الخميس 18 / رمضان / 1445 - 28 / مارس 2024
(29- ب) حرف القاف من قوله قام إلى قوله قلى
تاريخ النشر: ٠٥ / رجب / ١٤٣٦
التحميل: 1713
مرات الإستماع: 1312

الحمد لله، وصلَّى الله وسلَّم على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَن والاه.

أما بعد: قال المصنف -رحمه الله تعالى-:

"قام، له ثلاثة معانٍ: من القيام على الرِّجلين، ومن القيام بالأمر بتدبيره وإصلاحه، ومنه قوله –تعالى-: الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ [النساء:34]، وقام الأمر: ظهر، واستقام، ومنه قوله –تعالى-: الدِّينُ الْقَيِّمُ [التوبة:36]، وقوله: دِينُ الْقَيِّمَةِ [البينة:5].

أقام، له ثلاثة معانٍ: أقام الرجلُ غيرَه من القيام. ومن التَّقويم، ومنه قوله –تعالى-: جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ [الكهف:77]. وأقام في الموضع: سكن، ومنه: مقيم، أي: دائم.

قيوم: اسم الله تعالى، وزنه: فيعول، وهو بناء مُبالغة من القيام على الأمور، معناه: مُدبّر الخلائق في الدنيا والآخرة، ومنه قوله –تعالى-: قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ [الرعد:33].

قيام، له معنيان: مصدر (قام) على اختلاف معانيه، وبمعنى: قِوام الأمر، وملاكه. وقيم بغير ألف جمع: قيمة".

هذه المواد الأربع هي في الواقع ترجع عند ابن فارس إلى أصلين اثنين، ولكن ابن جُزي -رحمه الله- فرَّقها بهذه الطَّريقة؛ لأنَّه -كما ذكرتُ- يذكر المعنى المباشر.

وهذان الأصلان عند ابن فارس:

الأول: يدلّ على جماعةٍ من الناس، وربما استُعير في غيرهم: (القاف، والواو، والميم)، المعنى الأول: جماعة من الناس، فالقوم يُقال: جمع امرئ. والأصل أنَّ ذلك يُقال على الأرجح والمشهور لجماعة الرجال خاصَّةً، وإنما تدخل فيه النِّساء على سبيل التَّبع، كما قال الله : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ، قال: وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ [الحجرات:11]، فعطف النساء على القوم، فدلّ على أنَّ الـمُراد بالقوم: جماعة الرجال خاصّةً.

ومن ذلك أيضًا قول زُهير:

وما أدري وسوف أخال أدري أقومٌ آل حصنٍ أم نساء[1]

فعطف النساء على القوم، فهذا معروفٌ في كلام العرب: جماعة الرجال، والنِّساء داخلات فيه، لكن على سبيل التَّبع، هذا هو الأصل، أو المعنى الأوّل.

المعنى الثاني: أنَّ هذه المادة (القاف، والواو، والميم) تدلّ على انتصابٍ، أو عزمٍ، يُقال: قام قيامًا، يعني: انتصب، نهض. والقومة: المرة الواحدة، قام قومةً، ويأتي قام بمعنى: العزيمة، كما يُقال: قام بهذا الأمر؛ إذا اعتنقه.

ويقولون في الأول الذي هو القيام الحقيقي: قيام حتم. وفي الثاني يقولون: قيام عزمٍ.

ومن هذا الباب قولهم: قومت الشيء تقويمًا، وأصله أنَّك تُقيم هذا في موضع هذا، قوّمته.

ومن ذلك أيضًا تقول: هذا قِوام الدِّين والحقِّ، يعني: به يقوم، قِوامه يعني: ما يكون قيامه به[2].

فهذا هو الأصل الذي تدور عليه هذه المادة عند ابن فارس، وما ذكره ابنُ جُزي من هذه المعاني هي ترجع إلى أحد هذين الأصلين؛ فذلك إمَّا أن يرجع إلى معنى النُّهوض، أو الانتصاب؛ انتصاب القامة مثلًا، أو الاعتدال، سواء كان ذلك ماديًّا أم معنويًّا: قام؛ نهض مُنتصبًا دون عوجٍ، أو التواءٍ: وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ [الجن:19].

وهكذا أيضًا: إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [الكهف:14]، الفتية قاموا بين يدي الملك، وقالوا ذلك بحالٍ من الثَّبات، حيث ربط اللهُ على قلوبهم.

وهكذا في قوله: فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ [النساء:102] يعني: في صلاة الخوف.

وهكذا في قوله: وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ [التوبة:84] يعني: للدُّعاء، أو الصَّلاة لمن لم يُصلِّ على الجنازة.

وهكذا في قوله: لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ [التوبة:108] يعني: للصَّلاة.

ويُقال: قام الماء، لاحظوا: يعني: وقف محبوسًا لا يجد منفذًا، أو تجمّد.

ومنه يُقال: قام الرجلُ، إذا توقّف عن السَّير: وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا [البقرة:20]، هنا معناه: توقفوا، هذا المعنى المباشر: توقفوا، لكن في معنى القيام.

ويُقال: قام إلى الشَّيء أيضًا؛ عزم عليه، أو أسرع إلى تناوله، قام إلى الصَّلاة: وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى [النساء:142] فيه معنى النُّهوض، وفيه معنى العزم أيضًا إذا أرادوا القيام للصَّلاة، عزموا على أدائها: إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ [المائدة:6] يعني: إذا أردتم الصَّلاة فاغسلوا وجوهكم. فهذا ليس معناه القيام الحقيقي، وإن كان قد يعرض له القيام؛ لأنَّه يتلو العزم، وقد يُعبّر بالعزم عنه، وقد يُعبّر به عن العزم، والارتباط ظاهر.

وكذلك أيضًا إذا نظرت إلى باقي أنواع الاستعمال، تقول: قام الشَّيء، بمعنى: تحقق، أو وقع، قامت الساعةُ: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ [الروم:12]، يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ [إبراهيم:41] يعني: الوقوع.

ويُقال: قام بالأمر، بمعنى: تولَّاه ونهض بأعبائه كاملةً، فهذا معنى للقيام هنا، يُقال: قام بالعدل، بمعنى: راعاه في سلوكه ومُعاملاته للناس: وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ [النساء:127]، لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ [الحديد:25].

وهكذا أيضًا: قام مقام غيره؛ حلَّ موضعه في القيام بواجباته، وغير ذلك: فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا [المائدة:107] في الشَّهادة، في الوصية، في السَّفر، كما في آية المائدة، يُقال: قام في أهله، بمعنى: رعاهم، تولى الإنفاق عليهم. قام على الأمر؛ استمرَّ في طلبه، أو الـمُطالبة به: إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا [آل عمران:75] يعني: لا يُؤدِّي هذا الدَّين إلا إذا كنت مُستمرًّا في مُطالبته.

وهكذا يُقال: أقام بالمكان؛ استقرَّ به، وأقام الشيء، بمعنى: عدله، فأزال عوجه، يُقال: أقام البناء، أقام الجدار: جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ [الكهف:77] بمعنى: جعله في حالٍ من الاستقامة، وأقام الصَّلاة: أدَّاها كاملةً، لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ [المائدة:12]، وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ [البقرة:43]؛ ولذلك دائمًا الأمر بالصَّلاة يأتي بهذه الصيغة: أقيموا، ما يقول: أدُّوا، أقيموا بمعنى: أن يأتي بها مُستوفيةً لشروطها، وأركانها، وواجباتها.

وكذلك أيضًا يقال: أقام دين الله، بمعنى: أظهره، وعمل بتعاليمه: وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ [المائدة:66]، لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ [المائدة:68] يعني: أن تعملوا بمُقتضاها، أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ [الشورى:13].

وكذلك يُقال: أقام حدود الله؛ حافظ عليها، لم يُجاوزها: إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ [البقرة:229] بحفظها ومُراعاتها.

أقام الوزن: وفَّاه حقَّه: وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ [الرحمن:9]، ويُقال: فلان أقام لفلانٍ وزنًا؛ اعتدَّ به، ورفع منزلته، الله يقول: فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا [الكهف:105].

وكذلك يُقال: أقام وجهه للشَّيء؛ اهتمَّ به، وأقبل عليه بجدٍّ ونشاطٍ.

وكذلك يُقال: استقام الشيء؛ خلا من العوج، استقام الشَّخص؛ سلك الطريق القويم: فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ [التوبة:7]، لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ [التكوير:28]، فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ [هود:112] يعني: من غير اعوجاجٍ، قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا [يونس:89].

وهكذا القائم: فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ [آل عمران:39]، قائم يعني: واقف، أو مُشمّر في أداء الصَّلاة -كما يقول بعضُهم-.

وهكذا في قوله: مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ [هود:100] يعني: منها ما لا يزال قائمًا، باقيًا في شخوصه، ومنها ما هو حصيدٌ: زال، واضمحلَّ.

وكذلك: أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ [الرعد:33] يعني: حفيظ ورقيب عليها، شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ [آل عمران:18]، قَائِمًا بِالْقِسْطِ يعني: مُراعيًا للعدل.

وهكذا: وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا [يونس:12] يعني: في أحواله كلِّها نهاضًا، وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ [المعارج:33] يعني: مُؤدّون لها، مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ [آل عمران:113] يعني: قائمة بأمر الله، مُطيعة لشرعه، وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ [هود:71].

لاحظ هنا الفرق: مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ هل المقصود: واقفة على أقدامها؟

لا، وإنما قائمة بأمر الله، يعني: مُطيعة له، مُنقادة، مُحققة للعبودية بأنواعها.

لكن قوله: وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ امرأة إبراهيم حينما بشّرته الملائكة: وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ يعني: واقفة.

مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا [الحشر:5] يعني: مُنتصبة، لم تُقلع، تُركت على حالها، ما قُطِعَت.

وكذلك أيضًا يُقال: القيام مصدر قام: فَمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ [الذاريات:45]، وكذلك: فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ [الزمر:68]، هذا جمع قائم، فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا [النساء:103] يعني: قائمين، أو في حال قيامكم وقعودكم.

وكذلك يُقال: القيام؛ لما يقوم به الشَّيء، يعني: حيث يبقى مُتماسكًا، مُحتفظًا بكيانه: وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا [النساء:5]، وهكذا: جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ [المائدة:97] ما تقوم به الملّة، وكذلك أيضًا هي قيامٌ لمعايشهم، هذه الكعبة قيام، الله أطلق ذلك، فهي قيامٌ للناس، هي من مُقوّمات بقاء هؤلاء الناس، وبقاء دينهم، واجتماعهم، وكذلك أيضًا غير ذلك من مصالحهم وشؤونهم.

وكذلك أيضًا القوام يُقال: هو قوامٌ على أهله، يعني: دائم القيام بشؤونهم، ومُراعاة مصالحهم: الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ [النساء:34] يعني: أنَّهم يكونون مُراعين لشؤون هؤلاء النِّساء، قائمين على حفظهنَّ، وصيانتهنَّ، ورعايتهنَّ، وهذا مما تغتبط به المرأة؛ أنَّ الشارع ضمن لها مصالحها، وجعل الرجال الأقوياء في مداركهم، وعقولهم، وكذلك أيضًا في قوامهم، وقُدرهم الجسدية؛ جعلهم قائمين على النِّساء، وأمرهم بذلك، وحثَّهم عليه بحيث تُحفظ هذه المرأة وتُصان، فلا يصل إليها المكروه والشَّر، ولا يحصل لها شيءٌ من المخاوف، فهذا كمالٌ، وليس بعيبٍ ونقصٍ كما قد يُوهم النِّساء أولئك الذين لا خلاقَ لهم، والله -تبارك وتعالى- يقول: كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ [النساء:135].

الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ كما سبق في مُراعاة شؤونهن، وأحوالهن، ومصالحهن، ورعاية هؤلاء النِّساء.

كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ هنا المقصود: مُواظبين على إقامة العدل.

لاحظ: كيف يتغير المعنى من خلال السياق، لكن الأصل يمكن أن يكون واحدًا.

القيوم صيغة مُبالغة من قائم، ومعناها: عظيم القيام، شديد القيام على الأشياء.

وهكذا الأقوم بمعنى: الأفضل، أو الأعدل، أو يعني: الأقرب للصَّواب: وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ [البقرة:282] أي: أدعى للقيام بها وأدائها على الوجه الأكمل. وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ [النساء:46] يعني: أعدل وأقرب إلى الصَّواب. إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [الإسراء:9] يعني: أعدل الطرق، وأعدل الأعمال، والعقائد، والأخلاق، وما إلى ذلك. إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا [المزمل:6] يعني: أعدل قولًا؛ ولأنَّه يكون في حالٍ من الراحة وسكون النفس، مع ما يحتفّ بذلك من السُّكون في الخارج.

وهكذا المكان؛ مكان القيام: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى [البقرة:125]، موضع قيام إبراهيم المعروف.

وكذلك يُقال: المقام؛ للإقامة، الموطن: فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ۝ وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ [الشعراء:57-58]، موطن، مكان إقامة كريم.

ويُقال ذلك أيضًا: القيام؛ للإقامة نفسها، كما في قوله –تعالى-: إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ [يونس:71] يعني: إقامتي بينكم، استثقلتم ذلك.

وهكذا أيضًا: المقام قد يُطلق على المجلس، لكنَّه إطلاق قليل، أو نادر، وحُمِلَ عليه قوله -تبارك وتعالى- في قول العِفريت من الجنِّ: قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ [النمل:39] يعني: من مجلسك هذا.

وكذلك يُقال: المقام على المكان، أو المنزلة: وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ [الصافات:164]، فُسّر بهذا، وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ [الرحمن:46]، عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا [الإسراء:79]، منزلة عالية، وهكذا.

كذلك أيضًا يُقال: (الـمُقام) بالضم، يعني: الإقامة، يُقال للإقامة: الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ [فاطر:35] فُسّر بالإقامة، وهكذا فُسّر بقوله -تبارك وتعالى- خبرًا عن المنافقين: لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا [الأحزاب:13]، كانوا يقولون لمن يُرابط في الخندق مع رسول الله ﷺ: لا مُقام لكم، يعني: لا إقامةَ، لا مُقامة، مثلما يقولون بالعامية: ما لكم مقعد، تجلسون هنا في البرد والجوع! تُرابطون على هذا الخندق! هم يُريدون أن تكون البلدُ مكشوفةً للأعداء -قبَّحهم الله-، ويُثبّطون الناس، ويقولون: لا مقامَ لكم، يعني: لا إقامةَ، أو لا مكانَ لإقامتكم.

فالمقام يُفسّر بالإقامة، وبمحلّ الإقامة: إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا [الفرقان:66] يعني: موضع الإقامة.

وهكذا الـمُقيم يُقال للدَّائم، أو الباقي: وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ [المائدة:37]، وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ [الحجر:76].

وهكذا أيضًا المقيم يأتي اسم فاعل من أقام: رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ [إبراهيم:40]، وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ [الحج:35].

وهكذا أيضًا: القيم؛ وهو الثابت المستقيم الذي لا اعوجاجَ فيه، وكذلك المقوم للأمور: ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ [التوبة:36] يعني: المستقيم، أو المقوم لأمور الناس: قَيِّمًا لِيُنذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا [الكهف:2]، دِينًا قِيَمًا [الأنعام:161] يعني: قيمًا.

القيّمة: وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ [البينة:5]، فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ [البينة:3]، فالقيّمة تُقال لذات القيمة الرَّفيعة: فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ، وكذلك أيضًا التي تسلك سبيل العدل والاستقامة يُقال لها ذلك: ذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ من الاستقامة والعدل.

وهكذا إقام الصَّلاة –مثلًا- مصدر أقام، وإقام الصَّلاة يعني: إقامة الصَّلاة: وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ [الأنبياء:73].

وكذلك أيضًا الإقامة بمعنى: الاستقرار: بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ [النحل:80] يعني: حينما تنزلون وتستقرون في مكان التَّقويم.

وهكذا التَّقويم يأتي بمعنى: التَّعديل: لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ [التين:4]، خلقه فعدل خلقه ظاهرًا بهذه الصورة: مُنتصب القامة، رأسه إلى أعلى، إلى غير ذلك مما نعرف بعضه، ونجهل كثيرًا منه، وكذلك في الباطن؛ حيث خلقه على الفطرة التي لا يشُوبها شوبٌ.

وكذلك المستقيم يُقال للمُستوي القويم الذي لا اعوجاجَ فيه: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6]، وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا [النساء:68]، فيُقال له ذلك. والعادل الذي لا ميلَ فيه عن الحقِّ يُقال له ذلك: وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ [الإسراء:35] يعني: العادل، القسطاس ميزانٌ يُفسّر به كما سيأتي.

والقيامة: وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ [البقرة:85]، لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ [القيامة:1] بأي اعتبارٍ؟

القيامة قيل لها ذلك باعتبار أنَّ الناس يقومون من قبورهم مثلًا كما يقول بعضُ أهل العلم، أو غير ذلك.

وكذلك أيضًا (القوم) -كما سبق- يُقال لجماعة الرجال في الأصل، وقد يأتي في القرآن مُرادًا به جماعة الرجال والنِّساء بحسب السياق، أو الجماعة من الناس يرتبطون بروابط: إمَّا نسب، أو غير ذلك: الأتباع، العشيرة، ونحو هذا، كما قال الله : إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ [الأعراف:69]، أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ [هود:60]، إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ [يونس:98]، وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ [الحج:43]، إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ [هود:70]، قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ [الأعراف:109]، وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ [الأنعام:66].

فقوم الرجل هم تارةً يُقال ذلك لأتباعه، وتارةً يُقال لقبيلته، أو عشيرته، وتارةً يُقال لمن يرتبطون به بلونٍ من الارتباط؛ كأن يجمع هؤلاء بلد، أو نحو ذلك، فيُقال لهم: قومه.

هذه المواد التي ذكرها ابنُ جُزي لو نظرتَ في عبارته وكلامه في القيام تجد أنَّه يرجع إلى هذين الأصلين، وهكذا ما ذكرنا غيره، كلّ ما ذكره لا يخرج عن هذا.

وفيما يتعلق بالقيوم في معناه بالنسبة لله -تبارك وتعالى- هو القائم بنفسه، الـمُقيم غيره، يعني: لا قيامَ للخلق إلا به، وهو القائم على خلقه بآجالهم، وأرزاقهم، وأعمالهم، كلّ هذا داخلٌ فيه.

"قرض: سلف، والفعل منه أقرض يُقْرِض".

الشيخ: هذه المادة أرجعها ابنُ فارس إلى أصلٍ واحدٍ يدلّ على القطع، تقول: قرضت الشَّيء بالمقراض، يعني: قطعته.

طيب، القرض الذي يكون بالمال ما علاقته بالقطع؟

كأنَّه شيء قد قطعه من ماله، بهذا الاعتبار يرجع إلى معنى القطع، قرض الشَّيء: قطعه، لكن قد يُقال: قرض المكان أو الشيء: تنكّبه، وجاوزه: وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ [الكهف:17] يعني: تُجاوزهم عند الغروب، وتدعهم على شمالها. لكن بهذا المعنى المتّحد الذي ذكره ابنُ فارس -رحمه الله- يعني: أنَّها تقطعهم، تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ.

والله -تبارك وتعالى- يقول: وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا [الحديد:18] من القرض، إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا [التغابن:17].

لاحظ المعنى الذي ذكره ابنُ جُزي، قال: "قرض: سلف"، والفعل منه: أقرض، يُقرض، جاء بالمعنى المباشر، لكن أصله بمعنى: القطع، ولا زال الناسُ يستعملون هذا في معنى القطع، ويقولون للمقصّ: مِقراض، وقرض الأظافر، ويقولون للقطعة من الثوب: قريضة، يعني: اقتُطعت منه. وهكذا يقولون: هذا مقروض، هذه الحشرات قوارض، كأنها تقتطع الشَّيء، فهو مأخوذٌ من معنى القطع.

قال:

"أقسط –بالألف- قسطًا: عدل في الحكم، ومنه قوله –تعالى-: يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [المائدة:42]. وقسط -بغير ألف- جار، ومنه قوله –تعالى-: وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا [الجن:15]".

لاحظ: هناك كلمة أخرى، وهي قسطاس، تأتي بعد.

قال:

"قسطاس: ميزان".

هي ترجع إلى هذا، المادة واحدة، فيكون الكلامُ عن هذه وتلك في هذا الموضع، فهذه المادة: (القاف، والسين، والطاء) عند ابن فارس ترجع إلى أصلٍ صحيحٍ يدلّ على معنيين مُتضادين؛ فالقسط: العدل، يُقال: أقسط يُقسط[3]. يعني: عدل، ويقسُط قسطًا، والقُسوط: العدول عن الحقِّ.

لاحظ: هذا المعنى الثاني الذي هو الجور، فالقِسط هو العدل، والقَسط هو الجور، القَسط بالفتح.

لاحظ: دقّة اللغة، القَسط: الجور، والقِسط: العدل، فالقسوط هو الخروج عن العدل، العدول عنه، يُقال: قسط يقسط قسطًا، يعني: خرج عن العدل، لكن حينما يُقال: أقسط يُقسط، ويقسط قسطًا، يعني: عدل.

هذا الفرق: أقسط يُقسط: عدل، وقَسط يقسط قسطًا: خرج عن العدل.

ومن الباب: القِسط يُقال للنَّصيب، والقسطاس: الميزان، تقول: هذا قِسط فلان، يعني: نصيب فلان، والقسطاس هو الميزان: وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ [الإسراء:35]، القسطاس هنا في الآية فُسّر بالعدل، وفُسّر بآلاته، يعني: الميزان الذي لا يعتريه عوج.

فالقسطاس يُقال للعدل، ويُقال لآلة العدل، ويُمكن الجمع بين المعنيين في تفسير الآية، وهما قولان مشهوران للمُفسّرين من السَّلف فمَن بعدهم.

القسطاس يعني: الميزان، ويُقال للعدل، فبين المعنيين مُلازمة؛ فإنَّ الميزان هو آلة العدل ووسيلته في الأمور الحسيّة الماديّة.

ويأتي ذلك أيضًا في الأمور المعنوية، فالله أمر بالعدل مطلقًا، فيكون ذلك بالوزن بالأشياء الحسيّة، ويلتحق بذلك أيضًا المكاييل؛ الكيل، وكذلك أيضًا في الأمور المعنوية؛ لعدم بخس الناس أشياءهم، فلا يُظلمون في هذا وهذا، وذلك جميعًا داخلٌ في قوله -تبارك وتعالى-: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ ۝ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ ۝ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ [المطففين:1-3]، فهذا في الأمور الحسيّة: في بيعهم وشرائهم، فيما يُكال، وكذلك فيما يُوزن، وهو المقصود بالقصد الأولي في هذه الآية، ولكنَّه يدخل فيه أيضًا: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ أولئك الذين يُطففون، فإذا كان مَن يُحبّون رفعوه فوق منزلته، وإذا كان مَن يُبغضون هضموا حقَّه، ورموه بالقبائح، وهذه من أوصاف اليهود.

وعلى كل حالٍ، قول الجن: وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ [الجن:14] هذه من قسط، فهو قاسط، يعني: جار وظلم: وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا [الجن:15]، فالقاسطون يعني: الجائرون الظالمون.

أما قوله -تبارك وتعالى-: لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [الممتحنة:8]، تُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ هنا المقصود به العدل، لكنَّه عُدِّي بـ(إلى)، هنا تُقسطوا إليهم، وكما عرفنا أنَّ تعديةَ الفعل بالحرف إن كان لا يتعدّى به عادةً، فذلك لكونه قد ضُمن معنى فعلٍ آخر.

فهنا القِسط تُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ مُضمّن معنى الإفضاء: تفضوا إليهم، ففي معنى (تُقسطوا) تعدلوا، والإفضاء يكون في مصالح مُشتركة مُتبادلة مع هؤلاء الكفَّار غير المحاربين، تُفضوا معناها: الإفضاء أيضًا مع العدل، تُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ، فعدَّاه بـ(إلى)، والله تعالى أعلم.

وفي قوله: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى [النساء:3] يعني: تعدلوا، فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا [الحجرات:9] يعني: اعدلوا، ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ [البقرة:282] يعني: أعدل، فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ يعني: بالعدل، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [المائدة:42] العادلين، قَائِمًا بِالْقِسْطِ [آل عمران:18] يعني: العدل. فهذان معنيان.

"مقاليد، فيه قولان: خزائن، ومفاتح".

هذه المادة أرجعها ابنُ فارس إلى أصلين: يدلّ أحدهما على تعليق شيءٍ على شيءٍ وليه به[4]، يعني: تقليد، لاحظ: القلادة تُعلّق في العُنق، تقليد شيءٍ على شيءٍ، تقليد البُدن يعني: يُعلّق في عُنقها شيءٌ ليُعلم أنَّها هدي، كانوا يُعلّقون القلائد على البُدن التي تُساق إلى البيت من لحاء شجر الحرم، ونحو ذلك، ولربما علَّقوا عليها نعلًا، أو نحو هذا؛ ليُعرف أنَّها من الهدي، فلا يُعتدى عليها.

وأصل القلد يُقال للفتل، يعني: هنا هذه القلادة، فتل هذا الذي يُقلد به، فذلك يُقال له: القلد، وتقلدت السيف، السيف عند العرب كان له مثل الحزام يُعلّق بالعُنق، فيُتقلد السيف، يتقلده صاحبُه هكذا.

أما الصور التي ربما أوحاها إلى الناس اليوم ما يُشاهدون في مسلسلات وتمثيليات، ونحو ذلك؛ يُوضع السيف على جانبه الأيسر، فهذا فعل الأعاجم، كان الأعاجم يربطون السيفَ في أوساطهم، يعني: يجعل حزامًا في وسطه، ويضع السيف فيه مثلًا، أمَّا العرب فكانوا يتقلدون السيف، فالسيف يُتقلد. وكذلك ما يكون أيضًا في العُنق من القلادة ونحوها. فهذا هو المعنى الأول: تعليق شيءٍ على شيءٍ.

والمعنى الآخر عند ابن فارس بمعنى: الحظّ والنَّصيب[5]، القِلد: الحظّ من الماء.

أمَّا المقاليد فقيل: هي الخزائن، ربما قيل لها ذلك لأنَّها تُحصّن الأشياء التي تُوضع فيها، يعني: تحفظها، وتحوزها.

لاحظ هذا المعنى: الحظّ والنَّصيب.

والـمِقلاد: ما يُحيط بالشَّيء، مأخوذٌ من القلادة، تتضمن معنى: الإحاطة، فبعضهم كأنَّه يُرجع المادتين إلى معنى واحدٍ؛ المقلاد والقلادة بمعنى: الإحاطة، يُقال للخزائن ذلك باعتبار أنَّها تحوط ما وُضع فيها، فيها معنى الإحاطة.

وبعضهم فسَّر ذلك بالمفاتح، المفاتيح، يعني: المقلاد: المفتاح، مقاليد: مفاتيح، وقيل: الخزائن، وقيل: المفاتيح، وبينهما مُلازمة؛ فالخزائن هذه إنما يتوصّل لما فيها بالمفاتيح، فكأنَّه عُبّر بها عن الخزائن، عُبّر بالمفاتيح عن الخزائن؛ لأنَّها أداة يتوصل بها إلى ما بداخلها.

فقوله -تبارك وتعالى-: لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [الزمر:63] فُسّر بالخزائن، أو كلّ ما يُحيط بها، يعني: بالسَّماوات والأرض، أو مفاتيح الخزائن.

"قدّس يُقدّس من التَّنزيه والطَّهارة. وقيل: من التَّعظيم، والقدوس اسم الله تعالى، فعول، من النزاهة عمَّا لا يليق به".

هنا هذه المادة (قدّس) أرجعها ابنُ فارس إلى معنى يدلّ على الطُّهر، يقول: أصل هذا من الكلام الشَّرعي الإسلامي من الطُّهر، من ذلك: الأرض المقدّسة، يعني: الـمُطهرة، وتُسمّى الجنة: حضيرة القُدس، يعني: الطُّهر، وجبريل روح القدُس: الروح الـمُطهرة، وفي أسماء الله -تبارك وتعالى- القُدّوس[6]، فُسّر بالطاهر من كل عيبٍ ونقصٍ.

لاحظ: لما ذكر السلام قال: الْقُدُّوسُ السَّلَامُ [الحشر:23]، فبعضهم فسّر القُدوس: بالطَّاهر، والسلام: بالسالم من كل عيبٍ ونقصٍ.

وبعضهم قال: القُدّوس هو السَّالم من كل عيبٍ ونقصٍ في الزمن الماضي، والسلام: السَّالم من كل عيبٍ ونقصٍ في الزمن الحاضر والمستقبل.

هكذا قال بعضُ أهل العلم، والذي يظهر -والله أعلم- لا يبعُد أن يكون لفظ (القدوس) يتضمن مع الطَّهارة معنًى آخر، وهو: التَّعظيم، فهو مُطهّر، مُعظّم. يعني: حينما يُقال: هذا مكان مُقدّس، هذا بناء مُقدّس، الكعبة مُقدّسة، مُطهّرة، وفي الوقت نفسه: مُعظّمة، فليس كل مُطهرٍ يكون مُقدّسًا، بل يكون مع ذلك التَّعظيم تطهيرٌ يشوبه تعظيم، تطهيرٌ فيه شائبة تعظيمٍ، والله تعالى أعلم.

ولاحظ هنا قال: "يُقدّس من التَّنزيه والطَّهارة، وقيل: من التَّعظيم"، لو جُمِع بينهما لكان هذا -والله أعلم- كأنَّه أقرب، والله -تبارك وتعالى- هو القُدّوس: وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ [البقرة:30] يعني: نُنزّهك ونُطهّرك من كل عيبٍ ونقصٍ.

وهكذا في قوله: الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ [الحشر:23]، ونحو ذلك: وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ [البقرة:87] يعني: جبريل ، إِنَّكَ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ [طه:12] يعني: الـمُطهر، الـمُعظّم، ويَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ [المائدة:21] بيت المقدس، أو الشَّام، كل الشَّام على قول بعض المفسّرين.

"قال يقول، من القول، وقد يكون بمعنى الظنّ، ومصدره: قول، وقيل.

وقال يقيل من القائلة، ومنه قوله –تعالى-: أَوْ هُمْ قَائِلُونَ [الأعراف:4]، وقوله: وَأَحْسَنُ مَقِيلًا [الفرقان:24]".

هذه المادة أرجعها ابنُ فارس إلى أصلٍ واحدٍ، وهو القول من النُّطق، وهذا واضحٌ، والـمِقول هو اللِّسان[7].

وقد يُعبّر بالقول أحيانًا عن الفعل، يقول: قال بيده، قال بالسيف هكذا. فيُعبّر بذلك أحيانًا، يُعبّر بالقول عن الفعل.

وابن جُزي هنا -كما ترون- يقول: أنَّه أيضًا قد يكون بمعنى الظنِّ.

سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ [الأنبياء:60]، (يُقال له) هنا بمعنى: يُدعى، يُسمّى، (يقال له) بمعنى: يُسمّى، لكن هنا مُلازمة، يعني: هو حينما يُسمّى يُقال له ذلك.

وكذلك: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ [الحاقة:44] يعني: اختلق، وهذا مُلازمٌ للقول المعروف؛ لأنَّ ذلك بنسبة ما لا يصحّ، أو ما لا يحقّ إلى الله -تبارك وتعالى- مما لم يقله، أو لم يحكم به.

أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ [الطور:33] بمعنى: اختلقه، وهذا مُلازمٌ للقول في الأصل.

وهنا يقول: أنَّ يقول مصدره قول، قال قولًا، وقيل، يعني: وقال قيلًا، الأقاويل جمع قول: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ، والقيل هو القول: وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا [النساء:122]، وَقِيلِهِ يَا رَبِّ [الزخرف:88]، يعني: وقوله.

ابن جرير -رحمه الله- كثيرًا ما يقول: وقيلنا كذا، يعني: وقولنا كذا. وقيله كذا، يعني: وقوله كذا.

وكذلك أيضًا: إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ [هود:40]، القول ما المراد به هنا؟ هل المقصود به حقيقة القول، أو الحكم، سبق عليه الحكم، يعني: قضاء الله -تبارك وتعالى- السَّابق: إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ يعني: بعدم النَّجاة من قوم نوحٍ ؟

ابن جرير -رحمه الله- يقول: إلا مَن قلتُ فيهم أني مُهلكه[8].

لاحظ: راعى فيها لفظة (القول): قلتُ فيهم، سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ، قلتُ فيهم أني مُهلكه.

وكذلك أيضًا قال ابنُ كثير: سبق عليه القول، يعني: بالغرق[9]. وقال في موضعٍ آخر: إلا مَن سبق فيه القول من الله بالهلاك[10]. فهذا يُشبه أن يكون بمعنى: الحكم، ويمكن أن يكون ذلك باعتبار أنَّ الله قال ذلك حُكمًا منه في هؤلاء، وأخبر نوحًا بذلك.

الشيخ عبدالرحمن بن سعدي يقول: سبق عليه من الله القول بأنَّه شقي، يعني: في الأزل. كذلك أيضًا في قوله –تعالى-: فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ [الإسراء:16]، ما المقصود به: فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا؟

ابن جرير يقول: فوجب عليهم بمعصيتهم ربّهم -تبارك وتعالى- وفسوقهم فيها وعيد الله الذي أوعد مَن كفر به، وخالف رسلَه من الهلاك[11].

لاحظ: وعيده؛ حقّ عليهم القول، الوعيد الذي توعد به أعداءه؛ أعداء الرسل -عليهم السلام-.

والشيخ عبدالرحمن بن سعدي يقول في هذا الموضع: فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ يعني: كلمة العذاب التي لا مردّ لها[12].

المقصود أنَّ القول في هذه المواضع يمكن أن يُفسّر بمعنى: الحكم، فهذه القضايا فيها مُلازمة، بينها ملازمة، والعبارات فيها مُتقاربة.

وهكذا في قوله -تبارك وتعالى-: وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الأَرْضِ [النمل:82]، مَن المقصود بالقول هنا؟

فُسّر بالعذاب: إذا وقع العذابُ عليهم. وفُسّر قيل: إذا وجب الغضبُ. وقال مُجاهد: حقّ القول عليهم بأنَّهم لا يُؤمنون[13]. وقيل: ما نطق به القرآن من مجيء السَّاعة.

لاحظ: هذا راعى لفظة (القول): ما نطق به القرآنُ من مجيء السَّاعة.

وهذه المعاني -على كل حالٍ- مُتقاربة، والله تعالى أعلم.

وأمَّا المقيل: هنا ابنُ فارس ذكر ذلك آخرًا، وقال: يقيل من القائلة[14]، ومنه: أَوْ هُمْ قَائِلُونَ [الأعراف:4] من القائلة.

هذه المادة من القائلة، من (القاف، والياء، واللام)، وما كنا فيه هو من (القاف، والواو، واللام)، القول مادة أخرى تمامًا، واضح؟

هذه مادة أخرى: القائلة من (القاف، والياء، واللام)، قال، يقيل: نام واستراح في وقت القيلولة؛ وسط النَّهار، القائلة، هذه الاستراحة تكون قبل الظهر، أو بعد الظهر في مُنتصف النَّهار.

والمقيل: هو المكان الذي يستريح فيه القائل: وَأَحْسَنُ مَقِيلًا [الفرقان:24].

وهذه -كما سبق- مادة تختلف عمَّا كنا فيه.

"قفى: اتّبع، وأصله من القفى، يُقال: قفوتُه؛ إذا جئتُ في أثره، أو إثره، وقفّيته".

الشيخ: يصحّ أن يُقال: في أثره، وفي إثره.

"وقفّيته بالتَّشديد إذا سُقت شيئًا في أثره، ومنه قوله –تعالى-: وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ [البقرة:87]".

الشيخ: أيضًا هذه المادة أرجعها ابنُ فارس إلى معنى واحدٍ، وهو اتِّباع شيءٍ لشيءٍ، من ذلك: القفو، يُقال: قفوت أثره، وقفيت فلانًا بفلان؛ إذا أتبعته إياه، وسمّيت قافية البيت من الشعر: قافية؛ لأنَّها تقفو سائر الكلام، تكون في الآخر، تقفوه: تأتي في آخره، كأنَّها في قفا البيت، تتلوه، وتتبعه، القفا: مُؤخّر الرأس والعُنق، كأنَّه شيء يقفو الوجه[15].

والله -تبارك وتعالى- يقول: وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ [الإسراء:36]، هنا فُسّرت بالغيبة والنَّميمة، باعتبار أنها تُقال في القفا، والمعنى أوسع من هذا، وقد سبق الكلامُ عليها في مجلسٍ مُستقلٍّ في غير هذه المجالس: وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ من القفا.

فيُؤخذ من ذلك كلّ ما يصدُق عليه ذلك من الغيبة والنَّميمة مما يُقال في القفا، ويكون أيضًا القفو بمعنى: الاتِّباع، يعني: لا تتبع ما ليس لك به علم من العقائد، والأفكار، والأعمال، والأخبار الشَّائعات، وغير ذلك، فمَن تبع غيره فإنَّه يكون كأنَّه مُقتفٍ له، كأنَّه يمشي في قفاه، يمشي خلفه: فلان يقفو فلانًا، يعني: يتبعه، وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ يعني: ولا تتبع ما ليس لك به علم، وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ يعني: أتبعنا -والله أعلم-، وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ [المائدة:46]، يعني: أتبعنا.

"قرن: جماعة من الناس، وجمعه: قرون".

القرن: أرجع ابنُ فارس هذه المادة إلى أصلين:

الأول: يدلّ على جمع شيءٍ إلى شيءٍ، أصل المادة: (القاف، والراء، والنون)، تقول: قارنت بين الشَّيئين، يعني: قرنت بينهما، يعني: جمعتُ بينهما. والقِران يُقال للحبل يُقرن به شيء[16].

والقَرن في الحاجبين، يُقال: فلان أقرن الحاجبين، يعني: أنَّ حاجبيه مُقترنان، يُقال: هو أقرن، وهي قرناء، وهذه تُعتبر من علامات الحُسن والجمال عند العرب، لا كما تتوهمه كثيرٌ من النساء، تريد أن تُزيل الشعر الذي يكون بين الحاجبين، يُقال: أقرن، إذا التقى حاجباه.

والقِرن -انظر إلى دقّة اللغة العربية- هو قرنك في الشَّجاعة: فلان قِرنك، يعني: في الشَّجاعة، فلان قِرن فلان، الفارس هذا قِرن الفارس هذا.

وأمَّا القَرن فهو مَن كان مُشاكلًا أو مُقاربًا لك في السن، وهؤلاء أقران.

والقِران: أن تقرن؛ "نهى النبي ﷺ عن القِران"[17]، طبعًا هذا في السابق يوم الحاجة والفقر والقِلّة، أمَّا الآن إذا كان الإنسانُ يأكل وحده فلا إشكالَ، أو إذا كان الطعامُ كثيرًا بحيث يقوم الناس ويبقى أكثره.

فنهى النبي ﷺ عن القِران، وهو أن يقرن بين تمرتين في الأكل، يعني: ما يأخذ واحدةً، يأخذ اثنتين، فيُفوت على غيره حقَّه في الأكل؛ لأنَّه قليل، والناس في جوعٍ وحاجةٍ.

وكذلك القِران بين الحجِّ والعُمرة، ويُقال: فلان مُقرن لكذا، يعني: مُطيق له؛ لأنَّه يمكن أن يكون باعتبار أنَّه صار قرنًا له، تقول: أنا قرن هذا الشيء، يعني: أستطيع النهوض به. وقرينة الرجل هي امرأته؛ لأنَّها مُقترنة به.

فهذا كلّه يرجع إلى الأصل الأول الذي هو جمع شيءٍ إلى شيءٍ.

والأصل الثاني: هو الشيء الذي ينتأ بقوةٍ وشدّةٍ، القرن بالشاة وغيرها ناتئ، قوي، وبه يُسمّى على معنى التَّشبيه، الذَّوائب يُقال لها: قرون.

وذكر ابنُ فارس أنَّ مما شذَّ عن هذين المعنيين: (القَرن) للأمّة من الناس: وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا [الفرقان:38]، قرون، يعني: كأنَّه يرى أنَّ هذا ليس من معنى الاجتماع، وليس من معنى النُّتوء، الشيء الناتئ الذي هو القرن، قرن الشاة، وقرن الدَّابة، ونحو ذلك.

لاحظ: ذو القرنين يُقال: إنَّه الإسكندر المقدوني. هكذا يقول بعضُهم: الإسكندر الأكبر، لماذا قيل له: ذو القرنين؟ الله أعلم.

بعضهم يقول: لأنَّه كانت له على جانبي رأسه خُصلتان عظيمتان من الشّعر تُشبِهان القرنين، فيُقال له ذلك: وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ [الكهف:83].

وأمَّا القرين فهو الـمُلازم والـمُصاحب: قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ [الصافات:51]، هذا من معنى الاقتران: وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا [النساء:38]، وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ [ق:23].

وهكذا قرن الأشياء: شدّ الأشياء إلى بعضها: وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ [إبراهيم:49]، هذا يرجع إلى معنى الجمع واقتران الأشياء، أو الأشخاص، بمعنى: الاصطحاب، ينضمّ بعضُهم إلى بعضٍ.

وكما طلب الكفَّار من الآيات: أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ [الزخرف:53] يعني: مُجتمعين، أو مُصطحبين، يصطحب معه الملائكة، يأتون يُصدّقون قوله، وأنَّ الله أرسله.

هذا ما يتعلّق بهذه المادة، وابن جُزي قال: جماعةٌ من الناس، وجمعه: قرون، يعني: ابن جُزي مشى على أنَّ ذلك يرجع إلى معنى الجمع: القرون.

بينما ابنُ فارس يرى أنَّ ذلك مما شذَّ عن الأصلين: (القرن) الجماعة من الناس، لكنَّه يُقال أيضًا للمدة الزمنية، لكنَّه في الآية: وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا، وهكذا في قوله: وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا [مريم:74]، القرن في هذا الموضع هو الجماعة من الناس، ولكن القرن قد يأتي للمدة الزمنية، والله يقول: ثُمَّ أَنشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُونًا آخَرِينَ [المؤمنون:42]، يمكن أن يُفسّر بالأمم والجماعات من الناس -والله أعلم-، وقد تكون هذه المدة الزمنية مُرتبطة بالقوم، بالناس الذين عاشوا فيها، والله أعلم.

"قواعد البيت: أساسه، واحده: قاعدة، والقواعد من النِّساء واحده: قاعد، وهي العجوز".

هذه المادة جعلها ابنُ فارس ترجع إلى أصلٍ مُطّردٍ لا يُخلف، وهو يُضاهي الجلوس، وإن كان في بعض المواضع قد يُذكر في غير الجلوس، يعني: انظر في الاستعمالات المختلفة: القَعدة يقول: المرة الواحدة، القَعدة؛ قعد قعدةً واحدةً، والقِعدة: الحال؛ حسنةً أو قبيحةً في القعود، يعني: هيئة القعود، تقول: قعد قِعدةً حسنةً، قعد قِعدةً سيئةً، طريقة الجلوس. يُقال: رجل ضُجَعَة، وقُعَدَة، يعني: كثير الاضطجاع، وكثير القعود، ضُجَعَة، وقُعَدَة، يعني: كما نقول: عجَّاز، كسول، إمَّا جالس، وإمَّا مُضطجع، ما يذهب، ولا يجيء، ولا يُزاول الأعمال.

قعيدة الرجل هي امرأته، قعيدته.

المرأة القاعدة يحتمل: قد يُراد به القعود من القيام، قاعدة، وقائمة، وكذلك قد يكون المرادُ به قاعدةً عن الحيض، والولادة، والأزواج، والقواعد من النِّساء كما سيأتي.

وذو القعدة الشهر المعروف، كانت العربُ تقعد فيه، يقولون: تقعد فيه عن الأسفار، أو تقعد فيه عن الغارات والسَّلب والنَّهب، ونحو ذلك.

والقُعدة يُقال للقرابة، والقَعدة، ذو القعدة، الشهر المعروف، والقَعُود من الإبل هو الدَّابة التي تكون مُهيئةً للركوب خاصةً، هذا في أصل إطلاقه عند العرب، الآن يُقال: القَعُود؛ للفَتِيِّ من الإبل، لكن أصله ما ذكرتُ.

وهكذا أيضًا يُقال: القُعدة؛ لما أُعدّ للركوب، من ذلك: "قواعد البيت: أساسه"، القواعد.

والمقاعد: مواضع القعود: وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا [الجن:9].

ويُقال: قعد بمعنى: جلس من قيامٍ، أو اضطجاعٍ، قعد: فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى [الأنعام:68]، فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ [النساء:140]، إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ [البروج:6]، الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ [آل عمران:191].

ويُقال أيضًا: (قعد) إذا كان في حالٍ من الهمود، بحيث لا يُبدي نشاطًا، وكذلك مَن تخلّف عن الغزو يُقال له: قعد.

تأمّل قوله -تبارك وتعالى-: فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا [الإسراء:22]، ما معنى تقعد هنا؟ يعني: الجلوس، مقابل القيام مثلًا؟

الجواب: لا، وإنما يُقال: (قعد) إذا كان –يعني- في حالٍ يُذمّ فيها، قعد مذمومًا. ولا زال الناسُ يستعملون مثل هذا، فالذي لا يُبدي نشاطًا أو نحو ذلك يُقال: فلان قاعد، يعني: لا يعمل، ليس معناه: قاعد الآن هذه السَّاعة، مقابل القائم، وإنما معناه أنَّه لا يعمل، ولا يُبدي نشاطًا.

وكذلك مَن تخلّف عن الغزو: وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ [التوبة:90]، الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا [آل عمران:168]، وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ [التوبة:46]، إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ [التوبة:83]، فهذا تخلّف عن الغزو مع رسول الله ﷺ.

ويُقال أيضًا: (قعد) للعدو ترقبه وتتربّص به، الشيطان يتوعد ويقول: لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ [الأعراف:16]، والله يقول فيما قصَّ -تبارك وتعالى- من خبر نبي الله شعيب ، حيث قال لقومه: وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ [الأعراف:86]، وهكذا في قوله -تبارك وتعالى-: وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ [التوبة:5].

وقعيد الشخص: مَن يصحبه في قعوده، قعيد كل إنسانٍ: ملكان مُوكَّلان، يعني: بمُراقبته: عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ [ق:17].

قواعد الدار: أساساته: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ [البقرة:127].

المقعد هذا مصدر ميمي بمعنى: القعود: فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ [التوبة:81] يعني: بقعودهم.

ويُقال أيضًا: اسم مكان بمعنى: القعود، أو الإقامة: فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ [القمر:55] يعني: مكانًا رفيعًا، وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ [آل عمران:121]، هي المقامات التي يكونون فيها في صفِّ القتال عند تعبئته للجيش.

فهذا ما يتعلق بهذه المادة: (القعود)، والله أعلم.

"قُربان: ما يُتقرّب به إلى الله تعالى من الذَّبائح وغيرها، وقُربانٌ أيضًا من القرابة".

القُربان أيضًا أعاده ابنُ فارس إلى أصلٍ واحدٍ يدلّ على خلاف البُعد، تقول: قرُب يقرب قُربًا، فلان ذو قرابتي، يعني: سواء كان القُرْبُ حسيًّا، أو قُربًا معنويًّا، وهو مَن يقرب منك رحمًا، هذا القريب، وفلان قريبي، والقُربة، والقُربى بمعنى: القرابة، والقِراب: مُقاربة الأمر، تقول: ما قرُبت هذا الأمر، يعني: لم تلتبس به، لم تُزاوله، ونحو ذلك[18].

والقارب –لاحظ- سفينة صغيرة. ما علاقتها بموضوع القُرب؟

يقولون: هذه تكون مع السُّفن الكبار؛ من أجل أن يرتفق بها أصحابُ هذه السُّفن في حوائجهم العارضة؛ لخفّتها، لماذا قيل لها: قارب؟

باعتبار أنَّها تكون قريبةً منهم، تكون قريبةً من السُّفن الكِبار، يُقال لها: قارب، وتُجمع على: قوارب؛ لهذا المعنى، ولقُربها منهم.

والقُربان: ما قُرب إلى الله -تبارك وتعالى- من النَّسيكة، وغيرها، يُقال له: قُربان.

ولاحظ: ابن جُزي جاء بالمعنى المباشر: ما يُتقرّب به إلى الله من الذَّبائح، وغيرها.

وقُربان أيضًا من القرابة، ويُقال: قرب الشَّيء يقربه قِربانًا: دنا منه، أو فعله: وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ [البقرة:35] يعني: كما نقول نحن: لا تقرب عند كذا. النَّهي.

القاعدة: أنَّ النهي عن الاقتراب من الشيء أبلغ من النَّهي عن مُقارفته: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا [البقرة:187].

وكذلك أيضًا في قوله: لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى [النساء:43]، فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِندِي وَلَا تَقْرَبُونِ [يوسف:60]، وهكذا في قوله: وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ [البقرة:222]، فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا [التوبة:28].

ويُقال: قرّب قُربانًا؛ قدّمه تقرُّبًا إلى الله -تعالى-: إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ [المائدة:27]، يقال: قرَّبه إليه، بمعنى: أدناه، وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا [مريم:52]، فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ [الذاريات:27] يعني: الطَّعام؛ العجل الذي ذبحه لهم وأنضجه، وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى [سبأ:37]، وفي قول المشركين: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [الزمر:3].

هذا كلّه يرجع إلى معنى الدُّنو، يُقال: (اقترب الأمرُ) دنا دنوًّا شديدًا مُحقَّقًا: وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ [الأعراف:185]، اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ [القمر:1].

ويُقال أيضًا: اقترب العبدُ إلى ربِّه، يعني: تقرّب إليه بالطَّاعة. ويُقال بالأمر: اقترب: كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ [العلق:19].

والقُربة: ما يُتقرّب به إلى الله: أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ [التوبة:99]، العمل الصَّالح الذي يُقرّب العبد؛ من صدقةٍ وغيرها، وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ [التوبة:99].

وقرُب الشيء، أو الشَّخص: دنا -كما سبق-، فهو قريبٌ في الزمان، أو المكان، أو من جهة النَّسب: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ [البقرة:186]، إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [الأعراف:56]، لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ [الشورى:17]، أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ [البقرة:214].

لاحظ: هنا قُرب السَّاعة هو قُرب زماني، وقُرب الله -تبارك وتعالى- هو قُربٌ خاصٌّ من الدَّاعين والسَّائلين، وهو على عرشه فوقه سماواته، لكن في قوله -تبارك وتعالى-: أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ هذا قُربٌ زماني، والقُرب المكاني: وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ [سبأ:51]، وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ [ق:41]، هذه صريحة أيضًا: (قريب)، هذا القُرب المكاني، تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ [الرعد:31] هذا القُرب المكاني، لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا القُرب المكاني لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ [التوبة:42].

وأمَّا القُربى فهم الأقارب: قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى [الشورى:23] قيل: القرابة. قيل: أن تودّوني في قرابتي، والقُربى: القرابة، أو الدُّنو في النَّسب، وذوي القُربى.

وكذلك (أقرب) هذه أفعل تفضيلٍ من القُرب، وجمعه: الأقربون، وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى [البقرة:237]، وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً [المائدة:82]، لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ [النساء:7] يعني: ذوو القرابة في الرَّحم.

والمقرّب: مَن يحظى بمنزلةٍ رفيعةٍ عند الله -تبارك وتعالى-: وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ [النساء:172]، وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ [آل عمران:45].

والمقربة: القرابة: يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ [البلد:15] يعني: قريبًا مع اليُتْم.

والقُربان: الذَّبيحة ونحوها مما يُتقرّب به إلى الله: إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا [المائدة:27]، والله أعلم.

"قلى يقلي: أبغض، ومنه قوله –تعالى-: وَمَا قَلَى [الضحى:3]، وقوله –تعالى-: لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ [الشعراء:168]".

هذه المادة أيضًا أرجعها ابنُ فارس إلى أصلٍ واحدٍ يدلّ على خِفَّةٍ وسُرعةٍ، ما علاقة الخفّة والسُّرعة بقلى؟

انظر إلى استعمالاتها: القِلى: البُغْض، يُقال: قليته أقليه قِلًا: البُغض، يعني: يجفوه.

والقِلى: تجافى عن الشَّيء وذهب عنه، فكأنَّه يبتعد عنه، أو يُبعده.

والقلي: قلي الشيء على المِقلى، لاحظ: يُقال: هذا مقلى، يُقال: قليت الطعام، أو نحو ذلك.

القِلى ما علاقته بالسُّرعة، أو الخفّة؟

ابن فارس يقول: لأنَّ الحبَّةَ مثلًا التي تُقلى، الحبوب أو غيرها تُستخفّ بالقلي[19]، وتخفّ أيضًا، يعني: تنشف ما فيها من رطوبةٍ –سوائل-، سواء كان المقلي هذا من قبيل اللَّحم، أو الحبّ، أو غيره، فهو يُحرّك بالقلي، فهو يُستخفّ بهذا الفعل، ويخفّ أيضًا بالقلي؛ فتذهب ما به من رطوبةٍ، فيخفّ بذلك. هكذا أرجعه ابنُ فارس.

ابن جُزي يقول: "قلى يقلي: أبغض"، مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى [الضحى:3]، وبعضهم يُقيده ويقول: إنَّ ذلك يكون للبُغض الشَّديد، أشدّ البُغض يُقال له ذلك: لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ [الشعراء:168]، فالبُغض مراتب: منه القِلى: بُغْضٌ شديدٌ؛ ولهذا يقولون: إنَّ الله لم يُوجّهه إلى نبيِّه ﷺ، قال: مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ، لكن القلى: أشدّ البُغض، ما قال: (وما قلاك)، وإنما قال: وَمَا قَلَى، من باب التَّلطف بالخطاب.

طيب، نتوقف عند هذا.

  1. انظر: "المعاني الكبير في أبيات المعاني" للدينوري (1/593).
  2. انظر: "مقاييس اللغة" لابن فارس (5/43).
  3. انظر: "مقاييس اللغة" لابن فارس (5/85).
  4. انظر: "مقاييس اللغة" لابن فارس (5/19).
  5. انظر: "مقاييس اللغة" لابن فارس (5/19).
  6. انظر: "مقاييس اللغة" لابن فارس (5/64).
  7. انظر: "مقاييس اللغة" لابن فارس (5/42).
  8. انظر: "تفسير الطبري" (15/324).
  9. انظر: "تفسير ابن كثير" (2/221).
  10. انظر: "تفسير ابن كثير" (2/564).
  11. انظر: "تفسير الطبري" (17/406).
  12. انظر: "تفسير ابن سعدي" (ص455).
  13. انظر: "تفسير القرطبي" (13/234).
  14. انظر: "مقاييس اللغة" لابن فارس (5/45).
  15. انظر: "مقاييس اللغة" لابن فارس (5/112).
  16. انظر: "مقاييس اللغة" لابن فارس (5/76).
  17. أخرجه البخاري: كتاب الأطعمة، باب القران في التَّمر، برقم (5446).
  18. انظر: "مقاييس اللغة" لابن فارس (5/80).
  19. انظر: "مقاييس اللغة" لابن فارس (5/16-17).

مواد ذات صلة