الخميس 18 / رمضان / 1445 - 28 / مارس 2024
(06- ا) من قوله " الباب الخامس في أسباب الخلاف بين المفسرين ..."
تاريخ النشر: ٣٠ / رجب / ١٤٣٥
التحميل: 1842
مرات الإستماع: 1566

هذه بعض التَّطبيقات والأمثلة فيما يتعلّق بأسباب الاختلاف بين المفسّرين، وبعضها يصلح أن يكون لأكثر من صورةٍ من هذه الصّور:

فأولًا: ما يتعلّق بالسبب الأول، وهو اختلاف القراءات: وقد تكلّمتُ على هذا السَّبب، وبيّنتُ أنَّ ذلك في كثيرٍ من الحالات لا يكون سببًا للاختلاف، ولكن يمكن أن يكون ذلك سببًا للخلاف فيما إذا بنى بعضُ المفسّرين على ما بلغه من أقوالٍ للسلف مثلًا، وهي في الواقع مُخرّجة على القراءات، فعدّ ذلك من قبيل الاختلاف، وتتابع عليه بعض مَن جاء بعدهم، ينقلونه على أنَّه أقوال، والواقع أنَّ كلَّ قولٍ هو مُخرّج على قراءةٍ، وإلا فإنَّ تنوع القراءات بمنزلة تعدد الآيات، فهذه لها معنى، وهذه لها معنى، وإن اختلفوا في المعنى المعيّن -يعني: معنى القراءة الواحدة-، فهذا كما لو اختلفوا في تفسير الآية التي ليس فيها إلا قراءة واحدة، يعني: لم يكن سببُ الاختلاف هو وجود القراءات، فهم اختلفوا في أحد وجوه هذه القراءات، فذلك بمنزلة الآية كما هو معلومٌ.

لكن يقع الإشكال حينما تُنقل الأقوال فيما بعد على أنها اختلاف؛ فيختار بعضُهم هذا القول، وبعضهم هذا القول، والواقع أنَّ هذا القول مُخرّج على قراءةٍ، وهذا القول مُخرّج على قراءةٍ.

ويقع هذا في الكتب التي تكون على قراءةٍ أحيانًا، ثم تُنزّل على قراءةٍ أخرى في الطباعة؛ فيقع في هذا شيء من الإشكال أحيانًا، مع أنَّ أصله لا إشكالَ فيه من هذا الوجه.

فالكلام على القراءات وكلام المفسّرين فيها، من الأمثلة: قوله -تبارك وتعالى-: لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَن طَبَقٍ [الانشقاق:19]، في قراءة ابن كثير وحمزة والكسائي: لتَرْكَبَن، على هذه القراءة -والآية فيها أربع قراءات-: لتَرْكَبَن اختلفوا في معناه على قولين:

القول الأول: أنَّه خطابٌ للنبي ﷺ، وعلى هذا القول أنه مُوجّه للنبي ﷺ اختلفوا في معناه على قولين، ما معنى كون النبي ﷺ يُخاطَب بهذا: لتَرْكَبَن يا محمد ﷺ طَبَقًا عَن طَبَقٍ؟

فبعضهم يقول: لتركبَن سماءً بعد سماءٍ. هذا منقولٌ عن ابن مسعودٍ والشَّعبي ومُجاهد[1]، يعني: في المعراج.

والقول الثاني: لتركبن حالًا بعد حالٍ. هذا أيضًا منقولٌ عن ابن عباسٍ[2] -رضي الله عنهما-.

لتَرْكَبَن على هذه القراءة أيضًا قال بعضُهم: الخطاب ليس للنبي ﷺ، وإنما يُراد بذلك السَّماء: لتَرْكَبَن يعني: أنَّ السماء تتغير وتصير على أحوال شتى؛ فتارةً كالمهل، وتارةً كالدّهان. وهذا مرويٌّ عن ابن مسعودٍ[3] .

فعلى هذه القراءة اختلفوا في تفسيرها، وقلنا: القراءتان؛ إن كان لكل قراءةٍ معنى، أو القراءات؛ إن كان لكل قراءةٍ معنى، فهي بمنزلة الآيات.

هنا على هذه القراءة اختلفوا فيها: هل هذا الاختلاف الآن في هذا المعنى: لتَرْكَبَن هي بمنزلة الآية المستقلة؟ هل سبب هذا الاختلاف هو القراءة؟

الجواب: لا، لكن اللَّفظ يحتمل، يعني: لو ما عندنا إلا هذه القراءة فقط، ليس منشأ هذا الاختلاف هل ذلك مُوجّه إلى النبي ﷺ، أو أنَّ ذلك يُراد به السّماء؟ أنَّ القراءة هي السّبب.

القراءة الأخرى -وهي قراءة عاصم ونافع وأبي عمرو وابن عامر-: لتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَن طَبَقٍ، فهذا خطابٌ لسائر الناس، يعني: لتركبُن حالًا بعد حالٍ.

هاتان قراءتان مُتواترتان، وهناك قراءتان غير مُتواترتين:

الأولى منهما: وهي مروية عن ابن مسعودٍ وبعض السَّلف: ليركبَن بالياء وفتح الباء.

وفي قراءةٍ أخرى: ليركبُن بضم الباء: ليركبُن طَبَقًا عَن طَبَقٍ، فهنا ما المعنى؟

بعضهم يقول: المراد الشَّدائد والأهوال، ثم الموت، ثم البعث، ثم العرض. هذا مرويٌّ عن ابن عباسٍ[4] -رضي الله عنهما-.

وبعضهم يقول: الرَّخاء بعد الشّدة، والشّدة بعد الرَّخاء، والغنى بعد الفقر، والفقر بعد الغنى، والصحّة بعد المرض، والمرض بعد الصحّة. هذا منقولٌ عن الحسن[5] -رحمه الله-.

وبعضهم -وهو الثالث- يقول: هو تقلّب الإنسان في الأحوال؛ يكون رضيعًا، ثم فطيمًا، ثم غلامًا، ثم شابًّا، ثم شيخًا. وهذا منقولٌ عن عكرمة[6] -رحمه الله-.

قال آخرون -وهو الرابع-: أنَّه تغير حال الإنسان في الآخرة بعد الدنيا، فيرتفع مَن كان وضيعًا، ويتّضع مَن كان مُرتفعًا. وهذا مرويٌّ عن سعيد بن جُبير[7] -رحمه الله-.

الخامس: أنَّه ركوب سَنَن مَن كان قبلهم. وهذا قال به أبو عبيدة[8].

فهذه الأقوال ليس المنشأ فيها –السَّبب- هو القراءات، لكن قد يقع لبعض المفسّرين أنَّه يَخلِط هذه الأقوال، أو يخلط بعضها، ويُنْقَل ذلك من غير تمييزٍ وإضافة إلى القراءة المعينة، فهنا الإشكال، فيأتي مَن يظنّ أنَّ هذا اختلاف بهذه الصّفة، يعني: لو جُعلت جميع هذه الأقوال الـمُخرّجة على القراءات؛ أنها اختلاف في معنى قراءة واحدة، فهذا هو الإشكال فقط من هذه الحيثية.

هناك أيضًا ما يتعلّق بالإعراب، على سبيل المثال: اختلاف وجوه الإعراب في قوله -تبارك وتعالى- مثلًا: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَكَفَرْتُم بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ الآية [الأحقاف:10]، أين جواب (إن): إِن كَانَ مِنْ عِندِ اللَّهِ؟

فهذا ينبني عليه التَّفسير والمعنى، فبعضهم يقول: إنَّ الجوابَ مُضمر. وعلى هذا الأساس فما تقديره؟ ما المعنى؟

بعضهم يقول: فمَن أضلّ منكم؟ وهذا منقولٌ عن الحسن البصري[9].

وبعضهم يقول: التَّقدير: وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ أتُؤمنون؟ وهذا قال به بعضُ أصحاب المعاني، كالزجاج[10].

وبعضهم -وهو الثالث- يقول: إنَّ التقدير: أتأمنون عقوبةَ الله؟

ففيه فرقٌ بين: أتأمنون عقوبةَ الله؟ وقول مَن قال: فمَن أضلّ منكم؟

فالشاهد أنَّ هذا القول الثالث: أتأمنون عقوبةَ الله؟ قال به أبو علي الفارسي[11].

الرابع: أنَّ التقدير: أفما تهلكون؟ وهذا ذكره بعضُ المفسّرين، كالماوردي[12].

الخامس: أنَّ التقدير: فمَن الـمُحِقّ منّا ومنكم؟ ومَن الـمُبطل؟ وهذا ذكره الثَّعلبي[13].

السادس: أنَّ التقدير: أليس قد ظلمتم؟ وقالوا: إنَّ الذي يدلّ على هذا هو قوله في الآية: إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [الأحقاف:10]. وهذا ذكره الواحدي[14].

فهذا فقط باعتبار أنَّ جواب: "إنَّ" مُقدّر محذوف.

وأيضًا من ضمن أسباب الاختلاف التي مضت: ما يتعلق باختلاف اللُّغويين في معنى الكلمة، ومن الأمثلة على ذلك: قوله -تبارك وتعالى-: وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا [الفرقان:68]، ما المراد بهذه اللَّفظة: (أثامًا)؟

جاء عن ابن عباسٍ -رضي الله عنهما-: جزاءً، يلقَ جزاءً[15].

وجاء عن مجاهد وعكرمة: أنَّه وادٍ في جهنم[16].

وقال ابنُ قتيبة: عقوبة[17]. وهذا يرجع إلى قول ابن عباسٍ -رضي الله عنهما-.

وأمَّا سيبويه والخليل فقالا: يلقَ جزاء الآثام[18].

فأولئك فسّروا "أثامًا" بالعقوبة أو بالجزاء، وهذا جزاء الآثام، الآن هذا في معنى كلمة: "أثامًا".

ولو أردنا التَّحقيق في هذه القضية والترجيح ومُناقشة هذه الأقوال، فأصل هذه المادة "الإثم" يُقال للذَّنب والمخالفة، ويُقال أيضًا لجزائه، ما يترتب عليه من المؤاخذة والعقوبة، وهذا معلومٌ، والذَّنب يُقال له: إثم، وقد يُقال ذلك لبعض الذنوب خاصةً، يقول الشَّاعر:

شربتُ الإثم حتى ضلَّ عقلي كذاك الإثم تفعل بالعقول[19]

المقصود بالإثم هنا: الخمر، فالمعصية يُقال لها: إثم، يُقال للخمر: إثم، والزنا إثم، والنَّظر إلى الحرام إثم، ويُقال: مَن فعل كذا فهو آثمٌ ويأثم، مُتعرّض للآثام، مَن أفطر في رمضان من غير عذرٍ فهو آثم. الجزاء المرتّب على المعصية.

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحابته الطّيبين الطَّاهرين، اللهم اغفر لنا، ولوالدينا، ولشيخنا، وللمُستمعين.

أما بعد: فيقول الإمامُ ابن جزي -رحمه الله-:

"وأمَّا وجوه الترجيح، وهي اثنا عشر:

الأول: تفسير بعض القرآن ببعض، فإذا دلَّ موضعٌ من القرآن على المراد بموضعٍ آخر حملناه عليه، ورجّحنا القول بذلك على غيره من الأقوال".

الحمد لله، والصَّلاة والسلام على رسول الله.

أما بعد: فهذا شروعٌ في الكلام على وجوه الترجيح بعد ذكر أسباب اختلاف المفسّرين، وهذا في غاية المناسبة، وهذه الأسباب التي سبقت، فإنَّ هذه الاختلافات التي يختلف المفسّرون بسببها من إعرابٍ، أو المعنى اللغوي، أو نحو ذلك، يُمكن أن يُرجّح بعض هذه الأقوال على بعضٍ.

فهنا يذكر هذه الوجوه، وهي اثنا عشر وجهًا من وجوه التَّرجيح التي ذكرها هنا، وإلا فالواقع أنَّ وجوه الترجيح أكثر من هذا بكثيرٍ، حتى أوصلها بعضُ الأصوليين -وجوه الترجيح مطلقًا- إلى مئة طريق من طرق الترجيح.

وهذه الطرق في الترجيح ليست على درجةٍ واحدةٍ، فهي مُتفاوتة غاية التَّفاوت، فحينما يُقال: إنَّ هذا من وجوه الترجيح، قد يبدو لك لأول وهلةٍ في بعضها، لا سيّما ما يُذكر حينما تُذكر هذه العشرات من الوجوه، قد يبدو أنَّ بعضها ليس بذاك، أنَّه ضعيفٌ، مثل هذا لا يُعتمد عليه، لكن الواقع أنَّ مثل هذا قد يُحتاج إليه إذا تساوت الأقوال، فعندئذٍ يُبحث عن أدنى قرينةٍ أو مُرجِّحٍ يُرجَّح به قولٌ على قولٍ، لكنَّه لا يُبدأ به لأول وهلةٍ، بل حتى هذه الوجوه التي ذكرها هنا ليست هي بدرجةٍ واحدةٍ، وإنما هي مُتفاوتة في غاية التَّفاوت -كما سيأتي-.

وهنا ذكر الأول، وهو تفسير بعض القرآن ببعض، يقول: "فإذا دلَّ موضعٌ من القرآن على المراد بموضعٍ آخر؛ حملناه عليه، ورجّحنا القول بذلك على غيره من الأقوال"، وهذا ليس على إطلاقه.

تفسير القرآن بالقرآن مُقدّم، وهو من حيث الجنس من أفضل وأجود وأعلى طرق التَّفسير، من حيث الجنس، لكن حينما نأتي للتَّطبيقات والأمثلة نجد أنها تتفاوت غاية التفاوت، فأحيانًا يكون وجه الارتباط ظاهرًا، بحيث لا يتردد المفسّر في أنَّ هذه الآية مُفسّرة بهذه الآية.

مثلًا: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2]، ما المراد بالعالمين؟

اختلف فيها المفسّرون، لكن يمكن أن يُفسّر هذا بقوله -تعالى-: قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ ۝ قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا [الشعراء:23-24]، فهذا تفسيرٌ للعالمين، فهذا لا إشكالَ فيه.

وقل مثل ذلك في قوله -تبارك وتعالى-: وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ [هود:82]، ما المراد به؟

تُفسّر بالطين، كما جاء في الآية الأخرى، فهذا لا إشكالَ فيه.

لكن أحيانًا يكون ذلك بوجهٍ من الربط بين الآيات قد يكون بعيدًا، ولا علاقةَ لهذه الآية بهذه الآية.

ومن هنا فإنَّ تفسير القرآن بالقرآن يدخله الاجتهاد -اجتهاد المفسّر-؛ فقد يُخطئ في الرَّبط بين آيتين، وقد يُرجِّح قولًا على قولٍ بهذا الاعتبار: أنَّه فسّر هذه الآية بآيةٍ أخرى، لكن هذه الآية في الواقع لا علاقةَ لها بها، فيكون هذا الطّريق في الترجيح في المثال المعيّن غير صحيحٍ.

وانظر إلى الاختلافات الموجودة في كتب التفسير، وما يمكن أن يُرجَّح به من القرآن، مثلًا في قوله -تبارك وتعالى-: وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ [الحج:29]، ما المراد بالعتيق؟

بعضهم يقول: المعتَق من الجبابرة.

وبعضهم يقول: العتيق يعني: القديم، وأنَّ القِدم أحيانًا يكون سببًا في نفاسة الشيء، أو في رفعته وقيمته.

وبعضهم يقول غير ذلك، لكن يمكن أن نُرجّح بهذا الوجه من تفسير القرآن بالقرآن: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ [آل عمران:96]، فهل هذا يُؤيد قول مَن قال بأنَّه مُعتق من الجبابرة؟

الجواب: لا، لكنَّه يُؤيد قول مَن قال بأنَّه القديم: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ، هذا إذا أردنا أن نُرجّح، وإلا فإنَّ هذه اللَّفظة لها معانٍ في كلام العرب، والقرآن يُعبّر فيه بالألفاظ القليلة الدّالة على المعاني الكثيرة، ويمكن أن يُحمل على هذه المعاني، ولا نحتاج إلى ترجيحٍ، ويكون ذلك من قبيل حمل المشترَك على معانيه، ولا يوجد ما يمنع ذلك، وهذه المعاني صحيحة ولائقة.

في قوله -تبارك وتعالى-: خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ [البقرة:7].

فالواو هنا في قوله: وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ تحتمل أن تكون للعطف على ما قبلها، فيكون الختمُ على القلوب والأسماع والأبصار.

ويحتمل أن تكون هذه الواو الأخيرة للاستئناف، استئنافية، يعني: يكون الوقفُ على قوله: خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ، يكون الوقفُ هنا تامًّا، ثم وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ.

هذا الاحتمال الثاني يُؤيده قوله -تعالى-: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ، ثم قال: وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً [الجاثية:23]، هذه واضحة أنَّ الختم على السّمع والقلب، وأنَّ الغشاوة على البصر.

وهنا يختلف الإعراب، ويختلف المعنى، ويختلف الوقفُ بناءً على ذلك، وهكذا.

يعني: كما ذكرنا في المثال السَّابق في السّجيل، قوله: وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ [هود:82]، ذكر فيها ابنُ الجوزي في "زاد المسير" سبعة أقوال[20]، ما المراد بالسّجيل؟ لكن يمكن أن يُفسّر هذا بما ذكرتُ: حجارة من طينٍ.

إذن ترجيح أحد الأقوال بالنَّظر إلى القرآن بحمل الآية على موضعٍ آخر يُفسّرها؛ هذا قد يكون وجهًا صحيحًا، من حيث التَّطبيقات في الأمثلة المعينة قد يكون صحيحًا، وقد يُخطئ فيه الـمُرجِّح أو المفسّر.

"الثاني: حديث النبي ﷺ، فإذا ورد عنه تفسير شيءٍ من القرآن عوّلنا عليه، لا سيّما إن ورد في الحديث الصَّحيح".

هذا على نوعين، فإنَّ تفسير القرآن بالحديث -كما سبق- إن كان النبيُّ ﷺ ذكر الآية، فهذا إذا صحَّ فلا كلامَ لأحدٍ بعده، وإذا كان النبيُّ ﷺ ما تطرّق للآية، فهنا يُقال فيه كما قيل في تفسير القرآن بالقرآن: يجتهد المفسّر في الربط بين الآية والحديث، فقد يُصيب، وقد يُخطئ، قد يكون الحديثُ لا علاقةَ له بالآية، وقد يكون وجه الارتباط ظاهرًا.

مثال: ما جاء في حديث أبي سعيدٍ مرفوعًا ومُخرّجًا في الصَّحيح، في قوله -تبارك وتعالى-: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا [البقرة:143]، قال: والوسط: العدل[21].

المفسّرون اختلفوا في معنى الوسط، ما المراد به؟

فابن جرير -على سبيل المثال- ذهب إلى أنَّه الوسط في الأفعال، يعني: هنا على الحديث: "أي: عدولًا خيارًا"[22]، العدل: الذي يشهد على الناس، بينما ابن جرير حمله على التوسط في الأفعال.

وأبو سليمان الدّمشقي يقول في تفسيره: "جُعِلت قبلتُكم وسطًا بين القبلتين؛ فإنَّ اليهود يُصلون نحو المغرب، والنَّصارى نحو المشرق"[23]، فهل هذا يتّفق مع ما جاء في الحديث من أنَّ الوسط: العدل في الشَّهادة؟

الجواب: لا.

خذ مثالًا آخر: في قوله -تبارك وتعالى-: لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَن طَبَقٍ [الانشقاق:19]، تقدّم هذا في الكلام على أسباب الاختلاف وأقوال المفسّرين، لكن جاء في الصَّحيح عن ابن عباسٍ -رضي الله عنهما- مرفوعًا إلى النبي ﷺ قال: حالًا بعد حالٍ[24]، ومع أنَّ بعض المفسّرين قالوا غير ذلك، وكما ذكرتُ لكم هناك كيف يقع الاختلافُ بسبب القراءات؟ تجد هنا بعض المفسّرين: لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَن طَبَقٍ هكذا يقول: سماءً بعد سماءٍ. هذا يكون لمن؟

هذا على قراءة: لتركَبَنّ، وليس لتركَبُنّ التي نقرأ بها، مع أنَّ بعض المفسّرين ذكره هكذا من جملة الأقوال: سماءً بعد سماء.

وهكذا قول مَن قال بأنَّ ذلك يرجع إلى السَّماء، وأنها تتحول، بعضهم هكذا يذكره في تفسير: لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَن طَبَقٍ، فيقع الخلطُ بسبب ذلك فيما يتعلّق بأسباب الاختلاف في القراءات، وإن لم يكن ذلك في أصله سببًا للاختلاف.

قوله:

"الثالث: أن يكون القولُ قول الجمهور وأكثر المفسّرين، فإنَّ كثرة القائلين بالقول يقتضي ترجيحه".

هذا النوع -وهو الترجيح بكثرة القائلين، بقول الجمهور- ليس على إطلاقه كما هو معلومٌ، فإذا جاء مثلًا الحديث عن النبي ﷺ واضحًا، فإنَّه لا يُلتفت إلى قول الجمهور، وقد يكون القولُ الراجح خلاف قول الجمهور، هذا وإن كان قليلًا، لكن هذا من المرجّحات؛ حيث لا توجد تلك المرجّحات القوية من القرآن، أو من السُّنة، فهنا يُعمد إلى قول الجمهور.

قول الجمهور هذا الذي يذكره ابنُ جرير -رحمه الله- كثيرًا المراد به قول عامّة أهل العلم، وتارةً يُسميه بالإجماع، والإجماع عند ابن جرير -رحمه الله- يعني قول الأكثر، فهو يذكر القول المخالف أحيانًا، ثم يُعلِّق بعد الترجيح أو عند الترجيح بأنَّه لا يستجيز مُخالفة إجماع أهل العلم، مع أنَّه ذكر في السّطر الذي قبله قولًا مُخالفًا، فهو يقصد قول أكثر أهل العلم.

تجده يعتمد مثل هذا، ويذكره كثيرًا، ويُعبِّر به حافظُ المغرب ابن عبدالبرِّ -رحمه الله-، وهنا بعض الأمثلة على ذلك من كلام ابن جرير، وهو كثيرٌ جدًّا في التفسير.

في قوله -تبارك وتعالى-: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ [البقرة:199]، بعضهم قال: ثُمَّ أَفِيضُوا هذا خطاب لقريش ومَن ولدته قريش، يُسمّونهم: الحُمُس، فإنَّ قريشًا ومَن ولدت كانوا لا يذهبون إلى عرفة، يقفون عند حدود الحرم، ويقولون: نحن أهل الحرم. فأُمِرُوا أن يُفيضوا من حيث أفاض الناس، من أين يُفيض الناس؟

فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ [البقرة:198]، فيكون ذلك خطابًا لقريش، وعرفات هي التي أفاض منها سائر الناس غير الحمس.

وقال آخرون: المخاطبون بقوله: ثُمَّ أَفِيضُوا المسلمون كلّهم، والمعني بقوله: مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ مِن جَمْع، وبـالنَّاسُ إبراهيم .

فالقول الأول: الخطاب لقريش، والنَّاسُ هم بقية الناس غير الحمس، ويفيضون من عرفة إلى مُزدلفة.

وعلى القول الآخر: أنَّ الخطاب للمسلمين: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ من حيث أفاض إبراهيم ، من أين أفاض إبراهيم ؟ من مُزدلفة؛ لأنَّ الإفاضة من عرفة ذُكِرت قبله: فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ ۝ ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ، فهذه إفاضة أخرى من مُزدلفة إلى منى؛ لئلا يكون ذلك من قبيل التَّكرار.

فابن جرير يقول: "والذي نراه صوابًا من تأويل هذه الآية: أنَّه عُني بهذه الآية قريش، ومَن كان مُتحمسًا معها من سائر العرب؛ لإجماع الحجّة من أهل التَّأويل على أنَّ ذلك تأويله"[25].

إجماع الحجّة، لاحظ، مع أنَّه ذكر القولين، قال: لإجماع الحجّة. وهو يقول ويُصرّح بأنَّ السياق يدلّ على أنَّ المقصود بـأَفِيضُوا يعني: من مُزدلفة؛ لأنَّه ذكر الإفاضة من عرفة قبله، لكن يقول هنا: لإجماع الحجّة. يعني: يقصد قول الجمهور.

مثال آخر لذلك في قوله -تبارك وتعالى-: وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ [النساء:104]، ما المقصود بهذا الرَّجاء؟

بعضهم يقول: هو الأمل. وهذا منقولٌ عن مُقاتل، وبه قال الزَّجاج[26].

والقول الثاني: أنَّه الخوف. وهذا مرويٌّ عن ابن عباسٍ، وبه قال الفرَّاء[27].

فبعض المفسّرين يذكر هذين القولين، وابن الجوزي في "زاد المسير" ذكر القولين، ثم قال عن الأول: "أنَّه الأمل، وهو إجماع أهل اللغة الموثوق بعلمهم"، وذكر القول الثاني المروي عن ابن عباسٍ والفرَّاء، مع أنَّ ابن عباسٍ من أهل اللغة، وهو أعلم الناس بالتفسير، فكيف يُنقل الإجماع؟ ثم أيضًا الفرَّاء وإن لم يكن في زمن الاحتجاج، لكنَّه إمام في اللغة، ويعرف أقوال اللغة، فكيف يُقال: إنَّه إجماع؟

يقول هنا: "ولم نجد الخوفَ بمعنى الرَّجاء إلا ومعه جحدٌ"[28]، هذا كلام الفرَّاء.

"ولم نجد الخوف بمعنى الرَّجاء إلا ومعه جحدٌ" يعني: هو يرد على القول الأول، الذين قالوا: إنَّه الأمل. فالرَّجاء بمعنى الخوف لا بدَّ معه من جحدٍ: مَّا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا [نوح:13]، مَّا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ يعني: "لا تخافون لله عظمةً"[29]، كما قال بعضُ السَّلف، لا بدَّ أن يكون قبله جحدٌ، يعني: نفي، فيُفسَّر بمعنى الخوف، هذا كلام الفرَّاء.

لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ [الجاثية:14] يعني: لا يخافون، إذا سبقه نفيٌ فُسّر بمعنى الخوف.

فهنا لا يوجد قبله نفيٌ: وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ، فهو بمعنى: الأمل، يعني: تُؤمّلون، وهكذا.

وقول الجمهور يُرجّح به، أو يمكن أن يُستأنس به حيث عُدِمت المرجّحات التي هي أقوى منه، يعني: بعض الناس قد يُعبّر بلغةٍ غير مناسبة، يقول عن بعض أهل العلم مثلًا بأنَّه من الجمهوريين! إذا رآه يُرجّح بقول الجمهور، وهذا لا يليق، فالترجيح بقول الجمهور أحيانًا يكون هو الذي أمام الـمُفسّر، أو أمام الـمُجتهد، فهو لا يجد شيئًا من المرجّحات التي هي أقوى منه.

وهذه الطَّريقة اعتمدها كثيرٌ من أهل العلم، وإن لم تكن محل اتِّفاقٍ، لكن إذا نظرنا إليها بهذا الاعتبار الذي ذكرتُه آنفًا، فلا يتبادر إلى ذهنك أنَّ الترجيح بقول الجمهور إنما هو يُعمد إليه ابتداءً، ليس هذا هو المراد، بمجرد أنَّه قول الجمهور؛ إذًا هذا هو القول الراجح، هم لا يقصدون هذا، فهم حينما يذكرون هذه الطُّرق الكثيرة في الترجيح -التي أوصلها بعضُهم إلى مئة طريق- إنما يُريدون بذلك حيث تناقصت الطرق وتلاشت التي يمكن أن يُعوّل عليها من المرجّحات القوية، فقد لا يكون أمام المجتهد أو المفسّر إلا أنَّ هذا قال به أكثرُ أهل العلم، ولم يترجح ذلك عنده بقرينةٍ من الآية، لم يجد شيئًا يُرجِّح به من القرآن، أو من سنة رسول الله ﷺ، أو إجماع أهل العلم، فهنا تساوت عنده هذه الأقوال، إلا أنَّه رأى أنَّ هذا قول الأكثر من أهل العلم، فيمكن أن يُرجِّح بذلك.

ومن الأمثلة على هذا من تفسير ابن جرير في قوله -تعالى- عن أمِّ موسى : إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ [القصص:10]، هنا الهاء في "به" إلى أي شيءٍ ترجع؟

بعضهم يقول: ترجع إلى موسى : إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ. وهذا منقولٌ عن جماعةٍ من السَّلف.

القول الآخر: قال: وقال آخرون: بما أوحيناه إليها. يعني: أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ [القصص:7].

فبعضهم يقول: إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ يعني: بما أُوحي إليها في شأن موسى . هذا قولٌ آخر الآن.

وابن جرير -رحمه الله- يقول: "والصَّواب أنَّ القول في ذلك ما قاله الذين ذكرنا قولهم؛ أنهم قالوا: إن كادت لتقول يا بنياه"، يعني: الضمير يرجع إلى موسى ، قال: "لإجماع الحجّة من أهل التَّأويل على ذلك"[30]، فيقصد بإجماع الحجّة قول الجمهور؛ لأنَّه ذكر القولين.

قوله:

"الرابع: أن يكون القولُ قول مَن يُقتدى به من الصّحابة: كالخلفاء الأربعة، وعبدالله بن عباس؛ لقول رسول الله ﷺ: اللهم فقهه في الدِّين، وعلّمه التَّأويل"[31].

هذا الطَّريق أيضًا يُقال فيه كما قيل في الذي قبله: إذا وُجِدَ عندنا حديثٌ عن النبي ﷺ صريحٌ، فهنا لا ننظر إلى قول قائلٍ، فإنَّ أصحاب النبي ﷺ على علمهم وجلالتهم ومكانتهم وفضلهم فإنَّه قد يخفى على بعضهم، بل قد يخفى على بعض كبار الصَّحابة بعض السُّنن، والعلماء ذكروا أشياء من هذا، فالحافظ ابن القيم في "أعلام الموقعين"[32] ذكر أمثلةً كثيرةً فيما خَفِي على أبي بكر وعمر وعثمان وكبار الصّحابة -رضي الله عن الجميع-.

وذكر من هذا أيضًا الشَّوكاني في بعض كتبه، كـ"نيل الأوطار" في بعض المواضع، وهذا معلومٌ.

فهذا الطريق: أن يكون هذا قولًا لبعض كبار الصّحابة، لبعض المقدّمين منهم في التفسير: كابن عباسٍ، هو لا يعتمد عليه ابتداءً، لكن حينما تتساوى الأقوال في نظر المفسّر، أو النَّاظر في التفسير، ولا توجد مُرجِّحات أقوى منه؛ فإنَّه قد يميل إلى هذا القول الذي نُقِل عن هؤلاء الأئمّة الكبار، ويكون ذلك سببًا للترجيح بهذا الاعتبار.

فينبغي أن نفهم ذلك بهذه الطَّريقة، وإلا فإنَّ البعض قد يُبادر لردِّ مثل هذا، يظنّ أنَّ ذلك بمجرد ما يرى أنَّ ابن عباسٍ قال بهذا القول، إذن هو الراجح، وهم لا يُريدون ذلك.

ممن صرّح بأنَّ هذه الطريق مُعتبرة، ويُقدَّم قول هؤلاء: الواحدي في تفسيره "الوجيز"، كذلك ابن الوزير اليماني في كتابه "إيثار الحقِّ على الخلق"، وذكر خمسة أوجهٍ لترجيح أقوال مثل ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما- في التفسير.

والحافظ ابن القيم -رحمه الله- يقول في "أعلام الموقعين" في سياقٍ طويلٍ عند كلامه على منزلة الصّحابة ، لكن آتي ببعض الجُمَل، يقول: "قال الشَّعبي: إذا اختلف الناسُ في شيءٍ فخذوا بما قال عمر"[33]، هذا مثال: "خذوا بما قال عمر"، إذن هو عند الشَّعبي -رحمه الله-، يعني: هذا الطريق، الترجيح مُعتبر.

قال الأعمش: عن إبراهيم –يعني: إبراهيم النَّخعي-: إنَّه كان لا يعدل بقول عمر وعبدالله إذا اجتمعا. يعني: عبدالله بن مسعود ، يقول: "فإذا اختلفا كان قولُ عبدالله أعجب إليه"[34].

وكان ميمون بن مهران إذا ذُكر عنده ابنُ عباسٍ وابنُ عمر يقول: "ابن عمر أورعهما، وابن عباسٍ أعلمهما"[35]. يعني: أنَّه يمكن أن يُرجّح قول ابن عباسٍ؛ لأنَّه أعلم في نظره، ويُرجّح قول ابن عمر باعتبار أنَّه من جهة الورع، يعني: يأخذ بذلك نفسه، ولكنَّه لا يُلزم به من جهة الفُتيا.

وقيل لطاووس: أدركتَ أصحاب محمدٍ ﷺ، ثم انقطعت إلى ابن عباسٍ! فقال: "أدركتُ سبعين من أصحاب محمدٍ ﷺ إذا تدارؤوا في شيءٍ انتهوا إلى قول ابن عباسٍ -رضي الله عنهم أجمعين-"[36]، يعني: أنَّ أصحاب النبي ﷺ كانوا يُعوّلون على قوله.

ويقول مجاهد: "إذا اختلف الناسُ في شيءٍ، فانظروا ما صنع عمرُ فخذوا به"[37].

وابن مسعودٍ كان يقول: "لو سلك الناسُ واديًا وشعبًا، وسلك عمرُ واديًا وشعبًا؛ لسلكتُ وادي عمر وشعبه"[38].

ويقول محمدُ بن جرير -رحمه الله-: "لم يكن أحدٌ له أصحاب معروفون حرَّروا فُتياه ومذاهبه في الفقه غير ابن مسعودٍ، وكان يترك مذهبَه وقولَه لقول عمر، وكان لا يكاد يُخالفه في شيءٍ من مذاهبه، ويَرجع من قوله إلى قوله"[39]، يعني: يترك قولَه مع علمه –أعني: ابن مسعودٍ - إلى قول عمر.

ويقول الشَّعبي: "كان عبدُالله لا يقنت، وقال: لو قنت عمرُ لقنت عبدُالله"[40].

ويقول ابنُ جرير: "وقد قيل: إنَّ ابن عمر وجماعة ممن عاش بعده بالمدينة من أصحاب النبي ﷺ إنما كانوا يُفتون بمذاهب زيد بن ثابت وما كانوا أخذوا عنه مما لم يكونوا حفظوا فيه عن رسول الله ﷺ قولًا"[41].

يقول: "وأمَّا عائشة فكانت مُقدّمة في العلم والفرائض والأحكام والحلال والحرام، وكان من الآخذين عنها، الذين لا يكادون يتجاوزون قولها، المتفقهين بها: القاسم بن محمد بن أبي بكر ابن أخيها، وعروة بن الزبير ابن أختها أسماء"[42]، وهم من الفقهاء؛ فقهاء المدينة، الفقهاء السَّبعة.

فانظروا في مثل هذه العبارات فهي تدلّ على ما ذُكِر هنا من الأخذ بقول كبار الصّحابة ، بقول المقدّمين منهم، فهذا مُعتبر عند هؤلاء من أصحاب النبي ﷺ، وعند هؤلاء الأكابر من التابعين، وإنما ذكرتُ هذا لأنَّ بعض طلاب العلم ربما يعجل فيُنكر مثل هذا الطريق في الترجيح، والله المستعان.

قوله:

"الخامس: أن يدلّ على صحّة القول كلامُ العرب من اللغة، أو الإعراب، أو التَّصريف، أو الاشتقاق".

أن تدلّ على ذلك اللغة، يعني: أن يُرجَّح هذا باللغة، على صحّة القول؛ لأنَّ كلام العرب من اللغة.

ومن الأمثلة على الترجيح باللغة: قوله -تبارك وتعالى-: لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص:75]، أهل البدع -كما تعرفون- بعض أصحاب المذاهب الكلامية أوّلوها وحملوها على محامل غير صحيحةٍ؛ فبعضهم يقول: المراد بذلك النِّعمة.

أبو الحسن الأشعري -رحمه الله- في كتابه: "الإبانة" -وهو من أحسن كتبه ومن آخرها- يقول ردًّا على هؤلاء: "وليس يجوز في لسان العرب ولا في عادة أهل الخطاب أن يقول القائلُ: عملتُ كذا بيديّ، ويعني به: النِّعمة، وإذا كان اللهُ إنما خاطب العرب بلغتها، وما يجري مفهومًا في كلامها، ومعقولًا في خطابها، وكان لا يجوز في لسان أهل البيان أن يقول القائل: فعلتُ بيديّ، ويعني: النِّعمة؛ بطل أن يكون معنى قوله : بيديّ النِّعمة"[43]، هذا ترجيحٌ باللغة.

مثال آخر في قوله -تبارك وتعالى-: وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ [النساء:104] الذي ذكرناه من قبل في مناسبةٍ سابقةٍ، وذكرنا في هذا الرَّجاء أنَّه الأمل، وقول مَن قال: إنَّه الخوف.

الفرَّاء قال: "ولم نجد معنى الخوف يكون رجاءً إلا ومعه جحدٌ"[44]، يعني: في لغة العرب أنَّه لا يأتي بمعنى الخوف إلا أن يكون قبله نفي.

ومثال آخر في قوله –تعالى-: قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَّوْنُهَا [البقرة:69]، هنا الصَّفراء ما المراد بها؟

بعض المفسّرين قالوا: سوداء شديدة السَّواد.

وقال آخرون: صفراء القرن والظّلف.

وابن جرير يُعلّق على هذا فيقول: "وأحسب أنَّ الذي قال في قوله: "صفراء" يعني: سوداء، ذهب إلى قولهم في نعت الإبل السُّود: هذه إبل صُفر، وهذه ناقة صفراء، يعني بها: سوداء، وإنما قيل ذلك في الإبل؛ لأنَّ سوادها يضرب إلى الصُّفرة ..."، إلى أن يقول: "وذلك إن وصفت به الإبل فليس مما تُوصف به البقر، مع أنَّ العرب لا تصف السواد بالفقوع، وإنما تصف السواد إذا وصفته بالشّدة، بالحلوكة، ونحوها، فتقول: هذا أسود حالك، وحانك، وغربيب، ودجوجي، ولا تقول: أسود فاقع، وإنما تقول: أصفر فاقع، فوصفه إياه بالفقوع من الدليل البيّن على خلاف التَّأويل الذي تأوّله ..."[45].

الذي تأوّل قوله: إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ تأوّلها المتأوّل بأنها سوداء شديدة السّواد. هذا ترجيحٌ من جهة اللغة واستعمالات العرب.

مثال آخر في قوله: حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً [الأحقاف:15]، بلوغ الأشدّ ما هو؟

بعضهم يقول: هو ثلاث وثلاثون سنةً.

وبعضهم يقول: هو بلوغ الحلم.

وبعضهم يقول غير هذا.

بعضهم يقول: إذا بلغ الخمسين.

وبعضهم يقول: إذا بلغ الأربعين.

وابن جرير -رحمه الله- يقول: "وقد بينّا فيما مضى الأشدّ، وأنَّه جمع شَدَّ، وأنَّه تناهي قوته واستوائه، وإذا كان ذلك كذلك، كان الثلاث والثلاثون به أشبه من الحلم؛ لأنَّ المرء لا يبلغ في حال حلمه كمال قواه ونهاية شدّته، فإنَّ العرب إذا ذكرت مثل هذا من الكلام فعطفت بعضًا على بعضٍ جعلت كلا الوقتين قريبًا أحدهما من صاحبه"[46].

فما القريب من الأربعين: وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً؟ هل هو إذا بلغ الحلم، أو بلغ الثلاث والثلاثين؟

فابن جرير يقول: هذه طريقة العرب حينما تذكر شيئًا وتعطف، يقول: "إذا ذكرت مثل هذا من الكلام فعطفت بعضًا على بعضٍ جعلت كلا الوقتين قريبًا أحدهما من صاحبه، كما قال -جلَّ ثناؤه-: إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ [المزمل:20]، ولا تكاد تقول: أنا أعلم أنَّك تكاد تقوم قريبًا من ساعةٍ من الليل وكلّه، ولا أخذت قليلًا من مالٍ أو كلّه، ولكن تقول: أخذت عامّة مالي أو كلّه، فكذلك ذلك في قوله: حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً، لا شكَّ أنَّ نسق الأربعين على الثلاث والثلاثين أحسن وأشبه؛ إذ كان يُراد بذلك تقريب أحدهما من الآخر من النَّسق على الخمس عشرة، أو الثّمان عشرة"[47].

وهو لا يقصد تحديد بلوغ الأشدّ مطلقًا أنَّه بالثلاث والثلاثين، لكن يقصد في هذه الآية فقط، وإلا فإنَّ بلوغ الأشدّ قد يُقال أيضًا لغير ذلك، يعني: يصدُق على أكثر من ذلك، أكثر من عدد من السنين، وهذا جاء عن أهل اللغة، فالذي بلغ الأربعين يكون قد بلغ كمال الأشدّ، والذي بلغ الخمسين كذلك أيضًا، وعلي جاء عنه: "أخو خمسين مُجتمع أشدي"[48].

وكذلك الذي بلغ الثامنة عشرة يكون قد بلغ الأشدّ بهذا الاعتبار.

ومثال آخر في قوله: وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ [يوسف:24]، ابن جرير -رحمه الله- لما ذكر أقوال المفسرين في هذه الآية قال بعده، وبعد أن ردّ بعض الأقوال، وأشار إلى كونها بعيدة ومُخالفة لأقوال السلف؛ كقول مَن قال بأنَّ المرأة همّت بيوسف، وهمَّ بها يوسفُ أن يضربها، أو أن ينالها بمكروهٍ لهمّها به مما أرادته من المكروه -الذي هو الفاحشة-، لولا أنَّ يوسف رأى برهان ربِّه وكفّه ذلك عمَّا همَّ به من أذاها، لا أنها ارتدعت من قِبَل نفسها. هذا قول.

والقول الآخر: أنَّ المعنى: وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ فتناهى الخبرُ عنها، يعني: خلاص انتهى الخبر الآن: وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وقف، ثم ابتُدِئ الخبرُ عن يوسف فقيل: وهمَّ بها يوسفُ لولا أن رأى برهان ربِّه، يعني: أنه ما همّ بها، يقول: "فكأنهم وجَّهوا معنى الكلام إلى أنَّ يوسف لم يهمّ بها، وإنَّ الله إنما أخبر أنَّ يوسف لولا –يعني- أنَّه رأى برهان ربِّه لهمَّ بها، ولكنَّه رأى برهان ربِّه فلم يهمّ بها".

يقول ابنُ جرير يُعلّق على هذين القولين، قال: "ويُفسد هذين القولين أنَّ العرب لا تُقدّم جواب "لولا" قبلها، لا تقول: لقد قمت لولا زيد، وهي تُريد: لولا زيد لقد قمت، هذا مع خلافها جميع أهل العلم بتأويل القرآن، الذين عنهم يُؤخذ تأويله"[49]، فهنا رجّح باللُّغة.

من الأمثلة على ذلك في قوله -تبارك وتعالى-: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [آل عمران:200].

يقول ابنُ جرير -رحمه الله-: "اختلف أهلُ التأويل في تأويل ذلك، فقال بعضُهم: معنى ذلك: اصبروا على دينكم، وصابروا الكفَّار ورابطوهم.

وقال آخرون: معنى ذلك: اصبروا على دينكم، وصابروا وعدي إياكم على طاعتكم لي، ورابطوا أعداءكم.

وقال آخرون: معنى وَرَابِطُوا أي: رابطوا على الصّلوات، أي: انتظروها واحدةً بعد واحدةٍ".

يقول ابنُ جرير: "وأولى التَّأويلات بتأويل الآية قول مَن قال في ذلك: اصبروا على دينكم وطاعة ربّكم، وذلك أن الله لم يُخصص من معاني الصَّبر على الدِّين والطَّاعة شيئًا، فيجوز إخراجه من ظاهر التَّنزيل؛ فلذلك قلنا: إنَّه عنى بقوله: اصْبِرُوا الأمر بالصَّبر على جميع معاني طاعة الله فيما أمر ونهى، صعبها وشديدها، وسهلها وخفيفها، وَصَابِرُوا يعني: صابروا أعداءكم من المشركين، وإنما قلنا ذلك أولى بالصَّواب؛ لأنَّ المعروف من كلام العرب في المفاعلة: وَصَابِرُوا أن تكون من فريقين، أو اثنين فصاعدًا، ولا تكون من واحدٍ إلا قليلًا في أحرفٍ"[50].

يعني: كلمة المفاعلة، ما جاء على وزن "مُفاعلة" أحيانًا يأتي من طرفٍ واحدٍ، تقول: لاحظت، وأنت واحد، لكن تقول: قاتلت، يكون بين طرفين فأكثر، جاهدت، ناقشت، ناظرت، وهكذا.

يقول: "وكذلك قوله: وَرَابِطُوا معناه: ورابطوا أعداءكم وأعداء دينكم من أهل الشِّرك في سبيل الله، وأرى أنَّ أصل الرِّباط ارتباط الخيل للعدو، كما ارتبط عدوهم لهم خيلهم، ثم استُعْمِل ذلك لكل مُقيمٍ في ثغرٍ يدفع عمَّن وراءه مَن أراده من أعدائهم بسوءٍ، ويحمي عنهم ..." إلى آخره[51]، قال: "وإنما قلنا معنى: وَرَابِطُوا ..." إلى آخره، وبدأ يتكلّم عليها، وهذه تأتي في حالةٍ أخرى.

ومثال آخر لذلك في قوله -تبارك وتعالى-: إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُن لِّلْخَائِنِينَ خَصِيمًا ۝ وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا  [النساء:105- 106].

ابن جرير -رحمه الله- يقول في كلامٍ وسياقٍ طويلٍ، أنتخب بعض الجمل منه، يقول: "واختلف أهلُ التأويل في خيانته التي كانت منه فوصفه اللهُ بها، فقال بعضُهم: كانت سرقةً سرقها"[52]، وأطال في الكلام على هذا، إلى أن يقول: "وقال آخرون: بل الخيانة وديعة كان أُودِعَها"، إلى أن يقول: "وقال أبو جعفر: وأولى التَّأويلين في ذلك بما دلَّ عليه ظاهرُ الآية قول مَن قال: كانت خيانته التي وصفه اللهُ بها في هذه الآية جحوده ما أُودِع؛ لأنَّ ذلك هو المعروف من معاني الخيانات في كلام العرب، وتوجيه وتأويل القرآن ..." إلى آخره[53].

يقول هنا: "من اللغة والإعراب"، الترجيح بالإعراب، نذكر بعض الأمثلة على ذلك، هنا في قوله -تبارك وتعالى-: أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [يونس:62-63]، يقول ابنُ جرير: "فإن قال قائل: فإذا كان معنى الكلام ما ذكرت عندك، أفي موضع رفعٍ: الَّذِينَ آمَنُوا، أم في موضع نصبٍ؟"[54]، لما ذكر المعنى، هل هي في موضع رفعٍ، أو في موضع نصبٍ: الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ؟ أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ۝ الَّذِينَ آمَنُوا هل هي منصوبة؟ يعني مثلًا: بفعلٍ مُقدّر، أعني الذين آمنوا، أخصّ الذين آمنوا مثلًا، أو أنها مرفوعة، هي جمله استئنافية مثلًا؟

يقول: "قيل: في موضع رفعٍ، وإنما كان كذلك، وإن كان من نعت الأولياء: أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ قال: لمجيئه بعد خبر الأولياء، والعرب كذلك تفعل، خاصّة في "إنّ" إذا جاء نعتُ الاسم الذي عملت فيه بعد تمام خبره رفعوه"[55].

ومثال آخر في قوله –تبارك وتعالى-: إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ ۝ يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ [الطارق:8-9]، فالظرف الذي هو يوم هنا إذا نظرنا إلى المعنى فإنَّه يقتضي أن يتعلّق بالمصدر الذي هو "رجع": إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ * يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ يعني: أنَّ رجعه يوم تُبلى السرائر يوم القيامة، يكون المعنى: إنَّه على رجعه في ذلك اليوم لقادر، لكن الإعراب يُعارض هذا التفسير؛ وذلك لأنَّه لا يجوز الفصل بين المصدر -وهو هنا "رجع"- ومعموله -وهو هنا "يوم"- بأجنبي، فيُجْعَل هنا في هذه الحالة العامل فيه فعلًا مُقدّرًا دلَّ عليه المصدر.

وفي قوله -تبارك وتعالى-: لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِن مَّقْتِكُمْ أَنفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ [غافر:10]، المعنى يقتضي تعلّق "إذ" بالمقت، يعني: لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِن مَّقْتِكُمْ أَنفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ، لكن الإعراب يأبى ذلك؛ لأنَّه يُؤدي إلى الفصل بين المصدر ومعموله بالخبر، وهو مُمتنع، فلا بدَّ أن يُقدَّر له فعل يدلّ عليه المقت، يعني: هذا يُرجَّح به قولٌ على قولٍ.

وفي قوله: أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ ۝ وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ ۝ إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ [العاديات:9-11]، المعنى قد يُفهم بأنَّ العامل في "إذا": أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ، العامل في "إذا" هو قوله: إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ متى؟ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ، الله خبيرٌ بهم في ذلك اليوم، خبيرٌ بهم إذا بُعثر ما في القبور، وحُصّل ما في الصُّدور، لكن الإعراب يمنع من ذلك؛ لأنَّ ما بعد "إنَّ" لا يعمل فيما قبلها، فاقتضى هذا الأمر أن يُقدّر لما قبل "إنَّ" عامل آخر. هذا ترجيحٌ بالإعراب.

يقول: "أو التَّصريف"، الترجيح بالتَّصريف، وعرفنا التَّصريف ومعناه، وفائدته هي حصول المعاني المختلفة المتشعبة عن المعنى الواحد، وأحيانًا تجد بعض المفسّرين يقول قولًا يُفسّر الآية بمعنًى يمكن أن لا يكون ذلك صحيحًا، باعتبار أنَّ التصريف يأباه، أنَّ هذا المعنى الذي ذُكِر يرجع إلى مادةٍ أخرى، يتَّضح هذا بالأمثلة.

قوله -تبارك وتعالى-: وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا [الجن:15]، وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ ما المعنى؟

بعضهم يقول: القاسطون: الظَّالمون، الجائرون.

في قوله -تبارك وتعالى-: وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [الحجرات:9]، هنا بمعنى: العادلين.

هذا واضحٌ الآن من جهة أنَّ هذه مادة، انظروا إلى كلام، أو إلى بعض الأقوال الشّاذة في التفسير، أو أقوال بعض أهل البدع، يمكن أن نردّ عليهم تلك الأقوال من جهة التَّصريف.

في قوله -تبارك وتعالى-: يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ [الإسراء:71]، بعضهم يقول: بِإِمَامِهِمْ جمع أُمّ، وأنَّ الناس يُدعون يوم القيامة بأمّهاتهم: فلان ابن فلانة، وأمّ هل تُجمع على إمامٍ؟!

الجواب: لا، فهذا يُردّ من جهة التَّصريف.

وفي قوله: وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى [طه:121]، بعض أهل البدع يقولون: "غوى" يعني: أصابته التُّخمة -البشم- من أكل الشّجرة، يعني: ما يُريدون أن يقولوا أنَّ الأنبياء تقع منهم المعصية. الآية صريحة: وَعَصَى آدَمُ، ويقول: "غوى"، هذا من قولهم: غوي الفصيل يغوى، أو غَوِيَ الفصيل يَغْوَى، إذا بَشِم من شرب اللبن، يعني: انتفخ بطنُه، شرب كثيرًا فأضرّ به ذلك.

وهذا المعنى الذي فسّروا به: فَغَوَى غير صحيحٍ من جهة التَّصريف؛ لأنَّ غوي الفصيل على وزن فَعِل، والذي في القرآن على وزن فَعَل، يُقال: غوى يغوى من الغيّ، ويُقال: هو غاوٍ.

فهنا يُردّ على هؤلاء من هذه الجهة.

الإعراب أو الاشتقاق كذلك، يعني: في الكلام على نفس هذا المثال، اشتقاق المادة، من أين أُخِذَت كلمة "غوى"؟ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى هل هي من قولهم: غوي الفصيل، على وزن فَعِل، أو غوى على وزن فَعَل؟ هل هي مأخوذة من هذه؟ هذه مادة، وهذه مادة أخرى، وهكذا.

حتى في غير أقوال أهل البدع تجدون هذا في مواضع كثيرة، حتى في أسماء الله في تفسيرها، انظر مثلًا الكلام الذي يُذكر في "البارئ".

وكنتُ نبّهتُ على هذا في الكلام على هذا الاسم الكريم، في الكلام على الأسماء الحسنى، في مادة الاشتقاق ما هي؟

ولهذا تجد بعض الذين يتكلّمون في الأسماء الحسنى يذكرون جملةً من المعاني، الواقع أنَّ بعض هذه المعاني يرجع إلى مادةٍ أخرى، هل هو من "برى" بألف مقصورة، أو من "برأ"؟

في قوله -تبارك وتعالى-: وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ [الأعراف:179] نفاة القدر يُحرِّفون هذه الآية؛ لأنَّها تردّ على مذهبهم، لا يُريدون أن يقولوا: ذرأنا لجهنم، أي: خلقنا لها، يقولون هنا: ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ أي: ألقينا فيها، من الإلقاء، بمعنى: الإلقاء.

والواقع أنَّ مادة الفعلين مُختلفة: "ذرا" غير مهموزٍ، من غير همزة، "ذرا" تذروه الرِّياح، ذرته الريح، وهنا عندنا: "ذرأ" مهموز، هذه مادة غير تلك، فلا يصحّ هذا التفسير الذي قالوه.

كذلك أيضًا الذين ينفون صفةَ المحبّة عن الله -تبارك وتعالى- والخلّة يقولون في قوله: وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا [النساء:125] قالوا: هو بمعنى الفقير إلى رحمة الله . يقولون: "خليلًا" يعني: فقيرًا، وهناك فرقٌ بين الخُلّة والخَلّة؛ الخَلّة: الحاجة والفقر، والخُلّة: أعلى درجات المحبّة، فهذه مادة، وهذه مادة، فـ"خليلًا" مُشتقّة من الخُلّة، وليس من الخَلّة، فنردّ عليهم بهذا، وهكذا.

 

  1. انظر: "تفسير الطبري = جامع البيان" ت: شاكر (24/324).
  2. انظر: "تفسير الطبري = جامع البيان" ت: شاكر (24/325).
  3. "تفسير الطبري = جامع البيان" ت: شاكر (24/325).
  4. "تفسير البغوي" (8/376).
  5. "تفسير ابن كثير" ت: سلامة (8/361).
  6. "تفسير ابن كثير" ت: سلامة (8/361).
  7. "تفسير ابن كثير" ت: سلامة (8/361).
  8. "تفسير البغوي" (8/376).
  9. "تفسير البغوي" (7/254).
  10. "معاني القرآن وإعرابه" للزجاج (4/440).
  11. "زاد المسير في علم التفسير" (4/105).
  12. انظر: "تفسير الماوردي = النكت والعيون" (5/274)، و"زاد المسير في علم التفسير" (4/105).
  13. "تفسير الثعلبي = الكشف والبيان عن تفسير القرآن" (9/10).
  14. "التفسير الوسيط" للواحدي (4/105).
  15. انظر: "الدر المنثور في التفسير بالمأثور" (6/278).
  16. "تفسير ابن كثير" ت: سلامة (6/126).
  17. "غريب القرآن" لابن قتيبة ت: سعيد اللحام (ص270).
  18. "تهذيب اللغة" (15/116).
  19. انظر: "لسان العرب" (12/6)، و"تفسير البغوي" (3/226)، و"البحر المحيط في التفسير" (1/469).
  20. انظر: "زاد المسير في علم التفسير" (2/393).
  21. أخرجه البخاري: كتاب أحاديث الأنبياء، باب قول الله –تعالى-: {إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [نوح:1] إلى آخر السورة، برقم (3339)، وكتاب تفسير القرآن، باب قوله –تعالى-: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة:143]، برقم (4487).
  22. "تفسير الطبري" (3/141).
  23. "زاد المسير في علم التفسير" (1/119).
  24. أخرجه البخاري: كتاب تفسير القرآن، باب {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ} [الانشقاق:19]، برقم (4940).
  25. "تفسير الطبري" (4/190).
  26. "معاني القرآن وإعرابه" للزجاج (2/100).
  27. "معاني القرآن" للفراء (2/265)، و"تفسير البغوي" (6/78).
  28. "زاد المسير في علم التفسير" (1/464).
  29. انظر: "تفسير الطبري" (9/174)، و"الدر المنثور في التفسير بالمأثور" (8/290)، و"تفسير البغوي" (6/78).
  30. "تفسير الطبري" (19/529).
  31. أخرجه أحمد في "المسند"، برقم (2397)، وقال مُحققوه: "إسناده قوي على شرط مسلم، رجاله ثقات، رجال الشيخين، غير عبدالله بن عثمان بن خثيم، فمن رجال مسلم، وهو صدوق"، وصححه الألباني في "السلسلة الصحيحة"، برقم (2589).
  32. "أعلام الموقعين عن ربِّ العالمين" ت: مشهور (4/19)، وما بعدها.
  33. "أعلام الموقعين عن ربِّ العالمين" ت: مشهور (2/26).
  34. "أعلام الموقعين" (2/29).
  35. "أعلام الموقعين" (2/32-33).
  36. "أعلام الموقعين" (2/35).
  37. "أعلام الموقعين" (2/36).
  38. "أعلام الموقعين" (2/36).
  39. "أعلام الموقعين" (2/36-37).
  40. "أعلام الموقعين" (2/37).
  41. "أعلام الموقعين" (2/38).
  42. "أعلام الموقعين" (2/39).
  43. "الإبانة عن أصول الدِّيانة" (ص126).
  44. "معاني القرآن" للفرَّاء (1/286).
  45. "تفسير الطبري" (2/200).
  46. "تفسير الطبري" (22/114).
  47. "تفسير الطبري" (22/114).
  48. انظر: "لسان العرب" (3/513)، و"تاج العروس" (9/485).
  49. "تفسير الطبري" (16/39).
  50. "تفسير الطبري" (7/508).
  51. "تفسير الطبري" (7/508-509).
  52. "تفسير الطبري" (9/176).
  53. "تفسير الطبري" (9/188).
  54. "تفسير الطبري" (15/123).
  55. "تفسير الطبري" (15/123).

مواد ذات صلة