الخميس 16 / شوّال / 1445 - 25 / أبريل 2024
(10- ب) الباب العاشر أنواع البيان من النوع الثامن عشر الجمع إلى نهاية الباب
تاريخ النشر: ٢٣ / ذو الحجة / ١٤٣٥
التحميل: 1587
مرات الإستماع: 1499

"الحادي عشر: لزوم ما لا يلزم: وهو أن يلتزم قبل حروف الرويّ حرفًا آخر، وكذلك عند رؤوس الآيات".

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.

أما بعد: فهذا كما قال ابنُ جزي -رحمه الله- أن يجيء قبل حرف الرَّويّ، أو ما في معناه من الفاصلة بما ليس بلازمٍ في التَّقفية، وهذا يُلتزم به في الشّعر في بيتين أو أكثر، أو في فاصلتين أو أكثر من النثر: فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ [الضحى:9]، لاحظ: وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ [الضحى:10].

أصالة الرأي صانتني عن الخطَلِ وحلية الفضل زانتني لدى العطَلِ[1]

إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ ۝ وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ [الأعراف:201-202].

فلاحظ: الآن قبل الحرف الأخير أيضًا الحرف يكون متّحدًا: (تنهر)، (تقهر)، ليس فقط الاتِّفاق بالحرف الأخير، بل والذي قبله، فهذا عندهم: (لزوم ما لا يلزم)، يعني: هذا يحتاج إلى كُلفةٍ من أجل هذا التَّوافق؛ ولهذا يُسميه بعضهم: بالإعنات، فإذا التزمه النَّاثرُ -في الكلام المنثور-، أو النَّاظم، فكأنَّه كدَّ قريحته، وأعنت نفسه، وتوسّع في فصاحته وبلاغته، مع أنَّه عنه مندوحة، ولكن إذا جاء مثل هذا من غير تكلُّفٍ -كما هو في القرآن- فهذا يكون من البلاغة.

وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ ۝ وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ [الانشقاق:17-18]، السين والقاف، الحرف الأخير متوافق، والذي قبله كذلك، فهذا لزوم ما لا يلزم.

لماذا قيل له: لزوم ما لا يلزم؟

لأنَّه غير مُطالَب به، فيه مشقّة، فيه كُلفة، فيه إعنات، ومع ذلك يَكُدّ هذا الفصيح، أو الخطيب، أو الشَّاعر قريحته؛ من أجل ألا يتّفق الكلام في آخر حرف الجمل، أو الأبيات، بل يهدف إلى التَّوافق في الحرف الذي قبله.

"الثاني عشر: القلب: وهو أن يكون الكلامُ يصلح ابتداء قراءته من أوّله وآخره، نحو: دعد، أو تعكس كلماته، فتُقدّم المؤخّر منها، وتُؤخّر المقدّم".

يقول: "القلب: أن يكون الكلامُ يصلح ابتداء قراءته من أوّله وآخره"، يعني: يُقرأ معكوسًا، هذا يكون في لفظةٍ، وقد يكون في الجملة، أو ما يُشبهها.

وهذا المعنى الذي ذكره ابنُ جزي واضح، وبعضهم يُفسّره بغير ذلك.

لاحظ: كلمة (دعد) تُعكس وتُقرأ، يعني: من آخر حرف إلى الأول، أو العكس، نفس ...، وسبق ذكر البيت الذي يقول فيه:

مودته تدوم لكلِّ هولٍ وهل كلٌّ مودّته تدوم[2]

فلو قلبته من آخر حرف إلى الأول ستجد أنَّه نفسه.

كُلٌّ فِي فَلَكٍ [الأنبياء:33]، لو قلبتها ستجد أنَّك تقرأها: (كلٌّ في فلكٍ)، لو قلبت الحروف في الكلمات.

هكذا فسّره ابنُ جزي -رحمه الله-، وإلا فإنَّ بعضهم يقول: أنَّ القلب: هو جعل أحد أجزاء الكلام مكان الآخر لغير داعٍ معنوي، دون تعقيدٍ، ولا خطأ، ولا لَبْسٍ. مثلما يقولون: عرضتُ النَّاقة على الحوض. يقولون: هذا مقلوب، الأصل: عرضتُ الحوضَ على الناقة. أدخلتُ الخاتم في أصبعي، أدخلتُ أصبعي في الخاتم. يقولون: هذا قلبٌ. إلى غير ذلك من الأمثلة.

وبعضهم يُفسّره بالطرد والعكس الذي ذكره المؤلف، مع أنَّ الطرد والعكس عند المناطقة وما ينقله بعضُ الأصوليين عنهم غير هذا تمامًا، أنواع الأدلة العقلية، يعني: حيث وُجِدَت العِلّة وُجِدَ المعلول، وحيث انتفت انتفى المعلول. هذا عند المناطقة، وعند الأصوليين، لكن هنا عند البلاغيين يقصدون به ما ذكره المؤلف، كما ذكرتُ في البيت للأرّجاني الذي يقول فيه:

مودته تدوم لكل هولٍ وهل كل مودته تدوم[3]

مثل هذا -على كل حالٍ- حينما يأتون بأشياء من القرآن، كقوله: كُلٌّ فِي فَلَكٍ، كدّ الأذهان في مثل هذه القضايا لا شكَّ أنَّه ليس من صلب العلم، ولا من مُلَح العلم، بل من فضوله. يعني: هذا لا فائدةَ فيه، كلمة تُقرأ من الوجهين، ما الذي يترتب على هذا؟

لكن على التفسير الآخر للقلب، أو على بعض تفسيراتهم: لا يكون المقصودُ به مثل هذا، يعني: بعض البلاغيين، وبعض المفسّرين يقولون: إنَّ قوله -تبارك وتعالى-: تُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ [آل عمران:27]: أنَّ هذا من القلب؛ حيث قدّم الحيَّ على الميت في الأول، وفي الثاني قَلَب: وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ، فقالوا: هذا هو القلب.

فهم لا يتَّفقون على صورةٍ، أو على تعريفٍ له: أن يكون الكلامُ يصلح ابتداء قراءته ... إلى آخره، أو تعكس كلماته؛ فتُقدِّم المؤخّر منها، وتُؤخّر ...، تعكس الكلمات، هذا يصلح لهذا المثال الذي ذكرتُه آنفًا: تُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ.

"الثالث عشر: التقسيم: وهو أن تُقسِّم المذكور إلى أنواعه، أو إلى أجزائه".

التقسيم له ثلاثة إطلاقات، هنا ابنُ جزي عرّف بهذا التَّعريف الـمُقْتَضب؛ أن تُقسِّم المذكور إلى أنواعه، أو إلى أجزائه. هذا لمن يعرف التَّقسيم؛ لا إشكالَ، لكن أنت حينما تقرأ هذا وأنت خالي الذّهن، قد لا تتصور المراد، ولا تفي لك هذه العبارة بالمعنى المقصود عند هؤلاء.

فهذا التقسيم عندهم على أنواع:

النوع الأول: الذي يُشبه اللَّف والنَّشر، التقسيم الذي هو كاللَّف والنَّشر، وسيأتي الكلامُ على اللَّف والنَّشر -إن شاء الله-، تذكر مُتعددًا أولًا، مُفصّلًا، أو مُجملًا، ثم تذكر بعده مُتعددًا آخر، يتعلّق كل واحدٍ من أعداده بواحدٍ من المتعدد السَّابق، تقسيم فيه تعيين كل واحدٍ من المتعدد اللَّاحق بصاحبه من المتعدد السَّابق.

الفرق بين التقسيم واللَّف والنَّشر، كما سيتّضح أكثر لكم -إن شاء الله- عند الكلام على اللَّف والنَّشر: التَّقسيم -كما نقول- يضع النِّقاط على الحروف؛ يضع كل قسمٍ مع الحكم الذي يتعلّق به، أو ما أُنيط به. أمَّا اللَّف والنَّشر فيترك ذلك لنباهة الـمُخاطَب، أو السَّامع، هو يربط هذه بهذه، ويُلحِق هذه بهذه -كما ستعرفون-.

هذا اللَّف والنَّشر، يعني: اللَّف والنَّشر مثل التقسيم المذكور هنا، الذي نتكلم عليه، لكن الفرق بينهما من هذه الحيثية أن اللَّف والنَّشر يُترَك لك، ألحِق كلّ قسمٍ بما يليق به مما ذُكِرَ سابقًا، التَّقسيم لا، ما يترك هذا لك؛ يضع لك النِّقاط على الحروف.

يتّضح لكم هذا كلّه بالأمثلة، لكن ...، يعني مثلًا: في قوله -تبارك وتعالى- في سورة الحاقة: كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ [الحاقة:4]، الآن التَّكذيب مُشترك بين هاتين الأمّتين أو القبيلتين؛ ثمود، وعاد: (كذبت)، فعبّر عن الجميع بفعلٍ واحدٍ: كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ، بعدها بدأ يُقسّم، يُعطي كل واحدةٍ ما يليق بها، ما ترك هذا لفهمك أنت، قال: فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ ۝ وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ [الحاقة:5-6]، هذا يُقال له: تقسيم، فأعطى كلّ ... بعدما أجمل، وعبّر عن الجميع بفعلٍ واحدٍ: (التكذيب)، وذكر عقوبة كل قبيلةٍ من هاتين القبيلتين المكذّبتين، لكن على سبيل التَّفصيل، لم يدع الحكمَ لك.

يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ [الانشقاق:6]، الإنسان؛ المؤمن والكافر، المحسن والمسيء، ثم ذكر حكم كل واحدٍ: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ [الانشقاق:7] يعني: من هؤلاء الكادحين حينما يُلاقي ربَّه ويُحاسَب: فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا ۝ وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا ۝ وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ ۝ فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا ۝ وَيَصْلَى سَعِيرًا [الانشقاق:8-12].

لاحظ: إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ، فإذا لقي ربَّه ما الذي يحصل؟

ينقسمون إلى فريقين: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ، وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ، بعد الإجمال في قوله: يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ.

يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ، لاحظ: فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ ۝ وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [آل عمران:106-107].

لاحظ: الآن ذكر يوم تبيض وجوه، وتسودّ وجوه، هذا بعضهم يجعله من اللَّف والنَّشر، أنَّه ذكر حالين، ذكر صفتين لفئتين: تبيض وجوه، وتسودّ وجوه، ثم ترك الربطَ لك بإلحاق الأحكام المتعلقة بكل فئةٍ بعد ذلك، لكن حينما نتأمّل أنَّه نصَّ على كل فئةٍ: فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ، قالوا هنا: هذا تقسيم، وليس بلفٍّ ونشرٍ؛ لأنَّه عيّنه، وبهذا يفترق عن اللَّف والنَّشر، مع أنَّهم يُمثلون كثيرًا بهذا المثال في اللَّف والنَّشر، فجعله بعضُهم من التَّقسيم بهذا الاعتبار.

قال: فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ، لاحظ: هنا ذكر في الأول: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ، ولما ذكر الأحكام المتعلّقة بهما بدأ بالذين ابيضّت وجوههم، أم الذين اسودّت وجوههم؟

اسودّت وجوههم، يعني: الأحكام التي رُتّبت عليه -التَّقسيم- لم تأتِ على نفس الترتيب. فهذا يُسمّونه: اللَّف والنَّشر المشوّش، يعني: الأحكام ما جاءت على الترتيب السابق، هو ذكر مَن ابيضّت وجوههم، ثم مَن اسودّت وجوههم. وفي الأحكام بدأ بالذين اسودّت وجوههم، بدأ بالأخير، ثم ذكر الأول، يُسمّونه: مُشوّش، غير مُرتّب، هذا عند مَن عدَّه من قبيل اللَّف والنَّشر.

وسيأتي في الكلام على اللَّف والنَّشر -إن شاء الله- ذِكر القسمين: المشوّش، والمرتّب، لكني ذكرتُ هذا لأنهم كثيرًا ما يُمثّلون به، وفي كتب التفسير، وفي كتب علوم القرآن يذكرون هذا المثال على أنَّه من قبيل اللَّف والنَّشر، لكن مَن سمّاه، مَن اعتبره من قبيل التَّقسيم كان ذلك باعتبار أنَّه حدد حكم كل نوعٍ.

الإطلاق الثاني عندهم للتَّقسيم: أن تذكر مُتعدِّدَات، ويذكر إلى جانب كل واحدٍ منها ما يتعلّق به، وهذا الذي يُسمّيه بعضُهم: بالتقسيم الـمُذيل.

النبي ﷺ يقول: الطّهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن ما بين السماء والأرض، والصلاة نور، والصَّدقة برهان، والصَّبر ضياء، والقرآن حُجّة لك، أو عليك، كلّ الناس يغدو، فبائعٌ نفسه: فمُعتقها، أو مُوبقها[4].

فهنا ذكر سبعة أقسام، آخر هذه الأقسام: "والقرآن حُجّة لك، أو عليك"، عبارة: "كل الناس يغدو، فبائعٌ نفسه: فمُعتقها، أو مُوبقها"، يقولون: يمكن أن يكون هذا من النوع الأول للتَّقسيم: "كل الناس" ذكر أمرًا أجمله، ثم بعد ذلك ذكر الأقسام الدَّاخلة تحته: "فبائعٌ نفسه: فمُعتقها، أو مُوبقها" يعني: قسم مُعتِق لنفسه من النار بالعمل الصَّالح، وقسمٌ آخر مُوبِق لها.

ما يُروى عن بعض السَّلف، وذكره شيخُ الإسلام -رحمه الله-، العبارة المشهورة: "أحسن إلى مَن شئتَ تكن أميرَه، واحتج إلى مَن شئتَ تكن أسيرَه، واستغنِ عمَّن شئتَ تكن نظيرَه"[5]، فهنا ذكر مع كل قسمٍ الحكم المتعلّق به، هذا ما يَلتبس.

الإطلاق الثالث للتَّقسيم: هو التَّقسيم الذي تُستوفى به أقسام الشَّيء الموجودة في الواقع، أو تُستوفى به الأقسام العقلية، يُسمّونه، أو يُسمّيه بعضُهم: التقسيم المستوفى.

البيت المشهور لأبي تمام:

إن يعلموا الخيرَ يُخفوه وإن علموا شرًّا أذاعوا وإن لم يعلموا كذبوا[6]

وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا [الروم:24] يعني: هذا تقسيم مُستوفى بمعنى ...، تقرؤون من طرق استخراج العِلّة في القياس عند الأصوليين: السَّبر والتَّقسيم العقليين؛ السَّبر هو الاختبار، لكن المقصود هنا التَّقسيم، يقولون: من شروطه هناك -وهو يذكره المناطقة- يقولون: التَّقسيم لا بدَّ أن يكون مُستوفيًا لجميع الاحتمالات، لكل الصور، وإلا كان ناقصًا، وهذا يصلح أيضًا في علم الجدل والاحتجاج، فتذكر الأقسام، ثم تذكر ...، تختبر هذه الأقسام.

وهذا يذكرونه أيضًا فيما يتعلّق بتنقيح المناط؛ لاستخراج الوصف المناسِب للحكم في العِلّة عند الأصوليين.

يعني: على سبيل المثال في استخراج العِلّة، هذا استطراد قصير؛ لأنَّه تجدونه في كتب الأصول، تحتاجون إليه، يقول لك مثلًا: ما عِلّة تحريم الخمر؟ هل من أجل الرائحة -احتمال الرائحة-، أو اللون؟ أو أنها تُلقي بالزبد، أو لأنَّها تُسْكِر؟ هل هناك احتمالات أخرى من الأقسام؟

هذا يُسمّى: تقسيمًا حينما تعدد، فلو بقينا مثلًا مع الأقسام الأولى؛ أنها حُرّمت لرائحتها، احتمال، أو لأنَّها تلقي بالزبد، أو للونها، أو لأنّها من عصير العنب -مثلًا-، أو لأنَّه يُصاب شاربها بالصُّداع -مثلًا- غالبًا، هذا يُسمّى: تقسيمًا ناقصًا، فبدأنا نختبر هذه الأوصاف، سنجد أننا ندور بين أوصافٍ لا تصلح للعِلّة، تركنا السُّكر؛ فالمعترِض يقول: بقي وصفٌ مُهمٌّ تركتَه، وهو السُّكر، الإسكار، فلا بدَّ أن يكون مُستوفيًا هذا التَّقسيم.

قوله -تبارك وتعالى-: وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا، هل فيه قسم ثالث؟

خوفًا من الصَّواعق، (خوفًا) من المطر الذي يحصل به الهدم والغرق، أو تلف الزروع، وما يحصل معه من البَرَد، (وطمعًا) طمعًا في المطر الذي يحصل به الخِصب والنبات. فهل فيه قسمٌ آخر غير الخوف والطَّمع؟

ما فيه، فهذا يُسمّونه: مُستوفيًا، استوفى كلّ الأقسام، لم يُبْقِ منها شيئًا.

ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا، الكتاب: جنس الكتاب الذي كان ينزل على بني إسرائيل مثلًا، ثم أورثه اللهُ هذه الأمّة التي اصطفاها: فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ [فاطر:32]، هل فيه قسم رابع؟ يوجد قسم رابع؟

ما فيه: إمَّا ظالم لنفسه؛ يترك بعض الواجبات، ويفعل بعض المحرّمات. أو مُقتصد: يفعل الواجبات، ويترك المحرّمات، ولا يفعل المستحبّات، أو يترك المكروهات. أو سابقٌ بالخيرات: يأتي بما يجب، ويترك ما حَرُم، ويفعل المستحبّ، ويترك المشتبِه والمكروه. ما فيه قسم رابع، فهذا يُقال له: المستوفي.

في سورة الواقعة: وَكُنتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً ۝ فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ ۝ وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ ۝ وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ ۝ أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ [الواقعة:7-11]، فهذه أقسام ثلاثة، إذا قلتَ: لا رابعَ لها، فعندئذٍ تكون هذه الأقسام مُستوفيةً.

لِّلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَن يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَن يَشَاءُ الذُّكُورَ  ۝ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا [الشورى:49-50] يعني: يُرزق الإنسانُ بأبناء وبنات، (يُزوّجهم) يعني: يُولد له الذكور والإناث، هذا معنى التَّزويج: التنويع. وَيَجْعَلُ مَن يَشَاءُ عَقِيمًا [الشورى:50]، هل فيه قسمٌ آخر غير المذكورات هنا؟

يُوهَب بنات، أو ذكور، أو ذكور وإناث، أو عقيم. أربعة أقسام، فيه قسم خامس؟

ما فيه. فهذا يُسمّى: التقسيم المستوفي. التقسيم يذكر الأقسام.

"الرابع عشر: التَّتميم؛ وهو أن تزيد في الكلام ما يُوضّحه، أو يُؤكّده، وإن كان مُستقلًّا دون هذه الزِّيادة".

التتميم هذا يُؤتى به في كلامٍ لا يُوهِم خلاف المقصود، يعني: واضح المعنى، فيُؤتى بفضلةٍ -زيادة- لنُكتةٍ، لفائدةٍ ما؛ بقصد المبالغة، أو الاحتراز عن الخطأ في الفهم، أو لغير ذلك.

ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ [سبأ:17]، الآن قوله: وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ هذا للتأكيد. يعني: الكلام الأول واضح، أم غير واضح؟

ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِمَا كَفَرُوا الباء هنا تدلّ على التعليل: بِمَا كَفَرُوا، الكلام واضح، لا لبسَ فيه، ولكن ما ذُكِر بعده يُقال له: التَّتميم، يعني: هنا ذُكِر للتوكيد.

وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ الكلام واضح، أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ [الأنبياء:34]، هذه الجملة: أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ هذا يُقال له: التَّتميم، هذا يُؤكد الكلام الأول: وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ، إذًا هذا الخلد أيضًا لا يتحقق ولا يحصل لهم بحالٍ من الأحوال: أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ؟

إذا كان الرسولُ ﷺ الله يقول له: وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ، و(بشر) نكرة في سياق النَّفي؛ تعُمّ، فهل سيخلُد هؤلاء من بعدك؟

فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ [النحل:26]، المعنى واضح، أم لا؟

سقط عليهم السَّقف، قال: مِن فَوْقِهِمْ، السقف ما يكون إلا فوق.

فالعلماء يبحثون عن النُّكتة هنا في ذكر هذا التتميم: مِن فَوْقِهِمْ، بعضهم يقول: مِن فَوْقِهِمْ ليدُلّ على أنهم كانوا تحته حينما سقط، ما كانوا في مكانٍ آخر. وبعضهم يقول غير هذا.

وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا  ۝ إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا [الإنسان:8-9]، قوله: عَلَى حُبِّهِ هذا من قبيل التتميم، ويمكن أن يدخل فيما سبق من الاحتراز، جمل اعتراضية، ويصلح لهذا وهذا.

فقوله: عَلَى حُبِّهِ قد يُطْعِم الطَّعام لأنَّه فائضٌ عنده، زائدٌ على حاجته، لكن هنا عَلَى حُبِّهِ هذا يدلّ على أنَّه قد بلغ مرتبةً من الإيمان، والبذل، والإيثار، ورجاء ما عند الله -تبارك وتعالى-، فيُقدِّم ما تتعلق به نفسه: عَلَى حُبِّهِ مع حاجته إليه.

سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [الإسراء:1]، (ليلًا) هذه يقولون: تتميم، كان يكتمل المعنى لو قيل: (سبحان الذي أسرى بعبده من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى)، فقال: لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ.

العلماء يذكرون التَّعليلات لذِكر هذه اللَّفظة: (ليلًا)، مع أنَّ الإسراء لا يكون إلا ليلًا، فالمعنى مفهوم، لكن يقولون: هذا إشارة إلى قِصَر المدّة التي حصل فيها الإسراء ذهابًا وعودةً. أُسري به إلى بيت المقدس مسيرة شهر، وعُرِجَ به إلى السماء، ثم رجع في ليلته ليلًا. لاحظ، فهذه فائدة ذكر هذه اللَّفظة.

"الخامس عشر: التَّكرار: وهو أن تضع الظَّاهر موضع المضمر، فتُكرّر الكلمة على وجه التَّعظيم، أو التَّهويل، أو مدح المذكور، أو ذمّه، أو للبيان".

هنا فسّر التَّكرار بوضع الظَّاهر موضع المضمر، فتُكرر الكلمة على وجه التَّعظيم، أو غير ذلك من الأغراض البلاغية.

نحن عندنا قاعدة، وهي: أنَّ وضع الظاهر موضع المضمر وعكسه إنما يكون لنُكتةٍ، لفائدةٍ، لملحظٍ. يعني: إذا كان الضَّمير يُغني؛ فالأصل أن يُؤتى بالضَّمير اختصارًا للكلام، والضَّمائر إنما وُضِعَت لاختصار الكلام، فإذا جِيء بالظاهر في موضعٍ يصحّ أن يُذكر فيه الضَّمير، فهنا لا بدَّ أن يكون لنكتةٍ. وكذلك وضع المضمر موضع الـمُظهر.

والأصل في الأسماء أن تكون ظاهرةً، وهكذا الـمُحدَّث عنه، لكن إذا كان ثانيًا أن يُشار إليه بالضَّمير، يعني: يُكتفى بالظَّاهر السابق الذي قبله.

إذا حصلت مُخالفة لهذا الأصل فهنا لا بدَّ من عِلَّةٍ، أو ملحظٍ، أو نكتةٍ، أو نحو ذلك، وكلّما كان السامعُ أكثر اقتدارًا في فهم كلام العرب، وأساليب العرب، وما إلى ذلك؛ يعرف من الملاحظ واللَّطائف ما لا يعرفه غيره.

لو أردنا أن نُمثّل على وضع الظَّاهر موضع المضمر، يعني: الموضع الذي يصحّ فيه الإضمار: وَاتَّقُوا اللَّهَ، لفظ الجلالة، وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [البقرة:282]، ما قال: (وهو بكل شيءٍ عليم)، فهنا وضع الظَّاهر يُفيد التَّعظيم، غير لما يقول: (وهو بكل شيءٍ عليم).

أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ [المجادلة:19]، ما قال: (ألا إنَّ حزبه)، فهذا يُفيد التَّحقير والإهانة؛ فأظهره.

مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا [فاطر:10]، ما قال: (فلله هي جميعًا) العزّة، فهنا كأنَّه يُستَلَذّ بذكر هذا المطلوب (العزّة): فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ التي تبحثون عنها جميعًا.

لاحظ -كما قلنا-: أنَّه بقدر ما يكون عند الإنسان من التَّذوق والفهم لأساليب العرب؛ يستطيع أن يستنتج هذه العِلل.

وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ، ما قال: (لتحسبوه منه)، وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ [آل عمران:78]، ما قال: (وما هو من عنده)، فهنا كرر (الكتاب) -كما نُلاحظ- ولفظ الجلالة لزيادة التَّقرير.

وَقُرْآنَ الْفَجْرِ ما قال: (إنَّه كان مشهودًا)، قال: إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ [الإسراء:78]، هنا العِلّة ما هي؟ لماذا أظهره، ولم يكتفِ بالإضمار؟ لماذا؟

لأنَّه قد يلتبس، لو قال: (إنَّه كان مشهودًا) لَفُهم أنَّ الفجر هو المشهود، أو قد يفهم البعضُ على الأقلّ.

الأصل أنَّ الضَّمير يرجع إلى المضاف، وليس المضاف إليه: وَقُرْآنَ الْفَجْرِ، لو قال: (إنَّه كان مشهودًا)، ربما يفهم بعضُ الناس أنَّ الفجر هو المشهود، والمقصود الصَّلاة، فإنَّ قرآن الفجر المقصود به القراءة في الفريضة.

وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ ماذا قال: لخزنتها، أو لخزنة جهنم؟ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ [غافر:49]، فأظهر في موضع الإضمار، هذا يُفيد تربية المهابة، إدخال الرَّوْعَة في ضمير السَّامع: لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ له وقعٌ في النفس.

فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ، ما قال: (إنَّه يُحبّ المتوكلين)، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ [آل عمران:159]، هذا يقوي الدَّاعي في النفس للتوكل عليه -تبارك وتعالى-.

هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا  ۝ إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ [الإنسان:1-2]، ما قال: (إنا خلقناه من نطفةٍ)، وهذا يدلّ على تعظيم هذا الأمر، وهو خلق الله -تبارك وتعالى- للإنسان.

فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ الآية [الأعراف:158]، هذا جاء بعد قوله في صدر الآية: إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا، فَآمِنُوا بِاللَّهِ، هنا بعده: وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ، ما قال: (فآمنوا بالله وبي)، قال: وَرَسُولِهِ، فهنا من أجل ذكر هذه الأوصاف التي سيذكرها للنبي ﷺ: الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ، فيُناسب ذكر الرسول ﷺ بهذا اللَّفظ الظَّاهر.

وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي [يوسف:53]، ما قالت: (إنها لأمّارة بالسُّوء)، إِنَّ النَّفْسَ هذا لإفادة التَّعميم: أنَّه لا يختصّ بها نفسها هي فقط؛ امرأة العزيز نفسها أمَّارة بالسُّوء، لا، النفوس عمومًا. فأظهر في موضع الإضمار. لو قالت: (إنها) لم يُفِد هذا المعنى: (إنها لأمَّارة بالسوء)، لا، إِنَّ النَّفْسَ أيّ نفسٍ.

فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِّنَ السَّمَاءِ [البقرة:59]، ما قال: (فأنزلنا عليهم)، هنا ذكر هذا الظاهر: (الذين ظلموا) ليُبين عِلّة هذا العذاب (الرّجز)، وهو أنَّه ظلم.

وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَن يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ [الأحزاب:50].

وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ، تعرفون أنتم أنَّ المرأة ليس لها أن تَهَب نفسَها لأحدٍ، إلا النبي ﷺ، تقول: وهبتُ لك نفسي. فإذا قَبِلَ تكون زوجةً له -عليه الصلاة والسلام-.

والعلماء لهم كلامٌ في هذه المسألة معروف، لكن لغير النبي ﷺ لا، ليس لامرأةٍ أن تقول لرجلٍ: وهبتُ لك نفسي. فإذا قال: قبلتُ؛ كان ذلك تزويجًا.

فهنا ذكر لفظة (النبي): وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا، ما قال: لك، قال: لِلنَّبِيِّ؛ لأنَّ هذا يختصّ بمقام النبي ﷺ، بخلاف الأشياء الأخرى التي ذكرها قبله: وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ [الأحزاب:50] ونحو ذلك، فهذا لا يختصّ به -عليه الصلاة والسلام-.

من القواعد المتعلقة بهذا النوع: أنَّ إعادة الظاهر بمعناه أحسن من إعادته بلفظه، من أجل دفع الملل والسَّآمة بتكرار بعض الألفاظ بعينها، وتنشيط السامع أبلغ.

كما أنَّ إعادته بعد الطّول أحسن من الإضمار بعد الطول؛ من أجل أنَّ السامع يربط أجزاء الكلام، ما يتشتت ذهنُ السامع، يبحث أين يرتبط هذا الكلام بما ذُكِرَ قبله مع طول الفصل؟

إعادة الظَّاهر بمعناه أحسن من إعادته بلفظه، مثال إعادته بمعناه: وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ [الأعراف:170]، أجر ماذا؟ أجر الذين يُمسِّكون بالكتاب، وأقاموا الصَّلاة؟ لا، أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ، فهنا أعاده بمعناه أم بلفظه؟ أعاده بمعناه، فهذا أبلغ في الكلام في مثل هذه المواضع.

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ، ما قال: (إنَّا لا نُضيع أجر الذين آمنوا وعملوا الصَّالحات)، يكون ثقيلًا على السَّامع، قال: إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا [الكهف:30]، مَن أحسن عملًا هم الذين آمنوا وعملوا الصَّالحات. فأعاده بمعناه.

ومع طول الفصل يُعاد بلفظه من أجل الرَّبط -كما سبق-: وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَن نُّؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ [الأنعام:124]، لفظ الجلالة كُرِّر للربط، أو يمكن أن يكون هذا المثال يصلح للإعادة؛ إعادة الظَّاهر بلفظه، إذا كان كل واحدٍ من اللَّفظين واقعًا في جملةٍ مُستقلةٍ، حتى مع التَّقارب، لا إشكالَ في هذا.

فهذا المثال يصلح له؛ يمكن أن يُعاد اللَّفظ بعينه إذا كان كل واحدٍ من اللفظين في جملةٍ مُستقلةٍ، لم يكن التَّكرار في جملةٍ واحدةٍ. فهذا مثالٌ لهذا النوع.

وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ [البقرة:282]، هاتان جملتان، كُرِّر لفظ الجلالة بلفظِهِ. لاحظ: ظاهرًا: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ، لاحظ: أنَّه لا يثقل في مثل هذا المقام؛ لأنَّ كل واحدٍ في جملةٍ، مع أنه مُتقارب -والله أعلم-.

لكن يمكن أن نُمثّل لما كان بعد الطول للربط: وَتِلْكَ حُجَّتُنَا، في البداية لاحظ: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ ۝ وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ ۝ فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي [الأنعام:74-76]، ثم ذكر رؤيته للقمر، ثم رؤيته للشمس، ومحاجّة قومه له: وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَن يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا [الأنعام:80]، ثم قال لهم: وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ [الأنعام:81]، ثم قال: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ ۝ وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا [الأنعام:82-83]، ما قال: (آتيناه إياها)، أعاد لفظ (إبراهيم) ظاهرًا: آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ، لو جاء بالضَّمير يمكن مع طول الكلام: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أنَّ الذهن يبحث: (آتيناه إياها)! أين يرجع هذا الضَّمير؟ مَن هو الـمُحدَّث عنه؟ فأعاده ثانيًا.

ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا [النحل:119]، لاحظ: ما قال: (إنَّه من بعدها لغفور رحيم)، قال: إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا، فجاء به ظاهرًا: إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ، وهكذا في أمثلةٍ متعددةٍ.

على كل حالٍ، وضع الاسم الظَّاهر موضع المضمر لعلَّ هذه الأمثلة تكفي فيه، لكن بالنسبة للعِلل، أو اللَّطائف، أو النِّكات، أو الأغراض -كما يقولون-؛ هي كثيرة، يعني: بعضهم يذكر في ذلك أكثر من عشرٍ، ويمكن أن يُزاد عليها: قصد التَّعظيم، وقصد الإهانة -التَّحقير-، وإزالة اللَّبس، وتربية المهابة، وتقوية الدَّافع للامتثال مثلًا -كما ذكرنا في الأمثلة-، والتلذذ بذكر الاسم الظاهر، والتوصل إلى الوصف باستعمال الاسم الظاهر، وإرادة التَّنبيه على عِلّة الحكم إذا كان الاسمُ الظاهر يدلّ عليه، أو يُشير له، مثل: الظلم. وإرادة العموم إذا كان الاسمُ الظاهر يُفيده، وإرادة الخصوص إذا كان الاسمُ الظاهر يُفيده، وقصد الإشارة إلى استقلال الجملة، وعدم دخولها في حكم سابقتها؛ إذا كان استعمالُ الضَّمير يُفيده، وإرادة مراعاة صور بلاغية وجمالية في اللَّفظ، أو مُحسِّن من مُحسِّنات البديع، مثل: الجناس، والترصيع، فيحتاج إلى ذِكر الظَّاهر؛ لأنَّ الضمير لا يفي بهذا، يُقابل اللَّفظ: اسم باسم، أو فعل بفعل، أو نحو ذلك، هذا ذكرتُ بعض الأمثلة المتعلّقة به، وكلّ هذه الأنواع يذكرون لها أمثلةً من القرآن -والله أعلم-، لا أرى حاجةً لاستيفاء الأمثلة على ذلك جميعًا.

ابن جزي -رحمه الله- في التفسير يذكر مثل هذا؛ يذكر الإظهار في مقام الإضمار عند قوله -تعالى-: قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ [الأنعام:33]، ما قال: (ولكنَّهم بآيات الله يجحدون)، يقول: فقال: وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ أي: ولكنَّهم، ووضع الظَّاهر موضع المضمر للدّلالة على أنَّهم ظلموا في جحودهم.

وهكذا في قوله -تعالى-: وَمَن يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ [المائدة:56]، ما قال: (فإنَّهم هم الغالبون).

فابن جُزي يذكر هذا، يقول: هذا من إقامة الظَّاهر مقام الـمُضمر، معناه: فإنَّهم هم الغالبون.

وهكذا عند قوله: الْحَاقَّةُ ۝ مَا الْحَاقَّةُ [الحاقة:1-2]، قال: الإظهار الواقع موقع الإضمار، وقال: مَا الْحَاقَّةُ ما: استفهامية، يُراد بها التَّعظيم، إلى أن قال: ثم وضع الظَّاهر موضع المضمر زيادةً في التَّعظيم والتَّهويل، وكذلك: وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ [الحاقة:3]، يقول: لفظه استفهام، والمراد بها التَّعظيم والتهويل.

وهكذا في سورة الناس، يقول: فإن قيل: لِم أظهر المضاف إليه، وهو النَّاسِ في المرة الثانية: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ ۝ مَلِكِ النَّاسِ [الناس:1-2]، والثالثة أيضًا: إِلَهِ النَّاسِ [الناس:3]، فهلّا أضمره في المرتين؛ لتقديم ذكره في قوله: بِرَبِّ النَّاسِ؟

فالجواب: أنَّه لما عَطَف بيان ... هذا النوع من الاستعمال يُقال له في النَّحو: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ ۝ مَلِكِ النَّاسِ ۝ إِلَهِ النَّاسِ يُقال له: عطف البيان.

فيقول: يقولون هنا: ما دام أنَّه عطف بيان؛ إذًا يحسُن فيه البيان؛ فأظهره، ولم يُضمر ذلك، وهكذا.

"السادس عشر: التَّهكم؛ وهو إخراج الكلام عن مُقتضاه؛ استهزاءً بالمخاطَب، أو بالمُخْبَر عنه، كذكر البشارة في موضع النِّذارة".

"إخراج الكلام عن مُقتضاه" يعني: الأصل أنَّ هذه اللَّفظة تُستعمل في الإكرام مثلًا، فاستعملها في الإهانة والتَّحقير، هذا إخراج الكلام عن مُقتضاه، يعني: عن الاستعمال الذي وُضِعَ له في الأصل.

هذا غير موضوع المجاز، فهو عندهم -عند علماء البيان- إخراج الكلام على ضدِّ مُقتضى الحال؛ استهزاءً بالمخاطَب مثلًا، وهذا عندهم على صورٍ، وليس المقصودُ دائمًا به في الواقع الاستهزاء -والله أعلم-.

أحيانًا يخرج ذلك على سبيل الوعيد بلفظ الوعد، يقولون تهكُّمًا: فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [آل عمران:21]، بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا [النساء:138]، هذا بأي اعتبارٍ؟

باعتبار أنَّ البشارة تكون بالإخبار بما يسُرّ خاصةً، لكن مَن يقول: بأنَّ البشارة تكون بالإخبار بما يسرّ، أو يسوء؛ لأنَّ أثر ذلك يظهر على البشرة، فهذا عندهم ليس من هذا القبيل، وإن كانت في عُرف الاستعمال -في الغالب- تُقال: البشارة للإخبار بما يسرّ.

مثلما يُقال في التَّحية: هي أول ما يُقال عند اللقاء من السلام وغيره.

وهذا الشاعر يقول:

وخيلٍ قد دلفت لها بخيل تحية بينهم ضرب وجيع[7]

فجعل التَّحية هنا هي الضَّرب الوجيع.

وهكذا نوعٌ آخر منه، أو صورة أخرى: أن تُورد صفات المدح، والمقصود بها الذَّم.

الأول: يكون الكلامُ واردًا على جهة الوعيد بلفظ الوعد: (بشّرهم) على الاعتبار السابق.

هنا صفات مدح يُقْصَد بها الذَّم: ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ [الدخان:49]، فهذا يقولون: على سبيل التَّهكم، لا يقصد به المدح.

من صوره: ما جاء في قوله -تعالى-، صورة أخرى غير ما سبق: قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ [الأحزاب:18]، قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ [النور:64]، قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ [الأنعام:33]، باعتبار أنَّ (قد) إذا دخلت على الفعل المضارع فهي للتَّقليل، مع أنَّ هذا ليس محلّ اتِّفاقٍ؛ بعض أهل العلم يُنكر هذا، لكن على هذا التَّصور الشَّائع عند كثيرٍ من أهل اللغة والمفسّرين، فهنا دخلت على الفعل المضارع المتعلق بالله -تبارك وتعالى-، فهذا للتَّقليل.

والقاعدة: أنَّ (قد) إذا دخلت على الفعل المضاف إلى الله -تبارك وتعالى- فإنَّها للتَّحقيق.

احفظوا هذه القاعدة، وتنحلّ بها إشكالات عنكم: (قد نعلم)، (قد علمنا)، لكن من جهة الاستعمالات البلاغية يذكرون أشياء، يقولون: هذا على جهة التَّهكم بهم، والاستهانة بحالهم، حيث أسرّوا المخادعة والمكر؛ جهلًا بأنَّ الله -تعالى- يطّلع عليهم، ويعلم خفاياهم؛ فأورده على جهة التَّقليل، والغرض به التَّحقيق؛ انتقاصًا لحالهم، حيث ظنوا أنَّ الله لا يطلع على ذلك، فجاء به بما يدلّ على التقليل، وإلا فهو عالم بأحوالهم: (قد يعلم)، لكن هذا ليس ... يعني: في قوله –تعالى-: قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ، النبي ﷺ لا يظن أنَّه لا يطّلع على حاله، لكن هذه القاعدة هي الجواب، القاعدة التي ذكرتُ آنفًا؛ أنَّ ذلك دائمًا للتَّحقيق في الفعل المضاف إلى الله -تبارك وتعالى-.

صورة أخرى رابعة: في مثل قوله: رُّبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ [الحجر:2]، يقولون: (ربما) هذه ...، (ربما) تُستعمل للتَّقليل، فهنا جاء به في مخرج الشَّك، والغرض به التَّكثير والتَّحقيق في حالهم؛ لأنَّهم في تلك الحالة يتحققون، ويقطعون بأنهم لو كانوا على الإسلام لما نالهم هذا العذاب الشَّديد: رُّبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا، فخرج ذلك مخرج التَّهكم والاستهزاء بهم، هم يستبعدون هذا غاية الاستبعاد، فجاء به بعبارةٍ تدلّ على التقليل: رُّبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا، مع أنَّ هذا أمرٌ مُحققٌ.

صورة خامسة: في مثل قوله -تبارك وتعالى- إخبارًا عن شُعيب وما خاطبه به قومه، خاطبوا شُعيبًا بقولهم: إِنَّكَ لَأَنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ [هود:87]، المفسّرون يختلفون في هذا؛ بعضهم يقول: إنَّهم قالوه حقيقةً، يعتقدون فيه هذا، فهذا لا يكون من هذا القبيل، ولكن على القول المشهور: أنَّهم قالوا ذلك استهزاءً، فإنَّهم ذكروا أوصافًا كاملةً قصدوا بها التَّهكم والسُّخرية -والله أعلم-.

يعني: كلّ هذا خرج فيه الكلام على غير مُقتضى الحال -والله أعلم-، حتى يجعلون منه العبارات التي جاءت عن الكفَّار بذكر لفظ الرسالة: مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ [الفرقان:7]، هم لا يُؤمنون أنَّه رسول، يقولون: على سبيل السُّخرية والتَّهكم.

إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ [الشعراء:27]، قاله فرعون، هو لا يؤمن أنَّه رسول، يقولون: على سبيل السُّخرية.

مع أنَّ هذا قد يُخرَّج تخريجًا آخر في قاعدةٍ أخرى تتعلّق بهذا، وهو: أنَّه قد يخرج الخطاب مُراعًى فيه حال المخاطَب، يعني: عند نفسك، يعني: بحسب اعتقاد المخاطَب، سواء كان المتكلم أو المخاطِب يعتقده، أو لا يعتقده.

"السابع عشر: اللَّف والنَّشر، وهو: أن تلفّ في الذكر شيئين فأكثر، ثم تذكر مُتعلقاتها، وفيه طريقتان: أن تبدأ في ذكر المتعلقات بالأوّل، وأن تبدأ بالآخر".

اللَّف والنَّشر أشرتُ إليه آنفًا، ولو ذكره بعد التَّقسيم مباشرةً لكان أحسن؛ من أجل أنه يُشابهه -كما ذكرنا-، يُشبهه كثيرًا، فيكون الذهنُ مُستجمعًا لما ذُكِر في التَّقسيم؛ من أجل معرفة الفرق بينهما.

فاللَّف والنَّشر عندهم: هو أن يذكر مُتعدِّدًا مُفصّلًا، أو مجملًا، ثم يذكر ما لكلِّ واحدٍ من المذكورات إجمالًا، أو تفصيلًا، حكمًا، أو أمرًا يتعلّق به، لكن من غير تعيين؛ اتِّكالًا على أنَّ السامع يَرُدّ إلى كل واحدٍ من المذكورات السَّابقة ما يليق به، فهنا يُترك الرَّبط لمن؟

للمُخاطَب، للسَّامع، هذا هو الفرق الوحيد بين التَّقسيم، واللَّف والنَّشر.

في التَّقسيم يُعيِّن: (فأمَّا الذين كذا فكذا، وأمَّا الذين كذا فكذا)، أمَّا في اللَّف والنَّشر فليس كذلك.

وعرفنا أنه قسمان: قسم مُرتّب، وقسم مُشوش.

المرتب: أن يذكر شيئين -مثلًا-، ثم يذكر أحكامَهما على سبيل المثال، أو الأوصاف المتعلّقة بكلٍّ منهما مُرتّبةً كما في الأول، يذكر حال الأول، ثم حال الثاني.

وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ [القصص:73]، لاحظ: ذكر أولًا الليل، وثانيًا النَّهار: لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ.

هل عيّن الآن؟ قال: الليل لتسكنوا فيه، والنَّهار لتبتغوا من فضله. أمَّا الليل فتسكنوا فيه، وأمَّا النَّهار ...؟

لو قال كذا؛ لكان هذا من قبيل التَّقسيم، لكنَّه ما قال هذا، ترك لك الرَّبط. ما الذي نسكن فيه؟ الليل، وما الذي نبتغي من فضله فيه؟ النَّهار. فتُرِك للسَّامع.

هذا الفرق بين التقسيم، واللَّف والنَّشر.

هذا مُرتّب، أو مُشوش؟

مُرتّب؛ ذكر أحكامها مرتّبةً كما في المذكورات أولًا.

وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا [الإسراء:29]، الآن قوله -تبارك وتعالى-: فَتَقْعُدَ مَلُومًا لاحظ: الأوصاف التي ذُكرت قبل: وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ بخيلٌ، فَتَقْعُدَ مَلُومًا يلومك أصحابُ الحقوق، والناس، والأهل، والأولاد، ومَن له حقٌّ، أخرِج هذه الحقوق، أنفِق، أطلق يدك، تلحقك الملامة.

وإذا بسطتها كلَّ البسط تبقى (محسورًا)، يعني: مُنقطعًا، حسيرًا.

الحسير: الذي انقطع وكَلّ: يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ [الملك:4].

بها جيف الحسرى فأمَّا عظامها فبيض وأمَّا جلدها فصليب[8]

(جيف الحسرى) يعني: الإبل التي انقطعت لطول المسير في صحراء بيداء واسعة، شاسعة، كلَّت، فتساقطت، فماتت، فتسلّخت جلودها، صارت صلبةً، يابسةً، تسلّخت عن عِظامٍ تلوح، بيض في هذه الصَّحراء.

فهذا الشاعر يمدح نفسه أنَّه يقطع الفيافي الطوال التي تنقطع فيها الدَّواب، ولا يخاف.

فهنا: فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا إذا كانت اليدُ مبسوطةً كلّ البسط لا تبقى عنده نفقة؛ فينقطع، لا يستطيع أن يتصرف في مصالحه.

فلاحظ هنا الوصفين: فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا، (ملومًا) يرجع إلى ماذا؟

إلى الأول: وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً.

و(محسورًا) إلى الثاني: وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ، ما يبقى عندك مالٌ؛ فتبقى حسيرًا، تريد أن تتصرف، تُعطي، تبذل، تُقدِّم، تُشارك، وما تستطيع، تنقطع دون ذلك.

فلاحظ: أنَّ المذكورات ثانيًا على نفس الترتيب في الأول، هذا يُسمّى: لفًّا ونشرًا مُرتَّبًا. هل عيّن؟

ما قال: (ولا تجعل يدك مغلولةً إلى عنقك، ولا تبسطها كلَّ البسط، فأمَّا الذي جعل يدَه مغلولةً إلى عنقه فإنَّه يكون ملومًا، وأمَّا الذي بسطها كلَّ البسط فإنَّه يكون محسورًا)، هذا يُسمّى: تقسيمًا، لو قال هكذا. ولكن ترك ذلك لك؛ لتربط.

طبعًا هل ربطتم أنتم من قبل حينما تقرؤون مثل هذه الآيات: وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ، وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ، هل أنتم تربطون بهذه الطَّريقة، أو تقرؤونها ...؟

لاحظ: في قصّة موسى مع الخضر لما ذكر خرق السَّفينة، ثم قتل الغلام، ثم بناء الجدار، قال له بعد ذلك: أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ [الكهف:79]، وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ [الكهف:80]، وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ [الكهف:82]، هذا من أي نوعٍ؟

هذا من التَّقسيم، مع أنَّ بعضهم يذكر هذا في اللَّف والنَّشر، وهو أليق بالتَّقسيم، لكنَّهما مُتقاربان.

ذكرتُ لكم هذا من أجل أنَّكم قد تجدون في الأمثلة تلقيب هذا بالتَّقسيم، أو ذاك، والسَّبب هو التَّقارب بينهما.

العكس هو الذي يُقال له: المشوّش، أيضًا على حسب ما يُقال في التَّفسير والمعنى، قد لا يكون كذلك في بعض الأمثلة.

في قوله -تعالى- مثلًا، من الأمثلة المحتمِلة: أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى ۝ وَوَجَدَكَ ضَآلًّا فَهَدَى ۝ وَوَجَدَكَ عَآئِلًا فَأَغْنَى [الضحى:6-8]، ثلاثة أوصاف، قال: فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ ۝ وَأَمَّا السَّآئِلَ فَلَا تَنْهَرْ [الضحى:9- 10]، هذا يصلح لماذا؟ للتَّقسيم. لكن هل هو مُرتّب، أو غير مُرتّب أيضًا؟

يحتمل أن يكون مُرتّبًا: فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ، فهو ذكره أولًا، وَأَمَّا السَّآئِلَ فَلَا تَنْهَرْ كنتَ ضالًّا: مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ [الشورى:52].

(فهدى) فهداك، فهذا السَّائل الذي يسأل عن العلم، ويدخل فيه السَّائل الذي يطلب العطاء، فهنا مُرتّب.

وَوَجَدَكَ عَآئِلًا فَأَغْنَى، وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ [الضحى:11].

لكن مَن قال: إنَّ السَّائل هو الذي يطلب العطاء -الصَّدقة-، قال: هذا مُشوّش؛ لأنَّ هذا يتعلّق به: وَوَجَدَكَ عَآئِلًا فَأَغْنَى.

لاحظ: اختلاف الرَّبط، لكن هذا المثال -على كل حالٍ- يصلح للتَّقسيم.

وَقَالُوا لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ [البقرة:111].

لاحظ: قالوا: يعني: اليهود والنَّصارى، هذا لفٌّ؛ جمعهم جميعًا في فعلٍ واحدٍ: لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى، هل كلّهم يقولون؟ اليهود والنَّصارى يتَّفقون أنَّه يكون يهوديًّا، أو نصرانيًّا؛ فيحصل له دخول الجنَّة؟

الجواب: لا، هم يُكفِّر بعضُهم بعضًا، ويُعادي بعضُهم بعضًا.

قالت اليهود: كونوا هودًا، لن يدخل الجنةَ إلا مَن كان يهوديًّا.

وقالت النَّصارى: لن يدخل الجنةَ إلا مَن كان نصرانيًّا.

فلفَّ في الأول: وَقَالُوا لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ، قال اليهود والنَّصارى: إِلَّا مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى يعني: أُضيف إلى كلِّ طائفةٍ ما قالته، اليهود قالوا: هُودًا أَوْ، فـ(أو) هذه للتَّقسيم.

حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ ۝ فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ [البقرة:238-239].

يقولون: اللَّف جاء في قوله: فَإِنْ خِفْتُمْ هذا للجميع، ثم ذكر بعد ذلك النَّشر الذي هو التَّقسيم: فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا، فحالهم تختلف؛ بعضهم يكونون على الأقدام في غزوهم، أو سفرهم، وبعضهم يكونون على الدَّواب: أَوْ رُكْبَانًا، فذكر ما يَعُمّ الجميع: فَإِنْ خِفْتُمْ، ثم كلٌّ بحسبه، يعني: صلّوا رجالًا أو ركبانًا بحسب حالكم؛ فالركبان يُصلون ركبانًا، والمشاة: الرجال. الرجال ليس الذي يُقابل النِّساء، لا، يعني: على أقدامهم، على أرجلهم. وهكذا -على كل حالٍ- في أمثلةٍ كثيرةٍ.

فاللَّف -على كل حالٍ- يُشار به إلى مُتعدد يُؤتى به أولًا، والنَّشر يُشار به إلى المتعدد اللَّاحق، الثاني، الذي يتعلّق كل واحدٍ منه بواحدٍ من السابق دون تعيين، وعرفنا أنَّه مع التعيين يكون ...، يُقال له: التَّقسيم. فهذا اللَّف والنَّشر.

"الثامن عشر: الجمع، وهو: أن تجمع بين شيئين فأكثر في خبرٍ واحدٍ، وفي وصفٍ واحدٍ، وشِبه ذلك".

الجمع، يقول: "أن تجمع بين شيئين فأكثر في خبرٍ واحدٍ، ووصفٍ واحدٍ".

وبعضهم يُعبّر عنه، يقولون: الجمع: أن يجمع المتكلمُ بين مُتعددٍ تحت حكمٍ واحدٍ.

قد يكون ذلك بين اثنين: الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [الكهف:46]، جمع بين شيئين، وحكم لهما بهذا الحكم: زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا.

وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ [الأنفال:28]، فجمع بين أمرين.

وقد يكون أكثر من أمرين: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنصَابُ وَالْأَزْلَامُ، ذكر أربعة أشياء: رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ [المائدة:90].

إنَّ الشبابَ والفراغَ والجِدَة -هذا جمعٌ- مفسدةٌ للمرء ...[9]

فهذا كلّه من هذا القبيل، تجمع بين اثنين أو أكثر في وصفٍ واحدٍ، هذا تحصيل حاصلٍ، فمثل هذا ما الفائدة الجديدة التي استفدناها؟

لكن هم يحصرون أنواع الاستعمالات، فيذكرون الواضحات، وما قد يخفى على كثيرٍ من الناس، لكن الاسم ربما يكون هو الجديد.

حينما يُقال لك: ما الجمع؟

قد لا تعرف ما المراد عندهم به، فتجد أنَّ هؤلاء في كتب البلاغة، وفي كتب التَّفسير التي تُعنى بالبلاغة، يقول لك: وهذا فيه الجمع. ما الجمع؟

هذا هو المراد بالجمع، الاسم فقط هو الجديد، مثلما يُقال في كثيرٍ من تلقيب الأشياء بألقابٍ، وإذا سمعت التَّفسير لها وجدتها أمورًا يُدركها كلُّ أحدٍ.

"التاسع عشر: الترصيع، وهو: أن تكون الألفاظُ في آخر الكلام مستوية الوزن، أو مُتقاربة مع الألفاظ التي في أوّله".

نعم، تكون الألفاظُ في آخر الكلام مُستوية الوزن، أو مُتقاربة مع الألفاظ التي في أوّله؛ لهذا يقول بعضُهم يُعبّر عنه: توازن الألفاظ مع توافق الأعجاز، أو تقاربها.

التَّوافق مثل: إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ ۝ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ [الانفطار:13-14]، هذا يُسمّونه: ترصيعًا.

لاحظ: (نعيم)، (جحيم)، الحرف الأخير متّفق.

التقارب مثل: وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ ۝ وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الصافات:117-118].

لاحظ: هذا آخره نون، وهذا آخره ميم، لكن فيه تقارب: (المستبين)، (المستقيم)، فهذا يُقال له: ترصيع.

"الموفي العشرين: التَّسجيع، وهو: أن تكون كلمات الآية على رَوِيِّ حرفٍ واحدٍ".

التَّسجيع، يقول: أن تكون كلمات الآية على رويِّ حرفٍ واحدٍ.

السَّجْع: اتِّفاق الفواصل في الكلام المنثور في الحرف، أو في الوزن، أو في مجموعهما.

هذا التَّسجيع أنواع:

منه ما يُسمّى: بالترصيع، أو السّجْع المرصّع؛ تكون الألفاظُ المتقابلة في السَّجعتين متّفقةً في أوزانها، وفي أعجازها، يعني: الحرف الأخير من كلّ متقابلتين: إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ ۝ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُم [الغاشية:25-26].

لاحظ: الاتفاق في الوزن، وفي الحرف الأخير: (إيابهم)، (حسابهم).

هناك نوعٌ يُسمّونه: المتوازي، السَّجع المتوازي: تكون الكلمتان الأخيرتان من السَّجعتين متّفقتين في الوزن، وفي الحرف الأخير منهما، مع وجود اختلاف ما قبلهما في الأمرين، أو أحدهما: فِيهَا سُرُرٌ مَّرْفُوعَةٌ ۝ وَأَكْوَابٌ مَّوْضُوعَةٌ [الغاشية:13-14]، (مرفوعة)، (موضوعة) الوزن واحد، الحرف الأخير، لكن ما قبلهما ليس كذلك: (سرر)، (أكواب).

النوع الثالث، أو القسم الثالث: ما يُسمّونه: بالسّجع الـمُطرَّف، تكون الكلمتان الأخيرتان من السَّجعتين مختلفتين في الوزن، متَّفقتين في الحرف الأخير، وعندئذٍ لا يُنظَر إلى ما قبلهما في الاتِّفاق، أو الاختلاف: مَّا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا ۝ وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا [نوح:13-14]، فقط النَّظر إلى الكلمتين الأخيرتين، الحرف الأخير متّفق مع اختلاف الوزن.

هذا تارةً يكون طويلًا، وتارةً يكون قصيرًا، وتارةً يكون على جهة التَّوسط.

القصير مثل: وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ ۝ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ ۝ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ ۝ وَلَا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ ۝ وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ [المدثر:3-7].

لاحظ: وقبل ذلك، كلّ هذا بعد: يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ ۝ قُمْ فَأَنذِرْ [المدثر:1-2].

وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى ۝ مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى ۝ وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى ۝ إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [النجم:1-4].

أمَّا الطويل فكما في قوله في سورة الملك: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ ۝ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ [الملك:2-3]، لاحظ: مع الطول.

والمتوسط مثل: لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِن ضَرِيعٍ ۝ لَّا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِن جُوعٍ [الغاشية:6-7]، أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ ۝ وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ ۝ وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ [الغاشية:17-19]، هذا متوسط.

"الحادي والعشرون: الاستطراد، وهو: أن تتطرّق من كلامٍ إلى كلامٍ آخر بوجهٍ يصل ما بينهما، ويكون الكلامُ الثاني هو المقصود: كخروج الشَّاعر من النَّسيب إلى المدح، بمعنًى يتعلق بالطَّرفين، مع أنَّه إنما قصد المدح".

الاستطراد معروفٌ، يقول: أن تتطرق من كلامٍ إلى كلامٍ آخر بوجهٍ يصل ما بينهما، ويكون الثاني هو المقصود. فهذا من أنواع البديع المعنوي عندهم. ينتقل من معنًى إلى معنًى آخر؛ لمناسبةٍ بينهما، طبعًا على قصد ونيّة العودة إلى الأول، يعني: استطرد، ثم رجع.

الله -تبارك وتعالى- يقول: أَلَا بُعْدًا لِّمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ [هود:95]، الكلام عمَّن؟ عن مدين، فذكر ثمود.

سورة المزمل: قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا [المزمل:2]، ما قال: إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا [المزمل:5] مباشرةً، قال: نِّصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا ۝ أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا ۝ إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا [المزمل:3-5].

فقوله: إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا هذا عندهم من الاستطراد؛ لأنَّه وسّطه بين أوصاف الليل. هذا ذكرناه من قبل في أي نوعٍ؟ في الكلام على الاعتراض، أليس كذلك؟

فهو مثالٌ للاعتراض، جملة اعتراضية، هذه الجملة الاعتراضية هي من قبيل الاستطراد، فهو مثالٌ للاستطراد، ومثالٌ للاعتراض. قلنا: يُسمّى: بالاعتراض، وكذلك أيضًا التتميم، فهو يُسمّى بذلك جميعًا. نحن ذكرناه في التتميم، ويصلح أن يكون مثالًا للاعتراض، حيث وسَّطه بين هذه المذكورات، بين هذه الأوصاف. وقلنا: الاعتراض يكون لعللٍ، منها التَّعليل.

فهذا -على كل حالٍ- هو من قبيل الاستطراد هنا، ثم رجع إلى ذكر حال الليل بعدما قال: إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا.

وهكذا في قوله -تبارك وتعالى-: أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا ۝ وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ [الإسراء:78-79].

فقوله: وَقُرْآنَ الْفَجْرِ يقولون: هذا من الاستطراد: أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا، يقولون: لما ذكر الليلَ استطرد إلى ذكر قرآن الفجر، ثم عاد بعده إلى ذكر الليل: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ.

لكن -على كل حالٍ- قد يُقال غير هذا في المثال المعيّن: يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا، ثم قال استطرادًا: وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ [الأعراف:26]، الآن لما ذكر اللباسَ الحسيّ الذي يستر الأبدان، ذكر اللباس الآخر؛ وهو لباس القلوب والأرواح بالتَّقوى. فهذا يقولون له: استطراد؛ لما ذكر السّوءات الحسيّة ذكر ما يستر السّوءات النَّفسية الروحية، وذلك التَّقوى، فهذا لباسٌ، وهذا لباسٌ.

"الثاني والعشرون: المبالغة: وقد تكون بصيغة الكلمة، نحو صيغة: فعال، ومفعال. وقد تكون بالمبالغة في الإخبار، أو الوصف، فإن اشتدّت المبالغة فهي غلوّ وإغراب. وذلك مُستكره عند أهل هذا الشَّأن".

المبالغة قد تكون بصيغة الكلمة، الصيغ المعروفة، مثل: فعلان (رحمان)، يقولون: هذا بُنِيَ بناء المبالغة: (رحمان)، وعُدِل به عن نظائره، الأصل: رحِم، فهو رحيم، فقال: رحمان، فكان أبلغ من رحيم.

وهكذا باقي الصِّيغ: فعيل مثل: (رحيم)، فعّال (توّاب)، (غفّار)، فعول مثل: (غفور)، (شكور)، (ودود)، فَعِل تقول: (فلان حَذِر)، (فرِح)، (أشر)، (بَطِر)، فُعَال مثل: (عُجَاب)، فُعّال (كُبّار): وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا [نوح:22]، فُعَل، تقول: (قُحَم)، (لُبَد)، ونحو ذلك، فُعلى: (عُليا)، (حُسنى)، (شُورى)، (سوأى)، هذه على وزن فُعْلَى.

وتوجد صيغ أخرى: (رحموت)، يقولون: صيغة مبالغة، (رهبوت)، هناك أشياء سماعية -على كل حالٍ-.

قد يقول قائلٌ: في القرآن كيف نقول: مبالغة؟! هل في القرآن مُبالغة؟!

نحن نقول: ما المراد بالمبالغة؟

يعني: هل أوصاف الله : (رحمن)، (ودود)، (غفور) هل هذه مُبالغة؟

نحن نحتاج أن نفهم ما المراد بالمبالغة؟

إذا قيل: مُبالغة، فالمبالغة تُطلق أحيانًا ويُراد بها معنًى مرفوض، وهو: مُجاوزة الحدِّ الذي لا يصحّ، ولا يُعْقَل، ولا يتأتّى، فهو من قبيل الكذب.

لما تقرؤون مثلًا ... غير الصيغ؛ لأنَّ هنا ذكر ابنُ جُزي في المبالغة، أشار إلى الصيغ، وقال: قد تكون في الإخبار، أو الوصف. في الوصف قد تقول -مثلًا-: أنَّ مال فلان بقدر الجبل، مُبالغة. غير صحيحٍ. أليس كذلك؟

وفي الإخبار: حينما يذكرون مثلًا عرش بلقيس، ملكة سبأ، هل تسمع ماذا يقولون؟

لا شكَّ أنها مُبالغات، لما يذكرون العماليق، أو الجبارين: إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ [المائدة:22] يذكرون أشياء هي من قبيل المبالغة.

مما يذكرونه يقولون: هذا الوفدُ الذي أرسله موسى للاستطلاع، دخلوا بُستانًا، فوجدهم البُستاني، ومعه سلّة يقطف فيها العنب، فأخذ الوفد جميعًا ووضعهم في السّلة، وذهب بهم، ووضعهم بين يدي الملك! مُبالغة، صاروا ذرًّا –الوفد-! وضعهم في السّلة، وحمل السّلة التي فيها الفاكهة، أو العنب، وفيها الوفد.

حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِي النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ [النمل:18]، بعضهم قال: النَّملة كالبُختيّة! البختيّة: النَّاقة الكبيرة.

لو كانت هكذا لم يكن يخفى شأنها فتُوطأ دون شعورٍ من الجيش: لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ [النمل:18]! فكيف يُقال: كالبختيّة؟! وبعضهم يقول غير هذا. فهذه كلّها مُبالغات غير صحيحةٍ.

هذا لا يوجد في القرآن، لكن الذي يُقصد هنا بالمبالغة إذا قلنا ذلك في الصّيغ والأوزان، أو ما ذكره الله من الأوصاف، المقصود بذلك عِظَم الشَّيء، ضخامة الشَّيء، هول الشَّيء العظيم، ونحو ذلك مما هو حقّ.

وبعضهم يقول: لا نُسمّي ما ذكره الله من أوصافه، ونحو ذلك، لا نُسميه بهذا الاسم الذي اصطلح عليه أهلُ البلاغة؛ لأنَّ ذلك حقيقة، ولا مُبالغة فيه.

هذا إذا قلنا: أنَّ المبالغة تخرج عن الحقيقة. لكن إذا قلنا: أنَّ المبالغة على نوعين: إمَّا يُقصد بها تعظيم الشيء، أو تهويل الشيء، أو نحو ذلك مما هو حقيقة، فهذا لا إشكالَ فيه. وأمَّا ما كان خارجًا عنها فهذا هو المذموم، فيكون المقصود بذلك مثلًا: كمال الصِّفة، وفرة أجزاء هذه الصِّفة، لا أنَّ ذلك يخرج عن الحقيقة ويزيد عليها. هكذا حينما نفهم القضية بهذا الاعتبار نخرج من هذا الإشكال.

وقد ذكر بعضُ أهل العلم هذا الملحظ في المبالغة، وما المراد بها؟

حينما يُقال: هذه صيغة مُبالغة. المقصود: التَّكثير مما لا يخرج عن الحقيقة. ويُمثّلون لهذا بأمثلةٍ للمُبالغة: وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا [النساء:20]، هنا لم تجرِ العادة أنَّه لما يُعطي أحدٌ الزوجة القنطار، يقولون: مثل أُحُدٍ من الذهب، على خلافٍ بينهم في المقدار.

ما أحدٌ يُعطي الزوجة مهرًا بمقدار جبل أُحُد! لكن هنا قصدت المبالغة، لماذا؟ لأنَّه ولو كان كثيرًا فلا تأخذ منه شيئًا، مهما كان، كما قال النبي ﷺ للرُّماة يوم أحد: لا تبرحوا يعني: الجبل إن رأيتُمونا تخطفنا الطيرُ فلا تبرحوا مكانكم[10]، أو كما قال -عليه الصلاة والسلام-.

مَّنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ [ق:33]، يقولون: هذا فيه مُبالغة. من أي ناحيةٍ؟ أين المبالغة؟

يقولون -لاحظ-: الخشية ذُكرت مع اسم الرحمن، فإذا كان هؤلاء يخشون الرحمن، يعني: مع الرحمة، مع ملاحظة الرحمة، فكيف بخوفهم مع مُلاحظة ما يدلّ على العذاب، والعقوبة، والأخذ، والشّدة، والانتقام، وما إلى ذلك؟ يخشون الجبَّار، تكون خشيتُهم أعظم.

فيقولون: هذا من قبيل المبالغة في الثَّناء عليهم، يعني: مع عفوه -تبارك وتعالى- وسَعة رحمته، إلا أنَّ هؤلاء أيضًا يخشونه -والله أعلم-.

هذا ما يتعلّق بهذه المقدّمات المتعلقة بالبلاغة، بقية أشياء يسيرة -هذه ننتهي منها إن شاء الله تعالى- فيما يتعلّق بالإعجاز وفضائل القرآن في الشقِّ الأول من الدرس، وقد لا تستغرق المجلس الأول بكامله، ثم نشرع في الكلام على المفردات -إن شاء الله تعالى-.

  1. انظر: "خزانة الأدب وغاية الأرب" للحموي (2/423).
  2. انظر: "نهاية الأرب في فنون الأدب" (7/171).
  3. انظر: المصدر السابق.
  4. أخرجه مسلم: كتاب الطّهارة، باب فضل الوضوء، برقم (223).
  5. انظر: "مجموع الفتاوى" (1/39).
  6. انظر: "الشعر والشعراء" (2/668).
  7. انظر: "العمدة في محاسن الشعر وآدابه" للقيرواني (2/292).
  8. انظر: "الجليس الصالح الكافي والأنيس الناصح الشافي" للنهرواني (ص375).
  9. انظر: "التمثيل والمحاضرة" للثَّعالبي (ص76).
  10. أخرجه البخاري: كتاب فضل الجهاد والسير، باب ما يُكره من التنازع والاختلاف في الحرب، وعقوبة مَن عصى إمامه، برقم (3039).

مواد ذات صلة