الخميس 09 / شوّال / 1445 - 18 / أبريل 2024
(32- أ) حرف الهاء من قوله هدى إلى قوله مهين
تاريخ النشر: ٢٦ / رجب / ١٤٣٦
التحميل: 1424
مرات الإستماع: 1408

الحمد لله ربِّ العالمين، والعاقبة للمُتقين.

اللهم اغفر لنا، ولوالدينا، ولشيخنا، والحاضرين، والمستمعين.

أما بعد: فيقول الإمامُ ابنُ جُزي الكلبي:

"حرف الهاء.

الهُدى له معنيان: الإرشاد، والبيان، ومن البيان: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ [فصلت:17].

والإرشاد قد يكون إلى الطَّريق، وإلى الدِّين. وبمعنى: التوفيق، والإلهام.

الهَدْي -بفتح الهاء وإسكان الدال- ما يُهدى إلى الكعبة من البهائم".

هذه المادة أرجعها ابنُ فارس -رحمه الله- إلى أصلين:

الأول: التَّقدم للإرشاد[1]، تقول: هديته الطريقَ هدايةً، يعني: تقدّمتُه لأرشده، وكل مُتقدّم لذلك فهو هادٍ، وينشعب هذا فيُقال: الهدى خلاف الضَّلالة. هذا المعنى الأول الذي ذكره، وهو بمعنى: الدّلالة.

المعنى الثاني: هو البعث بلَطَفٍ[2]، الهدية: هو ما أهديتَ من لَطَفٍ إلى ذي مودّةٍ، يعني: هو ما يُبذل من أجل تقريب القلوب وتحبيب النفوس -كما هو معلوم-، هذا الذي يُقال له: الهدية. والـمِهْدَى: هو الطَّبق الذي تُهدى عليه، يُقال له: مِهْدَى.

والهدي: هو ما أُهْدِيَ من النَّعَمِ إلى الحرم؛ قُربةً إلى الله -تبارك وتعالى-. هذا الذي ذكره ابنُ فارس -رحمه الله-، مع أنَّ الهدي في معناه أوسع من هذا؛ ما يُقدّم إلى الحرم، ليس من النَّعَم، لكن ذلك يمكن أن تُفسّر به بعض الآيات في كتاب الله -تبارك وتعالى-: ما يُقدّم من النَّعَم، لكن في أصل الهدي إلى بيت الله لا يختصّ ذلك بالنَّعَم، وإنما قد يُهدى إلى الكعبة أشياء أخرى.

وهكذا فيما يتعلق بالمهموز، فهو يرى أنَّ هذا من غير هذا القياس، وأنَّ أكثره يدلّ على السكون: هدأ، هدوءًا؛ إذا سكن، يُقال: هدأ، هذا المهموز، فقد يُسهّل الهمز. وهدأت الرِّجْل: إذا نام الناس، وأهدأت المرأةُ صبيَّها بيدها لينام، أي: سكَّنته.

فالمهموز ولو سُهّل يكون بمعنى: السكون، هدأ، الهدأة بمعنى: السُّكون، أمَّا غير المهموز فهو يرجع إلى المعنيين عند ابن فارس -رحمه الله-.

لاحظوا: يقال: هداه الشَّيء، يُعدَّى بنفسه، هداه الشيء، وهداه إليه، وهداه له، فيُعدَّى بـ"إلى"، ويُعدَّى أيضًا باللام، هداه، هديًا، وهدايةً، وهُدًى، فهو هادٍ.

هذا كلّه يُقال في الإرشاد والدّلالة: هداه الطَّريق، ونحوه، هداه إليه، هداه له، بمعنى: عرفه له: أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ [النمل:63] بمعنى: الدّلالة هنا، قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ [الشعراء:62]، هذا على تفسيره بالدّلالة، يدلّه على الطَّريق التي يسلكها؛ لينجو من فرعون: قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ [القصص:22] لما توجّه إلى مدين، وكان لا يعرف الطريق، فيكون المقصودُ بذلك الهداية إلى الطَّريق الذي يُوصل إلى مدين، الطريق المستوية: سواء السَّبيل.

ويُقال: هداه الحقَّ، ونحوه، هداه إليه، هداه له، بمعنى: أرشده إليه، ودلَّه عليه بلطفٍ، ومن هذا الهُدَى المنسوب إلى الأنبياء -عليهم السلام-، وإلى الكتب، وإلى الدُّعاة إلى الله من بعدهم، فهذا الهدى بمعنى: الإرشاد، والدّلالة.

وقد حُمِلَ على ذلك المعنى قوله -تبارك وتعالى-: إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ [الإنسان:3] بمعنى: بيّنا له الطَّريق؛ طريق الخير، وطريق الشَّر.

وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى [فصلت:17] ليست هنا هداية التَّوفيق؛ لأنَّه لو هداهم هداية التوفيق لآمنوا، لكن منهم مَن سلك طريق الضَّلالة، ومنهم مَن سلك ...، فدلّ على أنَّ ذلك يُراد به هداية البيان والإرشاد.

وهكذا في قوله: فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا [مريم:43]، قول إبراهيم : أهدك، يعني: أُرشدك، وأدلّك، ونحو ذلك، والأنبياء لا يملكون هدايةَ التوفيق: يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ [غافر:38]، وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى [النازعات:19]، وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ [الأعراف:159] يدلّون عليه، ويُرشدون إليه: يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [النساء:26]. فهذا كلّه في الهداية التي هي التَّعريف بالحقِّ، والدّلالة عليه.

ويُقال أيضًا: هداه إلى الإيمان، وهداه للإيمان، بمعنى: أدخله فيه، هذه هداية التوفيق التي يملكها الله -تبارك وتعالى-: وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ [البقرة:143].

وهكذا في قوله -تبارك وتعالى-: أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى [طه:50]، وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى [الضحى:7]، وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ [البقرة:185] فُسّر بهذا وهذا: هداكم بهداية الإرشاد إلى الشَّهر، وإلى الإسلام قبل ذلك، عرَّفكم إياه؛ عرَّفكم شرائعه، عرَّفكم شهر الصوم، عرَّفكم أحكامه، وكذلك وفَّقكم لصيامه، فتجمع الهدايتين.

وهكذا في قوله: وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ [الأنعام:71]، فهذه هداية التوفيق: رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا [آل عمران:8]. هذا كلّه في هداية التَّوفيق، والله تعالى أعلم.

يُقال: هدى اللهُ المؤمنَ، قد يقال ذلك في التَّثبيت، وقد فسّر كثيرٌ منهم قوله -تبارك وتعالى-: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6] أي: ثبّتنا، والواقع أنَّه أحد أنواع الهداية الدَّاخلة تحته كما ذكرنا في التَّعليق على التَّفسير، فمن الهدايات: التَّثبيت على الحقِّ، وإن كان ذلك يشمل هذا المعنى وغيره: ثبّتنا، دُلَّنا عليه، وتدخل تحته معانٍ كثيرة ذكرناها هناك؛ ولذلك فسّره بعضُهم بزيادة الهدى: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا [العنكبوت:69]، فهذا فُسّر بالتَّثبيت، ولكن الواقع أنَّه أوسع من هذا.

ويُقال: سُوء عمل فلان يهديه إلى ما فيه حتفه، يعني: يقوده. بعضهم يقول: إنَّ هذا على سبيل التَّهكم، يُعبّر بمثل هذا؛ لأنَّ الهداية في أصل وضعها تكون للخير: كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ، ثم قال: وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ [الحج:4]، فعبّر بالهداية هنا إلى عذاب السَّعير: فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ [الصافات:23]، فاستعمل لفظ (الهداية) في هذا، بعضهم يقول: تهكُّمًا. هذا لو ثبت أنَّ ذلك –يعني: الهداية- لا تكون إلا في الخير.

ويُقال: هدى اللهُ سعي فلان، بمعنى: أنجحه، ويُقال في الدُّعاء عليه: لا هدى كيده، كيد الخائن مثلًا: وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ [يوسف:52].

وهكذا يُقال: هدى له الأمر؛ بيَّنه له وأوضحه: أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ [الأعراف:100].

ويُقال: اهتدى، اهتداءً، يُقال: اهتدى السَّبيل ونحوه، واهتدى إليه، واهتدى له، يعني: عرفه، واستبانه، وهذا يكون عمومًا في الأمور الحسيّة كما هو ظاهر، ويكون في الأمور المعنويَّة.

يعني: الهداية إلى الطريق الحسيّة، طريق مدينة مثلًا، هذه في الأمور المحسوسة، وأمَّا الهداية إلى الحقِّ ونحو ذلك فهذا في المعنوي، تقول: اهتديت المسألة: وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [النحل:15]، هذه معرفة الطريق الموصلة إلى مُبتغاكم ومُرادكم في أسفاركم وتنقلكم، وهكذا: وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [الزخرف:10].

وهكذا أيضًا قال: قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنظُرْ أَتَهْتَدِي [النمل:41] هذا الاهتداء حسيّ، هي تتعرف على عرشها بعدما غُيّرت معالمه وملامحه.

إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ [البقرة:70] هذه هداية حسيّة يتعرفون بها صفةَ البقرة التي ذُكرت ونُعتت لهم.

يُقال: اهتدى الرجلُ: أذعن للحقِّ، وسلك سبيلَه، وأكثر ما ورد في القرآن هو في هذا المعنى: فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ [يونس:108]، فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوا [البقرة:137].

يُقال: اهتدى المؤمنُ أيضًا؛ أقام على شعائر الإيمان، وثبت عليها كما سبق.

وكذلك أيضًا يُقال: هدّا، يَهِدِّي، إهداءًا، بمعنى: اهتدى أيضًا، فالـمُشدد كالـمُخفف.

وأصل (هدَّا) يعني: اهتدى، وكذلك (يَهِدِّي) بمعنى: يهتدي، فغُيّرت عن صيغتها بالإدغام: أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى [يونس:35] يعني: يهتدي، إلا أن يُهْدَى.

وأهدى اسم تفضيلٍ يأتي مُرادًا به هذا المعنى: من هداه، قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ [القصص:49]، ويأتي اسم تفضيلٍ أيضًا من اهتدى، أو هُدِيَ، هؤلاء أهدى، يعني: أكثر اهتداءً: أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ [الزخرف:24]، هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا [النساء:51]، هذه أفعل تفضيلٍ، والهُدى يأتي مصدرًا.

وكما في قوله -تبارك وتعالى-: قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى [البقرة:120]، هدى الله، وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا [السجدة:13]، إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ [النحل:37] يعني: الهداية، لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ [البقرة:272]. هذا كلّه من قبيل المصدر.

ويأتي بمعنى: الرشاد، وهو في معنى: الاهتداء، أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ [الأنعام:90]، ويأتي بمعنى: الهادي، فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى [طه:123] يعني: يهديكم، هُدًى لِلْمُتَّقِينَ [البقرة:2] صفة الكتاب، بمعنى: أنَّه هادٍ للمُتقين، أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى [طه:10] يعني: ما يهتدي به، يعني: الهادي.

والهدي واحده: هدية، ويُقال لما يُهدى إلى البيت، كما أشار ابنُ فارس[3] -رحمه الله-: لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ [المائدة:2].

وكذلك أيضًا يُقال لما يلزم النَّاسك من الذَّبح، والذّبح بسبب نقصٍ يُجْبَر، أو بسبب أمرٍ يتعلق بالنُّسك، كما يكون بالنسبة للمُتمتع على الأرجح أنَّ الهدي هو من قبيل الشُّكران، وليس لجبر النَّقص، بخلاف ما يكون من الفدية إذا ترك واجبًا مثلًا، وكذلك أيضًا إذا فعل محظورًا: فدية الأذى، يكون مُخيَّرًا بين ثلاثٍ -كما هو معلومٌ-، فالله -تبارك وتعالى- يقول: فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ [البقرة:196]، هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ [المائدة:95].

والهدية -كما سبق- ما يُقدّم للغير بقصد الإلطاف والإكرام، وتقريب القلوب، ونحو ذلك: وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ [النمل:35]، وهكذا في قول سليمان : بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُون [النمل:36]، فهذا مضت الإشارةُ إليه.

هذه المعاني تنتظم ما قاله ابنُ جُزي -رحمه الله- من الإرشاد والبيان.

والإرشاد والبيان هما بمعنى واحدٍ، يعني: الدّلالة من هذه الحيثية، سواء كان ذلك في الأمور الحسيّة، أو الأمور المعنويّة، وذكر ما يُقابله؛ وهو التَّوفيق والإلهام.

التوفيق والإلهام شيء واحد، يعني: أن يُلهم الهداية، أن يُسلك به سبيل الهداية، سواء كانت الهدايةُ إلى الدِّين، أو الهداية إلى الأمور التي تقوم بها معايشه ومصالحه: أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى [طه:50] على تفسيره بأنَّه ألهمه، فهذا الصَّغير المولود يخرج من بطن أمِّه، ويلتقم الثَّدي إلهامًا، من غير تعريفٍ، ولا تعليمٍ، وهذه المخلوقات: النحل كيف يبني الخلية؟ وكيف ينتقل؟ وكيف تقوم حياته ومعايشه؟ كلّ ذلك مما ألهمه الله -تبارك وتعالى-، بل سمّى ذلك وحيًا: وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا [النحل:68]، هنا فُسّر الوحي بمعنى: الإلهام.

وكذلك أيضًا المادة الأخرى التي ذكرها بعدها في الهدي، قال: ما يُهدى إلى الكعبة من البهائم. هذا الذي في القرآن: لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ [المائدة:2]، فجاءت بهذا السياق، فهي من بهيمة الأنعام، وإلا فقد يُهدى إلى الكعبة -كما سبق- غير بهيمة الأنعام؛ قد يُهدى إليها الطِّيب، وقد يُهدى إليها السُّتور، وقد يُهدى الطَّعام لأهلها، لكن ليس هذا هو الهدي الذي يتعلق بالنُّسك.

مداخلة: شيخنا، بالنسبة للمادة الأولى: (الهُدى) في النُّسخة الخطيّة زيادة حرف ربما يُوضِّح المعنى: "قد يكون إلى الطريق، وإلى الدِّين"، بزيادة حرف الواو.

الشيخ: أحسنت: قد يكون إلى الطريق، وإلى الدِّين. أحسنت، جيد، قد يكون إلى الطريق الذي يسلكه الإنسان، الهداية الحسية، والهداية المعنوية هي الهداية إلى الدِّين، عامّة ما يُذكر يكون في أمورٍ محسوسةٍ، وفي أمورٍ معنويةٍ، ومثل هذا لا يحتاج إلى تنبيهٍ في كل مرةٍ، لكنَّه يُدْرَك من الأمثلة.

"هاد، يهود، أي: تاب، ومنه: هُدْنَا إِلَيْكَ [الأعراف:156]، وَالَّذِينَ هَادُوا [الحج:17] أي: تهوَّدوا، أي: صاروا يهودًا، وأصله من قولهم: هُدْنَا إِلَيْكَ.

هود له معنيان: اسم نبي عاد ، وبمعنى: اليهود، ومنه: كُونُوا هُودًا [البقرة:135]".

أيضًا هذه المادة (الهاء والواو والدال) أرجعها ابنُ فارس -رحمه الله- إلى أصلٍ يدلّ على إروادٍ وسكونٍ، يقولون: التَّهويد بمعنى: المشي الرّويد[4]، والهوادة: الحال تُرجى معها السَّلامة بين القوم، المهاودة يعني: الموادعة.

لاحظ: الآن هذا الإرواد الذي ذكره ابنُ فارس: "التَّهويد: المشي الرويد"، يعني: الذي يكون على مهلٍ.

وأمَّا اليهود فمن: هاد، يهود؛ إذا تاب، هاد، يهود، هودًا، سُمّي اليهود بهذا قيل: لأنَّهم تابوا عن عبادة العِجْل: إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ يعني: تبنا إليك. وفي التوبة هوادة؛ هوادة حال وسلامة.

لاحظ: أنَّه يرتبط أيضًا بالمعنى الذي ذكره هنا؛ الذي هو الإرواد والسُّكون، فهذا الذي رجع وتاب، هذه التوبة، وهذا الرجوع لا يخلو من هوادةٍ، يعني: هوادة حال، سلامة؛ لأنَّ هذا الذي رجع هو ماذا يريد برجوعه هذا؟

يريد السلامة من تبعة الجُرْم والعمل السيئ، فهو يطلب السَّلامة بذلك، يُقال: هاد إلى الشَّيء هودًا، بمعنى: رجع، هاد إلى الله من ذنبه، يعني: تاب من ذنبه، رجع إلى طاعة ربِّه، ويُقال أيضًا: هاد، بمعنى: دان باليهودية، والوصف: هائد، ويُجمع أيضًا على هود: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا [الحج:17]، وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى [البقرة:111] هذا جمعٌ: إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى، وهذا أصل المادة.

وابن جُزي -رحمه الله- ذكر هذه المعاني: التوبة، وأيضًا الذين هادوا قال: تهوَّدوا.

قال: "هود له معنيان: اسم نبي عاد "، طبعًا الكلام في الغريب، ليس له تعرّض لأسماء الأعلام؛ لأنَّ الأصل أنَّ هذه الأسماء لا تُعلل؛ ولذلك لا تُطلب في كتب الغريب، وبعضهم لا يذكرها أصلًا، وبعضهم يُشير إليها، يقول: وأمَّا كذا فهو اسم نبيٍّ، أو اسم كذا، كما سيأتي معنا، وكما مضى في بعض الأمثلة.

"وبمعنى: اليهود، ومنه: كُونُوا هُودًا" قلنا: أنَّ هذا جمعٌ، والله أعلم.

"هوى النفس مقصود، وهو ما تُحبّه وتميل إليه، والفعل منه بكسر الواو في الماضي، وفتحها في المضارع.

هواء بالمد والهمز: ما بين السَّماء والأرض: وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ [إبراهيم:43] أي: مُتحرقة، لا تعي شيئًا.

وفي نسخةٍ خطيَّةٍ: مُنخرقة، لا تُغني شيئًا.

وهوى، يهوي: بالفتح في الماضي، والكسر في المضارع؛ وقع من علوٍّ، ويُقال أيضًا بمعنى: الميل، ومنه: أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ [إبراهيم:37]".

هذه المادة (الهاء والواو والياء) أرجعها ابنُ فارس -رحمه الله- إلى أصلٍ صحيحٍ يدلّ على خلوٍّ وسقوطٍ، أصله الهواء بين الأرض والسَّماء، سُمّي لخلوِّه[5]. لاحظ: سُمّي لخلوه، قالوا: وكلّ خالٍ هواء: وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ يعني: خالية، لا تعي شيئًا، على أحد الوجوه في تفسيره. هكذا قال ابنُ فارس على كل حالٍ.

ويُقال: هوى الشَّيء، يهوي، بمعنى: سقط، والهاوية: جهنم -أعاذنا الله وإياكم وإخواننا المسلمين منها-؛ لأنَّ الكافر يهوي فيها، والهاوية تُقال أيضًا لكل مهواةٍ، والهوة: الوهدة العميقة، حفرة عميقة يُقال لها: هوة، وأهوى إليه بيده ليأخذه، كأنَّه رمى إليه بيده إذا أرسلها، لاحظ معنى السُّقوط: أهوى إليه بيده ليأخذه.

كذلك أيضًا تهاوى القومُ في المهواة: سقط بعضُهم في إثر بعضٍ. ويقولون: الهَوي: ذهاب في انحدارٍ، والهُوي في الارتفاع، يعني: العكس، الهَوي إلى نزولٍ، والهُوي في صعودٍ وارتفاعٍ، تقول: أنت في هَوي، أم في هُوي؟ أنت في زيادةٍ وصعودٍ وارتفاعٍ، أو في هبوطٍ وسفولٍ؟

ويقولون: هوت أمُّه، هذا شتمٌ، يعني: سقطت وهلكت: فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ [القارعة:9]، كما يُقال، يعني: ثاكلة.

والمهوى: بُعد ما بين الشَّيئين المنتصبين، وأما الهوى فهوى النفس، ومن المعنيين جميعًا عند ابن فارس؛ لأنَّه خالٍ من كل خيرٍ، ويهوي بصاحبه فيما لا ينبغي: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى [النجم:3] يعني: بمعنى الهوي؛ السُّقوط، وكذلك أيضًا بمعنى: الخلو، ففيه هذا وهذا الذي هو الهوى؛ اتِّباع ما تهوى الأنفس.

وهذه المادة (الهوى) هي في الطَّبعة الأخرى تابعة للأولى: هوى، هواءً، في (طبعة البيان) جعل ذلك في مادةٍ واحدةٍ، لم يفصل بينهما.

وهنا يقول ابنُ جُزي -رحمه الله-: "هوى النفس مقصور"، هوى بالألف المقصورة، وهو ما تُحبّه وتميل إليه، ميل النفس، سواء كان محمودًا، أم مذمومًا، هكذا في الأصل، وإن كان الغالبُ أنَّ الهوى يُقال لما كان مذمومًا؛ ولذلك جاء عن ابن عباسٍ -رضي الله عنهما-: أنَّ الله ما ذكر الهوى إلا وذمَّه[6]، فهو الغالب في الاستعمال، لكن قد يأتي في غير المذموم.

عائشة -رضي الله تعالى عنها- في قولها للنبي ﷺ: "ما أرى ربّك إلا يُسارع في هواك"[7]، ليس هنا الهوى المذموم، وإنما فيما تُحبّ، تقول: فلان يهوى كذا، يعني: من الأمور الـمُباحة، والناس يقولون: الهوايات، هي: ما تميل إليها النفوس، يعني: يهوى السِّباحة، يهوى ركوب الخيل، ونحو ذلك، هذا ميل النفس، هذا من الهوى، لكن ليس الهوى المذموم، ويُقال: النفس إذا كان لها هوًى في شيءٍ فإنَّها تنشط، وتنبعث، وتنهض للقيام به، هذا معروفٌ، لكن حينما يُذكر الهوى، لا سيّما في كتاب الله -تبارك وتعالى-؛ لا يكاد يُذكر إلا على سبيل الذَّم.

وهنا لما ذكر الهوى قال: "بالمدِّ والهمز: ما بين السَّماء والأرض"، الهواء: وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ.

هنا في هذه النُّسخة: "مُتحرقة"، والشيخ ذكر أنَّ في نُسخةٍ أخرى: "مُنخرقة، لا تعي شيئًا"، هنا في هذه النُّسخة التي عندكم: "متحرقة"، وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ، ليست مُتحرقةً، هذا تحريفٌ ليس بصحيحٍ، وجاء في تفسير ابن جرير: "مُتخرقة، لا تعي شيئًا"[8]، هذا عن مرّة الهمداني، يعني: هذا المعنى أصلًا منقول عن بعض السَّلف، وإن لم يُصرّح هنا بنقله، لكنَّه عن مرّة الهمداني من طرقٍ مُتعددةٍ: "مُتخرقة"، كذا في هذه النُّسخة، لكن هو قال هنا: "مُتحرقة"، هذا تحريفٌ، لكن الصَّحيح: "مُتخرقة، لا تعي شيئًا".

وهكذا أيضًا في "تهذيب اللغة" للأزهري[9]، وكذلك جاء أيضًا عن أبي إسحاق السَّبيعي مثل هذا: "مُتخرقة"، و"مُتخرقة لا تعي شيئًا"، وكذلك أيضًا قال الزجاج[10].

وأمَّا في الكتب المتأخّرة في النُّقولات عن كتب الرِّواية الأصلية الـمُسندة؛ فقد جاء في "زاد المسير"[11] و"فتح القدير"[12]، و"فتح القدير" معروفٌ أنه بالنسبة للروايات ينقل عن "الدُّر المنثور" عن مُرَّة: "مُنخرقة"، لكن الـمُثبت في الأصول: "مُتخرّقة".

وعلى كل حالٍ، هنا الهواء يُقال للخلاء الذي بين السَّماء والأرض كما سبق، ومن هنا يُقال: قلب هواء، يعني: كالهواء في الخلو، خالي من ماذا؟ خالي من العقل، أو خالي من الشَّجاعة؟ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ خالية، يُقال: أهواه؛ جعله يهوي، يعني: يسقط من علوٍّ إلى سُفْلٍ.

وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى [النجم:53]، المؤتفكة: قرى قوم لوط، أهوى: رفعها الملكُ إلى الأعلى، ثم قلبها وأسقطها، ويُقال: استهواه الشَّيطانُ؛ حمله على أن يهوي، يعني: يذهب ويُسرع، سقوط سفولٍ، هبوط، أو حمله على أن يهوى، بمعنى: يميل إلى الضَّلال: كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ [الأنعام:71].

وابن فارس أشار إلى المعنيين -كما سبق-: الخلو في الهواء، وكذلك أيضًا السقوط؛ ولذلك قال الله –تعالى-: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا ۝ وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10]، ما معنى: (دسَّاها) التَّدسية بمعنى: الهبوط، والسُّفول، والنزول، من الدّس، يقول: دسّه، دسّ المتاع، فذلك يكون فيه هبوط، ونزول، وإخفاء، وهكذا يفعل الهواء بصاحبه؛ فإنَّه يُذلّه ويُسقطه في الهاوية، فيكون مُستعبدًا لهواه.

وأكثر ما جاء في القرآن استعمال الهوى في ميل النفس المذموم -كما سبق-، يُقال: هوى، يهوي، هويًا، فهو هاوٍ، وهي هاوية، هذا في السُّقوط، ويُقال: هوى، بمعنى: سقط من العلو إلى سُفلٍ -كما سبق-: فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ [الحج:31]، تهوي: تسقط، يُقال: هوى، بمعنى: تردَّى وهلك أيضًا، كأنما سقط من مكانٍ عالٍ: وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى [طه:81]، كأنَّه سقط من أعلى.

ويُقال: هوت الدَّابةُ والماشي، بمعنى: أسرع، بعضهم يقول: هذا مجازٌ عن المعنى الأول: فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ [إبراهيم:37] يعني: تُسرع.

ويُقال من هذا: هوى إلى بلده، إلى موطنه، بمعنى: نزع إليه وحنَّ.

ويُقال: هوى النَّجم، بمعنى: غاب، وغرُب، أو أسرع في انكداره، وهو في مرأى العين، يسقط من علوٍّ إلى سُفلٍ: وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى [النجم:1] فُسّر بهذا، وفُسّر بغير ذلك: الشُّهب إذا رُمِيَ بها، وقيل غير هذا.

والهاوية: هي الوهدة -كما سبق- من الأرض، لا يُدرك قعرها، عميقة: فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ [القارعة:9] فُسّر بأنَّها نار سافلة، لا يُدرك قعرها.

وهويه، يهاوه، هوًا، يعني: أحبَّه ومال إليه، يُقال: هويت الشَّيء، ويُقال: هويته نفسي، يعني: كما سبق أكثر ما يُستعمل في الميل الباطل، ميل النفس المذموم: أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنفُسُكُمُ [البقرة:87]، فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا [النساء:135]، وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ [الأعراف:176]، وهذا معلومٌ، وكثيرٌ في كتاب الله -تبارك وتعالى-، فهو يأتي أيضًا بمعنى: الشَّهوات، ويأتي أيضًا بمعنى: ميل النفس في المذهب والاعتقاد، ونحو ذلك مما يُجانب الحقَّ ويُجافيه: وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا [المائدة:77]، قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ [الأنعام:56]، فهذا فيما يتّصل بالمذهب والاعتقاد، وكلّ ذلك يُقال له: هوى، وهو يرجع إلى المعنى السَّابق.

"هاجر: خرج من بلاده، ومنه سُمّي المهاجرون، هجر من الهِجْران، ومن الهُجْر أيضًا، وهو فُحْش الكلام، وقد يُقال في هذا: أهجر بالألف".

هذه المادة (الهاء والجيم والراء) أرجعها ابنُ فارس -رحمه الله- إلى أصلين:

الأول: يدلّ على قطيعةٍ وقطعٍ، ومنه: الهجر ضدّ الوصل، وكذلك أيضًا: الهِجران، وهاجر القومُ من دارٍ إلى دارٍ: تركوا الأولى للثانية[13]. والهجر، والهجير، والهاجرة: نصف النهار عند اشتداد الحرِّ، لماذا قيل لها: هاجرة؟ بأي اعتبارٍ؟

ابن فارس -رحمه الله- يُرجعها إلى هذا المعنى[14]، باعتبار أنَّ الناس يستكنون في بيوتهم، كأنَّهم قد تهاجروا، ويمكن أن يُقال غير هذا: كأنَّهم هجروا الطرق والأسواق، ونحو ذلك، فتبدو خاليةً في وقت الهاجرة، يهجرون مبايعهم، ومصالحهم، وأسواقهم، وطرقهم؛ فتبدو خاليةً، يُقال لها: الهاجرة.

وأمَّا الهُجر: فهو الإفحاش في المنطق، يمكن أن يرتبط بهذا الأصل الأول: القطيعة والقطع، هكذا فعل ابنُ فارس[15] -رحمه الله-، بأي اعتبارٍ؟

لأنَّه من المهجور الذي لا خيرَ فيه، الكلام السيئ، الكلام الـمُوحش، الكلام البذيء، ونحو ذلك من المهجور الذي لا خيرَ فيه، الهُجر، يعني: الكلام الذي يتركه أهلُ المروءات، وأهل العقول الرَّاجحات، وأهل الدِّين والكمالات الدِّينية والإنسانية يبتعدون عن مثل هذا. هذا المعنى أو الأصل الأول يدلّ على قطيعةٍ وقطعٍ.

الثاني: يدلّ على شدِّ شيءٍ وربطه[16]، ولم يذكر في "مقاييس اللغة" شيئًا يتعلّق بهذا ويشرحه –الربط-، أصلًا هذا لم يرد في القرآن، وابن فارس -رحمه الله- لا يتكلم على ما يختصّ بالقرآن، وإنما يتحدّث عن اللُّغة، لكن لا بأس أن أُوضحه؛ لأنَّه ذكره كأصلٍ آخر، فقد ذكر ما يُوضّحه في كتابه الآخر "الـمُجمل في اللغة": يدلّ على شدِّ شيءٍ وربطه، يُقال: الهِجيرا يعني: العادة، تقول: صار ذلك هجيرا فلان، صار ذلك هجيراه، يعني: الشيء الذي اعتاده؛ إن كان من القول فهو يلهج به دائمًا، وإن كان من الفعل فهو يُعاوده مرةً بعد مرةٍ.

والهِجار: أن تُشدّ يد الفحل، إذا شُدّت يدُه إلى رجليه، الفحل من الإبل، اليد مع الرِّجْل بحيث لا ينفلت، ويُقال: فحل مهجور، بعضهم يقول: إنَّ ذلك يكون بشدِّ الرأس إلى الرِّجْلين. وبعضهم يقول غير هذا في شدِّ الفحل، لكن يُقال له: فحل مهجور.

وكذلك أيضًا يُقال: هِجار القوس: هو وترها، هذا ما يتعلّق بالأصل الثاني الذي يدلّ على الشَّد والرَّبط، فوتر القوس مشدود، وكذلك أيضًا هذا البعير الفحل مهجور، يعني: مشدودٌ رأسه إلى رجليه، أو يده إلى رجله، أو نحو ذلك، وكأنَّ هذه العادة: هجيرا فلان، كأنَّه يرتبط بها، لا يفكّها، ولا يتركها. هذان أصلان ذكرهما -رحمه الله-.

وعلى كل حالٍ، الذي ورد في القرآن هو الأول، يُقال: هجره، يهجره، هجرًا، وهِجرانًا، بمعنى: صرمه.

لاحظ: هذا معنى القطع؛ قطع الصِّلة، قطع العلاقة، ترك وصله وقربه، لكن مع سخطةٍ هنالك، الهجر في الأصل يكون مع سخطةٍ: وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ [المدثر:5]، وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا [مريم:46]، وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا [المزمل:10] هذا لا يُعارض ويُنافي السّخطة، هو يُباعدهم، لكن من غير أذًى لهم، هذا الهجر الجميل.

وكذلك أيضًا: فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ [النساء:34]، هو لماذا يهجرها؟ لأنَّه سخط عليها، حيث ترفَّعت عن طاعته: يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا [الفرقان:30]، هجر التِّلاوة، وهجر التَّدبر، وهجر العمل، وهجر التَّحاكم، كلّ ذلك داخلٌ فيه، لكن هنا قد لا تبدو السّخطة، لكنَّه في الغالب إنما يكون مع سخطةٍ.

وهذه الهجرة -على كل حالٍ- في هذه الآية تكون بمعنى: الترك، اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا، وقيل غير ذلك في المعنى.

وكذلك أيضًا يُقال: هجر في منطقه هجرًا، بمعنى: خلط وهذى، وأتى بما لا صوابَ فيه، يعني: قام يُخلّط ويهذي، ويتكلم بكلامٍ لا يَحْسُن: مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ [المؤمنون:67]، فقد فُسّر بأنَّه يحتمل أن يكون: تهجرون القرآن، أو الحقّ تنأون عنه، أو تهذون في شأنه، تتكلَّمون بكلامٍ قبيحٍ، تقولون: سحر، أو النبي ﷺ ساحر، يقولون: هذا القرآن سحر، أو شعر، ونحو ذلك.

وأمَّا الهجرة: فهي الانتقال من بلدٍ إلى آخر، وهي في الشَّرع: الانتقال من بلد الخوف والفتنة إلى حيث يأمن على نفسه ودينه، هذا في أصل معناها، ولا تُقيّد، يُقال: الانتقال من بلد الكفر إلى بلد الإسلام، فليس ذلك بلازمٍ شرعًا، فإنَّ الهجرة الأولى كانت من مكّة إلى الحبشة، ولم تكن الحبشةُ بلادَ إسلامٍ -كما هو معلومٌ-، وإنما يُقال: الانتقال من بلد الفتنة، التي يُفتن فيها في دينه، ولا يأمن على نفسه، إلى بلد يأمن فيها على دينه ونفسه، فهذه هي الهجرة الشَّرعية، لكنَّه شاع وكثُر استعمال ذلك في الانتقال من مكّة إلى المدينة، وشاع في كلام أهل العلم، وألسن الفُقهاء والمفسّرين: أنَّ الهجرة هي الانتقال من بلد الكفر إلى بلد الإسلام، باعتبار أنَّ هذا هو الغالب، لكن -كما سبق- ليس بلازمٍ، والله -تبارك وتعالى- يقول: يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ [الحشر:9]، هذه الهجرة الشَّرعية: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا [البقرة:218]، وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً [النساء:100]، وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ [التوبة:100]، فهذا كلّه بمعنى: الانتقال -كما سبق-.

"أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ [المائدة:3] أي: صيح، والإهلال: الصياح، ثم استُعمل في الكلام بغير صياحٍ، ثم استُعمل في النية، أي: أُريد به غير الله".

(هلَّ) هذه المادة يقول ابنُ فارس: تدلّ على رفع صوتٍ، ثم يُتوسّع فيها؛ فيُسمّى الشيء الذي يصوت عنده ببعض ألفاظ (الهاء واللام).

لاحظ: كأنَّ العلاقة تُشبه المقاربة، أو المجاورة أحيانًا، أو نحو ذلك -كما سيتّضح-، ثم يُشبه بهذا الـمُسمّى غيره فيُسمّى به، يقول: الأصل قولهم: أهلّ بالحجِّ، جعل هذا هو الأصل، مع أنَّ بعضهم يقولون: إنَّ الأصل في ذلك هو الهلال، أو ما يُقال عند رؤية الهلال، لكن ابن فارس[17]-رحمه الله- جعل الأصلَ في ذلك هو قولهم: أهلَّ بالحجِّ، بمعنى: رفع صوتَه بالتَّلبية: لبيك حجّة.

واستهلَّ الصبيُّ صارخًا، بمعنى: صوَّت عند ولادته، هذا معروفٌ، وبه يُحكم بالحياة لهذا المولود عند الفُقهاء.

لاحظ: نحن في (هلَّ) يُقال: انهلَّ المطرُ في شدّة صوبه وصوته انهلالًا، يعني: هذا المطر الذي ينزل بقوةٍ وبسرعةٍ يكون له صوتٌ، انهلَّ.

يقول: "أمَّا الذي يُحْمَل على هذا للقرب والجوار"، لاحظ: يعني ما يصوت عنده، يقول: "فالهلال"، ما علاقة الهلال؟ هنا ربط الكلمة بالإهلال بالحجِّ، والصوت، والصياح، فالهلال ما علاقته؟ لماذا قيل له: هلال؟

يقول: لإهلال الناس عند نظرهم إليه مُكبرين وداعين إذا رأوه: اللهم أهلّه علينا بالأمن والإيمان[18] إلى آخره. مع أنَّ بعض أهل العلم يقولون غير هذا، يعني: تصويت الناس إذا رأوا الهلال، الصّوت باعتبار أنَّهم يتحدثون عن رؤيته، وعن دخول الشَّهر، وما إلى ذلك، يقولون: رأينا الهلال، هذا الهلال، طلع الهلال، فهم يعرفون به المواقيت؛ مواقيت العبادات، وكذلك أيضًا الديون، والعِدد، ونحو هذا: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ [البقرة:189].

يقول: ثم قيل على معنى التَّشبيه: تهلل السّحاب ببرقه، بمعنى: تلألأ.

لاحظ: بأي اعتبارٍ هنا؟ أين الصوت؟

هنا لا يوجد صوت، تشبيه بالهلال الذي يصوت الناس عند رُؤيته، فيُقال: تهلل السّحاب، كأنَّ البرق شُبّه بالهلال، ويُقال: تهلل وجهه، فهذا من باب التَّشبيه.

وهكذا يُقال: أهلَّ بالذَّبيحة لـمُعظّم يعبده، يعني: ذكر اسمه عند الذَّبح، وقصده به، إذا كان يعبد الله قال: باسم الله، وإذا كان يعبد غيره قال: باسم كذا، فهذا يُقال له: إهلال، فأصله يرجع إلى ما ذُكر من رفع الصّوت والصّياح.

وأمَّا الهلال فمعلومٌ أنه يُقال للقمر في أول ليلتين، وقيل: في أول ثلاثٍ، وما بعد ذلك لا يُقال له: هلال، وتسميته يمكن أن يكون ذلك بما ذكره ابنُ فارس -رحمه الله-: رفع الصوت، الناس إذا رأوه رفعوا أصواتهم مُكبّرين، أو مُخبرين، يعني: عن ظهوره، يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ، والله -تبارك وتعالى- يقول عن الميتة والدَّم المسفوح ولحم الخنزير: فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ [الأنعام:145]، قال: إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ [النحل:115].

"مُهيمن عليه، أي: شاهد، وقيل: مُؤتمن.

والـمُهيمن: اسم الله القائم على خلقه بأعمالهم وآجالهم وأرزاقهم، وقيل: المشاهد، وقيل: الرَّقيب.

وفي نُسخةٍ خطيَّةٍ: الشَّاهد بدل الـمُشاهد".

هذه المادة يقول ابنُ فارس -رحمه الله-: (الهاء والميم والنون) ليس بشيءٍ، يقول: هذا ليس بشيءٍ، لماذا؟

لأنَّ ابن فارس -رحمه الله- يُرجع الـمُهيمن، يقول: هذه (همن) لا يوجد لها معنى في اللغة. طيب، والـمُهيمن؟

يقول: و(الـمُهيمن) أصله ليس من هذا، ليس من (الهاء والميم والنون)، وإنما من باب أمن، والهاء مُبدلة من همزةٍ[19].

هذا مذهب ابن فارس، وهو قولٌ لبعض المتقدّمين، وهذا الذي اختاره أيضًا الأزهري -رحمه الله- صاحب "تهذيب اللغة"، يقول: أصله من (أمن).

وقد ذكر أيضًا صاحب "الصِّحاح" أنَّ الـمُهيمن هو الشَّاهد، وهذا ذكره ابنُ فارس، فسّره بالشَّاهد، قال: وهو من آمن غيره من الخوف، وأصله (أأمن) بهمزتين، فهو مُؤءمن، فقُلبت الهمزةُ الثانية ياءً؛ كراهية لاجتماعهما، فصار مُؤيمن، ثم صيرت الأولى ياءً، كما قالوا: أراق الماء، وأهراق الماء، فتُبدل هاءً، الهمزة قد تُبدل هاءً، فهنا قال أنَّ الـمُهيمن هو اسم الله تعالى القائم على خلقه بأعمالهم.

نحن قلنا أنَّ الأسماء لا يُتعرّض لها، لكن أسماء الله -تبارك وتعالى- مُشتقّة، والراجح أنَّ جميع أسماء الله مُشتقّة، والمشتقّ أبلغ من الجامد، فأسماء الله -تبارك وتعالى- وأسماء النبي ﷺ وأسماء القرآن، كلّ ذلك من قبيل المشتقّ، يعني: يتضمن صفةً.

ومن هنا قال: فإنَّ الـمُهيمن -يقول ابنُ فارس- هو الشَّاهد، وابن جُزي ذكر معنًى أوسع من هذا، وهذا أحسن، قال: القائم على خلقه بأعمالهم وآجالهم وأرزاقهم، وقيل: الشاهد. وفي النُّسخة الأخرى قال: المشاهد. وهذا كلّه قيل فيه، وقيل: الرَّقيب، بل ذكر بعضُهم فيه نحو تسعة أقوال.

والواقع أنَّ مثل هذا الاسم (الـمُهيمن) لا يُفسّر بلفظةٍ تُقابله؛ لأنَّ المعنى أوسع من ذلك، فإنَّ الهيمنة إنما تكون بمجموع أوصافٍ، فإنَّ الهيمنة في اللغة تدلّ على سيطرةٍ على الشيء، وعلى حفظٍ، وتمكّن من هذا الشيء. هذه ثلاثة أمورٍ، والذين يقولون: أنَّ أصله المؤمن، يعني: كأنَّه أمّن غيره من الخوف، وقيل غير ذلك.

لكن -على كل حالٍ- اسم الله -تبارك وتعالى- الـمُهيمن يأتي بمعنى: الـمُسيطر، القائم على خلقه بأعمالهم وأرزاقهم وآجالهم، وهو الحافظ لهم، فهو الشَّهيد، الرَّقيب على عباده، يُقال: هيمن الطائر؛ إذا نشر جناحيه على فراخه؛ صيانةً لها.

فالله -تبارك وتعالى- هو الرَّقيب على خلقه، وهو الحافظ لهم، والقائم على أعمالهم، وهو الذي -تبارك وتعالى- يكون شاهدًا، ومُشاهدًا لهم.

وقد قال ابنُ جرير -رحمه الله- في تفسير (الـمُهيمن) لما ذكره أشار إلى اختلاف أهل العلم في تفسيره، قال بعضُهم: المهيمن هو الشَّهيد. قاله مجاهد، وقتادة، وغير هؤلاء[20]، وقال أيضًا: وأصل الهيمنة: الحفظ. هذا كلام ابن جرير[21].

والارتقاب: يقال إذا رقب الرجلُ الشيء، وحفظه، وشهده: قد هيمن فلانٌ عليه، فهو يُهيمن هيمنةً، وهو عليه مُهيمن. وذكر أقوال السَّلف في هذا.

والحافظ ابن كثير -رحمه الله- أيضًا نقل عن جماعةٍ: كابن عباسٍ -رضي الله عنهما- وغيره، قال: "أي: الشاهد على خلقه بأعمالهم"[22]، بمعنى: هو رقيبٌ عليهم، كقوله: وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [المجادلة:6]، وقوله: ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ [يونس:46]، وقوله: أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ [الرعد:33].

الشيخ عبدالرحمن بن سعدي -رحمه الله- فسّره بالـمُطَّلع على خفايا الأمور، وخبايا الصُّدور، الذي أحاط بكلِّ شيءٍ علمًا[23].

ومن أجمع ما ذُكِرَ في معناه ما ذكره أبو حامد الغزالي، إذا تتبعت كلام أهل العلم في الكلام على (المهيمن) تجد أنَّ كلام الغزالي هو من أجمع ما ذُكِرَ فيه: فهو القائم على خلقه بأعمالهم وأرزاقهم وآجالهم باطِّلاعه، واستيلائه، وحفظه[24]؛ لأنَّه لا يُقال: (مُهيمن) إلا لمن كان مُشرفًا على الأمر، مستوليًا عليه، حافظًا له، فالإشراف يرجع إلى كمال العلم، والاستيلاء يدلّ على القُدرة، والحفظ يرجع إلى كمال التَّدبير والرعاية، فهذه ثلاثة معانٍ يستجمعها هذا الاسم.

أمَّا الإخبار عن القرآن بأنَّ القرآن مُهيمنٌ على ما سبقه من الكتب، فقد فسّره ابنُ عباسٍ وغيره بأنَّه أمينٌ وحاكمٌ عليها[25]، فما وافقه فهو حقٌّ، وما خالفه فهو باطلٌ.

والحاصل أنَّ الله -تبارك وتعالى- هو الـمُهيمن، يعني: القائم على خلقه بأعمالهم وأرزاقهم وآجالهم، وهو الرَّقيب على كل شيءٍ، وهو الحافظ لكل شيءٍ، وهو الذي خضع لسلطانه كل شيءٍ، وهو الـمُطّلع على كل شيءٍ؛ لكمال علمه، وهو أيضًا مُستولٍ على كل شيءٍ بكمال قُدرته وحفظه.

والقرآن مُهيمنٌ، أي: رقيب، وأيضًا بمعنى: الحفظ، والتَّصديق، والتَّقرير، فهو مُؤيد لبعض ما جاء في تلك الكتب والشَّرائع من كل حكمٍ كانت مصلحته كليةً، لم تختلف باختلاف الأمم والأزمان.

يقولون: الأصول لا يرد عليها النَّسخُ، وإنما يكون ذلك في التَّفصيلات في أمور التَّشريع، ونحو ذلك، لكن أصول التَّشريع، وأصول العقائد، وأصول الأخلاق لا تُنْسَخ، فهو مُهيمنٌ: أنه ينسخ ما يُنسخ من هذه الشَّرائع والأحكام الجزئية المؤقتة، التي رُوعي فيها أحوال ومراحل مُعينة، فهو ينسخها، وكذلك يُبين بطلان الأباطيل التي لُفّقت وزيدت، وحُرّف ما حُرّف من هذه الكتب، هذا الـمُهيمن.

وما ذكره ابنُ جُزي -رحمه الله- جيد أيضًا في معناه، فهو لم يُفسّره بلفظةٍ واحدةٍ، وكما هو معلومٌ أنَّ السلف قد يُفسّرون اللَّفظة ببعض معناها، وقد يُفسّرونها بالمثال، ونحو ذلك مما يُقربها، فليس ذلك من قبيل القصور والنَّقص في تفسيرهم، وإنما كانوا يُنبّهون على المعنى بما يُشير إليه، فيذكرون بعض معناه، ونحو هذا، ولكن إذا جُمِع ذلك اتَّضح المراد، والله أعلم.

"هوان، وهونٌ، أي: ذلّ، ومَهين -بفتح الميم- فمعناه: ضعيف، أو ذليل".

نعم، هذه المادة يقول عنها ابنُ فارس -رحمه الله-: أنها تدلّ على السكون، أو السَّكينة، أو الذلّ[26]، والوقار: يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا [الفرقان:63]، والهون والهوان: أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ [النحل:59].

يُقال: هان، يهون، هونًا، بمعنى: سهُل، وتيسر، وخفّ. والوصف: هين، واسم التفضيل: أهون، وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا يعني: بسهولةٍ، وتواضعٍ، ولينٍ. هذا الذي قال عنه ابنُ فارس -رحمه الله- أنَّه السُّكون، معنى: السُّكون، تقول: هذا الأمر هيِّن، بمعنى: سهل.

وكذلك أيضًا كما في قوله -تبارك وتعالى-: قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ [مريم:9]، وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا [النور:15] يعني: سهلًا، وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [الروم:27] يعني: أسهل.

والذي يبدو -والله أعلم- أنَّ هذا أيضًا يرجع إلى المعنى الأول؛ لأنَّ هذا الذي سهُل لا يكون مُمتنعًا، وإنما يكون عدم الامتناع للسُّكون والسُّهولة. والمهين، والهوان، وما إلى ذلك إنما يكون فيه أيضًا هذا السكون، ولكنه تارةً يكون مذمومًا، وتارةً يكون محمودًا. نحن نتحدث عن أصل المعنى.

ويُقال: هان، هونًا، وهوانًا، بمعنى: ذلَّ، وحَقُر. والوصف يُقال: هين، فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ [الأحقاف:20]، الهوان.

ويُقال: أهانه، يعني: ألحق به الذُّل، هذا الفاعل يُقال له: مُهين، والمفعول: مُهان، فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ [الفجر:16]، وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ [الحج:18]، وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ [البقرة:90] يعني: مُذلّ، وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا [النساء:37].

ويقول الله -تبارك وتعالى- عن قول فرعون: أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ [الزخرف:52] يعني: الموصوف بالذل والهوان، يعني: موسى .

وابن فارس -رحمه الله- في الهين الذي قلنا أنَّه بمعنى: السَّهل، يقول: (الهاء والياء والنون) الهين، الأمر الهين، وهو من الواو، وقد مرَّ[27]. يعني: يرى أنَّ أصله واوي.

هناك (الهاء والواو والنون) يدلّ على سكونٍ، أو سكينةٍ، أو ذُلٍّ.

طيب، والهين، (الهاء والياء والنون)؟

يقول: أصله واوي، الياء هذه أصلها: واو، ومن ثَمَّ فإنَّه لم يتكلم على هذا المعنى في (الهاء والياء والنون).

يقول ابنُ جُزي -رحمه الله- أنَّ الهوان، والهون، أي: الذّل. والـمُهين: مُشتقّ من الهوان، يعني: مُذلّ. والـمَهين يعني: الضَّعيف، أو الذَّليل.

 

  1. انظر: "مقاييس اللغة" لابن فارس (6/42).
  2. انظر: المصدر السابق (6/42).
  3. انظر: المصدر السابق (6/43).
  4. انظر: المصدر السابق (6/17).
  5. انظر: المصدر السابق (6/15).
  6. انظر: "تفسير الثعلبي" (8/362).
  7. متفق عليه: أخرجه البخاري: كتاب النكاح، باب هل للمرأة أن تهب نفسها لأحدٍ؟ برقم (5113)، ومسلم: كتاب الرضاع، باب جواز هبتها نوبتها لضرّتها، برقم (1464).
  8. انظر: "تفسير الطبري" (17/33).
  9. انظر: "تهذيب اللغة" للأزهري (6/260).
  10. انظر: "معاني القرآن وإعرابه" للزجاج (3/166).
  11. انظر: "زاد المسير في علم التفسير" لابن الجوزي (2/517).
  12. انظر: "فتح القدير" للشوكاني (3/140).
  13. انظر: "مقاييس اللغة" لابن فارس (6/34).
  14. انظر: المصدر السابق (6/35).
  15. انظر: المصدر السابق (56/101).
  16. انظر: المصدر السابق (6/34).
  17. انظر: المصدر السابق (6/11).
  18. أخرجه الدَّارمي في "مسنده"، برقم (1729)، وضعَّفه الألباني في "ضعيف الجامع"، برقم (4404).
  19. انظر: "مقاييس اللغة" لابن فارس (6/63).
  20. انظر: "تفسير الطبري" (23/304).
  21. انظر: "تفسير الطبري" (10/377).
  22. انظر: "تفسير ابن كثير" (8/80).
  23. انظر: "تفسير ابن سعدي" (ص947).
  24. انظر: "المقصد الأسنى في شرح معاني أسماء الله الحسنى" للغزالي (ص72).
  25. انظر: "تفسير ابن كثير" (3/128).
  26. انظر: "مقاييس اللغة" لابن فارس (6/21).
  27. انظر: المصدر السابق (6/26).

مواد ذات صلة