الجمعة 19 / رمضان / 1445 - 29 / مارس 2024
[5] من قوله تعالى: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا} الآية:57 إلى قوله تعالى: {لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ} الآية:73
تاريخ النشر: ٠٥ / رجب / ١٤٣٤
التحميل: 6201
مرات الإستماع: 2620

بسم الله الرحمن الرحيم

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ ۝ وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلا جَدَلا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ ۝ إِنْ هُوَ إِلا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ ۝ وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الأَرْضِ يَخْلُفُونَ ۝ وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ۝ وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ۝ وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ۝ إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ۝ فَاخْتَلَفَ الأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ [سورة الزخرف:57-65].

بسم الله الرحمن الرحيم

 الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، وبعد.

اللهم اغفر لنا ولشيخنا وللحاضرين، يقول الإمام الحافظ ابن كثير: يقول تعالى مخبرًا عن تعنت قريش في كفرهم وتعمدهم العناد والجدل: وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ قال غير واحد عن ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، والضحاك، والسدي: يضحكون، أي: أعجبوا بذلك.

وقال قتادة: يجزعون ويضحكون، وقال إبراهيم النخعي: يعرضون.

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقوله -تبارك وتعالى: وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلا من الذي ضربه مثلاً؟ الحافظ ابن كثير -رحمه الله- لم يتطرق إلى هذا من الذي ضربه مثلاً فحصل منهم هذا الذي ذكره بعده إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ؟

عامة السلف كما تدل عليه أيضًا الرواية عن ابن عباس -رضي الله عنهما- في سبب النزول أن النبي ﷺ لما ذكر لهم أن الآلهة التي تعبد من دون الله لا خير فيها، هكذا في الرواية عن ابن عباس التي صح سندها في سبب النزول غير ما ذُكر هنا من روايات لا تخلو من ضعف، فكان الإيراد على ذلك أنهم سألوا النبي ﷺ عن المعبودات من الشمس والقمر وما إلى ذلك فأخبر أنها في النار، ثم سألوه عن المسيح -عليه الصلاة والسلام، عُبد من دون الله المسيحُ، الملائكةُ، عزيرٌ، فقرأ عليهم: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ [سورة الأنبياء:101].

فالحاصل أنهم فرحوا بذلك، يعني فرحوا بهذا الاعتراض بإيراد المسيح -عليه الصلاة والسلام، يعني كأنهم خصموا النبي ﷺ، وهنا روايات لا تخلو من ضعف أن ابن الزِّبَعْرى قال: إنه سيخصم النبي ﷺ لما بلغته هذه الآية: إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ [سورة الأنبياء:98] ما تعبدون، كل ما تعبدون في النار، فهذا أورَدَ المسيح أنه عُبد من دون الله إذًا هو في النار، وأنت تثني عليه وتذكره بخير، يعني زعموا أنهم خصموا النبي ﷺ فرحوا بهذا الإلزام بزعمهم، فضجوا فرحًا، هذا وجه.

وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ من الذي ضربه مثلاً؟ يكون ضرب المثل بعيسى ﷺ من قبل المعترض المعارض للنبي ﷺ، الاحتمال الآخر أن يكون ذلك وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلا كما يقول ابن جرير -رحمه الله: لما شبه الله عيسى -عليه الصلاة والسلام- في إحداثه وإنشائه إياه من غير أب بآدم إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ [سورة آل عمران:59] يعني هذا دليل على قدرة الله وليس ذلك يقتضي أن يتوجب التقديس والعبادة لعيسى -عليه الصلاة والسلام، بل يدل على عظمة الله وقدرته، فلما شبه الله عيسى بآدم حيث خلق عيسى -عليه الصلاة والسلام- من غير أب وآدم من غير أب ولا أم إذا هؤلاء الكفار يضجون من هذا المثل.

لماذا يضجون؟ ابن جرير يقول: يقولون: ما يريد محمد إلا أن نعبده كما عبدت النصارى ابن مريم، يعني قالوا: أنت تذكر المسيح ماذا تريد؟ تهدف إلى ماذا مِن ذكر المسيح؟ حينما تذكرنا بالمسيح هل تريد منا أن نعبدك كما عبدت النصارى المسيح؟

فالمقصود أنه على قول ابن جرير: وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلا يكون من الذي ضربه؟ هو الله إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ ضجوا، لماذا ضجوا؟ فرحًا؟ لا، جزعًا ونفورًا قالوا: ما تريد إلا أن نعبدك كما عبدته النصارى، لماذا تذكر المسيح؟ هذا في ضرب المثل.

وقد مضى الكلام على ضرب المثل مفصلاً ما معنى ضرب المثل، وذكرنا قريبًا أيضًا إشارة إلى هذا أليس كذلك؟

وقلنا: الضرب يأتي لمعانٍ منها: ضَربَ الخباء بمعنى أقامه، فضرب المثل يحتمل أن يكون بمعنى إقامة المثل، أو إبراز المثل، ويأتي الضرب بمعنى ضرب العملة وصياغتها، فيكون ضرب المثل بمعنى صناعة المثل، أو صياغة المثل، والضرب في الأرض السير فيها، كل هذا مضى، وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلا أقيم، جُعل، صُير بهذه المثابة، وعرفنا أن المثل يرجع إلى معنى الشبه في غالب استعمالاته، إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ نقل هنا عن جماعة من السلف قال: يضحكون، يعني فرحًا وإعجابًا بذلك، إعجابًا بالإلزام والاعتراض، وقال قتادة: يجزعون ويضحكون، وقال إبراهيم النخعي: يعرضون.

لاحظ هذه المعاني المذكورة كل هذا بأي اعتبار؟ بحسب ما يفسر به ما قبله، من الذي ضرب المثل؟ إذا قلنا: المقصود أن الله -تبارك وتعالى- ضرب به المثل إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ فهذا أوجب لهم النفور، وإذا كان الذي ضربه واحد منهم معارضة لقوله تعالى: إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ [سورة الأنبياء:98] فيكون ذلك على سبيل الفرح بهذا الاعتراض والإلزام بزعمهم.

وقوله: يَصِدُّونَ فيه قراءتان: "يصِدون" ويصُدون، فقراءة نافع وابن عامر والكسائي بالضم يصُدون، جمع من أصحاب المعاني يقولون: هما لغتان، المعنى واحد، هذا يقول به كبارهم كالفراء والكسائي والزجاج، "يَصِدون" و"يَصُدون" لا فرق، لغتان والمعنى واحد، يعني يضجون وما إلى ذلك، وبعضهم فرق بين اللغتين فقال: إنه بالكسر يضجون، "يصِدون" يعني يضجون، يصيحون، وبالضم "يصُدون" يعني يعرضون.

وأبو عبيد -رحمه الله- الإمام في التفسير واللغة والقراءات كما هو معروف وهو من أهل الحديث والفقه يقول: إن المعنى هنا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ يعني يضجون ويضحكون إلى آخره مما ذكر من الألفاظ القريبة من هذا المعنى، وليس معناه الإعراض، ما الذي حمله على هذا التفسير؟ قال: إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ لو كان المراد الإعراض لقال: عنه، هنا قال: "منه" ولم يقل: عنه، ولو قال: عنه لقلنا: هذا بمعنى الإعراض، لكن لما قال: "منه" دل على أن المراد يضحكون وليس يعرضون، لكن هذا لم يسلَّم له.

الفراء يقول: إن حروف الجر تتناوب فمنه وعنه مؤداهما واحد، مع أننا عرفنا أن الفراء يقول: هما لغتان، ويفسر ذلك بمعنى يضجون إلى آخره، يعني هو يتفق مع أبي عبيد في النتيجة إلا أن أبا عبيد نظر إلى التعدية الحرف منه وعنه، والفراء نظر إلى أن يصِدون ويصُدون معناهما واحد، وأن أسباب النزول الواردة والسياق يدل على أنهم كانوا يضجون ويضحكون من هذا المثل، وليس معناه ينفرون، فلو فُرق بين القراءتين وقيل: كل واحدة لها معنى لكان "يصُدون" على قراءة الضم يعني يعرضون، وقراءة الكسر يعني يضجون، يضحكون وما إلى ذلك.

والعبارات التي ذكرت في معنى "يصدون" عبارات متقاربة ترجع إلى شيء واحد غير المعنى الآخر الذي ذكر يعني يعرضون، يعني على المعنى الأول يضجون، يضحكون، يصيحون فرحًا بذلك المثل المضروب، هذه كلها عبارات متقاربة، يعني أنهم لما ذُكر هذا المثل ارتفعت أصواتهم فرحًا واستبشارًا ضحكًا أنهم خصموا النبي ﷺ، هذا على قول الأكثر باعتبار أن الذي ضرب المثل -صدر منه ضرْب المثل- هو المعارض.

انظر إلى هذه الروايات مع شهرتها لكن هذا قول الأكثر، يعني هذه الرواية التي يذكرها هنا من أن ذلك صدر من النضر بن الحارث -يعني المعارضة، هذا الذي عليه عامة المفسرين، مع أن الرواية لا تخلو من ضعف، لكن الخبر له أصل كما جاء عن ابن عباس -رضي الله عنهما، قصة النضر حسنها الشيخ الألباني، عامة المفسرين يذكرون هذه في سبب النزول، يعني هي في إسنادها ضعف، ولكن بمجموع الطرق والروايات تعتضد، فالرواية لها أصل، وإن كانت لا تخلو الطرق من ضعف.

وكان السبب في ذلك ما ذكره محمد بن إسحاق في السيرة...

لاحظ محمد بن إسحاق أصلا ضعيف وقال: فيما بلغني، فالرواية فيها ضعف، لكن مجموع الروايات يدل على أن أصل القضية ثابت.

حيث قال: وجلس رسول الله ﷺ -فيما بلغني- يومًا مع الوليد بن المغيرة في المسجد، فجاء النضر بن الحارث حتى جلس معهم، وفي المجلس غير واحد من رجال قريش، فتكلم رسول الله ﷺ، فعرض له النضر بن الحارث، فكلمه رسول الله ﷺ حتى أفحمه، ثم تلا عليه وعليهم: إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ الآيات [سورة الأنبياء:98]، ثم قام رسول الله ﷺ، وأقبل عبد الله بن الزِّبَعْرى التميمي حتى جلس، فقال الوليد بن المغيرة له: والله ما قام النضر بن الحارث لابن عبد المطلب وما قعد، وقد زعم محمد أنا وما نعبد من آلهتنا هذه حصب جهنم، فقال عبد الله بن الزبعرى: أما والله لو وجدته لَخَصَمْتُه، سلوا محمدًا: أكلّ ما يعبد من دون الله في جهنم مع من عبده، فنحن نعبد الملائكة، واليهود تعبد عزيرًا، والنصارى تعبد المسيح عيسى ابن مريم؟

فعجب الوليد ومن كان معه في المجلس من قول عبد الله بن الزبعرى، ورأوا أنه قد احتج وخاصم، فذُكِر ذلك لرسول الله ﷺ فقال: كل من أحب أن يعبد من دون الله فهو مع من عبده، فإنهم إنما يعبدون الشيطان ومن أمرهم بعبادته[1]، فأنزل الله : إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ [سورة الأنبياء:101] أي: عيسى وعزير ومن عُبد معهما من الأحبار والرهبان الذين مضوا على طاعة الله ، فاتخذهم من يعبدهم من أهل الضلالة أربابًا من دون الله، ونزل فيما يُذكر من أنهم يعبدون الملائكة وأنهم بنات الله: وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ الآيات [سورة الأنبياء:26]، ونزل فيما يذكر من أمر عيسى -عليه الصلاة والسلام- وأنه يعبد من دون الله، وعجب الوليدِ ومن حضره من حجته وخصومته: وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ أي: يصدون عن أمرك بذلك من قوله.

ثم ذكر عيسى فقال: إِنْ هُوَ إِلا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ ۝ وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الأرْضِ يَخْلُفُونَ ۝ وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ أي: ما وضعت على يديه من الآيات من إحياء الموتى وإبراء الأسقام، فكفى به دليلا على علم الساعة، يقول: فَلا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ.

وذكر ابن جرير من رواية العَوفي، عن ابن عباس قوله: وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ قال: يعني قريشًا لما قيل لهم: إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ [سورة الأنبياء:98] إلى آخر الآيات، فقالت له قريش: فما ابن مريم؟ قال: ذاك عبد الله ورسوله، فقالوا: والله ما يريد هذا إلا أن نتخذه ربًّا، كما اتخذت النصارى عيسى ابن مريم ربًّا، فقال الله تعالى مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلا جَدَلا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ[2].

هذه الرواية هي لا تخلو من ضعف أيضًا، بالإضافة إلى أن سبب النزول هنا غير صريح، قال: فقال الله مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا، مع أن الغالب أن مثل هذا السياق يقصد به سبب النزول، لكن الرواية لا تخلو من ضعف، وكأن ابن جرير -رحمه الله- اعتمد على هذا حينما فسره بالإعراض، أنهم نفروا حيث قالوا: إن محمدًا ما يريد إلا أن نعبده كما عبدت النصارى ابن مريم، لكن الرواية لم تصح، والذي عليه عامة أهل العلم -قول الجمهور- أن "يصدون" بمعنى يضحكون، ويذكرون ما سبق في سبب النزول وأن الذي ضرب المثل هو المعارض وهو ابن الزبعرى، فكان ذلك من قبيل الفرح بهذا الاحتجاج والإلزام.

وقوله: وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ قال قتادة: يقولون: آلهتنا خير منه، وقال قتادة: قرأ ابن مسعود: وقالوا أآلهتنا خير أم هذا، يعنون محمدًا ﷺ.

يعني هنا وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ ابن جرير -رحمه الله- ذهب إلى أن الضمير هنا يرجع إلى النبي ﷺ، يعني كما سبق بناء على قوله فهو يطرد معه، أنهم قالوا بناء على كلام ابن جرير الأول، بناء على الرواية السابقة عن ابن عباس التي قلنا: لا تخلو من ضعف، قالوا: ما يريد هذا إلا أن نتخذه ربًّا كما اتخذت النصارى عيسى ابن مريم ربًّا، فكان ذلك بمعنى ينفرون، على قول ابن جرير وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ أي: خير أم محمد -عليه الصلاة والسلام؟ يعني يريد أن نعبده أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ؟ فنحن لا نترك آلهتنا.

ابن جرير يطّرد مع قوله، والجمهور على قولهم بأنهم يضجون فرحًا بالإلزام إلى آخره في قصة عيسىﷺ لما اعترضوا به وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ، يعني أم عيسى -عليه الصلاة والسلام؟ هذا الذي عليه عامة المفسرين، بمعنى أنهم يقولون: إذا كان كل من عبد من دون الله في النار فنحن نرضى أن تكون آلهتنا مع عيسى وعزير والملائكة، فهذا الذي عليه عامة أهل العلم، وهو الأقرب -والله أعلم، والشيخ الشنقيطي -رحمه الله- تكلم على هذا ورجح هذا القول أيضًا، يراجع كلامه.

وقراءة ابن مسعود: وقالوا أآلهتنا خير أم هذا يعنون محمدًا ﷺ، القراءة الأحادية تفسر المتواترة.

وقوله: مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلا جَدَلا أي: مراء، وهم يعلمون أنه ليس بوارد على الآية؛ لأنها لما لا يعقل.

يعني هذا رد العلماء عليهم، إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ العلماء يردون عليهم يقولون: أصلاً ابن الزبعرى هذا مجادل وهم كذلك -أي المشركون، وليس لهم أصلاً أن يفرحوا بمثل هذه الحجة التي لا يصح الاستدلال بها، لماذا؟ قالوا: إنه قال: إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ فـ"ما" تستعمل لغير العاقل فيدخل فيها الأوثان والأصنام والأحجار والأشجار التي يعبدونها، هذه الأشياء التي لا تعقل، وأن العاقل يعبر عنه بـ"مَن"، ما قال: إنكم ومَن تعبدون من دون الله، قالوا: أصلاً ابن الزبعرى مخصوم منذ البداية والآية لا تدل على هذا، هذا رد العلماء، كثير من العلماء رد بهذا الرد.

لكن ابن الزبعرى ومن معه يبقى أنهم عرب ويفهمون اللغة، هم أهل الفصاحة، فالمعروف أنه تستعمل مثل هذه الصيغ التي هي لغير العاقل مثلاً للعاقل لعلل معينة معلومة يذكرها أهل العربية، يذكرون ثلاث علل لاستعمال "ما" التي هي لغير العاقل لما يعقل، والعكس "من" فيما لا يعقل، مِن هذه العلل في الاستعمال: التغليب، هذه المعبودات التي تعبد من دون الله كثيرة جدًّا منها أشجار وأحجار ومياه وفئران وبقر وشمس وقمر وكواكب، فهذه أكثر مما عُبد مما يعقل، ما الذي عُبد مما يعقل؟

عُبدت الملائكة ليس المقصود أفراد الملائكة فهم كثر لا يعلمهم إلا الله لكن جنس الملائكة، والمسيح، وعزير -عليهم الصلاة والسلام، فعلى هذا يكون من باب التغليب إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي: ردُّ أهل العلم ابتداء عليهم لو كان هذا فعلاً لا يرِد لكان الرد عليهم بهذه الطريقة: أن الآية أصلا لا تشمل هؤلاء في لفظها وفي صيغتها، لكن ما جاء الرد هكذا.

أي مراءً وهم يعلمون أنه ليس بوارد على الآية؛ لأنها لما لا يعقل، وهي قوله: إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ [سورة الأنبياء:98]، ثم هي خطاب لقريش، وهم إنما كانوا يعبدون الأصنام والأنداد، ولم يكونوا يعبدون المسيح حتى يوردوه، فتعين أن مقالتهم إنما كانت جدلاً منهم، ليسوا يعتقدون صحتها.

وقد روى الإمام أحمد -رحمه الله تعالى: عن أبي أمامة قال: قال رسول الله ﷺ: ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أورثوا الجدل، ثم تلا هذه الآية: مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلا جَدَلا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ[3]، ورواه الترمذي، وابن ماجه، وابن جرير، ثم قال الترمذي: حسن صحيح لا نعرفه إلا من حديثه.

وقوله: إِنْ هُوَ إِلا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ يعني: عيسى -عليه الصلاة والسلام- ما هو إلا عبد من عباد الله أنعم الله عليه بالنبوة والرسالة، وَجَعَلْنَاهُ مَثَلا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أي: دلالة وحجة وبرهانًا على قدرتنا على ما نشاء.

الآن هذه الضمائر متتابعة كلها في عيسى -عليه الصلاة والسلام، فالقول: إن الضمير في قوله: وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ المقصود به هو محمد ﷺ من قال ذلك يكون قد فرق الضمائر، والقاعدة أن توحيد مصدر الضمائر مقدم على تفريقها، هذه الضمائر هي في عيسى -عليه الصلاة والسلام وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ ۝ وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ يعني عيسى ﷺ إِنْ هُوَ إِلا عَبْدٌ يعني عيسى -عليه الصلاة والسلام.  

وقوله: وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ أي: بدلكم مَلائِكَةً فِي الأرْضِ يَخْلُفُونَ، قال السدي: يخلفونك فيها، وقال ابن عباس، وقتادة: يخلف بعضهم بعضًا، كما يخلف بعضكم بعضًا، وهذا القول يستلزم الأول، وقال مجاهد: يعمرون الأرض بدلكم.

وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ قال هنا: أي: بدلكم مَلائِكَةً فِي الأرْضِ يَخْلُفُونَ، يعني أن نستبدلكم، قال السدي: يخلفونك فيها يعني في الأرض، وقال ابن عباس وقتادة: يخلف بعضهم بعضًا، وهذا القول يستلزم الأول بأي اعتبار؟

الأول: يخلفونكم فيها، يخلف بعضهم بعضًا، يعني إذا خلفوكم فيها خلف بعضهم بعضًا، استلزم الأول، لكن الأول لا يستلزمه؛ لأنهم قد يخلفونكم ثم لا يخلف بعضهم بعضًا، وقال مجاهد: يعمرون الأرض بدلكم، وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ، بعضهم يقول: لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً يعني جعلنا من بني آدم ملائكة، واضح؟ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ هكذا فسره بعضهم.

والأكثر أن المقصود أن يُسكن ملائكة في الأرض بدلاً منكم، بعضهم يقول: المقصود من هذا لو نشاء لأسكنا الملائكة الأرض، وليس في إسكاننا إياهم السماء شرف حتى يُعبدوا من دون الله ، وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ يعني ماذا تعبدون؟ الملائكة، يا من عبدتم الملائكة لو شاء الله لجعلهم في الأرض؛ فإن إسكانهم السماء لا يقتضي تشريفًا يوجب العبادة، والآية تحتمل هذا وتحتمل أن يكون المراد أن الله -تبارك وتعالى- يخبر عن غناه عن هؤلاء الناس الذين كفروا وعبدوا غيره، وكابروا وجادلوا وأعرضوا عن حججه وبراهينه أنه لو شاء لجعل بدلاً منهم ملائكة.

وقوله: وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ الصحيح أن المراد بذلك نزوله قبل يوم القيامة، كما قال -تبارك وتعالى: وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ أي: قبل موت عيسى -عليه الصلاة والسلام، ثم وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا [سورة النساء:159]، ويؤيد هذا المعنى القراءة الأخرى: وإنه لعَلَمٌ للساعة أي: أمارة ودليل على وقوع الساعة، قال مجاهد: وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ أي: آية للساعة خروج عيسى ابن مريم قبل يوم القيامة، وهكذا روي عن أبي هريرة -رضي الله عنه، وابن عباس، وأبي العالية، وأبي مالك، وعكرمة، والحسن وقتادة، والضحاك، وغيرهم.

وقد تواترت الأحاديث عن رسول الله ﷺ أنه أخبر بنزول عيسى ابن مريم قبل يوم القيامة إمامًا عادلا وحكمًا مقسطًا.

قوله -تبارك وتعالى: وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ قال: الصحيح فيه أن المراد بذلك نزوله قبل يوم القيامة هذا الذي عليه عامة أهل العلم، هذا الذي عليه الجمهور، والأدلة تدل على هذا، وإلا فإن بعض السلف قال: المقصود بذلك القرآن وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ كما جاء عن الحسن وغيره.

وبعضهم يقول: كون عيسى -عليه الصلاة والسلام- من غير أب هذا دليل على قدرة الله على البعث والنشور والقيامة -قيام الأجساد من قبورها، وأن الله يحيي الموتى، هذا كله يدل على صحة البعث.

وبعضهم يقول: وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ أي محمد ﷺ كما قال: بعثت أنا والساعة كهاتين[4]، لكن الذي عليه عامة أهل العلم أن المقصود بذلك عيسى ﷺ، والسياق كله في عيسى -عليه الصلاة والسلام، والضمائر ترجع إليه، لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ على هذه القراءة المتواترة، كيف عُبر عن عيسى ﷺ بهذا "عِلْم للساعة" جعله عِلْمًا؟

يعني كأن هذا من قبيل المبالغة لما يحصل من العلم بها بنزوله -عليه الصلاة والسلام- أنها قريبة توشك أن تقع، لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ على سبيل المبالغة، يعني جعله عِلمًا فهو سبب للعلم بقرب وقوعها إذا نزل في آخر الزمان -عليه الصلاة والسلام، كما قال الله -تبارك وتعالى- عن يأجوج ومأجوج، وهم في ذلك الحين أشراط الساعة الكبرى التي تتتابع كعقد قد انفرط حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ ۝ وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ [سورة الأنبياء:97] فالقيامة تكون على وشك عند ذلك.

أما هذه القراءة الأخرى "لعَلَم للساعة" فهي مروية عن بعض الصحابة وغيرهم كابن عباس وأبي هريرة -رضي الله تعالى عنهم، ويكون معناها "وإنه لعَلَم للساعة" أي: عَلَم من أعلامها، من أماراتها، من دلائلها، هنا قال: وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ أي: أمارة ودليل على وقوع الساعة.

وقوله: فَلا تَمْتَرُنَّ بِهَا أي: لا تشكُّوا فيها، إنها واقعة وكائنة لا محالة، وَاتَّبِعُونِ أي: فيما أخبركم به هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ۝ وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ أي: عن اتباع الحق إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ۝ وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ أي: بالنبوة وَلأبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ.

المقصود بالبينات يعني المعجزات الواضحات والبراهين الساطعات على نبوته، يبرئ الأكمة والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله -تبارك وتعالى، وبعضهم يقول كقتادة: المقصود بالبينات الإنجيل، لكن الأول هو الذي عليه عامة أهل العلم، وهو الأقرب، وإن كان الإنجيل من جملة البينات.

جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ قال: أي: بالنبوة، وبعضهم فسره بالإنجيل، وبعضهم فسره بما يرغِّب في الامتثال والعمل بطاعة الله -تبارك وتعالى، بما يأمر بالجميل وينهى عن القبيح، "جئتكم بالحكمة"، والنبوة متضمنة لهذا، والإنجيل أيضًا متضمن لهذا.

وَلأبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ قال ابن جرير: يعني من الأمور الدينية لا الدنيوية.

نعم هو جاء من أجل هذا، الرسل -عليهم الصلاة والسلام- ما جاءوا من أجل بيان الأمور الدنيوية، وإنما جاءوا يبينون ويعرفون الناس بمعبودهم -تبارك وتعالى، وبالطريق الموصل إليه، وتفاصيل الصراط، وبالدار التي يصيرون إليها.

فالصراط تفاصيله هو ما يتعلق بالشرائع والأخلاق وما إلى ذلك مما جاءت به الرسل -عليهم الصلاة والسلام، وأتباع الرسل من الدعاة إلى الله لا يصح أن يتحولوا إلى دعاة دنيا يعلمون الناس دنياهم، يقيمون لهم الدورات كيف تنمي مالك، كيف تثمر مالك، كيف ترتبين وتنسقين ديكور المنزل، كيف تختارين الألوان، كيف تختار الملابس، كيف تعاشر أهلك، ما هي المعاشرة بالأخلاق، لا، الجماع، يوجد من يتكلم في هذا، فالرسل -عليهم الصلاة والسلام- ما جاءوا يبينون للناس مثل هذه الأمور كيف يكسب المال، كيف يجمع المال، كيف يثمره وتكون أرصدته كبيرة، فلا يصح أن يتحول الدعاة إلى أساتيذ في أمور المعاش والدنيا، ويعلمون الناس طرق المكاسب، فالناس ليسوا بحاجة إلى هذا، هم أحرص ما يكونون عليه لكن الناس بحاجة إلى من يعظهم، من يذكرهم، من يعلمهم شرائع الإسلام، ويبين لهم الحلال والحرام، ويعرفهم بربهم -تبارك وتعالى- وبالدار التي يصيرون إليها.

يقول ابن جرير: "الذي تختلفون فيه" من الأمور الدينية لا الدنيوية، فأجمل في ذلك، بعضهم يقول: الذي تختلفون فيه من أحكام التوراة، وهذا أخص مما قاله ابن جرير، فهم قد يختلفون في أشياء من أحكام التوراة ويختلفون في أمور أخرى.

وبعضهم يقول: المقصود بذلك اختلاف الأحزاب في أمر عيسى -عليه الصلاة والسلام، يقول: وَلأبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ الذين تحزبوا في أمر عيسى ﷺ فبعضهم قال: هو الله، وبعضهم قال: ابن الله، وبعضهم يقول: ثالث ثلاثة، فعيسى ﷺ جاءهم بالبينات، ويبين لهم بعض ما يختلفون فيه، وكان بينهم أمور لا شك أنهم اختلفوا فيها وحرفوا كتابهم.

وبعضهم يفسره بغير هذا بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ قالوا: إن عيسى ﷺ بين لهم بعض الأشياء التي يختلفون فيها، وبعضهم قال: لا، إن "بعض" بمعنى "كل" يعني يبين لهم جميع ما يختلفون فيه، وإنه عُبر بهذا على سبيل التجوز كما يقوله أبو عبيدة معمر بن المثنى، يعني لا يدع لهم شيئًا يختلفون فيه إلا بينه كما قال الله -تبارك وتعالى: يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ [سورة غافر:28] على تفسيره بأنه يصيبكم جميع ما وعدكم؛ لأنه خبرٌ حقٌّ صدقٌّ، يصيبهم جميع ما وعدهم به، فقال: بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ هذه يمكن أن تفسرها الآية الأخرى: وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ [سورة آل عمران:50] كما يقوله مقاتل، لكن ما ذكره ابن كثير -رحمه الله- أو ابن جرير أوفى في المعنى من هذا كله، -والله تعالى أعلم.

وهذا الذي قاله حسن جيد.

وقوله: فَاتَّقُوا اللَّهَ أي: فيما أمركم به، وَأَطِيعُونِ، فيما جئتكم به، إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ أي: أنا وأنتم عبيد له، فقراء إليه، مشتركون في عبادته وحده لا شريك له، هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ أي: هذا الذي جئتكم به هو الصراط المستقيم، وهو عبادة الرب وحده.

وقوله: فَاخْتَلَفَ الأحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ أي: اختلفت الفرق وصاروا شيعًا فيه، منهم من يقر بأنه عبد الله ورسوله -وهو الحق، ومنهم من يدعي أنه ولد الله، ومنهم من يقول: إنه الله -تعالى الله عن قولهم علوًّا كبيرًا، ولهذا قال: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ.

فَاخْتَلَفَ الأحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ هنا يقول: اختلفت الفرق وصاروا شيعًا فيه، من المراد بالأحزاب؟ بعض السلف كمجاهد يقول: المقصود بهم اليهود والنصارى؛ لأن عيسى ﷺ بعث إلى بني إسرائيل، فاليهود قالوا فيه مقالتهم الشنيعة، والنصارى غلا فيه من غلا منهم على اختلاف في أقوالهم فيه، وخص بعضهم الأحزاب بفرق النصارى التي اختلفت فيه.

وحملُه على اليهود والنصارى أقرب -والله تعالى أعلم؛ فإن هؤلاء من جملة من اختلف في عيسى ﷺ، وقوله -تبارك وتعالى: فَاخْتَلَفَ الأحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ يعني: اختلفوا فيما بينهم، وبعضهم يقول: اختلفوا من بين من بُعث إليهم من اليهود والنصارى، فَاخْتَلَفَ الأحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ أي: فيما بينهم.

هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ۝ الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ ۝ يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ ۝ الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ ۝ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ ۝ يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ۝ وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ۝ لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ [سورة الزخرف:66-73].

يقول تعالى هل ينتظر هؤلاء المشركون المكذبون للرسل إِلا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ؟ أي: فإنها كائنة لا محالة وواقعة، وهؤلاء غافلون عنها غير مستعدين لها، فإذا جاءت إنما تجيء وهم لا يشعرون بها، فحينئذ يندمون كل الندم، حيث لا ينفعهم ولا يدفع عنهم.

يعني أنها تأتيهم تفاجئهم كما قال الله : لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً [سورة الأعراف:187] فهي تأتي مباغتة لا يتوقعها الناس، كما جاء عن النبي ﷺ يعني هذا الذي يصلح حوضه ثم لا يسقي منه، وهذا الذي قد رفع اللبن، أو هذا الذي قد حلب ناقته فلا يطعم منه، وهذان يمتاران الثوب نشراه بينهما فلا يتبايعانه، فهي تأتي تفاجئ الناس، كما قال الله : بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا [سورة الأنبياء:40]، وكذلك قال الله : فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ [سورة يس:50] يكون خرج في حاجته فتأتيه الساعة فلا يستطيع أن يوصي ولا أن يرجع إلى أهله.

وقوله: الأخِلاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلا الْمُتَّقِينَ أي: كل صداقة وصحابة لغير الله فإنها تنقلب يوم القيامة عداوة إلا ما كان لله ، فإنه دائم بدوامه، وهذا كما قال إبراهيم لقومه: إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ [سورة العنكبوت:25].

هنا: الأخِلاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلا الْمُتَّقِينَ الخُلّة عرفنا أنها درجة في المحبة عالية رفيعة، هي أعلى درجات المحبة، الأخلاء يعني من كانت علاقتهم وصلاتهم ومحبتهم في الدنيا، أو كان ذلك في معصية الله ومحادته ومحادة رسله -عليهم الصلاة والسلام- كل ذلك يتحول إلى عداوة، وتنقطع هذه الأواصر.

وقوله: يَا عِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ ثم بشرهم...

السياق هنا أن الله -تبارك وتعالى- قال: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ما الذي يحصل حينئذ؟ الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ ۝ يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ هنا قال: يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ هذا التركيب ما محمله؟ ابن جرير -رحمه الله- يقول: التقدير هكذا الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ فيقال لهم: يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ.

وقوله: يَا عِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ ثم بشرهم، فقال: الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ أي: آمنت قلوبهم وبواطنهم، وانقادت لشرع الله جوارحهم وظواهرهم.

قال المعتمر بن سليمان عن أبيه: إذا كان يوم القيامة فإن الناس حين يبعثون لا يبقى أحد منهم إلا فزع، فينادي منادٍ: يَا عِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ فيرجوها الناس كلهم، قال: فيُتبعُها: الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ، قال: فييأس الناس منها غير المؤمنين.

هنا قال: الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ قال: آمنت قلوبهم وبواطنهم، وانقادت لشرع الله جوارحهم وظواهرهم، هذا هو المشهور أن الإيمان والإسلام إذا اجتمعا افترقا، وإذا افترقا اجتمعا، يعني في المعنى، فالله  -تبارك وتعالى- يقول: قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا [سورة الحجرات:14] على اختلاف في توجيه ذلك من جهة المعنى لكن المشهور أن المقصود به إسلام الظاهر، وأن الإيمان لم يتغلغل إلى قلوبهم، وإنما حصل لهم إسلام الظاهر، وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا.

وبعضهم يفسره بمعنى مغاير بعض الشيء هناك في سورة الحجرات وسيأتي الكلام على هذا -إن شاء الله تعالى، لكن المشهور أنه إذا ذكر الإسلام والإيمان يكون لكل واحد منهما معنى يخصه، فالإيمان يكون لتصديق القلب الانقيادي، بمعنى الإقرار والإذعان، والإسلام إسلام الجوارح، وهذا الذي مشى عليه ابن كثير -رحمه الله- يقول: آمنت قلوبهم وبواطنهم وانقادت لشرع الله جوارحهم وظواهرهم الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ.

ابن جرير يفسره بمعنى فيه بعض المغايرة وله وجه لا يخفى؛ وذلك أنه بعد أن قرر أنهم أهل خضوعٍ لله بقلوبهم، وقبولٍ منه لما جاءت به رسلهم عن ربهم هذا كله يرجع إلى شيء واحد، القبول والخضوع والانقياد والتسليم هذا كله يرجع إلى القلب، بقي وَكَانُوا مُسْلِمِينَ، فهو يقول: على دين إبراهيم حنيفًا ليسوا يهوداً ولا نصارى ولا أهل أوثان، أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [سورة البقرة:133]، إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ [سورة آل عمران:19]، إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [سورة البقرة:132]، مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [سورة آل عمران:67].

فابن جرير يقول: الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا خضعوا وانقادوا وقبلوا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ يعني على ملة إبراهيم ﷺ حنيفًا ما كانوا يهودًا ولا نصارى، مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا هذا الكلام له وجه كما ترون، وما ذكره ابن كثير هو الأشهر في تفسير مثل هذه المواضع في كتاب الله ، فإذا ذكر الإيمان والإسلام يكون الإيمان في الباطن، والإسلام في الظاهر.  

قال: فييأس الناس منها غير المؤمنين.

ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أي: يقال لهم: ادخلوا الجنة أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ أي: نظراؤكم.

ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ الأزواج -كما سبق- يأتي بمعنى النظراء، احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ [سورة الصافات:22] يعني ونظراءهم، وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ [سورة طه:131] يعني أصنافًا منهم، فالأزواج يأتي في كتاب الله بهذا المعنى، لكن بعضهم فسره بالزوجات، أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ، وهذا معنى آخر، وهذا المعنى رجحه الشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله- بأي اعتبار؟

قال: هنا السياق ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ يعني تنعمون إلى آخره، قال: هذا أبلغ في النعيم إذا كانوا يدخلون مع زوجاتهم، وإنه جاء في القرآن في مواضع متعددة كون أهل الجنة مع زوجاتهم سواء من الحور العين أو من الزوجات اللاتي كن معهم في الدنيا، إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ ۝ هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ [سورة يس:55، 56] فسرها بعض السلف في شغل فاكهون في افتضاض الأبكار، وذكرنا هناك أن الأقرب أنهم في شغل بالنعيم الذي منه ما ذُكر، يعني بألوان الملاذ والنعيم في شغل عما فيه أهل النار، يتنعمون، وهكذا في قوله: وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ [سورة الطور:20].

فالشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله- يرجح هذا المعنى، ويقول: هذا أبلغ في النعيم من تفسيره بالنظراء، ففُسر بالزوجات، وفسر أيضًا بالحور العين أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ يعني من الحور العين تحبرون.

والذين فسروه بالنظراء لعلهم نظروا إلى أمر وهو أنه ليس بلازم أن تكون زوجته معه في الجنة، فليس بالضرورة أن من دخل الجنة يقال له: إنك تلتذ وتُسر، يقال له: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ ولهذا فسره بعض السلف بالحور العين أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ يعني من الحور العين، وهذا لا يمنع من أن يكون مع زوجاته من الدنيا ممن دخل الجنة لكن ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ، والقول الذي ذكره ابن كثير -رحمه الله- باعتبار النظراء هذا لا يرِد عليه مثل هذه الإيرادات، وإذا فُسر بالزوجات قد لا تكون أصلاً من أهل الجنة.

تُحْبَرُونَ أي: تنعمون وتسعدون، وقد تقدم تفسيرها في سورة الروم.

ذكرنا هناك أن المعاني التي ترجع إليها "تحبرون" أنها بمعنى تنعمون، تلتذون، تسرون، تكرمون، وهذه المعاني متلازمة فمن قال: تسرون وتلتذون وتنعمون فهذه كلها متلازمة، يعني أن نتيجة هذا الإكرام اللذة والسرور، من فسره بالإكرام كأنه فسره بالسبب، ومن فسره بالسرور فسره بالأثر، والسلف تارة يفسرون بهذا، وتارة يفسرون بهذا، فهم يكرمون فيحصل من جراء ذلك -من نتيجة ذلك- اللذة والسرور والفرح، هذا معنى الحبرة، بعضهم يفسرها بالإكرام، وبعضهم يفسرها بالنعيم والسرور وما إلى ذلك.

يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ أي: زبادي آنية الطعام.

يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ هذه آنية الطعام، الصحفة قصعة كبيرة واسعة عريضة، الكسائي يقسم هذه الآنية بحسب الحجم وما تكفي له، فأعظمها الجفان، هي أعظم القصاع، وبعد ذلك تأتي القصعة، والقصعة تشبع عشرة من الرجال، ثم نصفها الصحفة تشبع خمسة، ثم بعد ذلك تأتي المَكِيلة تشبع الرجلين والثلاثة.

وَأَكْوَابٍ وهي: آنية الشراب، أي: من ذهب لا خراطيم لها ولا عُرَى، وَفِيهَا مَا تَشْتهِي الأنْفُسُ، وقرأ بعضهم: تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ، وَتَلَذُّ الأعْيُنُ أي: طِيب الطعم والريح، وحُسن المنظر.

هذا المشهور في الأكواب، ذكَرَ الآنية: للطعام الصحاف من الذهب، والأكواب آنية الشراب من ذهب لا خراطيم لها ولا عُرى، بخلاف الكأس، قد مضى الفرق بينهما.

وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ "ما" هذه صيغة عموم "ما تشتهيه الأنفس" يعني تميل إليه وتتوق إليه، وهذا عام في كل شيء كما قال النبي ﷺ: فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر[5]، وكما سبق في قوله -تبارك وتعالى: وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ [سورة فصلت:31] وذكرنا المعاني هناك "تدعون" المعنى المشهور يعني تتمنون، والمعنى الآخر أن كل من ادعى شيئًا فهو له، والجنة فيها كل ما تطلبه النفوس لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ [سورة الفرقان:16]، والسؤال الذي يرد عادة من النساء دائمًا هل النساء لهم أزواج في الجنة أو لا أي التي ماتت ولا زوج لها؟ الرجال لهم الحور العين فماذا للنساء غير المتزوجات؟

ماتت ولم تتزوج هذا لم يرد فيها شيء لا في كتاب الله ولا في سنة رسوله ﷺ فيما نعلم- لكن في هذه العمومات فكل ما تطلبه النفوس وتتوق إليه وتشتهيه موجود في الجنة، يحصل لأهل الجنة النعيم الكامل من كل وجه، يعني ليس هناك تنغيص، ليس هناك نقص، ليس هناك شيء تتمناه، هنا في الدنيا تتمنى أن تتزوج زوجًا يسعدها، وتقر عينها به.

في الجنة لا يوجد حرمان بحيث إن الإنسان يشعر بنقص في نعيمه معه، وإن كان أهل الجنة يتفاوتون فيها بشرابها ولباسها وما إلى ذلك، ومنازلها إلا أن كل أحد يشعر أنه ليس فوقه أحد في النعيم، أنه أعظم الناس نعيمًا، وبهذا يتم النعيم، وإلا فإذا كان الإنسان ينظر إلى من هو أعظم منه نعيمًا فإنه يزدري النعيم الذي هو فيه؛ ولهذا لما أخبر النبي ﷺ أن الذي يشرب الخمر لا يشرب من خمر الجنة[6]، أي يموت وهو يشربها ولم يتب، أن هذا سبب لحرمانه من شرب الخمر في الجنة، فهل ذلك يعني أن الجنة فيها تنغيص وتكدير؟

الجواب: لا، فيكون في حال من النعيم تذهله عن هذا الشراب، فلا يشعر بالنقص أو الحرمان؛ لأن الجنة فيها حبور ولذة وسرور فليس فيها أدنى كدر، أو تنغيص، وابن القيم -رحمه الله- يوسع هذا المعنى فيرى أن مَن توسع في الملاذ في الدنيا ولو كان ذلك من قبيل المباحات، وهذا مذهب عمر أن هذا يكون على حساب نقص اللذات في الآخرة.

ابن القيم يوسع في المعنى من جهة بعض الجرائم والذنوب، يعني ليس  فقط ما ورد فيه الدليل مثل أن من شرب الخمر لا يشربها في الآخرة، وإنما يذكر أشياء أخرى أنه إذا فعل ذلك في الدنيا ولم يتب فإن ذلك يكون سببًا للحرمان منها في الجنة، وهذا يحتاج إلى دليل، هذه الأمور لا يجري فيها القياس.

قوله -تبارك وتعالى: وَتَلَذُّ الأعْيُنُ أي: طِيب الطعم والريح وحُسن المنظر.

في مصحف ابن مسعود وَتَلَذُّهُ الأعْيُنُ ما معنى "تلذ الأعين" أو "تلذه الأعين" تلذه الأعين يعني أنها تسر به من الملاذ، كما قال الله : صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ [سورة البقرة:69].

فهذا الذي تلذه الأعين يكون في مآكلهم ومشاربهم ولباسهم ومساكنهم وقصورهم وأشجار الجنة وبساتين الجنة إلى غير ذلك من أنواع النعيم من المناكح وغيرها، فكما أن اللذات تحصل بالأكل -وهو لون من الألوان- فتحصل أيضًا بالشم، وتحصل أيضًا بالجس، وبأمور أخرى متنوعة، فإن من أعظم اللذات ما يكون بالسماع أو بالنظر، فكل ذلك يحصل في الجنة، تحصل اللذة من كل وجه؛ ولهذا يشربون الخمر التي لا تذهب العقول، ولا يصاب شاربها بالصداع كما هي خمر الدنيا.

وهذه اللذة تكون في الأكل والشرب، فكما أن الإنسان يلتذ بطعمه وبرائحته كذلك هو يلتذ بالنظر إليه، فقد يكون الطعام لذيذًا من حيث الطعام والشراب كذلك لكن منظره بخلاف ذلك، فما تكتمل اللذة، وقد يكون جذابًا في منظره، فتقبل عليه النفوس فإذا ذاقه لم يكن بذاك من جهة الطعم، وقد يوجد فيه هذا وهذا إلا أن رائحته غير مستساغة، الجنة فيها ما تلذ ما تحصل به اللذة من كل وجه، ومن ذلك النظر -والله المستعان.

أحيانًا الناس يرون صنوفًا من الأطعمة فيطربون لها، والآن بالوسائل الحديثة يصورونها ولربما عرضوها على غيرهم ويتفننون في هذا، فهذا لا شيء بالنسبة لما في الجنة، ما هذه الأواني التي هي لا أقول: بقدر الذر بل أصغر من الذر بالنظر إلى الجنة التي اللؤلؤة الواحدة فيها المجوفة كما ثبت عن النبي ﷺ بارتفاع يبلغ ستين ميلاً في السماء، والعرض يبلغ ستين ميلًا[7].

يعني في تقديرات الميل بالمتر ما بين 180 كيلو متر إلى 96 كيلو متر حسب تقديرات الميل بالذراع، 180 ارتفاع بـ 180 عرض ولا تسأل عن الطول، والأواني ما حجمها إذًا؟ فلو جئنا بالأواني التي في الدنيا ماذا تكون؟ لا شيء، تحتاج إلى مجهر حتى تظهر، ونحن نحتاج إلى مجهر حتى نظهر، نُتَف، أحيانًا الإنسان يتأمل المقاعد التي نقعد عليها كأننا في خيال.

وإذا تأمل الإنسان في الآخرة وأحوال الآخرة بل في أحوال الدنيا إذا نظر من أعلى البيوت والمساكن، وإذا أردت أن تنظر أو تعرف أو تطلع أو تقف بمزيد من التوسع على أنواع الملاذ من المأكول والمشروب والملبوس والمنكوح في الجنة راجع "أضواء البيان" في هذا الموضع ذكر حشد الآيات في كل نوع من هذه الأنواع، أنواع اللذات التي في الجنة كما وصفها الله -تبارك وتعالى.

وَأَنْتُمْ فِيهَا أي: في الجنة خَالِدُونَ أي: لا تخرجون منها ولا تبغون عنها حولا.

يعني هذا كمال النعيم، يعني مهما كان فيها من اللذات وأنواع النعيم إذا كان الإنسان سيفارقه فإن ذلك يكون تنغيصًا وتكديرًا لهذا النعيم، ولهذا يذكر الله هذا الخلود كما يذكر الرضا "رضي الله عنهم ورضوا عنه"؛ لأن ذلك من كمال الراحة والنعيم؛ إذ إنّ ذلك إن لم يكن برضا من مالكه فإن النعيم يكون ناقصًا.

كذلك إذا كان لا يبقى فيه وإنما سيفارقه فإن تنعمه به يكون ناقصًا، تسكن في أفضل الأماكن وأرقى الأماكن في فندق مثلاً فخم فيه كل ما تشتهيه من الطعام والشراب والأثاث، وأجود ما يكون من الفرش ونحو ذلك، وتجلس فيه ثلاثة أيام أو نحو هذا ثم تفارقه، يعني لا يكتمل، كأن ذلك لم يكن، والإنسان منذ أول لحظة يدرك ويتذكر أن هذا مؤقت وأنه سينتقل منه، لكن إذا كان قيل له: هذا المكان هو مكانك الذي لا تفارقه، فإنه يكفي الفراق في الدنيا أصلاً بالموت، فإن ذلك يكدر على أهل النعيم نعيمهم مهما أعطي من الدنيا والأموال الطائلة والقصور فإنه يتذكر مثل هذا المعنى فيحزن، قد مضى الكلام على هذا المعنى في بعض المناسبات، وقول الشاعر:

لا أرى الموتَ يسبق الموتَ شيءٌ نغّص الموتُ ذا الغِنى والفقيرا

فهو الذي كدر على أهل النعيم نعيمهم، وهكذا الافتراق بعد الاجتماع، وذكرت في بعض المناسبات قول الشاعر الذي يتمنى ويحب أوقات الفراق؛ لأنه يُرجِّي بعدها الاجتماع، ويكره أوقات الاجتماع بمحبوبته؛ لأنه بعدها لا ينتظر إلا الفراق، ولهذا يقال: ليس بعد الكمال في الدنيا إلا النقص، يبلغ الإنسان أشده، يبلغ أربعين سنة، يتماسك بعض الشيء، بعض الوقت، ثم بعد ذلك يبدأ الضعف والذبول شيئًا فشيئًا، وهكذا الحياة، -والله المستعان.

ثم قيل لهم على وجه التفضل والامتنان: وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي: أعمالكم الصالحة كانت سببًا لشمول رحمة الله إياكم، فإنه لا يُدخل أحدًا عملُه الجنة، ولكن برحمة الله وفضله، وإنما الدرجات ينال تفاوتها بحسب عمل الصالحات.

يعني هذه الجنة أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ "الباء" هنا تدل على السببية، والنبي ﷺ يقول: لن يدخل أحدكم الجنة بعمله، يعني على سبيل الاستقلال، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته[8]، فالأعمال سبب، وقد دلت النصوص على هذا، لكنها لا تستقل بذلك، ولهذا الإنسان لا يرجو ويطلب دخول الجنة بعمله مجردًا من رحمة الله ، فإن عمله لا يبلغ به ذلك، ولكن مع رحمة الله وفضله ولطفه.

وقوله: لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ أي: من جميع الأنواع، مِنْهَا تَأْكُلُونَ أي: مهما اخترتم وأردتم، ولما ذكر الله تعالى الطعام والشراب ذكر بعده الفاكهة لتتم هذه النعمة والغبطة، -والله تعالى أعلم.

يعني إذا وجدت الفاكهة الكثيرة المتنوعة فلا تسأل عن المطعومات التي تكون هي الأساسية الأصلية، فإن الفاكهة تذكر زيادة على الأصل، والأساس في هذا المطعومات.

  1. انظر: سيرة ابن هشام (1/ 359)، والسيرة النبوية لابن كثير (2/ 52-53)، وصحيح السيرة النبوية (ص:197).
  2. انظر: تفسير الطبري (20/ 623).
  3. رواه الترمذي، أبواب تفسير القرآن عن رسول الله ﷺ، باب ومن سورة الزخرف، برقم (3253)، وابن ماجه، افتتاح الكتاب في الإيمان وفضائل الصحابة والعلم، باب اجتناب البدع والجدل، برقم (48)، وأحمد في المسند، برقم (22164)، وقال محققوه: "حديث حسن بطرقه وشواهده، وأبو غالب -وهو البصري نزيل أصبهان- يعتبر به في المتابعات والشواهد، ومَن دونه لا بأس بهم، عبد الواحد الحداد: هو ابن واصل أبو عبيدة البصري"، وحسنه الألباني في صحيح الجامع، برقم (5633).
  4. رواه البخاري، كتاب الرقاق، باب قول النبي ﷺ: بعثت أنا والساعة كهاتين، برقم (6504)، ومسلم، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب قرب الساعة، برقم (2951).
  5. رواه البخاري، كتاب بدء الخلق، باب ما جاء في صفة الجنة وأنها مخلوقة، برقم (3244)، ومسلم، أوائل كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، برقم (2824).
  6. رواه البخاري، كتاب الأشربة، باب قول الله تعالى: إِنَّمَا الخَمْرُ وَالمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [سورة المائدة:90]، برقم (5575)، ومسلم، كتاب الأشربة، باب بيان أن كل مسكر خمر وأن كل خمر حرام، برقم (2003).
  7. رواه الطبراني في المعجم الأوسط، برقم (5260)، والهيثمي في مجمع الزوائد، برقم (18005)، وقال: "رواه الطبراني في الأوسط، وفيه من لم أعرفهم".
  8. رواه البخاري، كتاب الرقاق، باب القصد والمداومة على العمل، برقم (6463)، ومسلم، كتاب صفة القيامة والجنة والنار، باب لن يدخل أحد الجنة بعمله بل برحمة الله تعالى، برقم (2816)، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: لن يُنجي أحدًا منكم عملُه، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمةٍ، سددوا وقاربوا، واغدوا وروحوا، وشيء من الدلجة، والقصدَ القصدَ تبلغوا.

مواد ذات صلة