السبت 11 / شوّال / 1445 - 20 / أبريل 2024
(10- ا) الباب العاشر أنواع البيان من النوع الرابع التجريد إلى النوع العاشر الترديد
تاريخ النشر: ٢٢ / ذو الحجة / ١٤٣٥
التحميل: 1549
مرات الإستماع: 1438

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.

أما بعد: كان آخر ما تحدّثنا عنه فيما يتعلّق بالفصاحة، والبلاغة، وأدوات البيان؛ الثالث منها: وهو ما يتعلّق بالالتفات الذي قلنا: أنَّه الانتقال من خطابٍ إلى خطابٍ، ومن أسلوبٍ ﻵخر.

واليوم نبدأ بالرابع -إن شاء الله تعالى-.

"الرابع: التَّجريد: وهو ذكر شيءٍ بعد اندراجه في لفظ عامّ مُتقدّم.

والقصد بالتَّجريد: تعظيم المجدّد ذكره، أو تحقيره، أو رفع الاحتمال".

التَّجريد هنا يتعلّق بقاعدةٍ من قواعد التفسير، أو بأكثر؛ كقاعدة: عطف العامّ على الخاص يدل على التَّعميم، وعلى أهمية الأول.

عطف العامّ على الخاص للتعميم: أنَّ هذا حكم، والحكم لا نقصد به الحلال والحرام، وإنما هو أعمّ من ذلك، أنه لا يختصّ بالمذكور، لكن لما ذكر الأول، وهو من أفراده قبله، فيدلّ على أهميته؛ حيث خصّه بالذكر.

قوله -تبارك وتعالى-: رَّبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ [نوح:28]، فهذا عام: وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، فيدخل فيه ما ذُكِرَ من الوالدين، ومَن دخل بيته مؤمنًا: وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، فهذا عطف عامّ على خاصّ.

وكقوله -تبارك وتعالى-: فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ [التحريم:4]، جبريل من الملائكة ، قال: وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ، فعطف العامّ على الخاصّ، فهذا يُؤخذ منه أمران:

الأول: أهمية المذكور، أو شرف المذكور على سبيل الخصوص.

الأمر الثاني: إفادة التَّعميم بعد ذلك.

عكس هذا هو: عطف الخاصّ على العام، هذا يُنبّه أيضًا على فضله وأهميته، حتى كأنَّه ليس من جنس العامّ –يعني: هذا الخاصّ المذكور بعد العامّ-؛ تنزيلًا للتَّغاير في الوصف منزلة التَّغاير في الذَّات.

والمقصود هنا بالعامّ والخاصّ في القاعدتين ما هو أعمّ من معنى العموم والخصوص في الاصطلاح الخاصّ بالأصوليين ومَن وافقهم، يعني: العامّ عند الأصوليين هو:

ما استغرق الصَّالح دفعة بلا حصرٍ من اللَّفظ كعشرٍ مثلًا[1]

هذا هو العامّ، والخاصّ يُقابله. ليس هذا هو المقصود هنا بالعام والخاص، إنما ما هو أوسع من ذلك، يعني: ما كان فيه الأول شاملًا للثاني، فهذا عامّ، والثاني خاصّ؛ وذلك أنَّ العرب يذكرون الشيء على العموم، ثم يخصّون اﻷفضل فاﻷفضل، يعني: حينما نقول مثلًا: قريش أفضل القبائل، هذا عامّ، وليس بعامّ عند الأصوليين؛ لأنَّه لا توجد فيه صيغة من صيغ العموم، لكنَّه بالمعنى الذي نقصده هنا عامّ، فهو يعمّ بطونًا، وأفخاذًا، وأفرادًا كُثُر: (قريش أفضل القبائل)، فحينما تخصّ بعده بني هاشم مثلًا، فهذا خاصّ.

هذا المقصود بالعام والخاص هنا، فيدخل فيه العامّ في الاصطلاح الأصولي، ويدخل فيه ما هو أوسع من ذلك.

في قوله -تبارك وتعالى-: حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى [البقرة:238]، هذا عامّ، حتى عند اﻷصوليين: حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ، إلا إذا قيل بأنَّ (أل) عهدية، فإنَّ (أل) العهدية لا تُفيد العموم؛ الصَّلوات المعهودة، والصَّلاة الوسطى، خصص الصلاة الوسطى لأهميتها، وإلا فهي داخلة في عموم الصّلوات، كما في قوله: حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ.

مَن كَانَ عَدُوًّا لِّلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ [البقرة:98] هذا عامّ، وهو عامّ عند اﻷصوليين؛ ﻷنَّه جمعٌ مُضاف إلى معرفة: (وملائكتِهِ) الضَّمير، ثم قال: وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ، فجبريل وميكال -عليهم السلام- من ضمن الملائكة، فهذا يدلّ على منزلتهم.

وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ [الأعراف:170]، الَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ يدخل فيه إقامة الصلاة، فهي من أركان الدِّين، لكنَّه خصَّها ﻷهميتها، عَطْفُ الخاصّ على العامّ.

وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ [النساء:110] الذي يعمل سوءًا هذا يعُمّ، الصيغة صيغة عموم، هذه (سُوء) نكرة في سياق الشرط، فتعُمّ، الشاهد: وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ، ظلم النَّفس هو نوعٌ من أنواع عمل السُّوء، فهو من باب عطف الخاصّ على العامّ.

وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ [الأنعام:93]، فهذا من الافتراء على الله -تبارك وتعالى-، فهو داخلٌ في عموم قوله: وَمَنْ أَظْلَمُ أي: لا أحدَ أظلم ممن افترى على الله كذبًا.

فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ [الرحمن:68] النخل والرُّمان من الفاكهة، لكن خصّهما لفضلهما على سائر الفواكه، وتشريفًا لهما.

هذا هو المقصود بالتَّجريد، هذا هو التَّجريد.

في قوله -تبارك وتعالى-: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1] هذا يقتضي نفي الولد والكفؤ؛ لِمَ نصّ بعد ذلك: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ  ۝ اللَّهُ الصَّمَدُ ۝ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ [الإخلاص:1-3]، نفى عنه أن يكون والدًا، أو مولودًا، فهذا من التَّجريد، خصَّه بعد دخوله في العموم السَّابق: لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، فهذا بخصوصه ردٌّ على أولئك الذين نسبوا إلى الله -تبارك وتعالى- الولد.

فاﻷمثلة على هذا كثيرة، يعني: في قوله -تبارك وتعالى-: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ ۝ مِن شَرِّ مَا خَلَقَ [الفلق:1-2]، ثم خصَّ بعض هذه اﻷنواع من الشُّرور: وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ ۝ وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ ۝ وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ [الفلق:3-5]، فذكر هذه اﻷشياء الثلاثة؛ لشدّة خطرها، وكثرة الشَّر فيها.

هذا هو المراد بالتَّجريد، هو ذكر شيءٍ بعد اندراجه في لفظٍ عامٍّ مُتقدّم.

إذًا العموم هنا أعمّ مما يُريده اﻷصوليون، والقصد بالتَّجريد: تعظيم المجرد ذكره، أو تحقيره، أو رفع الاحتمال، يعني: لغرضٍ من اﻷغراض حينما يُعمّم؛ لئلا يُفهم أنَّ ذلك يختصّ بالمذكور، وأنَّ هذا يشمل المذكور ويشمل غيره مثلًا، هذا رفع الاحتمال: مَن كَانَ عَدُوًّا لِّلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ [البقرة:98]، الإشارة فيهما.

"الخامس: الاعتراض: وهو إدراج كلامٍ بين شيئين مُتلازمين: كالخبر، والمخبر عنه، والصِّفة، والموصوف، والمعطوف، والمعطوف عليه، أو إدخاله في أثناء كلامٍ مُتَّصلٍ.

والقصد به: تأكيد الكلام الذي أُدرج فيه".

هذا الاعتراض، يقول: "إدراج كلامٍ بين شيئين مُتلازمين: كالخبر، والمخبَر ..." إلى آخره، "أو إدخاله في أثناء كلامٍ مُتَّصلٍ، القصد به: تأكيد الكلام الذي أُدرج فيه"، يعني: هذا أشبه ما يكون أو ما يمكن أن يُعبَّر عنه بالجمل الاعتراضية، والبلاغيون تختلف عباراتهم بهذا؛ بعضهم جعله من قبيل الإطناب الذي سيأتي إيضاحه -إن شاء الله-.

يقولون: هو أن يأتي في وسط الكلام، أو بين جملتين متّصلتين معنًى بجملةٍ أو أكثر لا محلَّ لها من الإعراب؛ لنكتةٍ: كالتَّنزيه، والتَّعظيم، أو غير ذلك.

هذه الجمل تُسمّى جملة اعتراضية، وقد تُسمّى احترازية، ويتّضح لك هذا باﻷمثلة:

وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُم مَّا يَشْتَهُونَ [النحل:57]، يعني: هي هكذا: وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ، وَلَهُم مَّا يَشْتَهُونَ، فجاء بلفظة (سبحانه) هذه جملة اعتراضية لا محلَّ لها من الإعراب، الغرض منها ما هو؟

التَّنزيه، أحيانًا يكون الغرضُ غير التَّنزيه؛ أحيانًا يكون الدُّعاء، تدعو له في أثناء الكلام، في وسط الكلام، قول الشَّاعر:

إنَّ الثَّمانين -وبُلِّغْتَهَا- قد أحوجت سمعي إلى ترجمان[2]

يعني: هو هكذا، أصل الكلام: إنَّ الثمانين قد أحوجت سمعي إلى ترجمان، ليست رواية البيت: إنَّ الثمانين وبُلّغتُها -إني وصلتُ إليها- قد أحوجت سمعي إلى ترجمان. لا، وبُلِّغْتَها، يعني: هو يدعو لك أن تُبَلّغ الثَّمانين، فهذه جملة اعتراضية، هذا الذي يُسمّى: الاعتراض؛ كلامٌ متّصلٌ في المعنى أدخل فيه جملةً لغرضٍ، الغرض هنا ما هو؟ الدُّعاء، يدعو لك.

وأحيانًا التأكيد: وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ [لقمان:14].

لاحظ: الأصل في الجملة: (ووصينا الإنسان بوالديه أن اشكر لي ولوالديك)، فجاء بجملتين: حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ، وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ هذا لتأكيد الوصية، يقول: هذه الأم التي تعبت، وحملت، وأرضعت هذه المدّة تستحقّ الإحسان والبرّ.

في قوله -تبارك وتعالى- عن امرأة عمران: قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا [آل عمران:36]، جاء بجملتين في وسط هذا الكلام: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ، وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنثَى، وبعد ذلك: وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، سياق الكلام في الأصل هكذا: (قالت: ربي إني وضعتُها أنثى، وإني سمّيتُها مريم، وإني أُعيذها بك وذُريتها من الشيطان الرَّجيم).

هذا بأي اعتبارٍ؟

باعتبار: وَاللَّهُ أَعْلَمُ، لاحظ، انتبهوا: بِمَا وَضَعَتْ، هذا من كلام مَن؟

من كلام الله : وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنثَى باعتبار أنَّ هذه الجملة أيضًا من كلام الله -تبارك وتعالى-.

هذا الذي يُسمّونه: الموصول لفظًا، المفصول معنًى، لكن على القراءة اﻷخرى المتواترة: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا (وضعتُ)، قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا (وضعتُ)، يمكن أن تكون هذه جملة اعتراضية، لكن لنفس المتكلم، تُفيد التأكيد أيضًا أنَّ الله مطّلعٌ وعالـمٌ بذلك.

وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنثَى هذه جملة اعتراضية، باعتبار أنَّ الذي قال ذلك هو الله، لكن باعتبار أنَّها من قولها لا تكون كذلك: وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنثَى، لا تكون كذلك باعتبار أنها من مُتكلم آخر، لكن باعتبار أنَّها من كلامها فهذه جملة اعتراضية أيضًا إذا كانت من كلامها، هي جملة اعتراضية لتبين أنَّ هذا المولود قد لا يصلح لما كانت تتطلع إليه فيه، أو منه.

إذا قلنا: إنَّ هذا من كلام الله فيكون في: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنثَى يقولون: هذا فيه تعظيمٌ، هذا الذي وُضِعَ، المولود: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ، وتجهيلها أيضًا بقدر ما وُهِبَ لها منه.

هنا قاعدة تتعلق بهذا النوع نحتاج إليها في دراسة هذا التفسير، وهذه القضايا -كما قلتُ من قبل- ترِد في ثنايا الكتاب، وتحتاج إلى بيانٍ.

هذه القاعدة: المحترزات في القرآن تقع في كل المواضع عند الحاجة إليها.

تأمل الآن: إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ [النمل:91]، لما خصَّ هذه البلدة؛ لأنَّ المقام يقتضيه: الَّذِي حَرَّمَهَا؛ لئلا يُتوهم أنَّ ربوبيته تختصّ بها دون غيرها، قال: وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ، فجاء بهذه الجملة الاحترازية لنفي التَّوهم؛ توهم معنًى فاسد: أنَّ ربوبيته تختصّ بهذه البُقعة فقط.

لَّا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [النساء:95]، نفي الاستواء يُحْمَل على أعمّ معانيه: لَّا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، لكن هذا يُوهم أنَّ هذه المساواة مُنتفية حتى مع أهل الأعذار، فجاء بقوله: غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ، فهؤلاء معذورون.

في قوله -تبارك وتعالى-: وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ [النمل:80] ربما يتوهم منه السامع أنَّهم ربما فهموا الإشارة، هذا لا يسمع، لكن يمكن أن تُحدّثه بلغة الإشارة، فقال: إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ [النمل:80]، هو أصمّ، وأعطاك ظهره، هذا لا ينفع معه لا نداء، ولا إشارة، بمعنى: أنَّه لا يصل إليه شيء، فجاء بهذا الاحتراز.

لما ذكر الله حكم داود وسليمان -عليهما السلام- قال: فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ [الأنبياء:79]، ثم احترز فقال: وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا [الأنبياء:79]، فقد يُفهم من تصويب سليمان في الحكم أنَّ ذلك فيه نقيصة تلحق داود ، فأثنى عليه وقال: وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا، فتفهيم سليمان لا يُلْحِق نقيصة بداود .

لما ذكر الله قيام الليل قال: قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا [المزمل:2]، وذكر في ثنايا هذه اﻵيات: إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا [المزمل:5] الذي هو القرآن، لماذا قيل له: قول ثقيل؟

عبارات المفسّرين مختلفة في هذا، يهمّنا منها أحد هذه الأقوال، حيث ذكروا نحو خمسة أو أكثر: أنَّه ثقيل لما تضمّن من التَّكاليف، واﻷوامر، والنَّواهي، فهنا احتيج معه إلى قيام الليل؛ لما فيه من المشقّة، فهذه تربية للنُّفوس على التَّحمل والصَّبر، والله يقول: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ [البقرة:45]، وقال عن هذه الصَّلاة: وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ [البقرة:45].

فهذه الصلاة ثقيلة وشاقّة على غير الخاشعين، فبالصبر وبالصلاة يُستعان على ما يثقل على الإنسان من التَّكاليف، والنُّهوض بالعبادات، وكذلك أيضًا المشاق والكبد الذي يُلاقيه في هذه الحياة؛ ولما في ذلك أيضًا من الصِّلة بالله -تبارك وتعالى-، فيُستعان على هذا بالصَّبر وبالصَّلاة: إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا يعني: كأنَّه يُعلل له لماذا أمره بقيام الليل؟

هذا القول الثَّقيل يحتاج إلى قوةٍ وتحمّلٍ للنهوض بهذه اﻷعباء والتكاليف، فأمره بقيام الليل: إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا، كأنَّه يُعلل له هذا التَّكليف: قيام الليل.

هذا ما يتعلق بالاعتراض، لعله اتَّضح بهذه اﻷمثلة.

"السادس: التَّجنيس: وهو اتِّفاق اللفظ مع اختلاف المعنى، ثم إنَّ الاتفاق قد يكون في الحروف والصيغة، أو في الحروف خاصّة، أو في أكثر الحروف، لا في جميعها، أو في الخطِّ، لا في اللَّفظ، وهو تجنيس التَّصحيف".

التَّجنيس: هو الذي يقولون له: الجناس، وهذا من المحسّنات اللَّفظية -كما سبق-، وله صور وأنواع، والبلاغيون قد أوصل بعضُهم أنواعَه إلى اثنين وثمانين نوعًا، وهم لا يتَّفقون على التَّفاصيل التي يذكرونها تحته، كما لا يتَّفقون على كثيرٍ مما يذكرونه، إنما هذه أمور اصطلاحية، وتختلف أنظارهم فيها، وفي ألقابها، وأسمائها، وصورها، وأنواعها، وما يدخل منها تحت بعض الأقسام، وما لا يدخل؛ ولذلك تجد كثيرًا من هذه التَّفاصيل ربما يذكرها بعضُهم تحت نوعٍ آخر.

على كل حالٍ، الجناس أو التَّجنيس: هو نوعٌ من البديع اللَّفظي، يكون باستعمال لفظتين مُتشابهتين في النُّطق، مع اختلافهما في المعنى.

وهو عندهم -على كل حالٍ- أنواع؛ فمنه ما يُعرف بالتامِّ: وهو ما اتَّفقت فيه اللَّفظتان في نوع الحروف، وعدد الحروف، وهيئة الحروف، وترتيب الحروف، لكن المعنى يختلف. استعمل لفظتين مُتطابقتين في حروفهما، وترتيبها، وعددها، لكن هذه لها معنى، وهذه لها معنى بحسب السياق.

حينما يقول بعضُهم:

لولا العقول لكان أدنى ضيغم أدنى إلى شرفٍ من الإنسان[3]

لاحظ: كلمة (أدنى): أدنى ضيغم، يعني: أقلّ، وأصغر، وأحقر ضيغم. أدنى إلى شرفٍ من الإنسان، يعني: أقرب إلى شرفٍ، فأدنى الثانية بمعنى: أقرب، والأولى بمعنى: أحطّ.

قول أبي تمَّام:

ما مات من كرم الزمان فإنَّه يحيى لدى يحيى بن عبدالله[4]

يمدح رجلًا اسمه (يحيى)، يقول: ما مات من كرم الزمان فإنَّه يحيى، (يحيى) هذه فعل، لدى يحيى، (يحيى) هذا اسم رجل، كلمتان مُتطابقتان، لكن هذه فعل، وهذه اسم. هذا يُسمّونه: الجناس التام؛ للتَّطابق.

وهكذا قول الحريري:

سِمْ سِمةً تُحمَد آثارها واشكر لمن أعطى ولو سِمسمة[5]

فلاحظ اللَّفظتين، والمعنى يختلف.

والقول اﻵخر:

والمكر مهما اسطعت لا تأتِه لتقتني السُّؤدد والمكرمة[6]

(المكر)، و(الـمَكرُمة).

وهناك ما يُسمّى بالجناس النَّاقص: وهو ما اختلفت فيه اللَّفظتان في عدد الحروف.

وهذا الاختلاف قد يكون بحرفٍ واحدٍ:

إنَّ البكاء هو الشِّفا من الجَوَا بين الجوانح[7]

(جوا)، (جوانح).

وهناك ما يُعرف بالمتكافئ: ما اختلفت فيه اللَّفظتان في نوع الحروف. ويشترطون ألا يكون الاختلافُ في أكثر من حرفٍ: (القراءة صيد، والكتابة قيد)، لاحظ: الاختلاف في حرفٍ واحدٍ.

وهناك نوعٌ يُقال له: المقلوب، وهو ما اختلفت فيه اللَّفظتان في ترتيب الحروف.

حينما يُقال: (انفجار)، و(انفراج)، لما تركّب مثلًا هذا في جملةٍ، فهذا يكون من قبيل المقلوب.

وهناك نوعٌ يُقال له: المحرّف، اختلفت فيه اللَّفظتان في هيئات الحروف.

والاختلاف قد يكون في الحركة فقط، كما يقولون: (لا تُنال الغُرَر إلا بركوب الغَرر)، لاحظ: الفرق فقط في الحركة: (لا تُنال الغُرَر) يعني: المعالي، (إلا بركوب الغَرر) يعني: كما قال الشَّاعر:

ومَن يتهيّب صعود الجبال يعش أبد الدَّهر بين الحُفَر[8]
حبّ السلامة يُثني عزم صاحبه[9]  

ليست كلّ هذه اﻷنواع موجودةً في القرآن، وما كلّ الاستعمالات في اللغة موجودة في القرآن، بعض هذه الاستعمالات غير موجودةٍ، كما قلنا: الأمثال عند اﻷدباء غير موجودةٍ. وهناك أشياء مُختلَفٌ فيها: هل يوجد ترادف في القرآن؟ هل يوجد مُعرَّب في القرآن؟ يعني: كلمات أصلها أعجمية. هذا فيه خلافٌ.

على كل حالٍ، هناك نوعٌ يُقال له: المحرَّف، اختلفت فيه اللَّفظتان في هيئات الحروف، الاختلاف قد يكون في حركةٍ -كما عرفنا-، هذا –يعني- يوجد منه في القرآن، ربما في بعض السّور، لكن حينما يقول قائل: البدعة شَرَك الشِّرك. (شرك الشرك) فهذا من هذا النوع الأخير.

في تفسير ابن جُزي في قوله -تعالى-: إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ [الإسراء:7]، قال: (أحسنتم) الأول بمعنى: الحسنات، والثاني بمعنى: الإحسان، كقولك: أحسنتُ إلى فلان. قال: ففيه تجنيس، واللام فيه بمعنى: إلى.

لاحظ: يقول: فيه تجنيس. يعني: حينما تمرّ على مثل هذا في ثنايا التفسير (فيه تجنيس)، ما معنى التَّجنيس؟

هو شرح لك هذا في المقدّمة، اﻷشياء التي تتكرر يشرحها، وهذه اﻷشياء تحتاج إليها في قراءة الكتب التي تُعنى بالجانب البلاغي، تقرأ في "الكشاف"، أو في "تفسير أبي السعود"، أو في تفسير "البيضاوي"، وحواشيه -حواشي "الكشاف"-، و"تفسير اﻷلوسي"، و"تفسير ابن عاشور"، وأمثال هذه الكتب، ستجد فيها استخدام هذه المصطلحات كثيرًا، ويوجد في بعض الكتب، وإن لم تكن تلك، يعني: الناحية البلاغية سِمَة غالبة فيها.

والتفسير الذي سيصدر -إن شاء الله تعالى- عن "الدرر السنية" تفسير جيد، وسهل.

من الأشياء الموجودة فيه -وهو مقسم على عناوين-: "الجوانب البلاغية في الآية"، هذا عنوان، ثم يُذكر تحته أشياء من الاستعمالات البلاغية، هذه الاستعمالات البلاغية فيها عبارات كثيرة من هذا القبيل، هذه لا يفهمها إلا مَن يعرف المراد بهذه المصطلحات.

"السابع: المطابقة، وهي ذكر اﻷشياء المتضادة: كالسواد، والبياض، والحياة، والموت، والليل، والنَّهار، وشبه ذلك".

هذا من البديع المعنوي الذي يُسمّونه: الطِّباق، وحقيقته: أن يجمع بين مُتضادين في الجملة إجمالًا، يكون بين اسمين مثل: الظاهر والباطن، قال: هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ [الحديد:3]، (الأول واﻵخر): الأول يُقابل الآخر، والظاهر يُقابل الباطن.

أو بين فعلين، نقول: أقبل، وأدبر.

أو بين حرفين: يومٌ لك، ويومٌ عليك، (لك وعليك) يعني: الذي عليك هو الشَّديد الذي وقع فيه المكروه، والذي لك هو الذي يقع فيه المحبوب.

فهذا الطِّباق يُقال له: المطابقة. وهذا بعض كبار علماء البلاغة، كقُدامة بن جعفر يقول: أنَّه يليق بالتَّجنيس، الجناس، وهو يرى أنَّ الأولى أن يُلقّب بالمقابلة، يقول: لأنَّ الضّدين يتقابلان: كالسواد والبياض.

لاحظ: هم لا يتَّفقون على هذه اﻷشياء، هذا مثالٌ لكثيرٍ مما يختلفون فيه كغيرهم -على كل حالٍ- من أرباب الفنون، فهو لا يرى أنَّه يُسمّى بالطباق.

له أسماء أخرى -على كل حالٍ-، يقولون له: التَّضاد، والتَّكافؤ.

فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا [التوبة:82]، فقابل الضَّحك القليل بالبكاء الكثير، وهما مُتقابلان.

وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ [الكهف:18]، فالذي يُقابل الأيقاظ هم الرقود.

إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ  ۝ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ [الانفطار:13-14].

تُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ [آل عمران:27]، هذا يُسمّونه: مُطابقة، وطِباق.

يقول: ذكر اﻷشياء المتضادة، على كل حالٍ، لا مُشاحةَ في الاصطلاح، الأمر سهلٌ.

"الثامن: المقابلة: وهو أن تجمع بين شيئين فصاعدًا، ثم تُقابلهما بأشياء أُخَر".

المقابلة: أن تجمع بين شيئين فصاعدًا، ثم تُقابلهما بأشياء أخرى، هذه المقابلة ... الشيء قد يُقابَل بضدِّه لفظًا، وربما يُقابَل بضدِّه من جهة المعنى، تارةً يُقابَل بمُخالفه، وتارةً يُقابل بما يُماثله.

لاحظ: مجموع هذه صار أربعة، كلّ ذلك يُقال له: مُقابلة.

مُقابلة الشَّيء بضدِّه في اللَّفظ والمعنى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى قابله بماذا؟ وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ [النحل:90]، فهنا هذه أضداد في اللَّفظ والمعنى.

وكما سبق: فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا [التوبة:82]، لِّكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ [الحديد:23]، الأسى على ما فات: الحزن على ما فات، يُقابل الفرح بما أُوتي.

وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا [النساء:36]، فهما مُتقابلان.

مُقابلة الشَّيء بضدِّه من جهة المعنى، دون اللَّفظ: فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا [الأنعام:125]، فهذا الذي أراد الله هدايته شرح صدره، واﻵخر جعل صدره ضيقًا بهذه المثابة.

فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى ۝ وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى ۝ فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى [الليل:5-7]، قابله بـوَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى ۝ وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى ۝ فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى [الليل:8-10].

أما مُقابلته بما يُخالفه من غير مُضادة؛ فهذا تارةً يكون مع مناسبةٍ بينهما: إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ [التوبة:50]، الآن (تُصبك حسنة)، (تُصبك مُصيبة)، مُصيبة مُخالفة للحسنة، لكن المصيبة لا تُقارب الحسنة، وإنما تُقارب السّيئة: إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ، فالمصيبة تُقارب السَّيئة؛ لأنَّ كلَّ مُصيبة سيئة تسوء الإنسان، والسَّيئة: كلّ ما ساءك، لكن ليست كلّ سيئة مُصيبة. أليس كذلك؟

المقاربة بينهما من جهة العموم والخصوص، يعني: السيئة أعمّ من المصيبة، لكن بينهما مُناسبة؛ لأنَّ المصيبة نوعٌ من السيئة.

أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ [الفتح:29]، (الرحمة، والشّدة) يعني: كما أنَّ هناك (المصيبة، والسّيئة) ما بينهما من المقاربة، هنا الشّدة ما الذي يُقابلها؟ هل يُقابلها اللِّين أم الرحمة؟

يُقابلها اللِّين، وليس الرحمة، لكن يوجد نوع مناسبةٍ باعتبار أنَّ الرحمة من مُقتضياتها الإحسان.

تعرفون أنَّ المتكلمين الذين يُؤولون صفةَ الرحمة، يُفسّرونها بالإحسان، أو إرادة الإحسان، وهذا غلطٌ، هذا تفسير لها بلازمها؛ فمن مُقتضيات الرحمة: الإحسان، فيوجد بين الرحمة واللِّين -الذي يُقابل الشّدة- نوع مُقاربةٍ، أو مناسبةٍ، وهكذا.

أحيانًا لا توجد مُقاربة، بل يوجد بُعْدٌ، ولا مُناسبة بينهما:

لمن تطلب الدنيا إذا لم تُرِد بها سرور محبٍّ أو إساءة مجرم[10]

هذا قول المتنبي: "لمن تطلب الدنيا"، تطلبها لماذا إذا ما أردت بها سرور محبٍّ، أو إساءة مجرمٍ؟

فالمقابلة الصَّحيحة تكون بين (محبّ، ومُبغض)، بينما هنا قابل بين (محبّ، ومُجرم)، يعني: الآن الذي لا يكون مُحبًّا هل معنى ذلك أن يُقابل المجرم؟ الذي لا يكون مُحبًّا معناه أن يكون مُجرمًا؟

لا، فبين المحبّ والمجرم تباعد كبير، هناك مُقابلة الشّيء بما يُماثله، وهذا يقع أيضًا على وجهين: قابلت مفرد بمفرد: وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا [الشورى:40].

والمقصود بالمفرد ليس الذي يُقابل الجمع، وإنما المقصود بالمفرد الذي يُقابل الجملة: وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا، قابل المفرد بالمفرد.

وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا [يونس:27]، هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ [الرحمن:60]، هذا تماثل باعتبار أنَّه قابل مُفردًا بمفردٍ: مَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ [الروم:44].

وقد تكون المقابلة بين جملةٍ وجملةٍ: وَمَكَرُوا هذه جملة فعلية، وَمَكَرَ اللَّهُ [آل عمران:54]، وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا [النمل:50]، فهاتان جملتان.

قُلْ إِن ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي [سبأ:50]، هذه جُمل مُتقابلة.

"التاسع: المشاكلة: وهي أن تذكر الشَّيء بلفظ غيره؛ لوقوعه في صُحبته".

هذه المشاكلة في اللغة بمعنى: المماثلة، لكن في اصطلاحهم: هو ذكر الشَّيء بلفظ غيره؛ لوقوعه في صُحبته، تحقيقًا، أو تقديرًا.

هكذا عندهم، يعني: أنَّه أُطلِق عليه ذلك الاسم، عُبِّر عنه بهذا اللَّفظ لمقاربته لمذكورٍ معه يُسمّى بذلك، فأُعطي الآخر هذا الاسم؛ لمقاربته له؛ لكونه ذُكِرَ معه في السياق، أو في الكلام، وليس باسمٍ له، قد يكون اسمًا، وقد لا يكون، قد يكون فعلًا، هذه يختلفون فيها.

هذه المشاكلة هل هي نوعٌ من المجاز، أو ليست بنوعٍ من المجاز؟

عدَّها جمعٌ منهم من أنواع المجاز، وتجدون كثيرًا للأسف -حتى لدى بعض طلبة العلم من أهل السُّنة- ربما يُعبِّر أحدهم عن بعض الصِّفات ويقول: هذا من قبيل المشاكلة. وهو لا يشعر، يعني: لا يشعر أنَّ هذا الكلام الذي نقله بحُسن نيةٍ من بعض أهل التَّأويل -التَّحريف-، هم قصدوا أنَّه لا حقيقةَ له: كصفة المكر، والكيد، ونحو ذلك، فهذا يقولون: من قبيل المشاكلة: وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا، قال: سمَّاه مكرًا؛ لأنَّه ذكر المكر الذي نُسِبَ إليهم، وإلا فالله مُنزَّهٌ عن ذلك. والكيد: إنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا ۝ وَأَكِيدُ كَيْدًا [الطارق:15-16]، سمَّاه: كيدًا؛ ﻷنَّه ذُكِر مع ...، هذا يقتضي نفي الصِّفة، وهذه صفات ثابتة لله ، لكنَّها لا تُقال على سبيل الإطلاق هكذا، وإنما يكون ذلك كمالًا حيث يكون في موقعه مَن يستحقّ الكيد، ولا تُشترط فيه المقابلة، فاللَّفظ بفعلهم كما يقوله بعضُ أهل العلم، يعني: بعض أهل العلم يقولون: (هذا ما يذكر إلا مع ما يُقابله)، وهذا كلام غير دقيقٍ، أحيانًا يُذكر مع ما يُقابله مثل اﻷمثلة التي ذكرتُ آنفًا، لكن أحيانًا: وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ [الأعراف:183]، ما ذكر كيدهم، لم يذكره في مُقابلة كيدهم.

أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ [الأعراف:99]، المكر، أحيانًا يذكره فيما يُقابل مكرهم: وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا، لكن أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ لم يذكر ذلك في مُقابل مكرهم.

فما يذكره بعضُ أهل العلم في كتب الاعتقاد، يقولون: (هذا لا يكون إلا في مُقابل فعل هؤلاء، حيث يُذكر معه، ويُقابَل به) هذا ليس بلازمٍ، فتارةً يُذكر معه، وتارةً لا يُذكر معه.

المهم أنَّ هذه الصِّفة تكون كمالًا إذا كان ذلك فيمَن يستحقّ، وهكذا جاء في وصف الربِّ -تبارك وتعالى-.

نحن نُثبت هذه الصِّفة على ما يليق بجلال الله وعظمته، لكنَّها تكون نقصًا إذا كان ذلك في غير موضعه، كما يحصل من بعض الخلق.

فعلى كل حالٍ -كما قلنا- يُذكر الشَّيء بلفظ غيره؛ لوقوعه في صُحبته تحقيقًا. تحقيقًا مثل ماذا؟

مثل: وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا [الشورى:40]، يقولون: أنَّ هذا من قبيل المشاكلة، بأي اعتبار: (جزاء سيئة)، الذي صدر من هذا الإنسان المعتدي سيئة، طيب، القِصاص الذي يُقابله؟

قالوا: سمَّاه سيئة، وهو ليس بسيئةٍ، الجزاء على السَّيئة ليس بسيئةٍ، لكن يقولون: من قبيل المشاكلة. هكذا يقولون! لكن هل هذا القول دقيق، أو لا؟

هذه مسألة أخرى، قد نُناقشهم في هذا، نقول: هذا ليس من قبيل المشاكلة، بل هو من قبيل المقابلة التي مضى الكلامُ عليها، باعتبار أنَّ السيئة: كلّ ما يسوء الإنسان، وليس المقصود به السّيئة التي هي الذَّنب والمعصية، الذنب أحد أنواع السّيئة؛ ﻷنَّه يسوء صاحبه إذا وجده في صحيفته يوم تبيض وجوه، وتسودّ وجوه، لكن كلّ ما يسوء الإنسان يُقال له: سيئة، فإذا ساءه بقولٍ، أو فعلٍ، وقابله بمثله؛ فهذه سيئة في مُقابل سيئة.

من اﻷمثلة المشهورة التي يذكرونها قول بعضهم:

قالوا اقترح شيئًا نجِد لك طبخه قلتُ: اطبخوا لي جُبَّةً وقميصًا[11]

هذا الرجل كان بحاجةٍ إلى اللباس، فعُرِضَ عليه صنع الطَّعام: ماذا نصنع لك من الطَّعام؟

(قالوا: اقترح شيئًا -اطلب- نجِد لك طبخهُ)، فعبّر بالطبخ فيما لا يُقال له ذلك.

(قلتُ: اطبخوا لي جُبَّةً وقميصًا)، الجُبَّة والقميص هل تُطبخ؟! لا تُطبخ، لماذا عبّر بالطَّبخ؟

مُشاكلةً للفظ الذي استُعْمِل: (نجد لك طبخه، قلتُ: اطبخوا لي).

لاحظ: (طبخه) مصدر قابله بالفعل: (اطبخوا لي)، فالمشاكلة قد تكون بين اسمٍ وفعلٍ، أو بين اسمين: (سيئة، وسيئة)، هذا بين اسمين. أو بين فعلين، ويذكرون من أمثلته قول عمرو بن كلثوم في بيته المشهور:

ألا لا يجهلن أحدٌ علينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا[12]

(نجهل) (لا يجهلن) الجهل هنا بمعنى: العدوان، والاعتداء، (فنجهل فوق جهل الجاهلينا)، قال: سمّاه جهلًا، والقصاص ليس كذلك.

وهذا يمكن أن يُناقش، ويُقال: ليس بمُشاكلةٍ، يمكن، هم اعتادوا على ذكر أمثلة مُسلَّمات، ولكن هذا قد لا يُسلَّم لهم؛ ﻷنَّه قال: (فنجهل فوق جهل الجاهلينا)، هذا عدوان، وغاية الجهل، والله يقول: وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ [الإسراء:33]، هؤلاء على عادة الجاهلية؛ يقتل الكثيرين ممن لم يشتركوا في قتل هذا المقتول، يقتلهم به؛ ﻷنَّه لا يرى أنَّ الواحد -القاتل- يُكافئ هذا المقتول؛ فيقتل عشرةً به مثلًا: (فنجهل فوق جهل الجاهلينا)، ليس بقصاصٍ.

على كل حالٍ، هذه من أمثلتهم المشهورة، يقولون: منه: فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ [البقرة:194]، (اعتدى عليكم) فسمّى الردّ بالمثل: اعتداءً، يقولون: وليس باعتداءٍ، لكن للمُشاكلة.

المهم الذي نحتاج أن نعرفه: أنَّ ما يتعلق بصفات الله كما سبق: مكر، كيد، ونحو ذلك؛ أنَّ هذا ليس من قبيل المشاكلة في شيءٍ، بل هي صفات ثابتة حقيقية، تليق بجلال الله وعظمته، هذا هو الشَّيء المهم، أمَّا اﻷمثلة من الشعر، ونحو ذلك، فهذه يقولون فيها ما شاؤوا.

قلنا: أنَّ المشاكلة عندهم: أن يُذكر الشَّيء بلفظ غيره، يُعبّر عنه بلفظ غيره؛ لوقوعه في صُحبته تحقيقًا، أو تقديرًا. تحقيقًا مثل هذه اﻷمثلة التي سبقت.

وتقديرًا: يقولون في قوله -تبارك وتعالى-: صِبْغَةَ اللَّهِ [البقرة:138]، يقولون: هذا جاء مصدرًا مُؤكّدًا لقوله قبله: قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ [البقرة:136]، يقولون: جيء بلفظ (الصّبغة) للمُشاكلة. مع أنَّه ما سبق ذِكر لفظ (الصبغ)، لكن يقولون: قرينة الحال التي هي سبب النزول، ما يتعلّق بالردِّ على أهل الكتاب النَّصارى، حيث يصبغون أولادهم في الماء اﻷصفر الذي يُسمّونه: التَّعميد، يصبغونهم بهذا الماء، فكان في سياق الردّ عليهم عمومًا، فقال: صِبْغَةَ اللَّهِ، وذلك أنَّ الإيمان والاعتقاد كما أنَّه يصبغ الباطن، فكذلك أيضًا يصبغ الظَّاهر، فله أثرٌ كالصِّبغ لا يخفى، يلوح على وجه صاحبه، يُعرف أنَّ هذا مؤمن، أنَّ هذا مسلم، أنَّ هذا مُوحّد، وهكذا.

"العاشر: الترديد: وهو ردّ أول الكلام على آخره، ويُسمّى في الشعر: ردّ العجز على الصَّدر".

هذا النوع عندهم: أن تُعلّق اللَّفظة بمعنًى من المعاني، ثم تُردّ بعينها، وتُعلَّق بمعنًى آخر، نفس اللَّفظة تربط بمعنًى، ثم تُربط بمعنًى آخر. هذا واضحٌ، كثيرٌ من اﻷشياء التي يذكرونها هي في الواقع من الواضحات جدًّا، هذه لا تحتاج إلى تنبيهٍ.

على كل حالٍ، يُسمّونه: الترديد.

أبو نواس في وصفه للخمر يقول:

صفراء لا تنزل الأحزانُ ساحتها لو مسّها حجرٌ مسّته سرّاء[13]

نسأل الله العافية، يقول: هذه لو قاربها الحجرُ ومسّها –الخمر- لصار مسرورًا، فرحًا: (لو مسّها حجرٌ مسّته).

لاحظ: كلمة (مسّها) ذُكرت مرتين: (لو مسّها حجرٌ) الأولى علّقها بمسّ الحجر.

والثانية: (مسّته سرَّاء) علَّقها بمسِّ السَّراء.

هي نفس اللَّفظة عُلّقت هنا بالحجر، وعُلّقت هنا بالسّراء كما ترون.

وقول اﻵخر:

ليس بما ليس به بأسٌ بأسُ ولا يضرّ المرء ما قال الناسُ[14]

لاحظ: (ليس بما ليس به بأس) فبأس هنا عُلّقت بما قبلها، (لا بأس به) أي: لا غضاضةَ فيه، ولا حرج، فلا يلحق مَن تعاطاه الحرج، هذا الحكم.

يُمثّلون لهذا بقوله -تعالى-: اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ [النور:35].

فلاحظ أنَّه هنا كُرّر (المصباح) مرتين، و(الزُّجاجة) مرتين، لكن في كل موضعٍ نجد أنَّ هذه اللَّفظة في كل موضعٍ تتعلق بأمرٍ غير ما تعلّقت به في الموضع اﻵخر، يعني: لاحظ هنا: كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ، الكلام اﻵن على المشكاة.

وسبق الكلام في اﻷمثال في القرآن، (المشكاة) قيل: هي الكوّة غير النَّافذة في الجدار؛ لينحبس فيها الضّوء، فينعكس على الدَّاخل. وهذا هو المشهور.

القول الآخر قال به كثيرون، وهو اختيار كبير المفسّرين أبو جعفر ابن جرير -رحمه الله-، وقال به كثيرٌ من السَّلف: أنها الحديدة التي تُوضع فيها الفتيلة[15]: كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ، فهنا ذكر اﻵن (المصباح) مرةً أخرى، لكنَّه علَّقه بأمرٍ آخر: الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ، هناك علَّقه بغير ما علَّقه في الموضع الثاني.

ثم الزّجاجة ذكرها مرتين: الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ، ثم قال: الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ، ففي كل موضعٍ تعلّق اللَّفظ بغير ما عُلِّق به في الموضع الآخر.

هذا هو الترديد، قال: "ردّ أول الكلام على آخره، ويُسمّى في الشعر: ردّ العجز على الصَّدر". هذا التَّفسير الذي ذكره هنا غير ما يُفسّرونه به، وما ذكرت له من هذه الأمثلة.

هذا الذي ذُكِر هو من قبيل البديع، بعضهم يُفسّره بهذا: لَّكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ هذه شهادة الله -تبارك وتعالى-: لَّكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ [النساء:166]، فذكر الشَّهادة في آخر اﻵية: وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ، والإنزال: بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ.

اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ [الأنعام:124]، هذا ردٌّ عليهم فيما طلبوه حينما قالوا: حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ، فختم كلامهم باسم (الله)، ثم ردَّه في أول كلامه، هذا يمكن أن يُمثِّل به على ما ذكره المؤلف، ويصلح لما فُسِّر به بإطلاق من ذكر لفظتين، وربط كلّ واحدةٍ بمعنًى، هذا أعمّ مما ذكره المؤلف.

  1. انظر: "نشر البنود على مراقي السعود" للشنقيطي (1/206).
  2. انظر: "البصائر والذخائر" للتوحيدي (6/85).
  3. انظر: "الأمثال السائرة من شعر المتنبي" للصاحب ابن عباد (ص54).
  4. انظر: "الوساطة بين المتنبي وخصومه" للجرجاني (ص42).
  5. انظر: "قمامات الحرير" للحريري (ص499).
  6. انظر: المصدر السابق (ص499).
  7. انظر: "خزانة الأدب وغاية الأرب" للحموي (1/71).
  8. انظر: "التحرير الأدبي" لحسين علي (ص63).
  9. انظر: "الكشكول" للهمذاني (1/302).
  10. انظر: "البديع في نقد الشعر" للشيرازي (ص279).
  11. انظر: "مفتاح العلوم" للخوارزمي (1/424).
  12. انظر: "جمهرة أشعار العرب" للقرشي (ص87).
  13. انظر: "الرسائل الأدبية" للجاحظ (ص174).
  14. انظر: "التمثيل والمحاضرة" للثعالبي (ص64).
  15. انظر: "تفسير الطبري" (19/183).

مواد ذات صلة