الثلاثاء 07 / شوّال / 1445 - 16 / أبريل 2024
[1] من قوله تعالى: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ} الآية:1 إلى قوله تعالى: {وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ} الآية:3
تاريخ النشر: ١٩ / رمضان / ١٤٣٤
التحميل: 3391
مرات الإستماع: 4916

بسم الله الرحمن الرحيم

تفسير سورة البروج، وهي: مكية.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

بسم الله الرحمن الرحيم

وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ ۝ وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ ۝ وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ ۝ قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ ۝ النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ ۝ إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ ۝ وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ ۝ وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ۝ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ۝ إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ [سورة البروج:1-10].

يقول المؤلف -رحمه الله تعالى: يقسم تعالى بالسماء وبروجها، وهي: النجوم العظام، كما قال تعالى: تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا [سورة الفرقان:61]، قال ابن عباس، ومجاهد، والضحاك، والحسن، وقتادة، والسدي: سورة البروج: النجوم، وقال المنهال بن عمرو: وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ: الخَلْق الحسن.

واختار ابن جرير: أنها منازل الشمس والقمر، وهي: اثنا عشر برجًا، تسير الشمس في كل واحد منها شهرًا، ويسير القمر في كل واحد منها يومين وثلثًا، فذلك ثمانية وعشرون منزلا، ويستتر ليلتين.

قوله -تبارك وتعالى: وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ، أقسم بالسماء التي وصفها بذات البروج، وأصل هذه المادة: الباء والراء والجيم، أصلها: من الظهور والانكشاف؛ ولهذا يقال للشيء البادي للعيان المرتفع: برج، وقال الله -تبارك وتعالى: وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى [سورة الأحزاب:33]، بمعنى: أن المرأة لا تظهر متكشفة بادية لأنظار الرجال، فهذا أصل هذه المادة، ومن هنا فسره بعضهم: بالمنازل، منازل الشمس والقمر.

وفسره بعضهم: بالقصور؛ لأن القصور تكون مرتفعة عالية، فهي: بروج، والقلاع والحصون يقال لها: بروج، كل ذلك يقال له: بروج، وهذه القصور التي فسر بها بعض السلف: وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ بعضهم يقول: شبهت بالقصور، أو كأنها قصور، يعني: هذه المنازل للشمس والقمر، وبعضهم يقول: هي: قصور للحرس من الملائكة الذين يحرسون السماء، لكن هذا لا دليل عليه.

فلو نظرنا إلى هذه الأقوال، وقول من قال: أبواب السماء هي: البروج، مع أن ابن جرير -رحمه الله- فسر آية الفرقان، وهي: قوله تعالى: تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا [سورة الفرقان:61]، هناك فسرها بالقصور، لكنه لم يفسر الآية بهذا، وإنما فسرها بمنازل الشمس والقمر، لو نظرت إلى هذه الأقوال، قول هؤلاء من السلف : إن البروج هي: النجوم، الذين قالوا: منازل الشمس والقمر قولهم في الواقع يمكن أن يرجع إلى هذا، يعني: أن يكون القولان يرجعان إلى شيء واحد -والله أعلم، بأي اعتبار؟

الذين قالوا: منازل الشمس والقمر يعتبرون أن البروج هي: عبارة عن تشكيلات من النجوم، تنزل الشمس في كل واحد منها شهرًا، وينزل القمر في كل ليلة كما ذكر هنا، يسير يومين وثلث اليوم، يعني: هي: تشكيلات من النجوم، لها صور، وتأخذ هيئات معينة؛ ولهذا سموها بهذه الأسماء: الحمل، الثور، الجوزاء، السرطان، الأسد، السنبلة، الميزان، العقرب، القوس، الجدي، الدلو، الحوت، فالشمس في كل شهر فيه واحد، فهي بالنسبة للشمس: اثنا عشر، ويكون بناء على ذلك تغير الفصول بإذن الله -تبارك وتعالى، يعني: مثل عقارب الساعة، فثلاثة للشتاء، وثلاثة للصيف، وثلاثة للربيع، وثلاثة للخريف.

هذا بالنسبة للشمس، أما القمر ففي ثمانية وعشرين منزلاً، ويختفي القمر في ليلتين، الطاهر بن عاشور -رحمه الله- ذكر كلامًا يقرب لك هذا، ويصوره، يعني: حينما يقال: البروج مثلاً هي: النجوم، أو نحو ذلك، أهل الفلك كلامهم في هذا كثير جدًّا، ولا حاجة للتطويل فيه، لكن هنا كلام قريب وجيد للطاهر بن عاشور -رحمه الله- في التحرير والتنوير، يقول ما حاصله: "والبروج تطلق على علامات.."[1].

يعني: هذه النجوم والتشكيلات التي يراها الناس.

"من قبة الجو، يتراءى للناظر أن الشمس تكون في سمتها مدة شهر من أشهر السنة الشمسية، فالبرج: اسم منقول من اسم البرج بمعنى: القصر؛ لأن الشمس تَنزله، أو منقول من البرج بمعنى: الحصن.."[2].

أي: كأنها تنتقل من حصن إلى حصن.

"والبرج السماوي يتألف من مجموعة نجوم، قريب بعضها من بعض، لا تختلف أبعادها أبداً، وإنما سمي برجًا؛ لأن المُصطلِحين.."[3].

يعني: الذين سموه بهذا، واصطلحوا عليه.

"تخيلوا أن الشمس تحل فيه مدة، فهو كالبرج، أي: القصر، أو الحصن، ولما وجدوا كل مجموعة منها يُخال منها شكل لو أحيط بإطار لخطٍّ مفروض لأشبه محيطها محيط صورة تخيلية لبعض الذوات من حيوان أو نبات أو آلات.."[4].

كالحوت، والسنبلة، والدلو، والحمل.

"ميزوا بعض تلك البروج من بعض بإضافته إلى اسم ما تشبهه تلك الصورة تقريبًا، فقالوا: برج الثور، برج الدلو، برج السنبلة مثلاً، وهذه البروج هي في التحقيق: سُمُوت تقابلها الشمس في فلكها مدة شهر كامل من أشهر السنة الشمسية، يوقتون بها الأشهر والفصول، بموقع الشمس نهارًا في المكان الذي تطلع فيه نجوم تلك البروج ليلاً.."[5]، إلى آخر ما ذكر.

هذا يقرب لك الصورة، ولماذا قيل لها بروج، ووَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ ما المقصود بها، وهذه النجوم ذات التشكيلات المعينة لا تتغير، لا تنتقل، لا يحصل لها تغير أبدًا، فهي ثابتة، والعرب تسمي هذه الأشكال المتخيلة بأسماء حتى في الأشياء الأرضية؛ ولذلك تجد العرب يسمون الجبال مثلا، يعني: سموا جبل "عَيْر" في المدينة عند الميقات، وحدود حرم المدينة من جبل عير إلى جبل ثور، فإذا نظرت إلى جبل عير، العير هو: الحمار، فهيئته هيئة حمار، وثور كذلك جبل صغير أحمر، فبهذه الصفة العرب تسمي هذه الأشياء بما تتخيله وتتصوره من هذه التشكيلات، فهذا معنى البروج، فمن سماها بالقصور فهذا هو المراد: المنازل التي تنزل بها الشمس، فهي: بمثابة القصر بهذا الاعتبار، وأصل البرج -كما قلت- من البروج، وهو: الظهور، والانكشاف، والارتفاع، كل هذا.

ابن القيمله تعليق على هذه الآية: وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ، يقول ابن القيم -رحمه الله تعالى: "سورة البروج: التي تنزلها الشمس والقمر، وفسرت بالنجوم أو نوع منها، وفسرت بالقصور العظام، وكل ذلك من آيات قدرته، وشواهد وحدانيته، فإن السماء كرة متشابهة الأجزاء، والشكل الكروي لا يتميز منه جانب عن جانب بطول ولا قصر ولا وضع، بل هو متساوي الجوانب، فجعْلُ هذه البروج في هذه الكرة على اختلاف صورها وأشكالها ومقاديرها يستحيل أن توجد بغير فاعل.."[6].

يعني: هي دالة على قدرة الله، وعلى أنه هو الخالق وحده العليم، فهذه السماء مستديرة، فكيف يتميز جانب من جانب، وناحية من ناحية؟ فجعل فيها هذه العلامات في غاية الدقة، وسير فيها الشمس بهذا التسيير الدقيق الذي تتغير معه الفصول، وسار فيها القمر، وتتعاقب الشهور والليالي والأيام بدقة متناهية، فهذا يدل على أنه هو الخالق وحده سبحانه، وأنه مستحق للعبادة وحده دون ما سواه.

وقال -رحمه الله: "ويستحيل أن يكون فاعلها غير قادر، ولا عالم، ولا مريد، ولا حي، ولا حكيم، ولا مباين للمفعول، وهذا ونحوه مما هدم قواعد الطبائعية والملاحدة والفلاسفة الذين لا يثبتون للعالم ربًّا بائناً قادراً فاعلاً بالاختيار، عالماً بتفاصيله، حكيماً مدبراً له.

فبروج السماء هي: منازلها، أو منازل السيارة التي فيها من أعظم آياته سبحانه، فلهذا أقسم بها مع السماء.."[7].

وسيأتي -إن شاء الله- أن ابن القيم -رحمه الله- لا يرى أن هذه الأقسام لها جواب مذكور، وإنما يرى: أن المقصود هو: التنبيه والتنويه على ما تضمنته هذه الأقسام، فاكتفي به.

وقوله تعالى: وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ ۝ وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ، روى ابن أبي حاتم: عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: واليوم الموعود: يوم القيامة، وشاهد: يوم الجمعة، وما طلعت شمس ولا غربت على يوم أفضل من يوم الجمعة، وفيه ساعة لا يوافقها عبد مسلم يسأل الله فيها خيرًا إلا أعطاه إياه، ولا يستعيذ فيها من شر إلا أعاذه، ومشهود: يوم عرفة، وهكذا روى هذا الحديث ابن خزيمة، وقد روي موقوفاً على أبي هريرة، وهو أشبه[8].

وعن أبي هريرة وابن عباس والحسن بن علي والحسن البصري وسعيد بن المسيب ومجاهد وعكرمة والضحاك: المشهود يوم القيامة.

قال البغوي: الأكثرون على أن: الشاهد: يوم الجمعة، والمشهود: يوم عرفة.

قول الله -تبارك وتعالى: وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ، هذا بالاتفاق هو: يوم القيامة، لكن قوله: وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ هذا وقع فيه اختلاف كثير، والأقوال التي تذكر في هذا كثيرة، تزيد على العشرة، وهذا الحديث الذي أورده ابن كثير -رحمه الله، حديث أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- حيث فسر فيه: الشاهد بيوم الجمعة، والمشهود بيوم عرفة، هذا لو صح لما احتيج إلى ذكر الأقوال، ولا إلى النظر في كلام أحد بعد النبي ﷺ، فهو أعلم الناس بالقرآن، لكن الحديث في صحته نظر، وفي رفعه إلى النبي ﷺ؛ ولذلك الحافظ ابن كثير -رحمه الله- يرجح الوقف على أبي هريرة .

هذا بالإضافة إلى أن ألفاظ الحديث مختلفة، يعني: ليست ألفاظه متواطئة على أن الشاهد هو: يوم الجمعة، وأن المشهود هو: يوم عرفة، بل إذا نظرت في رواياته المختلفة وجدت تبيانًا واختلافًا في تحديد المراد بالشاهد والمشهود، فالأقوال التي ذكرها السلف -رضي الله تعالى عنهم- في الشاهد والمشهود كثيرة، فكما ذكر هنا عن طائفة من السلف قالوا: المشهود هو: يوم القيامة.

وبعضهم يقول: الشاهد: من يشهد في ذلك اليوم من الخلائق، أي: في يوم القيامة، قال تعالى: وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ ۝ وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ فربطوه باليوم الموعود، فقالوا: من يشهد في ذلك اليوم من الخلائق، والمقصود بالشهود هنا: الحضور، يعني: من يحضر يوم القيامة من الخلائق، وقالوا: المشهود: ما يشاهَد فيه من الأهوال والأوجال، وما إلى ذلك مما يشاهده الناس في ذلك اليوم من العجائب، هكذا ذكر بعض المفسرين.

وذهب بعض السلف إلى أن الشاهد هو: يوم الجمعة، يشهد على كل عامل بما عمل فيه، وأن المشهود هو: يوم عرفة؛ لأن الناس يشهدون فيه موسم الحج، فهو: عيد مكاني، يجتمعون فيه في صعيد عرفة، والواحدي يقول: هذا قول الأكثر، أن الشاهد هو: يوم الجمعة، والمشهود هو: يوم عرفة.

وجاء عن بعض السلف كابن عمر وابن الزبير أن الشاهد هو: يوم النحر، وجاء عن سعيد بن المسيب أنه: يوم التروية، اليوم الثامن من ذي الحجة، وأن المشهود هو: يوم عرفة، وجاء عن إبراهيم النخعي أن الشاهد: يوم عرفة، والمشهود: يوم النحر.

وبعضهم يقول: الشاهد هو: الله، قال تعالى: وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا [سورة النساء:166]، فنظروا إلى هذا المعنى: أن الله يشهد، وهذا قال به الحسن البصري وسعيد بن جبير، والله يقول: قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ [سورة الأنعام:19].

وبعضهم يقول: الشاهد هو: النبي ﷺ، فالله يقول: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا [سورة النساء:41]، وقال: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا [سورة الأحزاب:45]، فهؤلاء يقولون: هذا هو الشاهد، والمشهود: إما الأمة.

وبعضهم يقول: يوم القيامة هو المشهود، مع أنه إذا قيل: إن المشهود هو: يوم القيامة فينبغي ألا يحمل على مثل هذا؛ لأنه يشكل عليه أن الله أقسم بيوم القيامة، قال: وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ، فيكون ذلك من قبيل التكرار.

وبعضهم يقول: الشاهد: هم جميع الأنبياء، يشهدون على أممهم، قال الله: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا [سورة النساء:41]، وعلى هذا يكون وَمَشْهُودٍ، هو: المشهود عليه، يعني: الأمم.

وعلى القول بأنه النبي ﷺ بعضهم يقول: وَمَشْهُودٍ هو: يوم القيامة، وبعضهم يقول: أمة محمد ﷺ، وبعضهم يقول: الشاهد هو: آدم، والمشهود هو: الذرية، أي: ذرية آدم، وبعضهم يقول: الشاهد هو: الإنسان، قال تعالى: اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا [سورة الإسراء:14]، كما يقوله محمد بن كعب القرظي. 

وبعضهم يقول: الشاهد هي الأعضاء، قال تعالى: يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [سورة النور:24]، فأعضاء الإنسان تشهد عليه، والمشهود الذي يُشهَد عليه: هو هذا الإنسان.

فكل هذه الأقوال نستطيع أن نقول: إنها من باب التفسير بالمثال، كما قال بعض أهل العلم، كابن جرير وابن القيم، فيقولون: إن ذلك يحمل على العموم، فهذا كله من قبيل التفسير بالمثال، فكل ذلك يصدق عليه أنه شاهد، أو مشهود، وأن الله -تبارك وتعالى- لم يحدد واحدًا من هذه المذكورات المفسر بها، وإنما أطلق ذلك، فيدخل فيه جميع هذه الأمور، فالأنبياء يشهدون، والله يشهد، وهذه الأمة تشهد على الأمم، قال تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ [سورة البقرة:143]، وكذلك أيضًا يوم عرفة، ويوم الجمعة، وما قيل من هذه الأقوال فيمكن أن يكون ذلك جميعًا من قبيل التفسير بالمثال، فتكون الآية تشمل ذلك جميعًا، هذا اختيار كبير المفسرين ابن جرير -رحمه الله، وهو قول ابن القيم، وقد تكلم ابن القيم عليها من ناحيتين: من ناحية التحديد، ومن ناحية وجه الارتباط بين هذه المذكورات في هذه الأقسام.

ثم إن من المهم معرفة موضوع سورة البروج، فإذا نظرت إلى سورة البروج والموضوع الذي تتحدث عنه هذه السورة، فإنها تدور في مضامينها على الوعد والوعيد، أي: على التهديد والترغيب، فالله -تبارك وتعالى- يخوف المكذبين لرسوله ﷺ، المنكرين للبعث، المكذبين بالقرآن، يخوفهم من مغبة هذا التكذيب، ويضرب لهم الأمثال بحال من قبلهم ممن آذوا عباد الله المؤمنين، وكذبوا المرسلين، فذكر خبر أصحاب الأخدود، وذكر أيضًا فرعون وثمود، وكيف أن الله -تبارك وتعالى- عاقبهم وجازاهم، وما يكون عنده لأهل الإيمان، وانظر كيف ختمت هذه السورة بقوله: بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ ۝ وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ ۝ بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ ۝ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ [سورة البروج:19-22]، فهي تتحدث عن هؤلاء المكذبين بالقرآن وبالوحي وبالنبوة وبالإيمان، وما توعدهم الله به، وما يكون لأهل الإيمان من الجزاء، والعاقبة الحسنة في الدنيا والآخرة.

يقول ابن القيم -رحمه الله- على هذه الآية من ناحية التحديد: "ثم أقسم باليوم الموعود وهو: يوم القيامة، وهو: المقسم به وعليه، كما أن القرآن يقسم به وعليه، ودل على وقوع اليوم الموعود باتفاق جميع الرسل عليه، وبما عرفه عباده من حكمته وعزته التي تأبى أن يتركهم سدى، ويخلقهم عبثاً، وبغير ذلك من الآيات والبراهين التي يستدل بها سبحانه على إمكانه تارة، وعلى وقوعه تارة، وعلى تنزيهه عما يقول أعداؤه من أنه لا يأتي به تارة، فالإقسام به عند من آمن بالله كالإقسام بالسماء وغيرها من الموجودات المشاهدة بالعيان.

ثم أقسم سبحانه بالشاهد والمشهود، مطلقيْن غير معينين، وأعم المعاني فيه: أنه المُدْرِك والمُدْرَك، والعالم والمعلوم.."[9].

يعني: هو هنا حمله على أوسع المعاني: المُدْرِك والمُدْرَك.

"والرائي والمرئي، وهذا أليق المعاني به، وما عداه من الأقوال ذكرت على وجه التمثيل، لا على وجه التخصيص.."[10].

وأما كلامه من ناحية وجه الارتباط بين هذه المذكورات في هذه الأقسام فيقول: "فإن قيل: فما وجه الارتباط بين هذه الأمور الثلاثة المقسم بها؟ قيل: هي بحمد الله في غاية الارتباط، والإقسام بها متناول لكل موجود في الدنيا والآخرة، وكل منها آية مستقلة دالة على ربوبيته وإلهيته، فأقسم بالعالم العلوي، وهي: السماء، وما فيها من البروج، التي هي أعظم الأمكنة وأوسعها، ثم أقسم بأعظم الأيام، وأجلها قدراً، الذي هو مظهر ملكه، وأمره ونهيه، وثوابه وعقابه، ومجمع أوليائه وأعدائه، والحكم بينهم بعلمه وعدله، ثم أقسم بما هو أعم من ذلك كله، وهو الشاهد والمشهود، وناسب هذا القسم ذكر أصحاب الأخدود الذين عذبوا أولياءه، وهم شهود على ما يفعلون بهم، والملائكة شهود عليهم بذلك، والأنبياء، وجوارحهم تشهد به عليهم، وأيضاً فالشاهد هو: المطلِّع والرقيب والمخبِر، والمشهود هو: المطلع عليه المخبر به المشاهد.

فمَن نوّع الخليقة إلى شاهد ومشهود، وهو أقدر القادرين، كما نوعها إلى مرئي لنا وغير مرئي، كما قال: فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ ۝ وَمَا لَا تُبْصِرُونَ [سورة الحاقة:38، 39]، كما نوعها إلى أرض وسماء، وليل ونهار، وذكر وأنثى، وهذا التنويع والاختلاف من آياته سبحانه، كذلك نوعها إلى شاهد ومشهود.

وفيه سر آخر، وهو: أن من المخلوقات ما هو مشهود عليه، ولا يتم نظام العالم إلا بذلك، فكيف يكون المخلوق شاهدًا رقيبًا حفيظًا على غيره، ولا يكون الخالق -تبارك وتعالى- شاهداً على عباده مطلعاً عليهم رقيباً؟!

وأيضاً فإن ذلك يتضمن القَسَم بملائكته، وأنبيائه، ورسله، فإنهم شاهدون على العباد، فيكون من باب اتحاد المقسم به والمقسم عليه، كما أقسم باليوم الموعود، وهو: المقسم به وعليه، وأيضا فيوم القيامة مشهود، كما قال تعالى: ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ [سورة هود:103]، يشهده الله، وملائكته، والإنس، والجن، والوحش من آياته، والمشهود من آياته.

وأيضاً فكلامه مشهود كما قال تعالى: وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا [سورة الإسراء:78]، تشهده ملائكة الليل، وملائكة النهار، فالمشهود من أعظم آياته، وكذلك الشاهد، فكل ما وقع عليه اسم شاهد ومشهود فهو داخل في هذا القسم، فلا وجه لتخصيصه ببعض الأنواع أو الأعيان إلا على سبيل التمثيل.

وأيضاً فكتاب الأبرار في عليين يشهده المقربون، فالكتاب مشهود، والمقربون شاهدون.

والأحسن: أن يكون هذا القَسم مستغنياً عن الجواب؛ لأن القصد التنبيه على المقسم به، وأنه من آيات الرب العظيمة، ويبعد أن يكون الجواب: قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ، الذين فتنوا أولياءه، وعذبوهم بالنار ذات الوقود"[11].

يعني: هو لا يرى هنا أن الجواب مذكور، وقد أشرت من قبل في بداية تفسير هذا الجزء: أن من أقسام القرآن ما يقول بعض أهل العلم: إنه لا يوجد له جواب القسم، وإنما المقصود التنبيه على ما تضمنته هذه الأشياء المقسم بها -والله أعلم.

  1. التحرير والتنوير (30/ 238).
  2. المصدر السابق.
  3. المصدر السابق.
  4. المصدر السابق.
  5. المصدر السابق.
  6. التبيان في أقسام القرآن (ص:88).
  7. المصدر السابق (ص: 88، 89).
  8. أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره (10/ 3413)، رقم: (19204)، وأخرجه الترمذي، أبواب تفسير القرآن عن رسول الله ﷺ، باب ومن سورة البروج، رقم: (3339)، وقال: هذا حديث لا نعرفه إلا من حديث موسى بن عبيدة، وموسى بن عبيدة يضعف في الحديث، ضعفه يحيى بن سعيد وغيره من قبل حفظه، وحسنه الألباني في صحيح الجامع الصغير وزيادته (2/ 1363)، رقم: (8201)، وأحمد موقوفا ومرفوعا، رقم: (7972)، وقال محققو المسند: المرفوع منه ضعيف لضعف علي بن زيد -وهو ابن جدعان، والموقوف لا بأس به رجاله رجال الصحيح، ولم أجده في ابن خزيمة.
  9. التبيان في أقسام القرآن (ص:89).
  10. المصدر السابق.
  11. المصدر السابق (ص:89-91).

مواد ذات صلة