر لنا ولشيخنا وللحاضرين.

يقول الإمام الحافظ ابن كثير -رحمه الله- في قوله تعالى:

بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ ۝ فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاء بِدُخَانٍ مُّبِينٍ ۝ يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ ۝ رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ ۝ أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءهُمْ رَسُولٌ مُّبِينٌ ۝ ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَّجْنُونٌ ۝ إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ ۝ يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنتَقِمُونَ [سورة الدخان:9-16]

يقول تعالى: بل هؤلاء المشركون في شك يلعبون، أي: قد جاءهم الحق اليقين وهم يشركون فيه ويمترون ولا يصدقون به، ثم قال متوعدًا لهم ومهددًا: فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاء بِدُخَانٍ مُّبِينٍ عن مسروق قال: دخلنا المسجد -يعني مسجد الكوفة عند أبواب كندة- فإذا رجل يقص على أصحابه: يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاء بِدُخَانٍ مُّبِينٍ تدرون ما ذلك الدخان؟ ذلك دخان يأتي يوم القيامة فيأخذ بأسماع المنافقين وأبصارهم، ويأخذ المؤمنين منه شبه الزكام، قال: فأتينا ابن مسعود فذكرنا له ذلك وكان مضطجعًا ففزع فقعد وقال: إن الله قال لنبيكم ﷺ: قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ [سورة ص:86]، إن من العلم أن يقول الرجل لما لا يعلم: الله أعلم، سأحدثكم عن ذلك: "إن قريشًا لما أبطأت عن الإسلام واستعصت على رسول الله ﷺ دعا عليهم بسنينَ كسنِي يوسف، فأصابهم من الجهد والجوع حتى أكلوا العظام والميتة، وجعلوا يرفعون أبصارهم إلى السماء فلا يرون إلا الدخان[1]، وفي راوية: فجعل الرجل ينظر إلى السماء فيرى ما بينه وبينها كهيئة الدخان من الجَهد"[2].

قال الله تعالى: فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاء بِدُخَانٍ مُّبِينٍ ۝ يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ فأُتِي رسولُ الله ﷺ فقيل له: استسق الله لمضر فإنها قد هلكت، فاستسقى ﷺ لهم فسقوا فنزلت: إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ، قال ابن مسعود : فيكشف عنهم العذاب يوم القيامة، فلما أصابهم الرفاهية عادوا إلى حالهم، فأنزل الله : يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنتَقِمُونَ قال: يعني يوم بدر، قال ابن مسعود : "فقد مضى خمس الدخان، والروم، والقمر، والبطشة، واللزام"[3]، وهذا الحديث مخرج في الصحيحين، ورواه الإمام أحمد في مسنده، وهو عند الترمذي والنسائي في تفسيريهما، وعند ابن جرير وابن أبي حاتم من طرق متعددة.

وقد وافق ابنَ مسعود على تفسير الآية بهذا وأن الدخان مضى جماعةٌ من السلف كمجاهد وأبي العالية وإبراهيم النخعي والضحاك وعطية العوفي، وهو اختيار ابن جرير، وفي حديث أبي سريحة حذيفة بن أسيد الغفاري قال: أشرف علينا رسول الله ﷺ من غرفة ونحن نتذاكر الساعة فقال ﷺ: لا تقوم الساعة حتى تروا عشر آيات: طلوع الشمس من مغربها، والدخان، والدابة، وخروج يأجوج ومأجوج، وخروج عيسى ابن مريم، والدجال، وثلاثة خسوف: خسف بالمشرق، وخسف بالمغرب، وخسف بجزيرة العرب، ونارًا تخرج من قعر عدن تسوق الناس أو تحشر الناس تبيت معهم حيث باتوا، وتقيل معهم حيث قالوا[4]، تفرد بإخراجه مسلم في صحيحه.

وفي الصحيحين أن رسول الله ﷺ قال لابن صياد: إني خبأتُ لك خبأ، قال: هو الدُّخُّ، قال ﷺ: اخسأ فلن تعدو قدرك، قال: وخبأ له رسول الله ﷺ فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاء بِدُخَانٍ مُّبِينٍ[5]، وهذا فيه إشعار بأنه من المنتظر المرتقب، وابن صياد كاشفٌ على طريقة الكهان بلسان الجان، وهم يقرطمون العبارة ولهذا قال: هو الدُّخ، يعني الدخان، فعندها عرف رسول الله ﷺ مادته وأنها شيطانية، فقال ﷺ: اخسأ فلن تعدو قدرك، وقد رُوي من الأحاديث المرفوعة والموقوفة من الصحاح والحسان وغيرهما مما فيه مَقْنع ودلالة ظاهرة على أن الدخان من الآيات المنتظرة مع أنه ظاهر القرآن، قال الله -تبارك وتعالى: فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاء بِدُخَانٍ مُّبِينٍ أي: بين واضح يراه كل أحد، وعلى ما فسر به ابن مسعود إنما هو خيال رأوه في أعينهم من شدة الجوع والجهد، وهكذا قوله تعالى: يَغْشَى النَّاسَ أي: يتغشاهم ويعمهم ولو كان أمرًا خياليًا يخص أهل مكة المشركين لما قيل فيه: يَغْشَى النَّاسَ.

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقوله -تبارك وتعالى: فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاء بِدُخَانٍ مُّبِينٍ ۝ يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ هذا الموضع من كتاب الله -تبارك وتعالى- فيه ثلاثة أقوال لأهل العلم، سمعتم منها قولين، وكل قول من هذه الأقوال له وجه، فابن مسعود يرى أن هذا من الآيات التي قد مضت، بمعنى أن الدخان من أشراط الساعة، فهل هو من الأشراط المنتظرة التي لم تقع أو هو من الأشراط التي وقعت؟ هذا أمر.

الأمر الثاني: هذه الآية في سورة الدخان هل هي في شيء قد مضى أو في شيء مستقبل؟

الأمر الثالث: هل الدخان من أشراط الساعة الصغرى أو أنه من أشراط الساعة الكبرى؟ يعني نحن نعلم أن أشراط الساعة الكبرى لم يقع شيء منها بعد، وأنها إذا وقعت فهي كعقد قد انفرط نظامه، تتتابع، تتعاقب سريعًا، فلم يقع شيء من أشراط الساعة الكبرى اتفاقًا، فعلى قول ابن مسعود أن الدخان من أشراط الساعة، ومقتضاه أنه من أشراطها الصغرى، وأنه قد مضى، وأنه ما تتحدث عنه هذه الآية، ابن مسعود يرد على هذا القاصّ الذي يقول: إنه يأتي يوم القيامة فيأخذ بأسماع المنافقين وأبصارهم... إلى آخره، ابن مسعود يرد على مثل هذا بأن ذلك لا يتأتى مع قوله: رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ، ولا يتأتى مع قوله: إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ

يقول: إن هذا إذا وقع يوم القيامة لا يُكشف، لكن مثل هذا يمكن أن يقال فيه: إن ما قاله القاص لم يكن دقيقًا في عبارته، يعني هو يقول: يوم القيامة، وإن كان يمكن أن يحمل هذا على قرب القيامة، فهو من أشراط الساعة الكبرى، فيمكن أن يقع ثم ينكشف، هذا جواب عن هذا الإيراد.

الأمر الثاني: وهو الأقوى -يعني الذي يقوي هذا القول أن الآية تتحدث عن شيء مضى- هو سبب النزول، والحديث في الصحيحين، وهنا يقول: إن قريشًا لما أبطأت عن الإسلام واستعصت على رسول الله ﷺ دعا عليهم بسنينَ كسنِي يوسف، فأصابهم من الجهد والجوع حتى أكلوا العظام والميتة، وجعلوا يرفعون أبصارهم إلى السماء فلا يرون إلا الدخان، وفي رواية: "فجعل الرجل ينظر إلى السماء فيرى ما بينه وبينها كهيئة الدخان من الجهد"، قال الله تعالى -هذا من تمام الرواية: فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاء بِدُخَانٍ مُّبِينٍ

وهذا جاء في بعض ألفاظه: فأنزل الله، فالعبارة صريحة في سبب النزول، ولو لم يكن ذلك فإن قوله بعده: فاستسقى لهم فنزلت: إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ فهذا لا ينفك عما قبله بحال من الأحوال، وهو صريح في سبب النزول إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ أيّ: عذاب؟ هذا المذكور قبله فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاء بِدُخَانٍ مُّبِينٍ ۝ يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ فحينما يقول: إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ "أل" هنا تكون عهدية، وهو العهد الذكري، يعني العذاب المذكور قبله، فهذا واضح لا إشكال فيه.

في صحيح مسلم يقول في تمام الحديث: فلما أصابتهم الرفاهية عادوا إلى ما كانوا عليه، فأنزل الله فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاء.

في صحيح مسلم فأنزل الله: فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاء بِدُخَانٍ مُّبِينٍ فالآن على هذا القول عندنا هذا الحديث المخرج في الصحيحين في سبب النزول، وسبب النزول يتضح به المعنى ويرتفع به الإشكال، يعني نحن أمام حديث مرفوع -الصريح في أسباب النزول هو من قبيل المرفوع إلى النبي ﷺ، بالإضافة إلى أن ابن مسعود من أصحاب النبي ﷺ، ومن أعلم الصحابة بالقرآن ومعاني القرآن، وقال ذلك جازمًا، وغضب من كلام هذا الرجل، فمثل هذا لا يقابل به أقوال التابعين فمن بعدهم، نحن أمام تفسير صحابي، وتفسير الصحابي مقدم على غيره.

فهذه كلها ترجح أن المراد بالدخان هنا هو ما حصل لهم من الجهد فصاروا يرون ذلك فيما بينهم وبين السماء بسبب الجوع، يعني يرى مثل الضباب، مثل الدخان، الإنسان المتعب الذي يشعر بشيء من الإغماء أو نحو ذلك يخيل إليه مثل الضباب، يقول: أنا ما أرى الأشياء بوضوح، الإنسان المجهد كثيرًا أو المريض العليل كثيرًا، أو الجائع كثيرًا يؤثر ذلك على بصره فيرى الأشياء غير واضحة، هذه كلها ترجح أن المراد بالدخان هنا هو هذا الذي حصل.

لكنه يشكل على هذا القول الحديث الآخر حديث حذيفة الغفاري : أشرف علينا رسول الله ﷺ من غرفة ونحن نتذاكر الساعة فقال: لا تقوم الساعة حتى تروا عشر آيات... والآيات المذكورة كلها من الآيات الكبرى، علامات الساعة الكبرى، فذَكَره ﷺ في هذا السياق، كل هذه الآيات آيات كبرى فدل على أن الدخان من أشراط الساعة الكبرى،  والرجل الذي كان يقص في المسجد هو يتحدث عن قوله: فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاء بِدُخَانٍ مُّبِينٍ فكان يفسر الآية يتحدث عن أمر بين يدي الساعة، فأنكره ابن مسعود.

فهذا الحديث الآخر: لا تقوم الساعة حتى تروا عشر آيات.. يدل على أن الدخان من أشراط الساعة الكبرى وأنه لم يقع، وهذا الذي مشى عليه ابن كثير -رحمه الله، والأول قال به كثيرون غير ابن مسعود ، وسمَّى هنا جماعة من هؤلاء.

ابن كثير -رحمه الله- احتج بأشياء يقول:

أولاً: أن الله قال: فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاء بِدُخَانٍ مُّبِينٍ هذا بيِّنٌ وليس أمورًا متخيلة، ليست الأشياء المرئية أمورًا متخيلة يتخيلها الناظر بسبب الجوع، بِدُخَانٍ مُّبِينٍ دخان حقيقي بيِّن واضح، يقول: فكيف يقال: إنه ذلك الخيال الذي رأوه بسبب الجوع؟

ثم الحجة الثانية: فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاء بِدُخَانٍ مُّبِينٍ ۝ يَغْشَى النَّاسَ فـ"أل" للعموم، أي كل الناس وليس فقط يغشى الجوعى الذين أنهكهم الجوع بسبب القحط، فظاهر الآية العموم، وهذا لا يختص بأولائك، ثم قال: هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ الآن هذا القول له وجه كما ترون ويؤيده حديث حذيفة الغفاري .

بعض أهل العلم -وهذا القول الثالث الذي أشرت إليه- توسط في هذا، مثل الشوكاني قال: إن الدخان في هذه الآية المراد به هو الذي فسره به ابن مسعود ، وما ذكره النبي ﷺ في حديث حذيفة هو من أشراط الساعة الكبرى وهذا لم يقع.

وهذا القول وجيه كما ترون، فلا نستطيع أن نتجاوز سبب النزول، نحن نعرف أن المقرر أنه تُفسر به الآية ويرتفع به الإشكال الحديثُ الصريح في سبب النزول والرواية التي لا مطعن فيها وليست من قبيل الاحتمال، ومن الذي أنكر هذا القول على ذلك الذي يقص؟ ابن مسعود ، فيمكن أن تفسر هذه الآية بما ذكره ابن مسعود ، ومما يدل عليه سبب النزول، وما ذكره النبي ﷺ في حديث حذيفة يكون في علامات الساعة الكبرى وهذا لم يقع بعد؛ لأن هذا القول الثالث هو جمع بين القولين في الحقيقة، ولا إشكال في مثل هذا، وليس هو من إيجاد قول جديد.

يعني إذا اختلفوا على قولين فليس لأحد أن يأتي بقول ثالث يعود على القولين بالإبطال، بمعنى أن كل الأمة ما فهمت الآية، لكن يمكن أن يؤتى بقول ثالث لا يبطل القولين ولكنه يوجه ويجمع مثل هذا، هذا مثال على القول الثالث الذي لا إشكال فيه، والله -تبارك وتعالى- أعلم، هذا كأنه أقرب -والله أعلم.

مع أن ظاهر الآيات أنه في شيء عام يخوف الله به العباد، هذا ظاهر الآيات ولكننا نقدِّم على الظاهر ما دل عليه سبب النزول؛ لأن السنة تفسر القرآن، فلا نتمسك بمجرد الظاهر إذا كان في شارحه وهو السنة ما يدل على خلافه؛ لأنها تقيد مطلقه، وتخصص عمومه، وتبين مجمله، فهذا من تفسير القرآن بالسنة الصريحة، سبب النزول الصريح هو تفسير بالسنة الصريحة -والله أعلم.

لكن ما ذكره ابن كثير -رحمه الله- في قول النبي ﷺ لابن صياد: إني خبأت لك خبأ قال: هو الدُّخُّ، ابن كثير يقول: وخبأ له رسول الله ﷺ: فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاء بِدُخَانٍ مُّبِينٍ هل هذا من تمام الرواية؟ أو أن النبي ﷺ خبأ له سورة الدخان؟ فابن كثير حينما يذكر هذه الآية يستأنس بها أو يستدل بها على قوله، وهو أن النبي ﷺ ذكر له شيئًا يتعلق بالمستقبل، بأشراط الساعة، لو كان بشيء مضى -ما وقع في مكة من الجوع صاروا يتخيلون إلى آخره- لم يكن هناك ارتباط أو مناسبة بين هذا وابن صياد، والله أعلم، باعتبار أن ابن صياد كان يتنبأ بالغيب، وكانوا يشكون أنه المسيح الدجال.

أما قوله: وهم يقرطمون العبارة فهذا من كلام ابن كثير، ويقرطم تعني أنه يأكل بعض الكلمة، يجتزئ ببعضها، فقال: هو الدُّخ، والذي يظهر أنه يلقيه الشيطان إليه إلقاء سريعًا فيتلقفه فما يدرك أحيانًا الكلمة بكاملها، الآن لو أحد يلقي لآخر كلمة سريعة فهو يأخذ بعضها لا يفقه ذلك عنه لسرعة الإلقاء.

وقوله تعالى: هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ أي: يقال لهم ذلك تقريعًا وتوبيخًا، كقوله تعالى: يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا ۝ هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُون [سورة الطور:13، 14].

يعني يقال لهم: هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُون وهنا يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ، أي يقال لهم: هذا عذاب أليم، وكما سبق مرارًا أنه يُختصر من الكلام كما يقول ابن جرير: العرب تحذف من الكلام ما يمكن أن تستغني عنه ثقة بفهم المخاطب، فيُطوى الكلام الذي يُستغنى عنه فما يحتاج أن يطوَّل، والقرآن أفصح الكلام فما يحتاج أن يقال: ثم يقال لهم، فيقال لهم كذا، فيقولون، هذا في مواضع من كتاب الله في قصص الأنبياء وفي غيرها.

وقوله: رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ أي: يقول الكافرون إذا عاينوا عذاب الله وعقابه سائلين رفعه وكشفه عنهم، كقوله: وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [سورة الأنعام:27].

وكذا قوله: وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ [سورة إبراهيم:44]، وهكذا قال -جل وعلا- هاهنا: أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ ۝ ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ.

يقول: كيف لهم بالتذكر وقد أرسلنا إليهم رسولا بيِّنَ الرسالة والنذارة، ومع هذا تولوا عنه وما وافقوه، بل كذبوه وقالوا: معلم مجنون، وهذا كقوله تعالى: يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى [سورة الفجر:23] الآية، وقوله تعالى: وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ ۝ وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ [سورة سبأ:51، 52] إلى آخر السورة.

قوله -تبارك وتعالى: أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءهُمْ رَسُولٌ مُّبِينٌ يعني أن هذا بعيد غاية البعد عنهم، والذكرى اسم مصدر بمعنى التذكر، وعبر عنه بهذا -أي الذكرى- مبالغة لأن زيادة المبنى لزيادة المعنى ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَّجْنُونٌ، إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ [سورة النحل:103]، فقالوا عنه: معلم يعلمه بشر، وقالوا عنه أيضًا: مجنون، كما قالوا: ساحر، وغير ذلك.

قال: وقوله تعالى: إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ معناه أنا لو كشفنا عنكم العذاب ورَجَعناكم إلى الدار الدنيا لعدتم إلى ما كنتم فيه من الكفر والتكذيب كقوله تعالى: وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِم مِّن ضُرٍّ لَّلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [سورة المؤمنون:75]، وكقوله -جلت عظمته: وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ [سورة الأنعام:28].

إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ ابن كثير هنا فسره بغير ظاهره قال: معناه أنا لو كشفنا عنكم العذاب ورجعناكم إلى الدار الدنيا لعدتم إلى ما كنتم فيه، يعني فسره بقوله: وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِم مِّن ضُرٍّ، وظاهر الآية أن هذا وعد من الله بكشف العذاب، ولا يصح العدول عنه.

أمّا على قول ابن مسعود أن هذا أمر مضى فقد كشفه عنهم لما سألوا ذلك، فذهب عنهم ذلك القحط الذي كان سببًا لهذه الخيالات التي هيأت لهم مثل هذه الصورة -صورة الدخان، لكن كأن ابن كثير -رحمه الله- لما نظر إلى أنه أمر يتصل بالساعة فإنه لا كاشف له، وبهذا يحتج من يقول بقول ابن مسعود أن هذا كيف يكشف وقد وقع وحل بهم إذا كان يوم القيامة كما يقول هذا القاص؟ لكن الآن ابن مسعود يقول: فيكشف عنهم العذاب يوم القيامة؟

يعني هو يستنكر أن القاص يقول: هذا يوم القيامة، فابن كثير كأنه نظر إلى هذا وجعل هذا على سبيل الافتراض، وأنه ليس على سبيل العِدة مع أن ظاهره أنه وعد من الله، الذين يقولون بقول ابن مسعود يحتجون بهذا على أنه أمر قد مضى وإلا فما يكون في القيامة لا يكشف.

لكن يمكن أن يقال: لو فسرت بأن الدخان هو الذي سيأتي على قول ابن كثير، وأنه لا ضرورة لما قاله ابن كثير هنا من أن ذلك على سبيل الافتراض وأنه لو كشف لرجعوا، لا، أن هذا يكشف يعني الدخان الذي يحصل قرب القيامة لا يستمر إلى أن تقوم الساعة، كذلك الخسوف الذي يحصل لا يستمر، كذلك خروج الشمس من مغربها هي تطلع من مغربها في يوم واحد.

والذي عليه عامة أهل العلم أنها في باقي الأيام ترجع إلى ما كانت عليه، يعني حينما تطلع الشمس من مغربها لاَ يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا [سورة الأنعام:158]، لكن إذا طلعت الشمس من مغربها هل معنى ذلك أن القيامة قامت؟

الجواب: لا؛ لأن القيامة تأتيهم بغتة كما سبق في الأحاديث سرعة مجيئها وفي الآيات أيضًا، فهنا هذا الدخان الذي يحصل يعرض لهم ولا يستمر إلى أن تقوم الساعة -والله أعلم، فما الإشكال من أن هذا يكشف؟

يعني ما رجح إذًا، هذا غير صحيح في طريقة الاختصار، يرجع فيه إلى الأصل، فهنا يقول: رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا يقول: إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ أنّا لو كشفنا عنهم العذاب، هذا الموضع يراجع فيه الأصل، هذه العبارة لا تفي بالمعنى ولا يتحملها ابن كثير -رحمه الله، العبارة فيها إشكال.

قوله: إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ يعني إلى ما كنتم عليه من الشرك والكفر كما يدل عليه قوله تعالى: وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِم مِّن ضُرٍّ لَّلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ، وقوله: وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ القرآن يفسر بالقرآن، بخلاف قول من قال: إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ أي: عائدون إلينا بالبعث والنشور، هذا قول من يقول بأنه من أشراط الساعة الكبرى، وهو خلاف الظاهر المتبادر.

قال: وقوله : يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنتَقِمُونَ فسر ذلك ابن مسعود -رضي الله عنه- بيوم بدر، وهذا قول جماعة ممن وافق ابن مسعود على تفسيره الدخان بما تقدم.

كذلك قول من قال: إن الآية فيما مضى مع أن ما ذكره النبي ﷺ في حديث حذيفة هو في أشراط الساعة الكبرى، مثل الشوكاني يقول: إن قوله: يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى: يوم بدر، والذين قالوا: إن المقصود هنا من أشراط الساعة الكبرى قالوا: البطشة الكبرى يوم القيامة، قيام القيامة.

قال: ورُوي أيضًا عن ابن عباس -رضي الله عنهما- من رواية العوفي عنه، وعن أبي بن كعب وهو محتمل، والظاهر أن ذلك يوم القيامة، وإن كان يوم بدر يوم بطشة أيضًا، قال ابن جرير عن عكرمة قال: قال ابن عباس -رضي الله عنهما: قال ابن مسعود : "البطشة الكبرى يوم بدر، وأنا أقول: هي يوم القيامة"، وهذا إسناد صحيح عنه، وبه يقول الحسن البصري وعكرمة في أصح الروايتين عنه، والله أعلم.

مع أن جماعة من السلف فمن بعدهم قالوا غير ذلك، يعني الحسن وعكرمة ومن أصحاب كتب المعانى الزجاج قالوا: يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى يعني عذاب النار، لكن لا ملازمة بين المسألة السابقة وتفسير هذه الآية، يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى يعني الذين مشوا على قول ابن مسعود لا يلزم من ذلك أن يفسروا هذا الموضع -البطشة الكبرى- بيوم بدر، فبعضهم يقول: القيامة كما جاء عن ابن عباس -رضي الله عنهما، وبعضهم يقول: يوم بدر.

ولاحظ أن ابن كثير -رحمه الله- قال: هذا محتمل، محتمل هذا وهذا، فالبطشة الكبرى يحتمل أن تكون يوم بدر باعتبار أنها كانت ضربة موجعة للمشركين، ويحتمل أن يكون ذلك يوم القيامة، فابن مسعود يفسر ذلك بيوم بدر، وابن عباس يفسره بالرواية الصحيحة بيوم القيامة، وبالرواية الضعيفة الأولى التي لا تصح عنه أنه يوم بدر، فهذا يحتمل.

يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنتَقِمُونَ في آخر الكلام قال: وبه يقول الحسن البصري وعكرمة في أصح الروايتين عنه، والله أعلم، يعني أن البطشة الكبرى يوم القيامة، والذي قاله الحسن وعكرمة هو أنها عذاب النار، يعني هذه العبارة أدق، وكأن ابن كثير -رحمه الله- نظر إلى اعتبار القسمة هل هي في يوم بدر أو في الآخرة؟ فعد هذا القول: إنها عذاب النار أي إنها القيامة، يعني ليس المقصود بها يوم بدر بهذا الاعتبار.

وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ ۝ أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ۝ وَأَنْ لَّا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُم بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ ۝ وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَن تَرْجُمُونِ ۝ وَإِنْ لَّمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ ۝ فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلَاء قَوْمٌ مُّجْرِمُونَ ۝ فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ ۝ وَاتْرُكْ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُندٌ مُّغْرَقُونَ ۝ كَمْ تَرَكُوا مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ۝ وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ ۝ وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ ۝ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ ۝ فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاء وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ ۝ وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ ۝ مِن فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِّنَ الْمُسْرِفِينَ ۝ وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ ۝ وَآتَيْنَاهُم مِّنَ الْآيَاتِ مَا فِيهِ بَلَاء مُّبِينٌ [سورة الدخان:17-33].

يقول تعالى ولقد اختبرنا قبل هؤلاء المشركين قوم فرعون وهم قبط مصر وَجَاءهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ يعني موسى كليمه -عليه الصلاة والسلام، أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ، كقوله : فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى [سورة طـه:47].

قوله -تبارك وتعالى: وَجَاءهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ يعني موسى، قطعًا جاءهم رسول، هذا الرسول -عليه الصلاة والسلام- مبهم هنا، لكنه مفسر في مواضع من كتاب الله -تبارك وتعالى، فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ [سورة طـه:47]، اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى [سورة النازعات:17] فهذا من تفسير القرآن بالقرآن، قد يكون الموضع فيه إبهام فيأتي في القرآن ما يفسره، وإذا أردت النظر في هذا بتوسع كبير فانظر مقدمة أضواء البيان ففيها من العلم الشيء الكثير، وفيها من أنواع تفسير القرآن بالقرآن ما لا تجده في كتاب، فرحم الله مؤلفه رحمة واسعة.

وقوله هنا: وَجَاءهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ ۝ أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ هذا كما سبق في طي الكلام واختصار ما يُستغنى عنه بفهم المخاطب، يعني فجاءهم الرسول فقال لهم: "أدوا إليّ عباد الله" لاحظ هنا وَجَاءهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ ۝ أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ، جاءهم رسول أن أدوا فأن هذه تفسيرية، هي مفسرة، وهذا الذي مشى عليه الشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله، أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ مع أن بعضهم يقول غير ذلك.

بعضهم يقول: إنها مخففة من الثقيلة، يعني أنّ الشأن والحديث أدوا إليّ عباد الله، وهكذا قول من يقول: إنها مصدرية، يعني بأن أدوا إليّ عباد الله، كقوله فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ هنا فسر الآية بالآية دون الدخول في التفاصيل، فما معناه؟ على قول ابن كثير فأرسل معنا بني إسرائيل أدوا إليّ عباد الله، يعني يا معشر الفراعنة، يا فرعون سلم لنا بني إسرائيل، ادفع إليّ قومي، واضح؟

أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ فهنا قوله: عِبَادَ اللَّهِ مفعول به، ابن كثير فسرها بقوله: فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ فـ "بني إسرائيل" مفعول به، والقرآن يفسر القرآن، فـ"عباد الله" هنا يكون مفعولاً به، بخلاف قول من قال: إنه منادى مضاف أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ، أي أدوا إليّ، ثم ناداهم: يا عباد الله، كأن يقول: عباد الله استجيبوا، لا يكون المقصود به دفع بني إسرائيل إليه، لكن أدوا إليّ يا عباد الله، أدوا ماذا؟

أدوا ما وجب عليكم من حقوق الله ، آمِنوا بي، استجيبوا، أو قول من قال: أدوا إليّ سمعكم حتى أبلغكم رسالة ربي، لكن الأرجح أن قوله: عِبَادَ اللَّهِ مفعول به، يعني أن أدوا إليّ بني إسرائيل، ادفعوا إليّ قومي، يقول للفراعنة: أدوا عباد الله إليّ، سلموهم لنا، اتركهم؛ لأن فرعون كان يستعبدهم، فهو يقول: ادفعهم إليّ، خلِّ بيني وبينهم ولا تعذبهم، هذا المراد -والله تعالى أعلم، وهو صنيع ابن كثير وقبله هو اختيار ابن جرير أي أنه مفعول به، وهذا الذي عليه المحققون.

قال: وقوله -جل وعلا: إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ أي: مأمون على ما أُبلِّغكموه، وقوله تعالى: وَأَنْ لَّا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ أي: لا تستكبروا على اتباع آياته والانقياد لحججه والإيمان ببراهينه كقوله : إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ [سورة غافر:60].

إِنِّي آتِيكُم بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ أي: بحجة ظاهرة واضحة وهي ما أرسله الله تعالى به من الآيات البينات والأدلة القاطعات، وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَن تَرْجُمُونِ قال ابن عباس -رضي الله عنهما- وأبو صالح: هو الرجم باللسان وهو الشتم، وقال قتادة: الرجم بالحجارة، أي: أعوذ بالله الذي خلقني وخلقكم من أن تصلوا إليّ بسوء من قول أو فعل.

قوله: وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَن تَرْجُمُونِ الرجم يأتي بمعنى الرجم بالقول بالشتم والسب، ويأتي بالفعل الرجم بالحجارة، وبعضهم يقول: القتل أيضًا كذلك، وآزر قال لإبراهيم ﷺ: لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا [سورة مريم:46]، فيحتمل -أيضًا- هذه المعاني، هل قصد أن يرجمه بالفعل أو أن يرجمه بالقول بالسب ونحوه؟ فهذان قولان، وابن جرير -رحمه الله- يقول: إنه أطلق ذلك يعني قال: وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَن تَرْجُمُونِ فيشمل الرجم بمعنييه، يعني استعاذ بالله من أن يرجموه بالقول، أو أن يرجموه بالفعل؛ لأن الله لم يخص معنى من هذه المعاني دون الآخر، أطلق فيبقى هذا على إطلاقه.

ابن جرير -رحمه الله- في مثل هذه المواضع تارة يحمل الآية على هذه المعاني إذا كانت الآية تحتملها، فالرجم يأتي لهذا، وهذا، فيقول: ما عندنا ما يدل على التخصيص فيحمل على ذلك كله، وأحيانًا يقتضي المقام أحد المعنيين وكلاهما معنى صحيح، فابن جرير في مثل هذه المواضع قد يتوقف فيقول: إنه يأتي لكذا وكذا، فيحتمل أنه أراد به هذا أو أراد به هذا، وليس عندنا ما يدل على تخصيص أحد المعنيين دون الآخر، أو إرادة هذا دون ذاك، يقول: يحتمل هذا ويحتمل هذا دون أن يرجح.

قال: وَإِنْ لَّمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ أي: فلا تتعرضوا لي ودعوا الأمر بيني وبينكم مسالمة إلى أن يقضي الله بيننا، فلما طال مقامه ﷺ بين أظهرهم وأقام حجج الله تعالى عليهم كل ذلك وما زادهم ذلك إلا كفرًا وعنادًا دعا ربه عليهم دعوة نفذت فيهم، كما قال -تبارك وتعالى: وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ ۝ قَالَ قَدْ أُجِيبَت دَّعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا [سورة يونس:88، 89]، وهكذا قال هاهنا: فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلَاء قَوْمٌ مُّجْرِمُونَ.

يعني هنا قال: دعا ربه عليهم وهذه الآية غير صريحة في صيغة الدعاء، إنما هي في ظاهرها خبر، قال: فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلَاء قَوْمٌ مُّجْرِمُونَ يعني ما طلب شيئًا معينًا أن يُفعل بهم من العقوبة، أو يعذبهم الله -تبارك وتعالى- ولكن في قوله: وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ ۝ قَالَ قَدْ أُجِيبَت دَّعْوَتُكُمَا يعني موسى وهارون -عليهما الصلاة والسلام، قالوا: لأن هارون -عليه الصلاة والسلام- كان يؤمِّن على دعاء موسى ﷺ، والمؤمِّن أحد الداعييْن.

وهذا يؤخذ منه أن لكل مقام مقال، فتارة يحسن الدعاء لهم بالهداية، وتارة يحسن الدعاء عليهم بالهلاك والاستئصال، فهذا كله جاء في دعاء الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام، ونوح ﷺ قال: رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا [سورة نوح:26]، والنبي ﷺ دعا على قومه قال: اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف[6].

فهؤلاء الأنبياء الكرام دعوا على أقوامهم، فهؤلاء الذين الآن يريدون من الناس أن يستميتوا استماتة تامة، وأن يستكينوا استكانة كاملة بحيث لا يذكرون الكافر بكفره، وإنما يقولون: الآخر، هذا إذا ما قالوا: إنهم أهل إيمان، وكذلك لا يريدون أن يُدعى على الكفار، ويضيقون بذلك، ويضجون بسببه، وتأخذهم الحمية والأنفة فينفرون، كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ ۝ فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ [سورة المدثر:50، 51] إذا سمعوا الدعاء على الكافرين، فهذا الكلام غير صحيح.

فإذا كان المقام يقتضي الدعاء على أعداء الله على الكفار فإن ذلك يكون في موضعه، وقد فعله الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- وهم أكمل الناس حالاً، ولا يلزم أن يُدعى لهم في كل موضع بالهداية، وأن يبقى الكلام دائمًا لينًا هينًا سهلاً لطيفًا رقيقًا في كل الحالات وهم يفعلون الأفاعيل، يعني كل الأوهام الكبيرة التي تروج على الناس من حقوق الإنسان، ومن التقارب والحوار، ونبذ أسباب العنف وما إلى ذلك مما يروج على البسطاء الواقعُ يكذبه.

انظر الآن ماذا يفعل في بلاد الشام من الأفعال الهمجية التي لو كانت في أوربا في القرون الوسطى عندهم لكان ذلك معقولاً ومدركًا، لكن الآن في وقت الإعلام ما كنا نظن مع أننا نعرف حقد الأعداء، وكيد الأعداء، وأنهم جميعًا أعداء، ولا يرتجى منهم النصر، لكن ما كنا نظن أن الأمر يصل إلى هذه الحال والإعلام ينقل لحظة بلحظة، ويصور ما يجري، ما كنا نتصور أن الأمور تكون بهذه المثابة.

كنا نقول: إن ما وقع قبل أكثر من ثلاثين سنة في حماة لا يمكن أن يتكرر اليوم لاعتبارات كثيرة: منها الإعلام، ووسائل الإعلام، في الأول لم يكن هناك وسائل تذكر، وكان الناس يتناقلون الواحد بعد الواحد أخبارًا من هنا وهناك يتلقفونها، وبقية جمهور الأمة مغيبة عن الحدث؛ لأن الوسائل التي كانت آنذاك موجودة على قلتها لم تكن تُعنى بهذا، وما كانت تنقل تلك الأحداث أصلاً، وإنما يتسامع بها بعض الغيورين فقط، هذا شيء نذكره تمامًا، خطبة واحدة هي التي طارت في الآفاق ينسخها الناس، فيتداولونها بأيديهم، خطبة عرّفت الناس بما يجري، خطبة واحدة!

أما الآن فبالصور وينقل القتل بأبشع الطرق، شيء تقشعر منه الأبدان، قتل وذبح الأطفال، ورمي لهم بالمزابل، شيء لا يفعل حتى مع الحيوانات، ومع ذلك لا إشكال، مع أنه لو قُتل واحد من اليهود في بلد من البلدان لقامت الدنيا من أولها إلى آخرها، ولو أنه كان هذا القتل على الرافضة لقامت الدنيا، وجمعيات حقوق الإنسان، والدول الكبرى، وحفظ الأقليات، وحفظ الحقوق، والاضطهاد الديني وما إلى ذلك، وأما المسلمون فلا بواكي لهم.

وهذه هي الحقيقة التي يضعهم الحدث أمامها بصورة جلية لا خفاء فيها، وهذا لا نشك فيه إطلاقًا، نعرفه معرفة تامة، ولكن الله يظهر من الأحداث ما يبين به لأهل الغفلة الذين صدَّقوا تلك الدعايات حقيقة الأعداء، وأنهم جميعًا أعداء، وأن مثل هؤلاء الأعداء لا ينتظر منهم إطلاقًا أن ينظروا بعين الشفقة والرحمة، أو أن يمدوهم بشيء؛ لأن ما يجري إنما هو شيء يحصل به بعض التشفي لهم؛ لأنهم جميعًا أعداء.

ومثل هؤلاء من الباطنية مَن الذي جاء بهم من الجبال ووطّنهم وجعلهم في هذه المرتبة من السلطة وغير اسمهم من النصيريين إلى العلويين، وحاول أن يواري سوءتهم؟ هي الدول المتحضرة، هم الذين فعلوا هذا فأحيوا هذه الفرق وأظهروها ودعموها، بل أظهروا فرقًا جديدة لم تكن موجودة، مثل القاديانية في بلاد الهند، فهم إنما يشاهدون بعض ما يتشفون به، فمن الخطأ كل الخطأ أن يترقب الناس من هؤلاء شيئًا من الإنصاف أو الدعم أو الرحمة والعطف والشفقة، هؤلاء لا شفقة عندهم وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ [سورة آل عمران:119]، يعض أصابعه ويتألم فكيف إذا استطاع أن يجعل هذا الألم فيك؟ من شدة ما يجد بحركة لا إرادية أسنانه تعض أصابعه من التألم، لو استطاع أن يفرغ هذه الشحنة التي تنبعث بهذه الصور -عض الأصابع- لو استطاع أن يفرغها فيك ماذا يفعل؟

إِن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاء [سورة الممتحنة:2] يترجمون العداوة الباطنة بعداوة ظاهرة، فكل أفاك مبين، كل كذاب وكل دجال وكل مغفل ينبغي أن يقف أمام هذا الحدث ويتوب إلى الله -تبارك وتعالى، وتوضع الأمور في نصابها الصحيح، وأن من خالف عقدُه عقدَك -عقيدته خالفت اعتقادك- خالف قلبه قلبك، ولا يمكن أن يجتمع الناس على غير الحق والإيمان والتوحيد، وإلا فالعداوة متأصلة.

ما جُرم هؤلاء الصغار والكبار والنساء والشيوخ والشباب وغير هؤلاء؟ البيئة التي في بلاد الشام ماذا تمثل بالنسبة إليهم؟ شعب قد مورس عليه أنواع التضليل والتضييع، لما وقعت هذه المشكلة كثير من الناس في المخيمات ما كانوا يصلون، ولا يعرفون الله، وسبُّ الله على طرف الألسن، وكثير من هؤلاء الإخوان الذين ذهبوا إليهم في المخيمات وجدوا أكثر من في المخيم في بعض المخيمات لا يصوم، جاءوهم في رمضان، لا يعرفون الله، ولا يعرفون كيف يتوضئون، ماذا يريدون منهم؟! كيف لو كان هؤلاء من المتدينين؟!

ومعلوم أن التصوف وغير التصوف ينتشر في بلاد الشام، هذا عند كثير من المتدينين، ونحن لا نعمم هذا، ومع ذلك يذبحونهم هذا الذبح، ويفعلون بهم هذا الفعل، كيف لو كان العدو من أصحاب العقيدة الصحيحة التي يسمونها بالوهابية؟ ماذا سيفعلون بهم؟

إذا كانوا هم أمام أناس قد ضُلل كثير منهم عقودًا متطاولة، مساكين لا يعرفون، لا يميزون الاعتقاد الصحيح من الاعتقاد الفاسد، كثير منهم، ولست أعمم هذا، وهذا الحقد تجاههم إذًا لو كانوا أمام أصحاب الاعتقاد الصحيح وأهل السنة حقًّا السنة المحضة ماذا سيفعلون بهم؟ هذا شيء لا يمكن أن يتصور، ولا يتخيل أبدًا، -نسأل الله العافية.

يقف ذهني عاجزًا كلما أتأمل وأتفكر ماذا يمكن أن يُفعل بالناس أكثر مما فعله الرافضة بأهل السنة في العراق؟!! فجاء هؤلاء بأكثر من هذا، والآن أتأمل وأتخيل لو ظفروا بمن يكنون لهم عداوة أشد ماذا سيفعلون بهم؟ الله أعلم، لكن ذكر لي بعض الإخوان عن بعضهم فيما يتحدثون به في مجالسهم، صارحه بهذا، قال: نحن نتحدث هكذا لو ظفرنا بكم، وذكر له كلامًا يصعب أن يقال.

نسأل الله أن يكبتهم، وأن يخزيهم، وأن يهلكهم، وأن يحصيهم عددًا، وأن لا يغادر منهم أحدًا، وأن ينزل عليهم بأسه الذي لا يرد عن القوم المجرمين الظالمين، وأن ينصر إخواننا في بلاد الشام نصرًا مؤزرًا، وأن لا يكلهم إلى أحد من خلقه، أن يغنيهم عن خلقه أجمعين، وإلا فإن أعداء الله كلهم أعداء لهم، لا يريدون بهم خيرًا، وإن قدموا لهم أموالاً أو قدموا لهم أسلحة، فهذه الأسلحة يوظفونها في أمور لا تكون في صالحهم بحال من الأحوال أبدًا، فهي طعوم مسمومة، هي القضية هكذا، لا يقدمون لهم خيرًا، كل ما يقدمه الأعداء لا خير فيه، صندوق النقد الدولي، وغير صندوق النقد، هي مشنقة خذها أو دعها.

فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلَاء قَوْمٌ مُّجْرِمُونَ [سورة الدخان:22] يعني على إضمار حرف الجر، فدعا ربه بأن هؤلاء قوم مجرمون، هنا سماه دعاء مع أن الصيغة ليس فيها دعاء، هي خبر، لكن كأنه استُغني بذلك عن الدعاء باعتبار أنه ذكر سبب استحقاق الدعاء وهو كون هؤلاء بهذه المثابة، "أن هؤلاء قوم مجرمون" فهم إذًا يستحقون العقوبة، يعني كأنه يقول: هؤلاء قوم مجرمون فعليك بهم يا رب.

قال: فعند ذلك أمره الله تعالى أن يخرج ببني إسرائيل من بين أظهرهم من غير أمر فرعون ومشاورته واستئذانه، ولهذا قال : فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ، كما قال تعالى: وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَّا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى [سورة طـه:77].

وقوله هاهنا: وَاتْرُكْ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُندٌ مُّغْرَقُونَ وذلك أن موسى -عليه الصلاة والسلام- لما جاوز هو وبنو إسرائيل البحر أراد موسى أن يضربه بعصاه حتى يعود كما كان؛ ليصير حائلاً بينهم وبين فرعون فلا يصل إليهم، فأمره الله تعالى أن يتركه على حاله ساكنًا، وبشره بأنهم جند مغرقون فيه، وأنه لا يخاف دركًا ولا يخشى، وقال ابن عباس -رضي الله عنهما: وَاتْرُكْ الْبَحْرَ رَهْوًا كهيئته وامضِه، وقال مجاهد: رَهْوًا طريقًا يبسًا كهيئته، يقول: لا تأمره يرجع، اتركه حتى يرجع آخرهم، وكذا قال عكرمة والربيع بن أنس والضحاك وقتادة وابن زيد وكعب الأحبار وسماك بن حرب وغير واحد.

هذه العبارات التي نقلها ترجع إلى معنى واحد، يعني اتركه على حاله، يعني لا تضربه بعصاك ثانية فيرجع؛ لأن المشهد لم يكتمل، ليس ذلك قد وقع من أجل إنجاء بني إسرائيل بل بقي نصف المشهد وهو هلاك فرعون، وَاتْرُكْ الْبَحْرَ رَهْوًا هذه الأقوال والروايات التي ذكرها ترجع إلى هذا المعنى، وهو اختيار ابن جرير.

يعني قول من قال: إن المراد اتركه ساكنًا، اتركه على حاله إلى آخره، يعني لا تغير حاله، دعه حتى يتحقق العذاب لفرعون، وتشاهدون ذلك بأعينكم، وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ [سورة البقرة:50]، فهذا كما ذكرنا في سورة البقرة فيه من التشفي ما فيه؛ حيث يكون إهلاك العدو أمامك، تراه وهو يصارع الأمواج، هذا بخلاف لمّا يأتيك الخبر ويقال: غرق فرعون وانتهى، كيف غرق؟ ما الذي حصل؟ هذا بخلاف ما إذا وقع ذلك وأنت تشاهد.

فقوله -تبارك وتعالى: وَاتْرُكْ الْبَحْرَ رَهْوًا رهوًا: قول من قال: ساكنًا هذا قول الأكثر وإن اختلفت العبارة التي يعبرون بها عن ذلك، يعني يقال في أصل اللغة: رها رهوًا يعني سكن، اتركه ساكنًا لا تغير فيه، يقال: افعل ذلك رهوًا كما يقول الجوهري: يعني ساكنًا ويقال: العيش الراهي يعني الساكن حينما يكون خفض العيش والسكون والرفاهية، يقال: راهٍ، نحن لا نستعمل هذه العبارة لكن نستعملها في معنى قريب من هذا وهو الكثرة والاتساع، تقول: هذا طعام راهٍ، هذا ثوب راهٍ، فهنا يدل على العيش الراهي، يعني الساكن معناها أنه في دعة، هو المعنى نفسه.

فهذا كله يرجع إلى شيء واحد، هذا الذي يقوله أكثر أهل العلم من المفسرين وأهل اللغة، يعني لا تؤمره بعصاك، لا تضربه بعصاك ثانية فيرجع إلى حاله الأولى، اتركه حتى ينطبق عليهم فيغرقون، وقريب من هذا قول من قال كأبي عبيدة معمر بن المثنى: إن هذه المادة تدل على الانفتاح، فرهوًا يعني مفتوحًا، تقول: رها بين رجليه، يعني باعد بين رجليه، أي فتح رجليه، يعني اترك البحر منفرجًا، فهذا وإن اختلفت فيه العبارة لكنه يرجع إلى المعنى الأول، لكن الأول فسر بالسكون، وهنا بالانفراج، وذلك يرجع في أصل المعنى إلى شيء واحد، يعني اتركه على حاله منفرجًا، وعلى الأول لا تغير من حاله، دعه هكذا؛ لأن البحر انفلق، تصور كم عمق البحر إلى القعر؟

يعني هم ما صار السطح بالنسبة إليهم يابسة أو جامدًا ومشوا على الماء، لا، انفرج فصار كل فرق كالطود العظيم، تصور جبلا شاهقًا عن يمينهم وعن شمالهم وليس طريقًا واحدًا، كم طريق؟ اثنا عشر على عدد أسباط بني إسرائيل، فيرون الماء بالجوانب أمثال الجبال واقفة، وهم يمرون يمشون على الأرض، يمشون على القعر -سبحان الله- ويابس يبسًا ما فيه وحل، ما فيه زلق، وإنما يابس، أرض يابسة كأنهم يمشون في البر والماء واقف على الجوانب، اتركه ساكنًا، اتركه منفرجًا.

وهذا معنى يقول به علماء كبار من أهل اللغة مثل أبي عبيدة، وقبله قال به جماعة كمجاهد، فهذا المعنى الذي هو الانفراج صحيح في اللغة، فيمكن أن تحمل -والله أعلم- على المعنيين، وَاتْرُكْ الْبَحْرَ رَهْوًا يعني على حاله ساكنًا منفرجًا، فهذا كله لا إشكال فيه -إن شاء الله، حتى إن بعضهم يربط بين المعنيين تمامًا يقول: لأن البحر أصلاً إذا كان بهذه المثابة -أي إذا سكن جريه- انفرج، يعني هذا الذي حصل في الواقع، توقف الماء انفرج، وبقي بهذه الهيئة بينه طرقات يمشي ويمر بها الإسرائيليون، فهذا كله يرجع إلى معنى واحد، بخلاف من قال: إن ذلك يرجع إلى نعت موسى ﷺ.

وبعضهم يقول: وَاتْرُكْ الْبَحْرَ رَهْوًا يعني سر ساكنًا على هيئتك يا موسى وَاتْرُكْ الْبَحْرَ رَهْوًا فيكون ذلك مما يرجع إلى موسى -عليه الصلاة والسلام، وبعضهم يقول: إن رهوًا يعني طريقًا، وَاتْرُكْ الْبَحْرَ رَهْوًا يعني طريقًا، وهذا في الواقع يرجع إلى الأول، يعني لا تضربه بعصاك فيرجع الماء مرة أخرى إلى حاله الأولى، هذه أقوال للسلف، يعني هذا قال به الضحاك والربيع بن أنس، قالا: وَاتْرُكْ الْبَحْرَ رَهْوًا يعني سهلاً، اترك البحر سهلاً، وهذا يرجع إلى القول الأول، وهكذا قول من قال: اتركه طريقًا ككعب والحسن البصري، وقول من يقول: اتركه يبسًا، الشيء نفسه، كل هذا يرجع إلى الأول كما جاء عن عكرمة -رحم الله الجميع.

على كل حال المعنى: اتركه على هيئته، فرهوًا هذا يرجع إلى البحر، وليس يرجع إلى موسى -عليه الصلاة والسلام.

قال: ثم قال تعالى:كَمْ تَرَكُوا مِن جَنَّاتٍ وهي البساتين وعُيُونٍ ۝ وزُرُوعٍ، والمراد بها الأنهار والآبار، وَمَقَامٍ كَرِيمٍ وهي المساكن الأنيقة، والأماكن الحسنة، وقال مجاهد وسعيد بن جبير: وَمَقَامٍ كَرِيمٍ: المنابر.

قال: المنابر في معنى وَمَقَامٍ كَرِيمٍ، مجاهد وسعيد بن جبير يقولان: المنابر، الآن عندنا المَقام والمُقام بعضهم يفرق بينهما، يقول: المَقام بالفتح مكان القيام، والمُقام مكان الإقامة، فهنا ماذا قال؟ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ مكان القيام، إذا كان مكان القيام فهذا هو الذي حمل -والله أعلم- هؤلاء على القول بأن المقصود به المنابر، مقام كريم: مقامات يقومون بها، هذا عند من فرق هذا التفريق.

وهنا قال: وَمَقَامٍ كَرِيمٍ وهي المساكن الأنيقة والأماكن الحسنة، يعني هذا مكان الإقامة، في صبيحة واحدة انتهى كل شيء فرعون والكبراء الذين معه، الجيش، الرجال، ما بقي إلا الضعفاء والخدم، والخدم أصلاً كانوا من بني إسرائيل، وخرجوا مع موسى ﷺ، بقي الناس والأطفال، هذه قوة الله ، وكان هذا الهلاك بأسهل الأشياء، بالماء الذي كان فرعون يعتز ويفتخر ويقول: أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي [سورة الزخرف:51] فأراه الله كيف صارت الأنهار تجري من فوقه، كيف صار الماء يجري من فوقه، ثم يخرج كأني أراه عاريًا ليس عليه ما يواري سوءته يلقيه الموج إلى الشاطئ كأنه قشة، جثة هامدة لا حراك فيها، هذا الذي يدعي الإلهية فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى [سورة النازعات:24] يغرق بالماء، انظر كيف بأس الله  الذي لا يرد عن القوم المجرمين.

وعاد التي كانت تفتخر بقوتها وجبروتها وما أوتيت من ضخامة الأجسام أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ ۝ إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ ۝ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ [سورة الفجر:6، 7] ماذا فعل الله بهم؟ ريح، الهواء هذا الساكن، هذا الهواء اللطيف الرقيق، هلاك هؤلاء العتاة الكبار بالماء والهواء، فهذا الذي يدعي الإلهية يصارع ويعارك ثم هو وجنده وعسكره وخيولهم وبعارينهم وحميرهم وبغالهم كلهم في الماء.

وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي انظر كيف تجري الأنهار من تحتك، فنحن ينبغي أن نعظم الله، وأن نعرف عظمته وقدره وقوته وبأسه، وإذا أردنا النصر حقيقة فالنصر يأتي من عند الله وليس من أعدائه، وَمَا جَعَلَهُ اللّهُ إِلاَّ بُشْرَى [سورة الأنفال:10] ألف ملَك ينزلون بشرى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ ملائكة، فما قيمة البشر وعتاد البشر وأسلحة البشر؟!

لكن القوة الحقيقية هي في أمر مقدور لنا، الذي في أيدي الأعداء ليس بمقدور لنا، ولا يعطونك إياه إلا بما هو أسوأ وأنكأ، فأنت بين خيارين أحلاهما مر، لكن أسباب النصر مقدورة إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ [سورة محمد:7]، وتفاصيل هذه الجملة وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ [سورة الأنفال:46] فإذا حققنا هذا انتصرنا، وأما القوة فلسنا بمطالبين بأكثر مما نطيق، وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ [سورة الأنفال:60] لا نطالَب بأكثر من هذا، لكن حينما لا نحقق هذا فنكون متفرقين وكل واحد يقول: نحن هنا لا يأتي النصر، هذا أمر باليد ومع ذلك نعرض عنه وننتظر من أعدائنا أن يمدونا، وأن يقوونا، وأن يعينونا.

وأقبح من هذا كله أولائك الذين قد ضيعوا العقود المتطاولة، وضيعوا مقدسات المسلمين على مفاوضات ومحادثات لا تجلب لهم نفعًا ولا تدفع عنهم ضرًا ولا تغير من الواقع شيئًا، بل تزيده سوءًا، محادثات كثيرة، ولكن لا قيمة لشيء منها، كانت قضية فلسطين قضية الأمة ، ثم صارت القضية العربية، ثم ما لبثت أن صارت قضية الشرق الأوسط، ثم صارت القضية الفلسطينية، الشأن الفلسطيني فقط، هذا محصور في فلسطين البقية ما لهم علاقة، إندونيسيا لا علاقة لها بالموضوع، ونحن نتقبل ونردد العبارات نفسها القضية الفلسطينية هذا شأن فلسطيني.

هذا ليس شأن فلسطين فحسب هذا شأن الأمة جميعًا، والحوار والجدل والنقاش على حدود 67، نحن لا نعرف لا 67 ولا 48 ولا 45 نحن نعرف أن هؤلاء شذاذ الآفاق حقهم القتل، أعداء الله وأعداء رسله -عليهم الصلاة والسلام، وأن هؤلاء لا حق لهم في فلسطين، وأنه ينبغي أن تُغسل الأرض وتطهر منهم تمامًا، ليس هناك شيء اسمه 67 ولا 65 ولا 27 إطلاقًا، تجد الجدل كله 67 وحدود 67، الكلام كله على هذا الآن، ومن قال: لهم حق في 67 أو ما قبل 67 أو قبل 47؟

هذا لا قيمة له، فكيف يُضلَّل الناس وتصير القضية هي فقط في هذا الحد أو ذاك الحد، ما في حد، حد السيف هو الذي ينبغي أن يكون بيننا وبين هؤلاء اليهود، لكن نصر الله آتٍ، نحن لا نشك في هذا، ولكن الأمة إلى الآن ما تهيأت لهذا النصر، ولا استكملت أسبابه، ولا نقول هذا والله تكثرًا، ولا نقوله من باب التفاؤل الذي لا يبنى على أساس، أنا أقوله وأتيقنه أعظم من مشاهدتكم، ولعلنا ندرك ذلك اليوم، لا نشك في هذا طرفة عين.

ودائمًا أتخيل وأتذكر هذه المذابح، وأقول: سيأتي رجال في أصلاب آبائهم ويقولون: كيف جرى هذا؟ كيف وقع هذا؟ أين الناس؟ والله المستعان، وإلا فهؤلاء إذا حقت الحقائق هم من أشد الناس هلعًا ورعبًا وخوفًا، لكنهم جعلوا من أنفسهم هالة وجيشًا لا يقهر، وإذا جاء الجد رأيتهم صبيانًا يبكون، يلملمون بعضهم ويبكون بكاء النساء، هذا الجيش الذي لا يقهر كيف يثبت أصلاً؟! ما عنده مقومات، لا يذكر الله ولا يعرفه ولا يصلي، لا يعرف الله ، فالذي ما عرف ربه هذا ريشة في مهب الريح العاصف، قلبه في كل مكان، هذا لا يثبت، كيف يقال: جيش لا يقهر وجيش لا يدحر؟

هؤلاء لو حقت الحقائق وواجهوا أهل الإيمان والله لا يمكن أن يكون لهم ولا لغيرهم من أعداء الله أدنى ثبات، هؤلاء لا يريدون إلا الدنيا، هؤلاء لا يعرفون الله والذي لا يعرف الله كيف يعيش أصلاً؟ فكيف إذا جاء الخوف؟ هو خائف بدون شيء المصحات النفسية والقلق والهلع والموت يرونه صباح مساء في أيام العافية، فكيف لو جاء الخوف؟!

ما رأيتم الصواريخ هذه التي في غزة الواحد قدر الذراع يعملونها في ورش، هذه إذا جاءت يهرولون، مساكين، الوزير والفقير، يهربون ويفرون، وانظر كيف إخواننا في سوريا يتلقون هذا الضرب!! لو وُجه لهؤلاء اليهود أنا متأكد أنهم يموتون بدون إصابات، لو وجه لهم هذا الدك والضرب سيموتون، ومن يبقى منهم حيًّا فإن ذلك لفقد عقله، خلاص عقله انتهى أصلاً، ما عاد يعقل، صار مخبولا، هذه هي الحقيقة، فالذي لا يعرف الله  لا يستطيع أن يثبت، ولا أن يعيش، هذا تنتابه المخاوف، انظر إلى المسلمين الآن الذين عندهم تقصير في هذا الجانب كيف يعيشون في قلق فكيف بالكافر؟

قال المؤلف -رحمه الله: قال الله : وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ أي: عيشة كانوا يتفكهون فيها فيأكلون ما شاءوا، ويلبسون ما أحبوا مع الأموال والجاهات والحكم في البلاد، فسُلبوا ذلك جميعه في صبيحة واحدة، وفارقوا الدنيا، وصاروا إلى جهنم وبئس المصير.

وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ النَّعمة بالفتح هي التنعم، وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ [سورة المزمل:11] يعني أهل التنعم، وأما النِّعمة بالكسر فتقال للمنة، وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ [سورة الشعراء:22]، وتقال أيضًا لما تُعطاه من النعم كالعافية والمال والولد وما أشبه ذلك مما أنعم الله به عليك، ولهذا يقال: فلان مثلاً واسع النعمة، يعني كثير المال مثلاً، وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ "فاكهين" على قراءة الجمهور بالألف، وفي قراءة أخرى عشرية {فكهين} الفاكه هو المتنعم الذي أثر ذلك في نفسه فصارت طيبة، فاكهين يعني يعيشون في حال من الراحة بهذه النعم، مرتاحين، تقول: فلان مرتاح تقصد أنه ما يكون في حال من المعاناة والكد في طلب لقمة العيش، وعلى القراءة الأخرى {فكهين} يعني أشِرين بطِرين، الرجل الفكِه يقال لصاحب الفكاهة والدعابة والضحك، يعني أورثتهم النعمة حالاً من البطَر والأشَر وما إلى ذلك، وبعضهم يقول: هما لغتان، وبعضهم يقول: الفاكه هو المتلذذ بأنواع اللذات والنعم، متنعم بها كما يتنعم الإنسان بأنواع الفاكهة، والفكاهة تقال -كما هو معروف- للضحك والهزل، هؤلاء كانوا فاكهين يعني كانوا منعمين، هذا التنعم يورثهم شيئًا من السرور والراحة، وما إلى ذلك.

قال: قال الله : كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ وهم بنو إسرائيل، وقوله : فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاء...

الآن كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ قال: يعني بني إسرائيل كما في الآية الأخرى أن الله صرح بهؤلاء القوم قال: "كذلك وأورثناها بني إسرائيل" هذا من تفسير القرآن بالقرآن، هذا من تفسير المبهم، وهذا من النوع القطعي في تفسير القرآن بالقرآن، كما ذكرت لكم أن منه ما يحتمل، ومنه ما يقطع بصحته، ومنه ما قد يُردّ؛ لأن المفسر أخطأ في الربط بين الآيات، لكن قوله: كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ الكاف هنا في محل رفع على أنها خبر لمبتدأ محذوف، يعني الأمر كذلك، هذا قال به بعض أصحاب المعاني كالزجاج، الأمر كذلك أورثناها، ويمكن أن تكون الكاف في محل نصب، والإشارة إلى مصدر فعل يدل عليه "تركوا"، يعني مثل ذلك السلب سلبناهم إياها، أو مثل ذلك الإخراج أخرجناهم منها، أو مثل ذلك الإهلاك أهلكناهم، على الاعتبار الأول هي في محل رفع على أنها خبر لمبتدأ محذوف، أي الأمر كذلك، ويكون قوله: وَأَوْرَثْنَاهَا معطوفًا على "تركوا"، وعلى الوجوه الأخرى يكون معطوفًا على الفعل المقدر.

قال: وقوله : فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاء وَالْأَرْضُ أي: لم تكن لهم أعمال صالحة تصعد في أبواب السماء فتبكي على فقدهم، ولا لهم في الأرض بقاع عبدوا الله تعالى فيها فقدتهم، فلهذا استحقوا ألا يُنظروا ولا يؤخروا لكفرهم وإجرامهم وعتوهم وعنادهم.

هذا الذي قال به كثير من السلف فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاء ما كانت هناك بقاع يعبدون الله عليها فتفقدهم، ولا عمل يرفع إلى السماء فيُفقد صاحبه إذا هلك، والعرب أيضًا على نوع من الاتساع يعبرون بمثل هذا يعني أن فقده لا يعني شيئًا، ما بكت عليه السماء ولا الأرض، ذهب فرعون وقوم فرعون، فذهابهم لا شيء، ما تغيرت حال الدنيا، كل شيء ماضٍ على حاله، حتى البحر الذي انفلق رجع بعدما أدى المهمة، وعاد كل شيء كما كان، لكن الأسماك وجدت غذاء وطعامًا، رُزقت بدعوة غيرها.

قال: وروى ابن جرير عن سعيد بن جبير قال: أتى ابنَ عباس -رضي الله عنهما- رجلٌ فقال: يا أبا العباس، أرأيت قول الله : فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاء وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ فهل تبكي السماء والأرض على أحد؟ قال : نعم إنه ليس أحد من الخلائق إلا وله باب في السماء منه ينزل رزقه، وفيه يصعد عمله، فإذا مات المؤمن فأغلق بابه من السماء الذي كان يصعد فيه عمله وينزل منه رزقه ففقده بكى عليه، وإذا فقده مصلاه من الأرض التي كان يصلي فيها ويذكر الله فيها بكت عليه، وإن قوم فرعون لم تكن لهم في الأرض آثار صالحة، ولم يكن يصعد إلى الله منهم خير، فلم تبكِ عليهم السماء والأرض"[7]، وروى العوفي عن ابن عباس -رضي الله عنهما- نحو هذا.

هذا هو الأقرب، -والله أعلم.

وجاء عن الحسن أن المقصود فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاء يعني أهل السماء وَالْأَرْضُأهل الأرض.

قال: وقوله -تبارك وتعالى: وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ ۝ مِن فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِّنَ الْمُسْرِفِينَ يمتن عليهم تعالى بذلك حيث أنقذهم مما كانوا فيه من إهانة فرعون وإذلاله لهم وتسخيره إياهم في الأعمال المهينة الشاقة، وقوله تعالى: مِن فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا أي: مستكبرًا جبارًا عنيدًا كقوله : إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ [سورة القصص:4].

يعني هنا: وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ ما هذا العذاب؟ مِن فِرْعَوْنَ فيكون مِن فِرْعَوْنَ بدلًا من العذاب، يعني كأنه جُعل نفس العذاب على سبيل المبالغة، ويحتمل أن يكون على حذف مضاف، يعني من عذاب فرعون، أو على أنه حال من العذاب تقديره: من العذاب المهين صادرًا من فرعون، لكن الأول كأنه أقرب -والله تعالى أعلم، مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ ما هو هذا العذاب المهين؟ مِن فِرْعَوْنَ، فإذا ذُكر فرعون كفى، يعني ذُكر الشر.

قال: وقولِه -جلت عظمته: فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ [سورة المؤمنون:46]، من المسرفين أي مسرف في أمره سخيف الرأي على نفسه، وقوله : وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ قال مجاهد: اخترناهم على علم على العالمين على من هم بين ظهريه.

يعني على عالَم زمانهم كما يقوله أكثر السلف؛ لأن هذه الأمة أفضل منهم، وبعضهم يقول: باعتبار كثرة الأنبياء من بني إسرائيل، كل الأنبياء الذين جاءوا بعد إبراهيم ﷺ كانوا من بني إسرائيل إلا محمدًا ﷺ فمن نسل إسماعيل -عليه الصلاة والسلام، وإلا فالبقية من أنبياء بني إسرائيل، فبهذا الاعتبار يكون هذا الاصطفاء والاجتباء وأنه لا يوجد أمة بهذه المزية، لكن الكلام على الاصطفاء هنا المزية لا تقتضي الأفضلية بإطلاق، يعني ليسوا بأفضل من هذه الأمة، والله قال: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا [سورة فاطر:32]، يعني هذه الأمة، فهذه الأمة أفضل من بني إسرائيل قطعًا، والله فضلهم على عالمي زمانهم وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ [سورة البقرة:47] يعني عالَم زمانهم، فلما كفروا وعتوا لعنهم الله وحلت بهم نقمته.

قال: وقال قتادة: اختيروا على أهل زمانهم ذلك، وكان يقال: إن لكل زمان عالَمًا، وهذا كقوله تعالى: قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ [سورة الأعراف:144] أي: أهل زمانه ذلك، كقوله لمريم -عليها السلام: وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ [سورة آل عمران:42] أي: في زمنها، فإن خديجة -رضي الله عنها- إما أفضل منها أو مساوية لها في الفضل، وكذا آسيا بنت مزاحم امرأة فرعون، وفضل عائشة -رضي الله عنها- على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام، وقوله : وَآتَيْنَاهُم مِّنَ الْآيَاتِ أي: الحجج، والبراهين، وخوارق العادات، مَا فِيهِ بَلَاء مُّبِينٌ أي: اختبار ظاهر جلي لمن اهتدى به.

لاحظ وَآتَيْنَاهُم مِّنَ الْآيَاتِ الآيات بمعنى العلامات والحجج إلى آخره، مَا فِيهِ بَلَاء مُّبِينٌ البلاء هنا فسره بالاختبار، والبلاء يأتي بمعنى الاختبار، لكن هذا الاختبار تارة يكون بالخير، وتارة يكون بالشر، تارة يكون بالرخاء، وتارة يكون بالشدة.

فمن أهل العلم من قال: لمّا كان هذا في بني إسرائيل وليس في الفراعنة فهو يمتن عليهم وَآتَيْنَاهُم مِّنَ الْآيَاتِ مَا فِيهِ بَلَاء مُّبِينٌ، فهو يذكر نعمه على بني إسرائيل، ولهذا جاء عن بعض السلف كقتادة أن هذا في النعم، يعني أن قتادة عدد الأشياء التي هي من قبيل النعم على بني إسرائيل، يعني مثل إنجاء بني إسرائيل من فرعون، وكذلك أيضًا أنزل عليهم المن والسلوى، وظلل عليهم الغمام، وفلق لهم البحر، إلى غير ذلك.

فالبلاء المبين هنا النعم، فهذا في مقام امتنان على بني إسرائيل، كيف أن الله اصطفاهم وآتاهم من الآيات ما فيه بلاء مبين، يعني أعطاهم نعمًا متتابعة ومع ذلك حصل منهم ما حصل، فالبلاء المبين هنا مشى قتادة على أنه هذه النعم؛ ولهذا جاء عنه أن ذلك يراد به النعمة الظاهرة، يقال: البلاء المبين هو النعمة الظاهرة، هكذا فسر البلاء المبين.

وابن جرير في هذا الموضع قال: البلاء المبين هنا يحتمل البلاء الذي قد يكون في الرخاء، والذي قد يكون بالشدة، فقد يكون هذا البلاء المبين بما ذكر من هذه النعم، وقد يكون بما ابتلاهم الله -تبارك وتعالى- به من ألوان الشدائد كالتيه الذي حصل لهم، قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ [سورة المائدة:26] فهذا بلاء شدة، فابن جرير يقول: لما كان البلاء يأتي لهذا وهذا وليس عندنا دليل يدل على أحدهما فيحتمل أن يكون المراد البلاء بالنعمة، ويحتمل أن يكون البلاء بالشدائد، يقول: ليس عندنا دليل على أحدهما، هذا الموضع لم يرجح فيه، لم يجمع بين القولين، هذا مثال على النوع الثاني الذي ذكرته، يقول: يحتمل هذا، وهذا.

  1. رواه ابن جرير الطبري في تفسيره (22/ 14).
  2. رواه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ [سورة الدخان:11]، برقم (4821).
  3. رواه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ [سورة الدخان:10]، برقم (4820).
  4. رواه أبو داود، كتاب الملاحم، باب أمارات الساعة، برقم (4311)، والترمذي، كتاب الفتن عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء في الخسف، برقم (2183)، وأحمد في المسند، برقم (16144)، وقال محققوه: "إسناده صحيح، لكن اختلف في رفعه ووقفه".
  5. رواه البخاري، كتاب الجنائز، باب إذا أسلم الصبي فمات هل يصلى عليه، وهل يعرض على الصبي الإسلام، برقم (1354)، ومسلم، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب ذكر ابن صياد، برقم (2924).
  6. رواه البخاري، أبواب الاستسقاء، باب دعاء النبي ﷺ: "اجعلها عليهم سنين كسني يوسف"، برقم (1006)، ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب استحباب القنوت في جميع الصلاة إذا نزلت بالمسلمين نازلة، برقم (675).
  7. رواه ابن جرير الطبري في تفسيره (22/ 34).

مواد ذات صلة