الخميس 18 / رمضان / 1445 - 28 / مارس 2024
[5] من قول الله تعالى: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} الآية 29 إلى قوله تعالى: {كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} الآية 32
تاريخ النشر: ١٦ / ربيع الآخر / ١٤٢٧
التحميل: 3212
مرات الإستماع: 2407

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد.

قال المفسر -رحمه الله تعالى- في تفسير سورة الأعراف:

وقوله تعالى: كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ [سورة الأعراف:29] إلى قوله: الضَّلاَلَةُ [سورة الأعراف:30] اختُلف في معنى كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ فقال ابن أبي نجيح عن مجاهد: كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ يحييكم بعد موتكم.

وقال الحسن البصري: كما بدأكم في الدنيا كذلك تعودون يوم القيامة أحياءً.

وقال قتادة: كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ قال: بدأ فخلقهم ولم يكونوا شيئاً، ثم ذهبوا، ثم يعيدهم.

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: كما بدأكم أولاًَ كذلك يعيدكم آخراً، واختار هذا القول أبو جعفر بن جرير، وأيَّده بما رواه عن ابن عباس -ا- قال: قام فينا رسول الله ﷺ بموعظة فقال: يا أيها الناس إنكم تحشرون إلى الله حفاة عراة غُرْلاً كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ [سورة الأنبياء:104] وهذا الحديث مخرج في الصحيحين[1].

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فالآثار التي ذكرها المفسر عن طائفة من السلف عند قوله -تبارك وتعالى: كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ كلها ترجع إلى شيء واحد، وهو الاحتجاج أو الإخبار عن قدرته -تبارك وتعالى- على البعث محتجاً بابتداء الخلق، فالذي أنشأ الخلق أولاً من العدم قادر على أن يعيدهم ثانية، وهذا كثير في القرآن، وهو من طرق إثبات البعث كقوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ [سورة الروم:27] وكقوله: قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ [سورة يــس:79] وأشباه ذلك من النصوص كثير. 

وطرق إثبات البعث في القرآن معروفة، ذكر الله تعالى منها خمسة في سورة البقرة، والمقصود هنا أن هذا القول في الآية هو بهذا المعنى، وجميع الآثار التي ذكرها ترجع إليه، وهذا ما اختاره كبير المفسرين -رحمه الله- واختاره أيضاً الحافظ ابن القيم، إلا أن الآية تحتمل معنى آخر قال به طائفة من السلف بقرينة ما بعد هذه الجملة كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ ۝ فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلاَلَةُ [سورة الأعراف:29-30] فالمعنى الثاني كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ أي كما قدر عليكم من السعادة والشقاوة فإنكم تصيرون إلى ما قدر عليكم في الكتاب الأول، كما جاء في الحديث: إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى لا يبقى بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار فيما يبدو للناس حتى ما يبقى بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها[2]

وهذا المعنى هو أحد المعنيين في قوله -تبارك وتعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ [سورة التغابن:2] أي أن الله قد خلق قوماً للنار وخلق قوماً للجنة، خلق قوماً للسعادة وخلق قوماً للشقاوة، طبع قوماً على الكفر وطبع آخرين على الإيمان، ولا بد أن يحصل مقتضى ذلك. 

فالحاصل أن هذا المعنى من حيث هو صحيح، وهو اعتقاد أهل السنة والجماعة في باب القدر، ولكن هل هو المراد بالآية؟ لا شك أن الآية تحتمله لكن لو قيل: إن هذه الآية محمولة على نظائرها في كتاب الله وذلك أن الله يحتج بالنشأة الأولى على النشأة الآخرة لكان هذا له وجه قريب من النظر، والعلم عند الله .

وعلى كل حال فالذين قالوا: إنه يحتج بالنشأة الأولى على النشأة الثانية استدلوا بحديث: يا أيها الناس إنكم تحشرون إلى الله حفاة عراة غُرْلاً كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وقد سبق في بعض المناسبات أن قوله: كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ يحتمل معنيين: الأول: أنه احتجاج بالنشأة الأولى على النشأة الآخرة، وهذا الذي مشى عليه ابن القيم وابن جرير وأمثال هؤلاء، ويحتمل المعنى الآخر وهو المذكور في هذا الحديث، كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ أي أن الإنسان يرجع ثانيةً إلى الهيئة التي وجد فيها أولاً -حفاة عراة غرلاً- فالنبي ﷺ ذكر هذا المعنى عند الآية، لكن هذه الآية وإن كانت في سياق تقرير البعث إلا أن عمومها يشمل ذلك، والنبي ﷺ قد يحمل الآية على معنى مما يحتمله عمومها وإن كان السياق في غيره. 

ولهذا نظائر وهي من الأدلة التي يستدل بها على أن العبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب، كقوله -تبارك وتعالى: وَكَانَ الْإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا [سورة الكهف:54] فهذه الآية وإن كانت في جدل الكفار بالنبوة والوحي والوحدانية إلا أن النبي ذكرها في سياق آخر وهو جدل الإنسان مطلقاً وذلك أنه حينما أتى علياً وفاطمة وهما نائمان، فقال: ألا تصليان؟ فقال علي : إن أرواحنا بيد الله.. وفي الحديث: فرجع النبي ﷺ وهو يضرب فخذه ويقول: وكان الإنسان أكثر شيء جدلاً[3].

ومن ذلك أنه حينما سئل عن أي المسجدين أسس على التقوى أولاً؟ فمن المعلوم أن السياق في مسجد قباء، ومع ذلك حملها النبي ﷺ على مسجده؛ لأنه أحق بهذه الصفة، وذلك لا ينفي هذا الوصف عن مسجد قباء.

وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس -ا: قوله: كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ۝ فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلاَلَةُ [سورة الأعراف:29-30] قال: إن الله تعالى بدأ خلق ابن آدم مؤمناً وكافراً كما قال: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ [سورة التغابن:2] ثم يعيدهم يوم القيامة كما بدأهم مؤمناً وكافراًَ، قلت: ويتأيد هذا القول بحديث ابن مسعود في صحيح البخاري: فوالذي لا إله غيره إنّ أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا باع أو ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا باع أو ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخل الجنة[4].

يقول ابن كثير -رحمه الله: "ويتأيد هذا بحديث ابن مسعود.." وذكَرَه، يعني أن حديث ابن مسعود يؤيد القول بأن قوله: كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ [سورة الأعراف:29] أي كما قدر على الإنسان وكتب عليه من هدى وضلال يرجع إليه ويصير إليه في آخر الأمر، فهذا القول تؤيده هذه النصوص، ولذلك فإن بعض أهل العلم -مثل الشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله- على طريقته المعروفة عند أهل العلم حمل الآية على المعنيين، وقد ذكر قاعدة في أول الكتاب، وهي أن الآية قد تحتمل معنيين، ويوجد ما يدل على صحة كل معنى من هذه المعاني في الكتاب أو في السنة، من غير قيام مانع يمنع من حملها على كل تلك المعاني فتحمل عليها جميعاً؛ لأن القرآن يعبر به بالألفاظ القليلة الدالة على المعاني الكثيرة، ولذلك فهو يقول: كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ [سورة الأعراف:29] احتجاج بالنشأة الأولى على النشأة الثانية، وهذه القاعدة لا تمنع من أن يحمل ذلك على أن الناس يعودون كما خلقهم الله حيث خرجوا من بطون أمهاتهم حفاة عراة غرلاً، فيرجعون في الآخرة كذلك، كما دل عليه حديث ابن عباس السابق. 

ويصح أن يقال أيضاً: إن قوله: كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ [سورة الأعراف:29] يعني كما قدر عليكم من هدى وضلال تصيرون إلى ذلك، فالله -تبارك وتعالى- ذكر ذلك وأطلق، وعندنا ما يدل على أن المعنى الأول صحيح -وهو كثير في القرآن- وعندنا ما يدل على أن المعنى الثاني أيضاً أنهم يرجعون بالصفة التي خرجوا فيها من بطون أمهاتهم كما قال تعالى: كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ [سورة الأنبياء:104] عندنا ما يدل على المعنى الثالث أيضاً أي أنكم تصيرون إلى ما كتب عليكم وقدر من هدى وضلال، وهذه المعاني كلها لا تحتاج إلى الترجيح بينها وإنما تحمل عليها جميعاً، والله أعلم

لكن يبقى هنا سؤالان: السؤال الأول: ما وجه المناسبة بين حمل الآية على الاحتجاج بالنشأة الأولى على النشأة الآخرة وما ذكر بعده من قوله: فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلاَلَةُ؟ [سورة الأعراف:30]

والسؤال الثاني هو كيف الجمع بين معنى أنه يرجع إلى ما قدر عليه أولاً –حيث إن من الناس من طبع على الكفر ومنهم من طبع على الإيمان- وبين قول النبي ﷺ: خلقت عبادي حنفاء؟

أما السؤال الأول فقد أجاب عنه ابن القيم حيث عرفنا أنه رجح المعنى الذي اختاره ابن جرير -رحمه الله- من أنه احتجاج على النشأة الآخرة بالنشأة الأولى، ويرى –رحمه الله- أن هذه الآية قد تضمنت قواعد الدين من الإيمان بالقدر والشرع والمبدأ والمعاد والأمر بالعدل والإخلاص، ثم ختم بذكر حال من لم يصدق هذا الخبر ولم يطع هذا الأمر بأنه قد والى الشياطين من دون ربه، واتخذهم أولياء، فانظر إلى سياق الآية حيث يقول سبحانه: قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [سورة الأعراف:29] فإنه قد ذكر العدل وبين أنه يكون بالإخلاص والتوحيد له سبحانه، ثم ذكر بقية القواعد التي يجب الإيمان بها فقال: كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ۝ فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلاَلَةُ [سورة الأعراف:29-30] فهو يرى أن هذه الآية متضمنة لهذه القواعد العظيمة وهي الإيمان بالله والإيمان بالقدر والأمر بالعدل والقسط وذِكر اليوم الآخر.

وأما الجواب عن السؤال الثاني فقد ذكره ابن كثير -رحمه الله.

قلت: ولا بد من الجمع بين هذا القول -إن كان هو المراد من الآية- وبين قوله تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا [سورة الروم:30] وما جاء في الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه[5] وفي صحيح مسلم عن عياض بن حمار قال: قال رسول الله ﷺ: يقول الله تعالى: إني خلقت عبادي حنفاء فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم.. الحديث[6] ووجه الجمع على هذا أنه تعالى خلقهم ليكون منهم مؤمن وكافر في ثاني الحال وإن كان قد فطر الخلق على معرفته وتوحيده، والعلم بأنه لا إله غيره، كما أخذ عليهم الميثاق بذلك وجعله في غرائزهم وفطرهم، ومع هذا قدر أن منهم شقياً ومنهم سعيداً هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ [سورة التغابن:2] وفي الحديث: كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها[7] وقدر الله نافذ في بريته، فإنه هو الَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى [سورة الأعلى:3] والَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى [سورة طـه:50] وفي الصحيحين: فأما من كان منكم من أهل السعادة فسييسر لعمل أهل السعادة، وأما من كان من أهل الشقاوة فسييسر لعمل أهل الشقاوة[8] ولهذا قال تعالى: فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلاَلَةُ [سورة الأعراف:30] ثم علل ذلك فقال: إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ اللّهِ الآية [سورة الأعراف:30] .

هذا المعنى الذي ذكره من أن الإنسان يولد على الفطرة وأن الآية تحتمل أن يرجع إلى ما كتب عليه من سعادة وشقاوة هو معنى كبير لذلك ينبغي للإنسان أن يكثر من دعاء ربه أن يثبته، فالقلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن، فإن الناظر إلى حال كثيرٍ من الناس يجد بعضهم قد نشأ في بيئة طيبة ومع ذلك ينتكس على عقبيه، ومن الناس من ينشأ في بيئة أسوأ ما يكون كأن يكون في أرض غربة ومع ذلك هو في غاية التهذيب والصلاح والاستقامة على دين الله  ومن الناس من يبقى مدة طويلة ربما عشرات السنين وهو يعلّم الناس الخير ويدعوهم إلى الاتباع والسنة، وفي غاية الثبات والقوة ثم يرجع إلى حال ربما كان الضعف في التدين أسهل منها، وذلك بأن يبتلى بالشبهات فيُلبس على الناس في دينهم ويرجع إلى أمور كان ينكرها فينظِّر لها ويستسيغها، فالناس في هذه الفتن يتقلبون ظهراً لبطن، والإنسان لا يأمن على نفسه ولذلك لا ينبغي أن يستشرف للفتن بل يسعه أن يقف في كثير من الأشياء دون أن يقحم نفسه فيها فيسلم له دينه وإيمانه، فإن وجد من يقبل منه حمد الله، وإلا فليزم بيته وليغلق عليه بابه، ولن يسأله الله : لماذا لم تخرج في القنوات الفضائية وتكون في مقدمة الناس دائماً؛ لأن حفظ رأس المال مقدم على كل شيء، فعلى الإنسان أن يبقى ثابتاً على مبادئه لا يتنازل عن شيء منها ويلقى الله على ذلك، فالعبد بحاجة إلى كثرة الدعاء والصبر والثبات، والله المستعان.

إن الإنسان لا يأمن على نفسه، ولقد رأينا أناساً طلبوا العلم وجدّوا فيه واجتهدوا غاية الاجتهاد، والآن إذا رأيت الواحد منهم ما عرفته من سواد وجهه، وقبح هيئته، وانسلاخه من كل ما يميزه؛ لأنه قد انحرف غاية الانحراف والفسوق، فمن الناس من ابتلي بالشهوات ومنهم من ابتلي بالشبهات، نسأل الله السلامة.

قال ابن جرير: وهذا من أبين الدلالة على خطأ من زعم أن الله لا يعذِّب أحداً على معصية ركبها أو ضلالة اعتقدها إلا أن يأتيها بعد علم منه بصواب وجهها فيركبها عناداً منه لربه فيها؛ لأنه لو كان كذلك لم يكن بين فريق الضلالة الذي ضل وهو يحسب أنه هادٍ وفريق الهدى فرق، وقد فرق الله تعالى بين أسمائهما وأحكامهما في هذه الآية الكريمة.

"إنَّ" مشعرة بالتعليل في قوله تعالى: إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ اللّهِ [سورة الأعراف:30] وتدل على التوكيد أيضاً، والمعنى لماذا كانوا كذلك أي فريقاً هدى وفريقاً حق عليهم الضلالة؟ الجواب: إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله ويحسبون أنهم مهتدون، ولذلك فابن جرير -رحمه الله- يقول: "هذا من أبين الدلالة على خطأ من زعم أن الله لا يعذب أحداً على معصية ركبها أو ضلالة إلا أن يأتيها بعد علم منه بصواب وجهها فيركبها عناداً منه لربه فيها" فهذه الآية رد على كثير ممن قد يتوقف أو يجادل عن الأتباع من أهل الضلال والبدع وذلك أنهم يقولون: هؤلاء يتدينون حقيقة ويبذلون أموالهم ويبكون في عبادتهم وعند صلاتهم وإنما قد يكون الزندقة في رؤسائهم وكبرائهم وأما هؤلاء الأتباع فمساكين وهم صادقون ويريدون الخير بأفعالهم!

ونحن نقول: لو قلنا بهذا لانجر هذا القول أيضاً إلى عوام اليهود وعوام النصارى وليس إلى أهل البدع فقط، لكن الله قد أخبر أن النار فيها الأتباع وفيها المتبوعون من الكبراء وقادة الشر والضلال والكفر كما سيأتي في الآيات القادمة حيث يتبرأ هؤلاء من هؤلاء، ويدعون الله أن يزيدهم ضِعفاً من العذاب، لذلك كان يجب على هؤلاء حينما سمعوا داعي الله وسمعوا القرآن أن لا يقلدوا غيرهم وأن لا يحسنوا الظن بكبرائهم وقادتهم بل هم مكلفون مسئولون، لكنهم حينما ألغوا عقولهم وجعلوا الآخرين يفكرون عنهم بالنيابة صاروا إلى هذه الحالة التي هي أسوأ من حالة الأنعام، فهم جعلوا انقيادهم لهؤلاء الكبراء وعندئذ يندمون حيث يقودونهم إلى النار، فالنار فيها أتباع وفيها متبوعون وهذه القضية لا بد أن تعرف لكن الله لا يعذب أحداً إلا بعد إرسال الرسل وبعد قيام الحجة وبلوغها، فبلوغ الحجة قال عنها النبي ﷺ: لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار[9] وأما قيام الحجة فذلك بأن يفهم منها ما يصلح لمثله وليس بالضرورة أن يفهم منها فهم علماء المسلمين كأبي بكر وعمر وإنما يكفي ما يصلح لمثله، أما أن يكابر ويقول: وجدنا الشيوخ على هذا، أو يحمله الغضب على المهاترة فيعبد قبر عبدٍ من عباد الله وإذا أنكر عليه قال: أنت تنكر كرامات الأولياء، فهذا قد قامت عليه الحجة ولا يلومنَّ إلا نفسه.

يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ [سورة الأعراف:31] هذه الآية الكريمة ردٌّ على المشركين فيما كانوا يعتمدونه من الطواف بالبيت عراة كما رواه مسلم، والنسائي، وابن جرير -واللفظ له- من حديث شعبة عن سلمة بن كهيل عن مسلم البطين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس -ا- قال: كانوا يطوفون بالبيت عراة الرجال والنساء، الرجال بالنهار والنساء بالليل، وكانت المرأة تقول: اليوم يبدو بعضه أو كله، وما بدا منه فلا أحله، فقال الله تعالى: خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ [سورة الأعراف:31].

وقال العوفي عن ابن عباس -ا- في قوله: خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ الآية [سورة الأعراف:31] قال: كان رجال يطوفون بالبيت عراة فأمرهم الله بالزينة، والزينة: اللباس وهو ما يواري السوءة، وما سوى ذلك من جيد البزّ والمتاع فأمروا أن يأخذوا زينتهم عند كل مسجد، وهكذا قال مجاهد وعطاء وإبراهيم النخعي وسعيد بن جبير وقتادة والسدي والضحاك، ومالك عن الزهري وغير واحد من أئمة السلف في تفسيرها: أنها نزلت في طواف المشركين بالبيت عراة، ولهذه الآية وما ورد في معناها من السنة يستحب التجمل عند الصلاة، ولا سيما يوم الجمعة ويوم العيد، والطيب؛ لأنه من الزينة، والسواك؛ لأنه من تمام ذلك.

الزينة تطلق على ما لا بد منه من اللباس وهو المعنى الذي نزلت فيه الآية -وهو ستر العورة- وتطلق أيضاً على ما هو أعم من ذلك، والشائع في استعمال الزينة أنها تقال لما كان زائداً عن القدر الضروري، فهذا البناء مثلاً القدر الضروري منه السقف والعمد والجدران، وما عدا ذلك فهو من باب الزينة وليس من الأمور الضرورية، وهكذا أيضاً ما يلبسه الإنسان، فالقدر الزائد عن الضرورة يقال له زينة، كالحلي مثلاً كما قال القائل:

وما الحلي إلا زينة من نقيصة تتمم من حسن إذا الحسن قصرا
أما إذا كان الجمال موفراً كحسنك لم يحتج إلى أن يزورا

 فالحلي يكمل النقص الذي في المرأة ولذلك فإن الرجل لا يحتاج إليه بل يكون نقيصة فيه، فلو أن رجلاً لبس الخلاخل والأساور وما أشبه ذلك من الحلي فإن ذلك يكون في غاية القبح في حقه؛ لأنه يكفيه جماله الطبيعي، وكل شيء له ما يناسبه، وعلى كل حال فالزينة تطلق على هذا وهذا، والآية نزلت في ستر العورات فهي رد على المشركين الذين كانوا يتقربون إلى الله ويتدينون بإبداء العورة عند الطواف ويرون أن هذا من القُرب؛ لأنهم كانوا يعتقدون أن غير الحمس إما أن يطوف بثوب جديد وبعد الطواف يلقيه في المطاف، ويسمونه اللقى يدوسه الناس بأقدامهم حتى يبلى، أو يستعير ثوباً من أحمسي، وكانوا يقولون: إنهم لا يطوفون بثياب عصوا الله فيها، فهم يتقربون إلى الله بهذا، فنهاهم عن هذا وقال: خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ [سورة الأعراف:31] أي بستر العورات، لكن لما كانت العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب فيقال: هو أمرٌ باتخاذ الزينة عند الصلاة مطلقاً فلا يصلي الإنسان بثوب النوم، ولا يصلي بسراويل أو نحوها مما لا يلقى به الناس، وقد جاء في الأثر أن مولى ابن عباس خرج معه وهو حاسر الرأس، فقال له: أين تريد؟ قال: إلى الصلاة، فاحتج عليه بهذه الآية حيث قال له: أتلقى الناس هكذا؟ قال: لا، قال: فالله أحق أن يتجمل له، فلا ينبغي للإنسان أن يجعل الله أهون الناظرين إليه بأن يتزين للناس إذا خرج وإذا صلى يصلي بهيئة يستحي أن يراه الناس فيها، وهكذا ينبغي التزين لصلاة الجمعة حيث كان النبي ﷺ يلبس لها لبساً خاصاً كما هو معروف، وهكذا الأعياد، وكذلك يدخل فيه ستر العاتقين لا يصلين أحدكم في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء[10] فالعاتق وإن لم يكن عورة إلا أنه يستر من باب كمال الزينة لقوله تعالى: خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ [سورة الأعراف:31].

ومعنى قوله تعالى: عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ [سورة الأعراف:31] يعني عند كل صلاة، أو موضع الصلاة.

ومن أفضل اللباس البياض كما روى الإمام أحمد عن ابن عباس -ا- مرفوعاً قال: قال رسول الله ﷺ: البسوا من ثيابكم البياض فإنها من خير ثيابكم وكفنوا فيها موتاكم، وإنّ خير أكحالكم الإثْمِد فإنه يجلو البصر وينبت الشعر هذا حديث جيد الإسناد، رجاله على شرط مسلم، ورواه أبو داود والترمذي وابن ماجه، وقال الترمذي: حسن صحيح[11].

أخذ الزينة له أثر في عبادة الإنسان وفي صلاته وفي إقبال ربه، فالثياب البيضاء لها أثر ينعكس على قلب العبد وعلى نفسه، وكذلك الطيب ينشرح له الصدر ويحصل للإنسان فيه انشراح كما ذكر ذلك الحافظ ابن القيم -رحمه الله- في زاد المعاد، أي أن مثل هذه الأمور الظاهرة تؤثر في باطن الإنسان فمن المعلوم أن هناك ملازمة بين الظاهر والباطن كما يذكر ذلك عند تفسير قوله تعالى: وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ [سورة المدثر:4] ولذلك إذا جئت بإنسان يعمل في محطة أو عامل بناء وقد اعتاد على تلويث الثياب والبدن وما أشبه ذلك، وأعطيته أنواع المنظفات وتنظف، وأعطيته ثياباً بيضاء وطيبته بأحسن الطيب فإنه سيجد أثر هذا في نفسه، وسيكون هناك فرق بين دخوله المسجد بثيابه الأولى وبين دخوله المسجد في الثياب الثانية، وكذلك يتغير حاله حتى خارج المسجد. 

وأذكر أني قرأت تقريراً عُمل في بعض السجون في أمريكا، حيث أخذوا المساجين وصاروا يأمرونهم بالاغتسال يومياً ويعطونهم ثياباً بيضاء نظيفة كل يوم فوجدوا تغيراً في سلوك المساجين، وهذا مشاهد، ولذلك انظر إلى نفسك حينما تسافر سفراً شاقاً ستشعر أنك بحاجة إلى أن تغير ملابسك وتصل إلى بيتك وأنت في غاية التثاقل ولا تحب أن يراك أحد، فإذا اغتسلت وتطيبت شعرت بالراحة والاطمئنان، وانظر إلى الحال في الحج وخاصة أيام شدة الحر فالإنسان ما يصل إلى يوم النحر وينتهي من الرمي ويحلق إلا وهو يشعر أنه في غاية الثقل، ويحتاج أن يغتسل ويغير ملابسه، فإذا اغتسل وجد خفة ونشاطاً وارتياحاً، ولذلك نقول: إن مثل هذه الأمور تؤثر في النفس، والناس يسألون كيف نخشع في الصلاة، وكيف نرتاح في الصلاة فنقول: جرب هذا الأمر وانظر الفرق، كذلك اغتسل قبل أن تذهب إلى العمل وقارن هذا اليوم بالأيام الأخرى، لا شك أنك ستجد أثر ذلك في نفسك.

وقوله تعالى: وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ الآية [سورة الأعراف:31] وقال البخاري: قال ابن عباس -ا: كل ما شئت والبس ما شئت، ما أخطأتك خصلتان: سرف ومخيلة.

وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال: حدثنا محمد بن ثور عن معمر عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس -ا- قال: "أحل الله الأكل والشرب ما لم يكن سرف أو مخيلة" إسناده صحيح[12].

وروى الإمام أحمد عن المقدام بن معد يكرب الكندي قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: ما ملأ ابن آدم وعاء شراً من بطنه، بحسب ابن آدم أكلات يقمن صلبه فإن كان فاعلاً لا محالة فثلثٌ طعامٌ وثلثٌ شرابٌ وثلث لنفسه[13] ورواه النسائي والترمذي وقال الترمذي: حسن، وفي نسخة: حسن صحيح.

يلاحظ أن هذه الآية خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ [سورة الأعراف:31] اشتملت على الأمر والنهي والإباحة وهذه الأمور هي التي يرجع إليها خطاب الشارع.

قوله: وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ الأمر هنا للإباحة، وأخذ منه بعض أهل العلم أن الزهد لا يكون في ترك الأكل والشرب وأخذ الزينة من اللباس وإنما الزهد معنىً في القلب، وهو أن تكون الدنيا في يده ولا تكون في قلبه، وهذا معنى وجيه، فكثير من الناس قد يكون في حالة من الرثاثة ويترك كثيراً من متاع الدنيا من مطاعمها ومشاربها وألوان اللباس الجيد، وهو يملك أموالاً طائلة أو يملك أموالاً قليلة لكن الدرهم أو الريال لا يخرج إلا وقد خرج معه قطعة من قلبه، فهذا لا يكون زاهداً، وتجده يترك كثيراً من اللباس والطعام الطيب لكن يتركه إما لأنه لا يجده أو يتركه لأنه بخيل، وإلا فإن النبي ﷺ كان يحب الحلوى والحلو البارد، وكان ﷺ يأكل الثريد -وهو أطيب الطعام- ويحب الطيب، ويقول: حبب إلي من الدنيا النساء والطيب[14] ومثل هذا كله من الطيبات.

فليس الزهد أن يترك الإنسان الزواج والتمتع بألوان الطيبات من المآكل والمشارب، وإنما الزهد ألا تدخل هذه الأشياء في قلبه، فهذه الأشياء قد يتعاطاها الإنسان وقد لا يتعاطاها فليس ثمة مشكلة، لكن المشكلة أن يكون القلب مشغولاً بها فإذا كانت تسيطر على قلبه وهي غالبة عليه فليس بزاهد وإن تركها، وما يفعله كثير من الناس ممن ينتسب إلى التصوف بلبس الصوف وترك الطيبات فهذا أمر لم يكن عليه النبي ﷺ ولا أصحابه وهم أزهد الناس - وأرضاهم- فالإنسان لا مانع من أن يركب مركباً جيداً وأن يلبس اللباس الجيد لكن لا يخرجه ذلك إلى الإسراف والخيلاء ولا يفعل ذلك مباهاة للناس، ولا يكثر من ذلك بحيث يكون ذلك صارفاً وملهياً له، وإنما ينبغي عليه أن يترك فضول هذه الأشياء؛ لئلا تشغل قلبه، وإلا فإن النبي ﷺ كان عنده ناقة يقال لها: القصواء وهي مما لا تكاد تسبق، فمثل هذه الأشياء لا تخرج الإنسان عن الزهد.

وكل إنسان له ما يناسبه أيضاً من اللباس والمراكب والمساكن وما أشبه هذا، فأهل العلم لهم ما يناسبهم ويجملهم فإن خرجوا منه إلى غيره فإن ذلك يكون إزراء بهم، وقد يحسن من غيرهم لكنه لا يحسن منهم، وهكذا كل إنسان له ما يليق به من مركب وثوب ومسكن وما أشبه هذا، وطالب العلم الذي يسكن في قصر هذا لا يليق به التوسع بهذه الصورة في البناء، وهكذا إذا لبس زِيّاً معيناً قد لا يكون لائقاً به وإن كان مباحاً فإنه لا يصلح لمثله فهذا يزري به، وهكذا إذا ركب مركباً لا يصلح لمثله فهذا يكون منقصة في حقه، وليس معنى ذلك أنه يتخذ الرديء من هذه الأشياء، لكن هناك أشياء لا تليق به ولا تناسبه، والله المستعان.

وقال عطاء الخرساني عن ابن عباس -ا- قوله: وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ [سورة الأعراف:31] في الطعام والشراب.

وقال ابن جرير: وقوله: إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ [سورة الأعراف:31] يقول الله تعالى: إن الله لا يحب المتعدين حدّه في حلال أو حرام، الغالين فيما أحل بإحلال الحرام أو بتحريم الحلال ولكنه يحب أن يحلَّل ما أحلّ، ويحرَّم ما حرّم، وذلك العدل الذي أمر به.

بذل المال في المحرم إسراف وإن كان ذلك قليلاً، وكذلك تضييع المال فيما لا فائدة فيه يعتبر إسرافاً وإن كان قليلاً، وهكذا إذا توسع الإنسان في المأكل أو المشرب أو الملبس أو نحو هذا فوق حاجته فهذا يعتبر من الإسراف، وهذا أيضاً يختلف الحكم فيه في بعض الصور من شخص إلى آخر، فقد يكون بالنسبة لهذا من الإسراف وبالنسبة لهذا ليس من الإسراف، بحسب حال الإنسان من الغنى والفقر، فهذا الإنسان الذي يشتري ساعة بألف وراتبه ثمانمائة ريال يعتبر مسرفاً، وإنسان آخر راتبه عشرة آلاف ويشتري ساعة بألف ليس من الإسراف، وكذلك من يملك الملايين إذا اشترى أثاثاً بخمسين ألف ريال ليس مسرفاً، أما من كان راتبه ألفاً ومائتي ريال ويشتري أثاثاً بخمسين ألف ريال فهذا يعتبر من الإسراف، والإنسان الفقير الذي يعيش على الصدقات ما إن يجتمع من دخله خمسمائة ريال إلا ويلبس عمامة من أفخر الأنواع، ويلبس نعلاً بحدود أربعمائة ريال، فهذا سفيه يحجر عليه، وكذلك الفقير الذي راتبه سبعمائة ريال وكلما ظهر نوع من الجوالات اشتراه، فهؤلاء يعتبرون مسرفين، وهذا يختلف من شخص إلى شخص، والله المستعان.

قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [سورة الأعراف:32].

يقول تعالى رداً على من حرم شيئاً من المآكل أو المشارب أو الملابس من تلقاء نفسه من غير شرع من الله: قل يا محمد لهؤلاء المشركين الذين يحرمون ما يحرمون بآرائهم وابتداعهم: مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ الآية، أي هي مخلوقة لمن آمن بالله وعبده في الحياة الدنيا وإن شرَكَهم فيها الكفار حباً في الدنيا فهي لهم خاصة يوم القيامة، ولا يَشْرَكهم فيها أحد من الكفار؛ فإن الجنة محرمة على الكافرين.

قوله تعالى: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ هذا استفهام إنكاري، والمعنى أن الطيبات من الرزق هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا ويشاركهم فيها غيرُهم من المشركين وغيرِهم، لكن الآخرة تكون خالصة للمؤمنين ينفردون بها لا يشاركهم فيها أحد، كما قال تعالى: وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ [سورة الزخرف:35] ويشهد لهذا المعنى أيضاً ما مضى في سورة البقرة لما قال إبراهيم ﷺ: وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فقال تعالى: وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [سورة البقرة:126]. 

فرزْقُ الله في الدنيا وعطاؤه لا يختص بالمؤمنين، ويشهد لهذا أيضاً قوله تعالى: كُلاًّ نُّمِدُّ هَؤُلاء وَهَؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُورًا [سورة الإسراء:20] وقد قال قبل هذا في السورة نفسها: مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا [سورة الإسراء:18] وقال في آية أخرى: مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ۝ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ [سورة هود:15-16] فهذا كله يؤيد ويشرح هذا المعنى، أي أنها في الدنيا يشترك فيها المؤمنون والكفار؛ فالدنيا لا تساوي شيئاً مما في الآخرة، وقد قال النبي ﷺ: لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء[15] فالدنيا للجميع، وأما الآخرة فهي خالصة للمؤمنين.

نسأل الله تعالى أن يجعلنا من المؤمنين الصادقين الفائزبن في الدنيا والآخرة، إن ربي قريب مجيب، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله النبي الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين.

  1. أخرجه البخاري في كتاب التفسير – باب تفسير سورة المائدة (4349) (ج 4 / ص 1691) ومسلم في كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها -باب فناء الدنيا وبيان الحشر يوم القيامة (2860) (ج 4 / ص 2194).
  2. أخرجه البخاري في كتاب التوحيد – باب قوله تعالى: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ [سورة الصافات:171] (7016) (ج 6 / ص 2713) ومسلم في كتاب القدر - باب كيفية الخلق الآدمي في بطن أمه وكتابة رزقه وأجله وعمله وشقاوته وسعادته (2643) (ج 4 / ص 2036).
  3. أخرجه البخاري في أبواب التهجد - باب تحريض النبي ﷺ على صلاة الليل والنوافل من غير إيجاب (1075) (ج 1 / ص 379) ومسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها - باب ما روي فيمن نام الليل أجمع حتى أصبح (775) (ج 1 / ص 537).
  4. أخرجه البخاري في كتاب القدر (ج 6 / ص 2433).
  5. أخرجه البخاري في كتاب القدر - باب الله أعلم بما كانوا عاملين (6226) (ج 6 / ص 2434) ومسلم في كتاب القدر- باب معنى كل مولود يولد على الفطرة وحكم موت أطفال الكفار وأطفال المسلمين (2658) (ج 4 / ص 2047).
  6. أخرجه مسلم في كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها - باب الصفات التي يعرف بها في الدنيا أهل الجنة وأهل النار (2865) (ج 4 / ص 2197)
  7. أخرجه مسلم في كتاب الطهارة – باب فضل الوضوء (223) (ج 1 / ص 203).
  8. أخرجه البخاري في كتاب التفسير – باب تفسير سورة الليل (4666) (ج 4 / ص 1891) ومسلم في كتاب القدر - باب كيفية الخلق الآدمي في بطن أمه وكتابة رزقه وأجله وعمله وشقاوته وسعادته (2647) (ج 4 / ص 2039).
  9. أخرجه مسلم في كتاب الإيمان - باب وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد ﷺ إلى جميع الناس ونسخ الملل بملة (153) (ج 1 / ص 134).
  10. أخرجه النسائي في كتاب القبلة - صلاة الرجل في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء (769) (ج 2 / ص 71) وأحمد (9981) وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (7726).
  11. أخرجه أبو داود في كتاب الطب - باب في الأمر بالكحل (3880) (ج 4 / ص 9) والنسائي في كتاب الزينة – باب في الكحل (5113) (ج 8 / ص 149) وابن ماجه في كتاب الطب-(باب الكحل بالإثمد (3497) (ج 2 / ص 1157) وأحمد (2219) (ج 1 / ص 247) وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (1236).
  12. أخرجه البخاري (ج 5 / ص 2180) عن ابن عباس ولفظه: "كل ما شئت والبس واشرب ما شئت ما أخطأتك اثنتان سرف أو مخيلة".
  13. أخرجه الترمذي في كتاب الزهد – باب ما جاء في كراهية كثرة الأكل (2380) (ج 4 / ص 590) والنسائي في السنن الكبرى في كتاب آداب الأكل- ذكر القدر الذي يستحب للإنسان من الأكل (6770) (ج 4 / ص 178) وأحمد (17225) (ج 4 / ص 132) وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب برقم (2135).
  14. أخرجه النسائي في كتاب عشرة النساء – باب حب النساء (3939) (ج 7 / ص 61) وأحمد (12315) (ج 3 / ص 128) وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (3124).
  15. أخرجه الترمذي في كتاب الزهد - باب ما جاء في هوان الدنيا على الله (2320) (ج 4 / ص 560) وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (5292).

مواد ذات صلة