الخميس 16 / شوّال / 1445 - 25 / أبريل 2024
[23] من قول الله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ} الآية 64 إلى قوله تعالى: {إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} الآية67
تاريخ النشر: ١٨ / صفر / ١٤٢٧
التحميل: 3209
مرات الإستماع: 2357

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المفسر -رحمه الله تعالى- في تفسير قوله تعالى:

وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاء وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ۝ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُواْ وَاتَّقَوْاْ لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ ۝ وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَاء مَا يَعْمَلُونَ [سورة المائدة:64-66].

يخبر تعالى عن اليهود -عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة- بأنهم وصفوا الله - وتعالى عن قولهم علواً كبيراً- بأنه بخيل، كما وصفوه بأنه فقير وهم أغنياء، وعبروا عن البخل بأن قالوا: يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ [سورة المائدة:64].

وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس -ا- قوله: وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ [سورة المائدة:64] قال: لا يعنون بذلك أن يد الله موثقة ولكن يقولون: بخيل، يعني أمسك ما عنده -تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً- وكذا روي عن مجاهد وعكرمة وقتادة والسدي والضحاك وقرأ: وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا [سورة الإسراء:29] يعني أنه ينهى عن البخل وعن التبذير وهو زيادة الإنفاق في غير محله، عبر عن البخل بقوله: وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ [سورة الإسراء:29] وهذا هو الذي أراد هؤلاء اليهود -عليهم لعائن الله.

وقد قال عكرمة: إنها نزلت في فنْحاص اليهودي -عليه لعنة الله- وقد تقدم أنه الذي قال: إن الله فقير ونحن أغنياء، فضربه أبو بكر الصديق -.

وقد رد الله عليهم ما قالوه، وقابلهم فيما اختلقوه وافتروه وائتفكوه، فقال: غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ وهكذا وقع لهم فإن عندهم من البخل والحسد والجبن والذلة أمر عظيم كما قال تعالى: أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لاَّ يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا ۝ أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَآ آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا الآية [سورة النساء:53-54] وقال تعالى: ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ الآية [سورة آل عمران:112].

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فهذا الاستعمال والتعبير يعبر به أو يراد به البخل؛ لأن الذي غلت يده إلى عنقه -والغل يكون في العنق- فإنه لا يستطيع أن يبسطها للبذل العطاء، فهذا وجه الملازمة بين هذه العبارة وبين حقيقة الحال، ولذلك فإن النبي ﷺ كما في حديث أبي هريرة مثّل حال البخيل ومثّل حال المنفق برجلين عليهما درعان قد جعلت أيديهما إلى ثديهما فكان المنفق إذا أراد اتسعت كل حلقة من هذا الدرع حتى صارت سابغة، فيمد يده بالعطاء، وأما البخيل فإذا أراد أن ينفق فإنها تضيق كل حلقة فلا يتمكن من البذل والجود والنفقة، وأبو هريرة يقول: كأني أنظر إلى يد رسول الله ﷺ في جيبه وهو يحركها، يعني يريد أن يبسطها.

فالحاصل أن قولهم: يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ [سورة المائدة:64] أي أنها لا تمتد بالعطاء، فهم لا يريدون أنها مغلولة حقيقة بمعنى أنها موثقة كما قال الحافظ –رحمه الله، لكن وجه التعبير عن البخل بهذا هو أن من غلت يده إلى عنقه فإنه لا يتمكن من بسطها للبذل والعطاء، وهذا المثل يذكر عادة أو يحسن ذكره عندما يترجم القرآن ترجمة حرفية فهذا مثال من الأمثلة التي لا يستطيع أحد أن يترجمه حرفياً إلى لغة أخرى ثم ينقل المعنى المراد؛ لأنه لو نقل إلى لغة أخرى وقيل: لا تجعل يدك مربوطة إلى رقبتك، سيقولون: لماذا؟ هل يحرم على الإنسان أن يجعل يده مربوطة إلى رقبته؟ ولذلك إنما يترجم المعنى فيقال: أي لا تكن بخيلاً.

قوله تعالى: وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ [سورة المائدة:64] ظاهره أنه دعاء عليهم، وهو الذي مشى عليه الحافظ بن كثير -رحمه الله- حيث قال: "وهكذا وقع لهم فإن عندهم من البخل والحسد والجبن والذلة أمر عظيم كما قال تعالى.. الخ" ويمكن أن يكون ذلك من قبيل الخبر أي أن الله عاقبهم بذلك.

وقوله: غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ غُلَّت: فعل ماض، فيمكن أن يكون من قبيل الدعاء عليهم بالبخل وهو الظاهر المتبادر؛ لأنه استعمل نفس التعبير حيث قالوا: يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ فقال: غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ [سورة المائدة:64] ومن أهل العلم من يرى أنه دعاء عليهم بالأسر إما في الدنيا وإما في الآخرة حيث يوثقون فتغل أيديهم كما قال الله : إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ ۝ فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ [سورة غافر:71-72] فعلى هذا يكون ذلك في الآخرة، أو يكون ذلك في الدنيا بالأسر؛ لأن الأسير تربط يداه إلى عنقه بالحديد ويربط هكذا، والظاهر المتبادر أنه من قبيل الدعاء عليهم بمثل ما قالوا، أي بالبخل، والله أعلم.

ثم قال تعالى: بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاء [سورة المائدة:64] أي: بل هو الواسع الفضل الجزيل العطاء الذي ما من شيء إلا عنده خزائنه، وهو الذي ما بخلقه من نعمة فمنه وحده لا شريك له الذي خلق لنا كل شيء مما نحتاج إليه في ليلنا ونهارنا، وحضرنا وسفرنا، وفي جميع أحوالنا، كما قال: وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ [سورة إبراهيم:34] والآيات في هذا كثيرة.

هذه الآية: بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ [سورة المائدة:64] مما يسدل به أهل السنة على إثبات صفة اليد لله على ما يليق بجلاله وعظمته، وممن احتج بها على ذلك ابن جرير -رحمه الله- فهو إمام في اللغة وإمام في التفسير، وقال: إنه لا يمكن أن يراد في كلام العرب باليد حينما تكون بالتثنية -كما هنا- أن يراد بها الملك أو النعمة أو القوة أو القدرة.

وعلى كل حال مثل صفة اليد إذا جمعت فيها النصوص الواردة –الآيات والأحاديث- فإنها تدل دلالة نصية -وهو النوع الثاني من دلالة النص عند الأصوليين- وهو أن تتوارد النصوص لتقرير معنىً بحيث لا يحتمل سوى هذا المعنى؛ لأن دلالة النص منها ما يكون ذلك موجوداً في دليل بمفرده كقوله تعالى: تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ [سورة البقرة:196]، وكقوله تعالى: وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا [سورة النساء:164]

وهذا الذي يقول أكثر الأصوليين بأنه نادر، والواقع أن هناك نوعاً آخر من النص وهو أن تتوارد النصوص على تقرير معنىً بمجموعها لا يمكن أن يراد بها غير هذا المعنى، فاليد مثلاً، ذكرها مفردة في قوله: يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ [سورة الفتح:10]، وذكرها مثناه في قوله هنا: بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ [سورة المائدة:64]، وذكرها مجموعة في قوله: مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا [سورة يــس:71] وذكر أيضاً الأصابع كما في حديث الحبر اليهودي الذي في الصحيحين ولفظه عند الترمذي قال: "كيف تقول يا أبا القاسم إذا وضع الله السماوات على ذه، والأرض على ذه، والماء على ذه، والجبال على ذه، وسائر الخلق على ذه" وأشار أبو جعفر محمد بن الصلت بخنصره أولاًَ ثم تابع حتى بلغ الإبهام فأنزل الله: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ [سورة الزمر:67][1].

وكذلك ذكر الكف والأنامل في الرؤيا التي رآها النبي ﷺ في اختصام الملأ الأعلى[2]، وذكر القبض والطي فقال –عليه الصلاة والسلام: يقبض الله الأرض ويطوي السماوات بيمينه[3] وذكر أنه يقبض بيده الأخرى[4]، وفي رواية في صحيح مسلم: ثم يطوي الأرضين بشماله[5] وفي الحديث الآخر: وكلتا يديه يمين[6] ويهزهن كما في حديث ابن عمر[7] إلى غير ذلك من الأدلة الكثيرة التي لا يمكن أن يكون المراد بها غير اليد التي هي صفة حقيقية تليق بجلال الله وعظمته ولا تشبه صفات المخلوقين.

والذين أولوا اليد بالقوة أو القدرة، يقال لهم: أنتم تَبَادر إلى أذهانكم معنىً سيئ وهو أن ذلك يشبه صفات المخلوقين فشبهتم ثم بعد ذلك حرفتم وأولتم، وقلتم: إن اليد ليس المراد بها الظاهر المتبادر، وإنما المراد بها معنىً آخر هو القوة أو النعمة أو الملك، أو نحو ذلك من المعاني التي تذكرونها.

ونقول لهم: إن المخلوق يوصف بكل هذه الأمور التي أولتم المعنى إليها، فالمخلوق يوصف بالقوة ويوصف بالقدرة والنعمة والملك، وما إلى ذلك، كما قال تعالى: وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ [سورة يوسف:43] وقال عن عفريت سليمان : وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ [سورة النمل:39] وعن ابنة شعيب أنها قالت لأبيها: إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ [سورة القصص:26]

وقال كذلك عن النعمة: وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ [سورة الأحزاب:37] فكل هذا مما يوصف به المخلوق، فإذا قلنا لهم: إن المخلوق يوصف بهذه الأشياء فإنهم يقولون: إن ذلك يوصف به الله على الوجه الذي يليق بجلاله وعظمته، فنقول لهم: وكذلك هنا نثبت له صفة اليد على الوجه الذي يليق بجلاله وعظمته، وهذا هو الذي عليه أئمة السنة سلفاً وخلفاً، وخالف في ذلك أهل البدع.

وقد قال الإمام أحمد بن حنبل: حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن همام بن منبه قال: هذا ما حدثنا أبو هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: إن يمين الله ملأى لا يغيضها نفقة، سَحّاء الليل والنهار، أرأيتم ما أنفق منذ خلق السموات والأرض، فإنه لم يَغِض ما في يمينه قال: وعرشه على الماء وفي يده الأخرى الفيض يرفع ويخفض وقال: يقول الله تعالى: أَنفق أُنفق عليك [أخرجاه في الصحيحين][8].

وقوله تعالى: وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا [سورة المائدة:64] أي: يكون ما آتاك الله يا محمد من النعمة نقمة في حق أعدائك من اليهود وأشباههم، فكما يزداد به المؤمنون تصديقاً وعملاً صالحاً وعلماً نافعاً يزداد به الكافرون الحاسدون لك ولأمتك طُغْيَانًا وهو المبالغة والمجاوزة للحد في الأشياء وَكُفْرًا أي تكذيباً.

هذا كما قال الله في الآية الأخرى: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ۝ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ [سورة التوبة:124، 125] فهذا الوحي الذي أنزله الله كما وصفه بأنه نور ينير القلوب المظلمة ويكشف الشبهات، وهو هدى يهدي الله به الخلق إلى ما يصلحهم وينفعهم ويرفعهم، ولا يمنع ذلك أن يكون الموصوف بهذه الصفة لا يلقى محلاً قابلاً فيحصل عكس ذلك في قلوب متعفنة، مثل الدواء النافع والطعام والغذاء الجيد فإنه يُنتفع به غاية الانتفاع، ولكنه حينما لا يلقى المحل القابل فإنه يكون ضرراً على مثل هذا الذي وقع له، وهكذا الروائح الجيدة يحصل بها الانشراح للصدر كما هو معروف ولكنها قد لا تلقى المحل القابل فيحصل عكس ذلك لدى من اعتلت نفوسهم، وهكذا الوحي -نسأل الله العافية- وهذا أعظم ما يكون من اختلال المزاج وفساد الفطر.

كما قال تعالى: قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاء وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ [سورة فصلت:44] وقال تعالى: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا [سورة الإسراء:82].

وقوله تعالى: وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ [سورة المائدة:64] يعني أنه لا تجتمع قلوبهم، بل العداوة واقعة بين فرقهم بعضهم في بعض دائماً؛ لأنهم لا يجتمعون على حق وقد خالفوك وكذبوك.

هذا وما بعده من قوله: كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللّهُ [سورة المائدة:64] يحتمل أن يكون المراد به اليهود والنصارى.

وقوله: وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ يعني أنه يعادي بعضهم بعضاً، ولا يمنع هذا أنهم يجتمعون على حرب المسلمين، ويحتمل معنىً آخر وهو أن المراد بذلك اليهود، أي اليهودي يعادي اليهودي فهم فرق وطوائف متناحرة، يملأ قلوبهم الحسد، وذلك أن اليهود موطن الغل والحسد والجشع وكل خلق دنيء سيئ، ولذلك لا يكاد يجتمع الاثنان منهم، بل الواحد ربما يتعادى مع نفسه، فإذا كان قد وجد في أمة محمد ﷺ العداوة والبغضاء والافتراق بين طوائفها ودب ذلك بينهم منذ أزمان متطاولة، ولا يزال الشيطان يحرش بينهم، فلا يكاد يلتئم أناس على عمل من الأعمال الطيبة الصالحة إلا وبدأ الشيطان ينخر فيهم حتى يفرق جمعهم، ويشتت عملهم، فكيف باليهود، أو اليهود والنصارى؟

ولذلك قال الله في الآية الأخرى: بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ [سورة الحشر:14] فعلى أحد المعاني أنها في اليهود، وإن كان الظاهر المتبادر أن السياق كله في المنافقين، ولهذا قال بعض أهل العلم: هي في المنافقين، وبعضهم قال: في المنافقين واليهود في الحِلف الذي حصل بين عبد الله بن أبي ويهود النضير، ومنهم من قال: إن المقصود بها اليهود، فعلى كل حال لاشك أن قوله: بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ [سورة الحشر:14] مما قد تحقق من الصفات في اليهود، وكذلك هم في هذا الحِلف البائس مع المنافقين إنما هو شيء وقتي لحرب المسلمين، وكذلك حال المنافقين، فيملؤهم الحرص على ذواتهم والهلع، فالمنافق أهم شيء عنده ما يسمى بتحقيق الذات من ناحية الأكل والشرب ونحو ذلك كما تحقق البهيمة ذاتها، لكن من الناحية المعنوية بحيث يكون صاحب مبدأ فهذا أبعد ما يكون عن المنافق.

وقوله: كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللّهُ [سورة المائدة:64] أي كلما عقدوا أسباباً يكيدونك بها، وكلما أبرموا أموراً يحاربونك بها أبطلها الله وردَّ كيدهم عليهم، وحاق مكرهم السيئ بهم.

قوله: كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَارًا لِّلْحَرْبِ إما أنهم هم يريدون الحرب أو أنهم -كما هو الغالب- يحركون غيرهم من أجل أن تستعر الحرب فالله يطفئها، وبعضهم يحمل ذلك على نار الغضب في النفوس، يعني أنه يحصل لهم انتفاشة غضبية كغضبة الهررة -كما قيل- التي يعقبها البول، فلا يحصل من ذلك شيء. 

فالمقصود أن بعضهم فسره بالغضب؛ لأن الغضب –كما يقولون: هو غليان دم القلب، لكن هذا المعنى فيه بعد، والظاهر المتبادر -والله أعلم- أنها الحرب الحقيقية المعروفة.

وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ [سورة المائدة:64] أي من سجيتهم أنهم دائماً يسعون في الإفساد في الأرض، والله لا يحب من هذه صفته.

هذه صفة ملازمة لهم لا تفارقهم -كما هو مشاهد- فمرة تُكتشف غواصة إسرائيلية قريباً من باكستان والهند، ومرة يتصالحون مع دولة لينشروا فيها الإيدز وألوان الفساد الأخلاقي والمالي، ومرة يأتون في الظاهر لإصلاح النيل وإقامة مشروعات، وهناك مشكلة معروفة حصلت في سد مجاري النيل عن طريق أشجار ونباتات تتكاثر بسرعة ثم تتشابك من الناحيتين، ثم ينسد المجرى، وتُبذل أموال طائلة من أجل التخلص من هذه النباتات التي سرعان ما تتكاثر، وهكذا لا أعرف مثلاً ينطبق عليهم إلا الفأرة، يفسدون كل شيء صالح. 

وهكذا يثيرون المشاكل بين المسلمين حيث تراهم يذهبون لتحريك الدول التي عند منابع النيل فيقولون لهم: حصصكم مهضومة وقليلة وليست كافية، فالمفترض أن تطالبوا بشيء أكثر من هذا، وهكذا تبدأ المشاكل، ويتفقون مع هؤلاء ضمن بنود الصلح على أنهم سيعطونهم مياه –مع أنها مياههم- ومع ذلك يعطونهم مياه المجاري ثم عليهم أن يقوموا بتصفية هذه المياه التي يعطونهم إياها من المجاري، وقل مثل ذلك في سرقة مياه الأنهار، وهكذا لا عمل لهم إلا الإفساد في كل مكان.

ثم قال -جل وعلا: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُواْ وَاتَّقَوْاْ [سورة المائدة:65] أي: لو أنهم آمنوا بالله ورسوله، واتقوا ما كانوا يتعاطونه من المآثم والمحارم لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ [سورة المائدة:65] أي: لأزلنا عنهم المحذور وأنلناهم المقصود.

وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِم مِّن رَّبِّهِمْ [سورة المائدة:66] قال ابن عباس -ا- وغيره يعني القرآن، لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم [سورة المائدة:66] أي: لو أنهم عملوا بما في الكتب التي بأيديهم عن الأنبياء -عليهم السلام- على ما هي عليه من غير تحريف ولا تبديل ولا تغيير لقادهم ذلك إلى إتباع الحق والعمل بمقتضى ما بعث الله به محمداً ﷺ فإن كتبهم ناطقة بتصديقه والأمر بإتباعه حتماً لا محالة.

وإذا كان المراد بذلك: وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِم مِّن رَّبِّهِمْ [سورة المائدة:66] يعني قبل بعث محمد ﷺ فإنه يفسر بما نزل عليهم في غير التوراة والإنجيل، مما أوحى الله به إلى أنبيائهم، وهكذا ما نزل عليهم من الكتب غير التوراة والإنجيل كصحف موسى والزبور وما أشبه ذلك من الأمور التي يوحيها الله إلى أنبيائهم، وكذلك هم مطالبون بالإيمان بالكتب التي سبقتهم مما أنزل على الأنبياء قبلهم -عليهم الصلاة والسلام- كصحف إبراهيم ﷺ وإذا كانت الآية تخاطب فقط الذين عاصروا النبي -عليه الصلاة والسلام- فيكون وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِم مِّن رَّبِّهِمْ [سورة المائدة:66] المراد به القرآن والله أعلم.

وقوله تعالى: لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم [سورة المائدة:66] يعني بذلك كثرة الرزق النازل عليهم من السماء والنابت لهم من الأرض.

أي أن الرزق يكون مدراراً، يعني أن هذا التعبير في هذه الجملة لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم [سورة المائدة:66] يفيد هذا المعنى: أن رزقهم يكون كثيراً وافراً بلا عد ولا حساب، وهذا كقوله -تبارك وتعالى- عن نوح -عليه الصلاة والسلام: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا ۝ يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا ۝ وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا [سورة نوح:10-12] ولهذا فسر من فسر من السلف وهم كثير مِن فَوْقِهِمْ قالوا: بإنزال المطر، وليس ذلك بإنزال المطر وإنما أيضاً ما ينزل عليهم من غير المطر من الأرزاق من السماء، فالرزق ينزل من الله -تبارك وتعالى- ويدخل في ذلك أيضاً المن والسلوى، وكل ما يمتن الله به مما يخرج من غير جهد الإنسان، قال تعالى: وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا [سورة هود:3].

كما قال تعالى: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ الآية [سورة الأعراف:96].

وقوله تعالى: مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَاء مَا يَعْمَلُونَ [سورة المائدة:66] كقوله: وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ [سورة الأعراف:159] وكقوله عن أتباع عيسى: فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ الآية [سورة الحديد:27] فجعل أعلى مقاماتهم الاقتصاد وهو أوسط مقامات هذه الأمة.

ابن كثير -رحمه الله- مشى في قوله تعالى: مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ [سورة المائدة:66] على معنى المقتصد الذي ذكره الله في طوائف الأمة الثلاث في قوله تعالى: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا [سورة فاطر:32] فالمقتصد هو الذي يفعل الطاعات ويترك المعاصي، وهذا ليس في المرتبة العالية في هذه الأمة، فابن كثير فسره بهذا وقال: مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ [سورة المائدة:66] يعني أن أفضل طائفة عند هؤلاء هم الذين يوصفون بذلك، يعني عند هذه الأمة بالنسبة لنا يعتبرون في الوسط، أي ما عندهم أعمال صالحة زائدة على الواجبات وليسوا من السابقين بالخيرات، ولا أظن أن هذا هو معنى الآية، وأن هذا هو المراد بالأمة المقتصدة. 

وإنما الذي يظهر -والله تعالى أعلم- أن المراد بالمقتصدة أي القصد والاعتدال، وقصد الطريق بمعنى استقامة الطريق، يعني أنها أمة مستقيمة سائرة على الصراط المستقيم محققة لأمر الله ممتثلة، بعيدة عن الإفراط والتفريط، ولهذا قال كبير المفسرين ابن جرير -رحمه الله: إن المراد بذلك أنها مقتصدة بأمر المسيح، أي أنهم ما ألهوه ولا قالوا فيه ما لا يليق كما قال طوائف من اليهود، لكن المعنى أوسع من هذا ولا يختص بالمسيح، هذا الذي يظهر والله أعلم، وإلا فإن في بني إسرائيل من العُبَّاد من هم منقطعون لعبادة الله ، فالله يقول: وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاء رِضْوَانِ اللَّهِ [سورة الحديد:27] فمثل هؤلاء قطعاً ما كانوا يقتصرون على الواجبات ويتركون المحرمات، وهؤلاء يكونون أرفع مرتبة في طوائف بني إسرائيل، بل فيهم من العبادة الشيء الكثير لكن منهم من هم على صراط مستقيم، ومنهم من وقع عندهم شرك وبدع وضلالات وشهوات وما أشبه ذلك، والله أعلم.

فجعل أعلى مقاماتهم الاقتصاد وهو أوسط مقامات هذه الأمة، وفوق ذلك رتبة السابقين، كما في قوله : ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ۝ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ [سورة فاطر:32-33].

يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ [سورة المائدة:67].

يقول تعالى مخاطباً عبده ورسوله محمداً ﷺ باسم الرسالة، وآمراً له بإبلاغ جميع ما أرسله الله به، وقد امتثل -عليه أفضل الصلاة والسلام- ذلك وقام به أتم القيام.

روى البخاري عند تفسير هذه الآية عن عائشة -ا- قالت: من حدثك أن محمداً ﷺ كتم شيئاً مما أنزل الله عليه فقد كذب، والله يقول: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الآية [سورة المائدة:67] هكذا رواه هاهنا مختصراً[9] وقد أخرجه في مواضع من صحيحه مطولاً، وكذا رواه مسلم في كتاب الإيمان والترمذي والنسائي في كتابي التفسير من سننهما[10].

وفي الصحيحين عنها -ا- أيضاً أنها قالت: لو كان محمد ﷺ كاتماً شيئاً من القرآن لكتم هذه الآية: وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ [سورة الأحزاب:37][11].

وقال البخاري: قال الزهري: مِن الله الرسالة وعلى الرسول البلاغ وعلينا التسليم، وقد شهدت له أمته بإبلاغ الرسالة وأداء الأمانة واستنطقهم بذلك في أعظم المحافل في خطبته يوم حجة الوداع، وقد كان هناك من أصحابه نحوٌ من أربعين ألفاً كما ثبت في صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله -ا- أن رسول الله ﷺ قال في خطبته يومئذ: أيها الناس، إنكم مسئولون عني فما أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت، فجعل يرفع إصبعه إلى السماء ويقلبها إليهم ويقول: اللهم هل بلغت، اللهم هل بلغت[12].

وأيضاً حينما نزل عليه في ذلك الموقف قوله -تبارك وتعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي [سورة المائدة:3] كانت تلك شهادة من الله تدل على أنه ﷺ قد بلغ كل ما أوحاه الله إليه، فأكمل الله الدين.

وقوله تعالى: وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ [سورة المائدة:67] يعني وإن لم تؤدِّ إلى الناس ما أرسلتك به فما بلغت رسالته، أي وقد علم ما يترتب على ذلك لو وقع.

وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس -ا: وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ [سورة المائدة:67] يعني إن كتمت آية مما أنزل إليك من ربك لم تبلغ رسالته.

وقوله تعالى: وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [سورة المائدة:67] أي: بلغ أنت رسالتي وأنا حافظك وناصرك ومؤيدك على أعدائك ومظفرك بهم، فلا تخف ولا تحزن فلن يصل أحد منهم إليك بسوء يؤذيك.

وقد كان النبي ﷺ قبل نزول هذه الآية يُحرَس كما روى الإمام أحمد أن عائشة -ا- كانت تحدث أن رسول الله ﷺ سهر ذات ليلة وهي إلى جنبه قالت: "فقلت: ما شأنك يا رسول الله؟ قال: ليت رجلاً صالحاً من أصحابي يحرسني الليلة قالت: فبينا أنا على ذلك إذ سمعت صوت السلاح فقال: من هذا؟ فقال: أنا سعد بن مالك، فقال: ما جاء بك؟ قال: جئت لأحرسك يا رسول الله، قالت: فسمعت غطيط رسول الله ﷺ في نومه" [أخرجاه في الصحيحين][13] وفي لفظ: سهر رسول الله ﷺ ذات ليلة مقدمه المدينة[14] يعني على أثر هجرته بعد دخوله بعائشة -ا- وكان ذلك في سنة اثنتين منها.

وروى ابن أبي حاتم عن عائشة -ا- قالت: كان النبي ﷺ يُحرَس حتى نزلت هذه الآية: وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [سورة المائدة:67] قالت: فأخرج النبي ﷺ رأسه من القبة وقال: يا أيها الناس انصرفوا فقد عصمني الله وهكذا رواه الترمذي ثم قال: وهذا حديث غريب، وهكذا رواه ابن جرير والحاكم في مستدركه وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه[15].

وقوله: إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ [سورة المائدة:67] أي: بلغ أنت، والله هو الذي يهدي من يشاء ويضل من يشاء كما قال تعالى: لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء [سورة البقرة:272] وقال: فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ [سورة الرعد:40].

من أهل العلم من فسر قوله -تبارك وتعالى: وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [سورة المائدة:67] بقوله: أي لا يصلوا إليك بالقتل، وهم بذلك أرادوا الجمع بين هذه الآية وبين ما وقع للنبي ﷺ من الأذى حينما كسرت رباعيته -عليه الصلاة والسلام- وسقط في الحفرة في أُحد وشجَّ وجهه وما إلى ذلك، ويمكن أن يقال: إن هذه الآية نزلت بعد ذلك فلا يصل أحد إليه بنوع من الأذى الحسي لا بالقتل ولا ما دونه، فالآية تحتمل هذا؛ لأنه قال: وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [سورة المائدة:67] ومثل هذا يحمل على أعم معانيه، والعلم عند الله .

والقول الآخر لا يبعد، لكنه لا يعرف بعد ذلك أن النبي ﷺ وصل إليه أذى، بل كان الله يبطل كيد من أراد به سوءاً، ومن ذلك أنه لما علق سيفه بشجرة فجاء رجل من الأعراب واخترطه، وقال: من يمنعك مني؟ فقال: الله فسقط السيف من يده.. [16].

ومن ذلك أيضاً ما سعى إليه أهل النفاق وبيتوه في غزوة تبوك من إلقاء النبي ﷺ من فوق العقبة، فأبطل الله كيدهم، وغير ذلك من المواقف، والله أعلم.

وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.

  1. أخرجه الترمذي بهذا اللفظ في كتاب تفسير القرآن عن رسول الله ﷺ باب تفسير سورة الزمر (3240) (ج 5 / ص 371) وهو بلفظ مقارب في صحيح البخاري في كتاب التوحيد - باب قول الله تعالى: لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [سورة ص:75] (6979) (ج 6 / ص 2697) وفي صحيح مسلم في كتاب صفة القيامة والجنة والنار (2786) (ج 4 / ص 2147).
  2. أخرجه الترمذي في كتاب تفسير القرآن عن رسول الله ﷺ (3235) (ج 5 / ص 368) وأحمد (22162) (ج 5 / ص 243) وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (3169).
  3. أخرجه البخاري في كتاب التفسير – باب تفسير سورة الزمر (4534) (ج 4 / ص 1812) ومسلم في كتاب صفة القيامة والجنة والنار (2787) (ج 4 / ص 2148).
  4. صحيح البخاري في كتاب التوحيد – باب وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء [سورة هود:7] وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ [سورة التوبة:129] (6983) (ج 1 / ص 2699) ومسلم في كتاب الزكاة - باب الحث على النفقة وتبشير المنفق بالخلف (993) (ج 2 / ص 690).
  5. أخرجه مسلم في كتاب صفة القيامة والجنة والنار (2788) (ج 4 / ص 2148).
  6. أخرجه مسلم في كتاب الإمارة - باب فضيلة الإمام العادل وعقوبة الجائر والحث على الرفق بالرعية والنهي عن إدخال المشقة عليهم (1827) (ج 3 / ص 1458).
  7. أخرجه البخاري في كتاب التوحيد - باب كلام الرب يوم القيامة مع الأنبياء وغيرهم (7075) (ج 6 / ص 2729) ومسلم في كتاب صفة القيامة والجنة والنار (2786) (ج 4 / 2147).
  8. أخرجه البخاري في كتاب التوحيد – باب وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء [سورة هود:7] وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ [سورة التوبة:129] (6983) (ج 1 / ص 2699) ومسلم في كتاب الزكاة - باب الحث على النفقة وتبشير المنفق بالخلف (993) (ج 2 / ص 690).
  9. أخرجه البخاري في كتاب التفسير - باب تفسير سورة المائدة (4336) (ج 4 / ص 1686).
  10. أخرجه البخاري في كتاب التفسير - باب تفسير سورة وَالنَّجْمِ [سورة النجم:1] (4574) (ج 4 / ص 1840) ومسلم في كتاب الإيمان - باب معنى قول الله : وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى [سورة النجم:13] وهل رأى النبي ﷺ ربه ليلة الإسراء؟ (177) (ج 1 / ص 159) والترمذي في كتاب تفسير القرآن عن رسول الله ﷺ باب تفسير سورة الأنعام (3068) (ج 5 / ص 262) والنسائي في السنن الكبرى في كتاب التفسير – باب تفسير سورة المائدة (11147) (ج 1 / ص 335).
  11. أخرجه البخاري عن أنس بن مالك في كتاب التوحيد – باب وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء [سورة هود:7] وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ [سورة التوبة:129] (6984) (ج 6 / ص 2699) ومسلم عن عائشة في كتاب الإيمان - باب معنى قول الله : وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى [سورة النجم:13] وهل رأى النبي ﷺ ربه ليلة الإسراء؟ (177) (ج 1 / ص 159).
  12. أخرجه مسلم في كتاب الحج - باب حجة النبي ﷺ (1218) (ج 2 / ص 886)
  13. أخرجه البخاري في كتاب الجهاد والسير - باب الحراسة في الغزو في سبيل الله (2729) (ج 3 / ص 1057) ومسلم في كتاب فضائل الصحابة باب في فضل سعد بن أبي وقاص (2410) (ج 4 / ص 1875) وأحمد (25136) (ج 1 / ص 140) إلا أن في الصحيحين أن الذي جاء هو سعد بن أبي وقاص وليس سعد بن مالك.
  14. صحيح مسلم في كتاب فضائل الصحابة باب في فضل سعد بن أبي وقاص (2410) (ج 4 / ص 1875).
  15. أخرجه الترمذي في كتاب تفسير القرآن – باب تفسير سورة المائدة (3046) (ج 5 / ص 251) والحاكم (3221) (ج 2 / ص 342) وقال الذهبي في التلخيص: صحيح، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (2489).
  16. أخرجه البخاري في كتاب الجهاد والسير - باب من علق سيفه بالشجر في السفر عند القائلة (2753) (ج 3 / ص 1065) ومسلم في كتاب الفضائل - باب توكله على الله تعالى وعصمة الله تعالى له من الناس -يعني النبي ﷺ (843) (ج 4 / ص 1784).

مواد ذات صلة