الخميس 09 / شوّال / 1445 - 18 / أبريل 2024
(005-أ) من قوله تعالى (ومن أهل الكتاب من إن تأمنه..) الآية 74 – إلى قوله تعالى (وإذ أخذ الله ميثاق النبيين..) الآية 80
تاريخ النشر: ٢٦ / محرّم / ١٤٣٨
التحميل: 1034
مرات الإستماع: 1428

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين، أما بعد:

فاللهم اغفر لنا ولشيخنا والحاضرين والمستمعين، قال الإمام ابن جزي -رحمه الله تعالى- في قوله تعالى:

وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ [آل عمران:75]، الآية قال: إخبارٌ أن أهل الكتاب على قسمين: أمينٍ، وخائن، وذُكر القنطار مثالًا للكثير، وفي بقية النسخ: وذكر القنطار مثالًا للكثير، وفي بعض النسخ: وذِكر القنطار مثالٌ للكثير.

لا بأس على كل حال ذكر القنطار مثالًا للكثير.

فمن أداه أدى ما دونه، وذكر الدينار مثالًا للقليل، فمن منعه منع ما فوقه بطريق الأولى.

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقوله -تبارك وتعالى-: وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ [آل عمران:75]، هنا ظاهر كلام المؤلف أن هذا يشمل اليهود والنصارى أهل الكتاب، وحمله أبو جعفر ابن جرير، الحافظ بن كثير -رحمهم الله- على اليهود أن الحديث عن اليهود والقرينة في ذلك ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ [آل عمران:75]، هذه من مقالة اليهود، كانوا لا يرون غضاضةً وبأسًا بأخذ أموال الأميين يستحلون ذلك، هذا هو المعروف عن اليهود، هذا اللفظ ظاهره العموم وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ [آل عمران:75]، العموم من جهة شموله لليهود والنصارى، ولكن القرينة في الآية دلت على أنه من العام المراد به الخصوص، وأقصد بالعموم هنا أهل الكتاب، وإلا فإن من تبعيضية.

 قال: "وذِكر القنطار، أو وذَكَرَ القنطار" القنطار مضى بأنه المال الكثير، من قوله -تبارك وتعالى:- وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ [آل عمران:14]، المال الكثير دون تحديد يُقال له: قنطار، والدينار للقليل، يعني هذا الذي يؤتمن على القنطار فيؤديه من باب أولى سيؤدي ما دونه، وذاك الذي لا يؤتمن على دينار، ويحتاج صاحب الدينار أن يكون قائمًا على هذا اليهودي حتى يؤدي حقه، من باب أولى أنه لم يؤدّ ما فوق الدينار كالقنطار.

قوله: قائمًا يحتمل أن يكون من القيام الحقيقي بالجسد، أو من القيام بالأمر وهو العزيمة عليه.

هذا من جهة أن اللفظ يحتمل الغريم، لماذا قيل له ذلك؟ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا [الفرقان:65] اعتبار أنه يلازم هذا الذي يطلبه المال ملازمةً تامة، إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا، أي ملازمةً؛ لأن الغريم يلازم غريه ملازمة حسية، يتبعه أين ذهب، ولا يفارقه حتى يؤدي حقه بهذا الاعتبار، فقال: يحتمل أن يكون من القيام الحقيقي بالجسد، أو من القيام بالأمر فهو العزيمة، إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا [آل عمران:75]، يعني مطالبًا له، وإن لم يكن هناك ملازمة حسية جسدية، لكن لو أنك تركته وذمته فإنه لا يؤدي ولا يبالي بحقوق الناس.

قوله تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ [آل عمران:75] الإشارة إلى خيانتهم، والباء للتعليل.

التعليل يعني بسبب أنهم إنما جرأهم على ذلك، وأوقعهم فيه، هو هذا الاعتقاد الفاسد؛ لأنهم قالوا: لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ [آل عمران:75].

قوله تعالى: لَيْسَ عَلَيْنَا [آل عمران:75] زعموا بأن أموال الأميين، وهم العرب حلالٌ لهم.

نعم هنا العقائد الفاسدة التي عندهم في كتابهم: التلمود، أنهم يسمو الأمم الأخرى غير اليهود: الجُونِيم، يعني يقولون: هؤلاء أمم خلقها الله لليهود من أجل ركوبهم، يقولون: هم كالحمار، خلقوا لهذا الغرض؛ ليركبهم اليهود، فينبغي أن يكونوا كذلك جونيم.

قوله: الكذب، هنا قولهم: إن الله أحلها عليهم في التوراة، أو كذبهم على الإطلاق.

وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ [آل عمران:75] يعني حينما يقولون: لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ [آل عمران:75]، أن الحرج مرفوع فهذا استحلال؛ لأن الله أحل لهم أموال الأميين، فلا شك أن هذا افتراء على الله ، وكذبهم على الله يدخل فيه هذا ويدخل فيه غيره، كقولهم: يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ [المائدة:64]، وقولهم أيضًا بأن الله -تبارك وتعالى- لم يُحرم عليهم شيئا في التوراة كان مباحًا ليعقوب كما سيأتي إن شاء الله، وأكذبهم الله بهذا إلى غير ذلك من الأكاذيب على الله، وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى [البقرة:111]، يعني أن اليهود قالوا: لن يدخل الجنة إلا من كان يهوديًّا، والنصارى قالوا: لن يدخل الجنة إلا من كان نصرانيًّا.

قوله: بَلَى عليهم سبيل، وفي النسخ أي عليهم سبيلٌ وتباعةٌ في أموال الأميين.

هذا ليس بحلٍ لهم، بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ [آل عمران:76]، بلى من أوفى بعهده، الحافظ بن كثير -رحمه الله- يقول في معنى هذه الآية: بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ: "أي: لكن من أوفى بعهده منكم يا أهل الكتاب الذي عاهدكم الله عليه، من الإيمان بمحمد ﷺ إذا بعث، كما أخذ العهد والميثاق على الأنبياء وأممهم بذلك، واتقى محارم الله تعالى واتبع طاعته وشريعته التي بعث بها خاتم رسله وسيد البشر فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ"[1].

فالمعنى الذي ذكره ابن جزي -رحمه الله- بَلَى يعني يكون ذلك من قبيل الرد عليهم، يعني هم يقولون: أنهم ليس عليهم في الأميين سبيل، ويقولون على الله الكذب، فالله يقول: بَلَى بلى يعني عليهم سبيل، ليس كما قالوا وادعوا عليهم السبيل، بل عليهم سبيل وتبعه في أموال الأميين، لا تحل لهم بلى وعلى هذا تكون مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ تكن جملة استئنافية على هذا الاعتبار، لكن على قول ابن كثير -رحمه الله- أن بلى هنا بمعنى لكن، بلى من أوفى، لكن من أوفى بعهده، يعني بخلاف هؤلاء الخونة أوفى بعهده، يعني بخلاف هؤلاء الخونة الذين يستحلون الخيانة، وأخذ أموال الناس بالباطل، بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ [آل عمران:76]، أوفى بعهده الذي عاهد الله عليه، وأخذ الله منه العهد أخذ الميثاق على اللذين أوتوا الكتاب بالإيمان، بمحمد ﷺ ببيان الكتاب إلى غير ذلك مما يدخل بالعهد أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى [آل عمران:76]، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [المائدة:13]، فتكون هذه جملة واحدة بلى من أوفى بعهده واتقى فإن الله يحب المحسنين، يعني الذين يوفون بعهدهم، ويؤدون الحق الذي عليهم فإن الله يحب المتقين.

قوله: بِعَهْدِهِ [آل عمران:76] الضمير يعود على من، أو على الله.

بِعَهْدِهِ الضمير يعود على من، يعني من هؤلاء من أهل الكتاب، مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ يعني العهد الذي أُخذ عليه، تقل فلان أوفى بعهده، يعني العهد الذي تعلق به، أُنيط به، وأُخذ عليه، والمعنى الثاني: أن ذلك يرجع إلى الله، أَوْفَى بِعَهْدِهِ أي بعهد الله، أوفى بما عهد عليه الله، وهذا المعنى كما ترون يختلف عن الأول، لكن في المهل فإن ذلك يمكن أن يرجع إلى معنىً واحد، من أي جهة؟ من جهة أن هذا العهد المُشار إليه مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ يعني العهد الذي أُخذ عليه، فمن الذي أخذ عليه العهد؟ هو الله بهذا الاعتبار، ولكن قد لا يكون بهذا المعنى المنحصر بما ذكرت، يعني قد يكون العهد بينه وبين الناس، مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ يعني عهد هنا مفرد مضاف إلى المعرفة، الهاء الضمير والمفرد المضاف يعم من صيغة عموم، يعني من أوفى بعهوده هذا، إذا قُلنا: الضمير أن يرجع إليه هو صاحب العهد مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ يعني بعهوده مفرد مضاف بعهوده التي عاهد عليها ربه، والتي أخذ الله عليه بها العهد، والتي أيضًا بينه وبين الناس، بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ [آل عمران:76].

والمعنى الثاني: فمن أوفى بعهده أي في عهد الله الذي أخذه عليه، فهذه العهود كلها دل القرآن على أنه يجب الوفاء بها، والموفون بعهدهم إذا عاهدوا فهذا مدح وثناء من الله -تبارك وتعالى- على هؤلاء من أهل الوفاء لمُطلق العهود، موفون بعهدهم يعني مع الله ومع الناس، والعهد مع الله أثنى عليه أيضًا، كما في الآية: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ [الأعراف:172]، هذا من العهود، والآية إذا كانت تحتمل معنيين، وكل معنى منها دل عليها دليل من القرآن ومن السنة، فيمكن أن تُحمل الآية على هذه المعاني؛ لأن حملها على واحدٍ منها يكون من قبيل التحكم، يعني من غير دليل، هذا المعنى ليس بخصوص هذه الآية، لكن يذكره ابن جرير كثيرًا، والشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله- ينص على هذه القاعدة[2]، ويرددها في كتابه فيما يحتمل من المعاني.

وابن جرير قد لا يذكرها بنصها، لكنه يذكر مؤداها في المواضع التي تحتمل معنيين، لا سيما إذا دل دليلٌ على صحة كلٍّ من هذه المعاني، فلا تُحمل على واحدٍ منها دون الآخر؛ لأن ذلك من قبيل التحقق، والقرآن يعبر به بالألفاظ القليلة الدالة على المعاني الكثيرة، قد أوفى بعهده بعهد الله عليه، وأوفى أيضًا هو بما عليه من عهود لله وللناس، وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم، وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا [النحل:91].

قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُوْلَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ [آل عمران:77]، الآية قيل نزلت في اليهود؛ لأنهم تركوا عهد الله في التوراة لأجل الدنيا[3]، وقيل: نزلت بسبب خصومةٍ بين الأشعث بن قيس وآخر، فأراد خصمه أن يحلف كاذبًا[4].

قوله في نزول هذه الآية: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُوْلَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ، يقول: "نزلت في اليهود؛ لأنهم تركوا عهد الله في التوراة؛ لأجل الدنيا" هذا جاء عن عكرمة: نزلت في اليهود وهو مرسل، ومضى في بعض المناسبات أن قولهم: نزلت في كذا؛ لأن ذلك قد لا يُقصد به سبب النزول؛ لأنه غير صحيح، وإنما يقصدون التفسير، فهذه الرواية عن عكرمة هي من جهة الإسناد لا تصح، ومن جهة الصيغة ليست بصريحة في سبب النزول، فقد يكون إنما أراد المعنى التفسير أنها نازلة في اليهود، لا أنها سبب النزول لواقعة معينة؛ لأن سبب النزول هو ما نزلت الآية متحدثةً عن أيام وقوعه من واقع، أو سؤال فقوله: نزلت في اليهود، يعني إن الآية تتحدث عن اليهود كغيرها من الآيات التي تحدثت عنهم، يعني كقوله -تبارك وتعالى-: وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ [الأعراف:171].

هذه ليس لها سبب نزول بالمعنى المعروف، ونزلت الآية، أو الآيات متحدثةً عنه أيام وقوعه، الآيات التي تتحدث عن أصحاب الفيل: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ [الفيل:1]، لا يُقال: سبب النزول هو مجيء أبرهة، قصص الأنبياء ونحو ذلك، لا يُقال: إنها سبب النزول، إنما سبب النزول ما نزلت الآية بسببه من واقعة، أو سؤال يعني سبب نزول مثلًا: صدر سورة الأنفال وما وقع في بدر، الاختلاف على الغنائم ونحو ذلك، هذا سبب النزول فالمقصود أن هذه الرواية لا من جهة الإسناد تصح، ولا من جهة الصيغة، فهي غير صريحة فلا تعتبر هذه في جملة أسباب النزول والله أعلم.

قال: "نزلت في اليهود؛ لأنهم تركوا عهد الله في التوراة لأجل الدنيا" الحافظ ابن كثير -رحمه الله- يقول: "إن الذين يعتاضون عما عاهدهم الله عليه، من اتباع محمد ﷺ وذكر صفته الناس وبيان أمره، وعن أيمانهم الكاذبة الفاجرة الآثمة بالأثمان القليلة الزهيدة، وهي عروض هذه الدنيا الفانية الزائلة"[5]، يعني إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ [آل عمران:77]، يعني الحلف، ثَمَنًا قَلِيلًا [آل عمران:77]، ثَمَنًا قَلِيلًا [آل عمران:77] هو ما يأخذونه من الدنيا ولو كان بالقناطير، يعني كل ما يؤخذ من هذه الحياة الدنيا مقابل كتمان الحق، أو تبديله فهو ثمنًا قليلًا، فهذه في اليهود، فحينما يُقال: نزلت في اليهود، يعني هي تتحدث عنهم، ليس المقصود سبب النزول؛ لأن الذين كانوا يفعلون هذا هم اليهود، إن كانوا يجاورون النبي ﷺ في المدينة، فكانوا يكتمون صفته ويبدلون ذلك، ويجدون صفته أنه أبيض مُشرب بحُمرة، وأنه ربعة من الرجال، فيقولون: إنه طويلٌ بائن الطول آدم ونحو ذلك، يعني فيه سُمرة ويغيرون الصفات، ويكتمون ما عندهم في كتابهم من الشواهد والدلائل على صفته ومبعثه ومهاجره وما إلى ذلك.

"وقيل: نزلت بسبب خصومة بين الأشعث بن قيس وآخر، فأراد خصمه أن يحلف كاذبًا"، الرواية بلفظها عن عبد الله بن مسعود قال: من حلف على يمينٍ يستحق بها مالًا وهو فيها فاجر، لقي الله وهو عليه غضبان، فأنزل الله تصديق ذلك: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا [آل عمران:77]، الآية ثم إن الأشعث بن قيس خرج إلينا، فقال: "ما يحدثكم أبو عبد الرحمن، -ابن مسعود كان يحدث أصحابه- ما يحدثكم أبو عبد الرحمن، قال: فحدثناه، قال: فقال: صدق لفيّ والله أُنزلت، كانت بيني وبين رجلٍ خصومة في بئر، فاختصمنا إلى رسول الله ﷺ فقال رسول الله ﷺ: شاهداك، أو يمينه، يعني يقول للأشعث: شاهداك إن البئر لك، أو يمينه يحلف، قُلت: إنه إذًا يحلف ولا يبالي، فقال رسول الله ﷺ: من حلف على يمينٍ يستحق بها مالًا، هو فيها فاجر، لقي الله وهو عليه غضبان، فأنزل الله تصديق ذلك، ثم اقترئ هذه الآية: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا [آل عمران:77]، هنا مجرد قول قرأ ليس بصريح لسبب النزول، لكن حينما قال: فأنزل الله فيكون قوله: فقرأ، كالبيان للمنزل في هذه المناسبة، فقرأ قراءة ما أُنزل عليه فيها، وهذا مُخرج في الصحيحين[6].

وفي روايةٍ قال رسول الله ﷺ: من حلف على يمينٍ وهو فاجر، ليقتطع بها مال امرئ مسلم، لقي الله وهو عليه غضبان، فقال الأشعث بن قيس: فيّ والله كان ذلك، كان بيني وبين رجلٍ، -لاحظ الزيادة هنا- من اليهود، فجحدني فقدمته إلى النبي ﷺ فقال لي رسول الله ﷺ ألك بينة؟ قال يعني الأشعث لا، قال فقال اليهودي: احلف، قال: قُلت: يا رسول الله إذًا يحلف ويذهب بمالي، قال: فأنزل الله: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ [آل عمران:77]، لاحظ فقرأ بعد فأنزل، الاحتمال قائم أنه قرأها وأُنزل غيرها، لكن هنا هذا صريح في الذي أُنزل هو هذه الآية بعينها جمع الروايات يوضح ما قد يكون محتملًا من الألفاظ، هذه الرواية في الصحيحين، لكن اللفظ الأخير عند البخاري[7].

وجاء عن عبد الله بن أبي أوفى -ا- أن رجلًا أقام سلعةً وهو في السوق، وحلف بالله لقد أُعطي بها ما لم يُعط، يعني إنها ميسومة بكذا كذبًا، يوقع فيها رجلًا من المسلمين، يعني ليغتر يقول: طُلبت مني بكذا سيمت بكذا، فنزلت: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا [آل عمران:77]، فهذه رواية في البخاري[8].

فصار عندنا رواية عن عكرمة أنها نزلت في اليهود، العبارة غير صريحة والراوية ضعيفة، وهي لا تنافي الرواية الأخرى عن ابن مسعود أنها نزلت لما قال الأشعث ما قال، فيكون الثابت الصحيح، أو أنها نازلة في الأشعث، وأيضًا ما جاء في حديث عبد الله بن أبي أوفى، من أنها نزلت في الرجل الذي أقام السلعة وحلف أنه أُعطي بها كذا وكذا، ففي مثل هذه الحالات يعني لما يتعدد سبب النزول والروايات، هنا في الصحة كما ترون في الصحيح في البخاري في الصحيحين، ماذا يُقال؟

يُقال: إن كان ذلك، لا نعرف متى نزلت، إن كان ذلك وقع في وقتٍ متقارب فالآية نزلت بعد الواقعتين، حصل هذا وهذا في وقتٍ متقارب فنزلت الآية كلاهما سبب النزول، وإذا كان الوقت متباعدًا هذا يحتمل، وتكون الآية نزلت مرتين مرة بسبب الأشعث واليهودي، ومرة بسبب هذا الرجل الذي أقام سلعته، ولا مانع من تعدد النزول، لكن يبقى في المؤدى والمآل، نتيجة أن هذا وهذا هو سبب نزول الآية، أن الجميع هو سبب النزول، ولا تحتاج إلى ترجيح وهذه الروايات في غاية الصحة، والله أعلم.

قوله: وَإِنَّ مِنْهُمْ الضمير عائد على أهل الكتاب.

هنا عمم مع أن هذا معروف أنه من فعل اليهود، وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ [آل عمران:78]، كانوا يجاورون النبي ﷺ ويفعلون ذلك، ولهذا حمله الحافظ بن كثير -رحمه الله- على أن ذلك في اليهود[9].

يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ [آل عمران:78] أي يحرفون اللفظ أو المعنى.

 يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ [آل عمران:78] يعني يقلبون ألسنتهم بالتحريف والزيادة، وأصل اللي فتل الحبل، وإمالة الشيء قال: لوا عنقه، ونحو ذلك يعني يميلون ألسنتهم بالكتاب، يقلبون ألسنتهم ونحو ذلك.

قال: "أي: يحرفون اللفظ أو المعنى" وهذا كله واقع منهم بلا شك، بل فسره جماعة من السلف بالتحريف، يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ [آل عمران:78] يعني محرفين له، جاء عن أن عباس، ومجاهد، والشعبي، والحسن قتادة، والربيع[10] كل هؤلاء يقولون: بأن المراد التحريف يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ [آل عمران:78] أي يحرفون اللفظ أو المعنى، الواقع أنهم يحرفون الألفاظ، ومن باب أولى يجترئون على المعاني فيحرفونها، لكن لي اللسان في الكتاب مثل هذا، قد يصدق بصورةٍ أوضح على تحريف الألفاظ، ولا شك أنهم يحرفون الألفاظ والمعاني لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ، فهذا يُشعر بأنهم كانوا يحرفون اللفظ ليضيفون إلى الكتاب ما ليس فيه، ليُظن أنه من الكتاب.

قوله: لِتَحْسَبُوهُ [آل عمران:78]، الضمير يعود على ما دل عليه قوله: يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ، وهو الكلام المحرف.

ذكر الواحدي: بأن أكثر المفسرين على أن هذه الآية نزلت في اليهود[11]، وكتمانهم أمر محمد ﷺ يعني التبديل الذي حصل في صفة النبي ﷺ وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ [آل عمران:78]، فهذا قول أكثر المفسرين، واليهود فعلوا هذا وغيره، يعني كان من ضمن التحريف ما يتعلق بصفة النبي ﷺ وكذلك حرفوا غيره مما في كتابهم، فلم يقتصر التحريف على هذا، بل حرفوا أيضًا فيما يتعلق بأخبار الأنبياء -عليهم السلام- وكذلك ما يتعلق بخبرهم، وما فعل الله بهم، وكذلك أيضًا ما يتصل بالأحكام والتشريعات.

قوله: مَا كَانَ لِبَشَرٍ [آل عمران:79] هذا النفي متسلط على ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ والمعنى: لا يدعي الربوبية من آتاه الله النبوءة، والإشارة إلى عيسى ردّ على النصارى الذين قالوا: إنه الله، وقيل: إلى محمد ﷺ لأن اليهود قالوا: يا محمد: تريد أن نعبدك كما عبدت النصارى عيسى؟ فقال: معاذ الله ما بذلك أمرت، ولا إليه دعوت[12].

مَا كَانَ لِبَشَرٍ [آل عمران:79] هذا يقول النفي متسلط على، ثم يقول للناس يعني ما كان لبشرٍ من صفته، ما ذُكر أن يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ [آل عمران:79]، لا يمكن لبشر يوحى إليه ويؤتى الكتاب، ثم بعد ذلك يطالب الناس بعبادته من دون الله وهنا لقوله: "بأن ذلك رد على النصارى" حيث ادعوا إلهية المسيح هذا داخل فيه، وما ذكره من أن ذلك فيما روي عن اليهود، أنهم "قالوا: يا محمد: تريد أن نعبدك كما عبدت النصارى عيسى؟" هذا لا يصح جهة الإسناد هذا أخرجه البيهقي في الدلائل، وابن جرير في التفسير، وفي سنده محمد بن أبي محمد، هذا لا يصح.

لكن هذه الآية عامة ما كان لبشرٍ من صفته ما ذُكر يوحي الله إليه يكون نبيًّا، ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ [آل عمران:79]، فهذا فيه رد على النصارى ورد على اليهود عمومًا، وأيضًا بيان لحقيقة ثابتة، وهي: أن مثل هذا لا يتأتى ولا يكون بحالٍ من الأحوال.

قوله: رَبَّانِيِّينَ جمع رباني، وهو العالم، وقيل: الرباني الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره.

يعني يقول لهم: وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ [آل عمران:79]، يقول: "جمع رباني، وهو العالم، وقيل: الرباني الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره" العبارات الثلاث في الرباني عبارات متقاربة، يمكن من مجموعها أن يُفسر الرباني، فهو منسوب إلى الرب، وهذه اللفظة فيها معنى التربيب والتربية، ولذلك من معاني الرب: أنه الذي يربي خلقه بالنعم الظاهرة، والباطنة، والحسية، بما يغذيهم به في أجسادهم، والنعم التي يفيضها على الأرواح في الوحي، وزال الكتاب وما إلى ذلك، الهدايات، والألطاف الربانية، فهنا كونوا ربانيين، كبارات أهل العلم علماء، حكماء، حلماء، مخلصين للرب، متعبدين له، معلمين الناس، تربونهم بصغار العلم قبل كباره، كل هذا داخلٌ فيه فإن الرباني لا يكون كذلك، إلا أن يكون مستجمعًا لأوصاف لابد منه رباني، فلابد أن يكون عالمًا، فهذا هو الوصف الأول، فإن الجاهل لا يكون ربانيًّا، ولابد فيه من الإخلاص، وهو منسوب إلى الرب، يعني أن أمره لله، ولا يجلس للناس ويتصدر من أجل أخذ دنياهم، يأخذ أجرة على هذا بطريقة أو بأخرى، يتكسب بالدعوة إلى الله هذا لا يكون ربانيًّا، وكذلك حينما يكون مطلوبه ومقصوده هو العلو في الأرض، أو ذيوع الصيت، حصول الجاه والشهرة، أو التعظيم في قلوب الناس وما إلى ذلك، هذا لا يكون ربانيًّا هذا مرائيًا.

والحديث: أول من تُسعر بهم النار يوم القيامة ثلاثة[13]، وذكر منهم العالم، أو القارئ الذي قرأ ليُقال ذلك، فهذا أبعد ما يكون عن صفة الرباني، فلابد أن يكون عالمًا، ولابد أن يكون مخلصًا، ولابد أن يكون حكيمًا: لأن الإنسان قد يكون من أوعية العلم، ولكنه أحمق لا يصلح لتوجيه الناس، ولا يصلح أن يرجع إليه الناس فيما نابهم؛ لأنه لا يكون موفقًا مسددًا فيما يرشدهم إليه، ليس بحكيم قد يحملهم على أمورٍ لا تُحمد عواقبها في عجلة، في طيش، في خفة، فالعلم غير العقل، والحلم قد يكون عالمًا، لكن لا عقل له.

فالعلم غير العقل وغير الذكاء، أيضًا قد يكون من أذكياء العالم، لكن لا عقل له يحمل عقل خفيف كعقل الطير، أو كخفة الطير، فهذا لا يكون ربانيًّا، كذلك لا يكون ربانيًّا وهو جاف من جهة التعبد، والذكر لله وإنما يحمل علمًا يمارسه ويزاوله مزاولة أصحاب المهن، يعني بعض الناس يفعل هذا؛ لأنه هذه وظيفته التي يكتسب منها، قد يكون حاذقًا في العلم متقنًا له، ولكن هي وظيفة يؤديها إما تحقيق، محقق للكتب مثلًا عُرف بهذا، أو كان معلمًا يعلم الناس كوظيفة يؤديها يأخذ عليها المال، وقد يكون ذلك هواية من الهوايات التي يزاولها، يعني من الناس من يكونوا من قبيل الهواة، تجد الرجل لا سمت له حليق وربما مدخن، وهو مغرم بالتراث، لا تسأله عن: مخطوط، ولا مطبوع، ولا طبعات قديمة، ولا طبعات حديثة، إلا وجدته موسوعة في هذا، وربما يعرف ما يتعلق بهذه الكتب، أو بعض الطرائف، أو بعض اللطائف، أو بعض النكات، أو نحو ذلك في الجزء، والصفحة يستخرجها من الكتب، ويقرأ لربما آلاف المجلدات، وهو في يومه وليلته لربما يقرأ ستة عشرة ساعة وأكثر، وهو عاكف على البحث والمطالعة والقراءة، ولكن إذا نظرت إلى العمل أبعد ما يكون عن هذا، فهذا لا يكون ربانيًّا، هذا موجود لا يكون ربانيًّا، بل إن بعضهم أحد المحققين لا يصلي بشهادة أخيه المحقق الكبير الآخر، يقول بعض من حضر معهم: أردنا أن نصلي، بمكانهم يصلون بعضهم لا يصلي مع الجماعة أصلًا، فيقول: أقمنا الصلاة، وهذا جالس فقُلت: هذا لا يصلي معنا، فقال كلمة صعب أن تُقال في هذا المكان، أخوه قال عنه كلمة محقق، فمن الناس من يتخذ هذه وسيلة للتكسب، ومنهم من يتخذها وسيلة للشهرة، ومنهم من يتخذ ذلك يكون من قبيل الهوايات والميول؛ لأن عنده رغبة جامحة وميول قوية لهذا، كأنه خُلق له هو لا يتكلفه، لكن العمل بمنأى تمام عن هذا.

وأحد هؤلاء لما أنكر عليه أحدهم، حينما بدأ يدخن، شتمه وسبه وشتم أسرته التي ينتمي إليها، وهذا من أكبر المحققين، فهذا لا يكون ربانيًّا، هؤلاء لا يكونوا ربانيين أبدًا، وإنما يكون ذلك أشبه ما يكون بالمهن التي يزاولها الناس مهنة، ثم ينتهي وينتهي ذكره، ولا يكون له وقع في نفوس الناس، إذا نظرت إلى الأعمال والكتب والتحقيقات، ونظرت لهيئة الإنسان بعيد عن التدين أصلًا.

ومن صفات الرباني كذلك في التعليم تعلمون الناس صغار العلم قبل كباره، وهو عائدٌ إلى الحكمة، والذي يعلم الناس ينبغي أن يكون يعلمهم ما يعلم، يعلمهم بعلم لا يعلمهم بجهل وهذه بلاغة عن الله وليست بالأمر السهل، فيدخل فيها التعليم، ويدخل فيها العقل والحلم والحكمة والإخلاص لله .

وابن جرير -رحمه الله- يقول: بأنه من منسوب إلى الربان أو إلى الربِّ[14]، لاحظ عبارة ابن جرير يقول: فهو الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره، أو هم أرباب العلم، أو العالم بدين الرب، يعني العالم بدين الرب، يعني العالم الشرعي القوي المتمسك بطاعة الله[15].

وابن جرير -رحمه الله- له كلام أكثر من هذا أيضًا، ذكر فيهم أنهم الذين يرجع إليهم الناس فيما نابهم، أي: أنهم يسوسون الناس بهذا العلم، وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ [آل عمران:79].

فهذا يكون لمن تحقق بمجموع هذه الأوصاف، حتى صار مرجعًا للناس فيما نابهم، فيجدون من العلم والحكمة وحسن التوجيه والتعليم، كلٌ بحسبه فهذا هو الرباني، والله تعالى أعلم.

قوله: بِما كُنْتُمْ الباء سببية وما مصدرية.

بِما كُنْتُمْ يعني بسبب كونكم تُعلمون الكتاب، أو تَعلمون الكتاب، وما مصدرية يعني بهذا الاعتبار يكون بما كنتم، أي: بكونكم؛ نصوغ المصدر أنه: ولكن كونوا ربانيين بكونكم تُعلمون الكتاب، أو تَعلمون الكتاب.

تُعَلِّمُونَ بالتخفيف تعرفون، وقرئ بالتشديد من التعليم.

قراءة أبي عمرو وأهل المدينة بالتخفيف: تَعلمون، والكتاب كما تعلمون على قراءة نافع المدني، وجاء بها هنا بما كنتم تَعلمون الكتاب، قراءة الجمهور بالتشديد بما كنتم تُعلمون.

قال: من التعليم يعني بسبب تعليمكم، وعلى القراءة الأولى بما كنتم تعلمون، أي بسبب كونكم عالمين، فإن حصول العلام للإنسان تحققه بالعلم والدراسة له، بما كنتم تدرسون يتسبب عنها الربانية التي هي التعليم للعلم، ومع صلاح الحال والتمسك بمقتضى ذلك، فالقاعدة: أن القراءتين إن كان لكل قراءةٍ معنى فهما كالآيتين، فقوله هنا: بما كنتم تَعلمون الكتاب، يعني كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب، فدل على أن العلم بالكتاب هو أساس في الربانية، أن يكون عالمًا في الكتاب، وينبغي أن يكون العلم بالكتاب حاملا ًعلى هذا الوصف أن يتحقق صاحبه بذلك، أن يكون ربانيًّا، وبما كنتم تُعلِّمون الكتاب على هذه القراءة المتواترة، بما كنتم تُعلمون الكتاب، فينبغي أن يكون تعليم الكتاب حاملًا على هذا الوصف، ولا يكون ذلك وظيفة يؤديها الإنسان ويتقاضى عليها مالًا، ثم لا يكون حاله مما يتفق مع هذا الاشتغال، والله المستعان.

فبما كنتم تَعلمون الكتاب، وبما كنتم تُعلمون الكتاب، كل ذلك ينبغي أن يكون سببًا للتحقق بهذا الوصف، يعني تُعلمون الكتاب وهذا يتضمن علمكم به، هم يعلمون بعد ما علموا.

قوله: وَلا يَأْمُرَكُمْ بالرفع: استئناف، والفاعل الله، أو البشر المذكور، وقُرئ بالنصب عطفٌ على أن يؤتيه، وفي نسخة عطفًا على أن يؤتيه، أو على ثم يقول: والفاعل على هذا البشر.

"وَلا يَأْمُرُكُمْ بالرفع: استئناف، والفاعل الله أو البشر المذكور يعني: مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ [آل عمران:79]" وكأن هذا والله أعلم أقرب، وَلا يَأْمُرَكُمْ هو لأن القاعدة: أن التوحيد مرجع الضمائر أولى من تفريقها، مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ [آل عمران:79]، وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا [آل عمران:80]، يعني يكون هذا من صفته أنه لا يدعي لنفسه الإلهية، ولا أيضًا يأمركم بحال من الأحوال أن تتخذوا أحدًا غير الله من الملائكة والنبيين أربابًا من دون الله، إنما يدعوا إلى عبادة الله وحده.

فيقول: "بالرفع استئناف" يعني جملة جديدة، "وقُرئ بالنصب عطفٌ على أن يؤتيه".

وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا [آل عمران:80]، "أو على ثم يقول والفاعل على هذا البشر" يعني: مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ [آل عمران:79] فيكون العطف على هذا الاحتمال الأول، أو على ثم يقول: مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ [آل عمران:79]، يعني على الأول وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا [آل عمران:80] هذا يقول إنه معطوف على أَنْ يُؤْتِيَهُ [آل عمران:79]، وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا [آل عمران:80]، ثم يقول: مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ [آل عمران:79]، ثم يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا [آل عمران:80]، فيكون عائدًا على هذا، أو هذا والثاني أقرب والله أعلم، ثم يقول للناس: أن يكون هذا موضع الارتباط أن يكون معطوفًا على: ثُمَّ يَقُولَ [آل عمران:79]؛ لأن الأوصاف المذكورة قبله تمنع من وقوعه، وهذا أقرب والله اعلم.

وعلى قراءة الرفع تكون جملة استئنافية، يعني لا ترتبط بما سبق، وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ [آل عمران:80]، وعلى هذه القراءة أيضًا الأقرب والله أعلم أن ذلك يرجع إلى هذا الموصوف، نفى عنه ادعاء الإلهية لنفسه، وأن يُعبد من دون الله، أو أن يرشد إلى عبادة أحدٍ سوى الله -تبارك وتعالى- إنما يكون داعيًا إلى الله وحده، -والله أعلم-.

قوله: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ [آل عمران:81] معنى الآية: أنّ الله أخذ العهد والميثاق، على كل نبيّ أن يؤمن بمحمد -صلّى الله عليه وآله وسلّم- وينصره إن أدركه.

 هذا وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ [آل عمران:81]، فهذا يحتمل أن يكون الإيمان بمحمد -صلّى الله عليه وآله وسلّم- أخذ عليهم العهد والميثاق أن يؤمنوا به إذا بُعث، وهذا اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- ونسبه إلى الجمهور[16]، الميثاق والعهد بالإيمان بالنبي -صلّى الله عليه وآله وسلّم- وبنصره أن ينصره بصرف النظر عن وقت أخذ هذا الميثاق، يحتمل كما قال ابن عطية -رحمه الله- "هذا الميثاق حين أخرج بني آدم من ظهر آدم نسما، ويحتمل أن يكون هذا الأخذ على كل نبي في زمنه ووقت بعثه"[17]، وكأن هذا أقرب؛ لأن الميثاق الأول الذي استخرجهم كهيئة الذر من ظهر آدم هو وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ [الأعراف:172]، وفي هذا، وعلى كل حال.

وقوله: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ [آل عمران:81]، يعني على هذا إذا قُلنا: أنه أخذ الميثاق، لاحظ: صيغة الجمع لَمَا آتَيْتُكُمْ كأن هذه القرينة هي التي حملت البعض، بعض العلماء على القول بأن ذلك حينما استخرجهم من ظهر آدم كهيئة الذر؛ لأنه خاطب مجموع، لَمَا آتَيْتُكُمْ، لكن الذين يقولون: إن ذلك يمكن أن يكون لكل نبيٍ في زمنه فيه، طيب كيف جاءت اللفظة لَمَا آتَيْتُكُمْ؟ قالوا: باعتبار المجموع، فكل واحدٍ منهم لما آتيتك من كتابٍ وحكمة، لكن لما حدّث عن مجموعهم فجمع اللفظ في حكاية الحال، وذهب جماعة من السلف وهو مروي عن عليٍ وابن عباس : أن المراد الإيمان بالنبي ﷺ كما سبق[18]، لكن ذهب بعضهم -بعض السلف- إلى أن ذلك كطاووس، قتادة، والحسن، إلى أن يصدق بعضهم بعضًا[19]، يعني إن أُخذ عليهم الميثاق، أنه إذا بُعث نبي في زمنك أدركته أن تصدقه وأن تنصره.

الواقع أن بين المعنيين ملازمة كما قال الحافظ ابن كثير[20] يعني: لا نحتاج أن نُرجح، فإذا كان الله -تبارك وتعالى- قد أخذ عليهم الميثاق أنه إذا بُعث نبي في زمنه أن ينصره، فلو بُعث النبي ﷺ في زمنه فهو مأمورٌ بالإيمان به ونصره، فذلك داخلٌ فيه، فالنبي ﷺ من جملة الأنبياء، فهو داخلٌ في هذا أن يصدق بعضهم بعضًا، وأن ينصر بعضهم بعضًا، وهذا أوفق.

لكن الذين قالوا كشيخ الإسلام وأضاف إلى الجمهور، بأن ذلك في النبي ﷺ خاصة، يمكن أن يُقال والله أعلم هذا، كأنهم اعتمدوا على أن هذا تفسير صحابي، والآخر من قول التابعي، وتفسير الصحابي مقدم على غيره، ولو كان ظاهر السياق لا يدل عليه، تفسير الصحابي مقدم على غيره باعتبار أنهم أعلم بالقرآن ومعانيه، وهم أعلم بما نزل، فهذا لا شك أنه مبني على أصل صحيح: هو تقديم قول الصحابي على غيره، أن يكون بهذا الاعتبار وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ [آل عمران:81]، والحمل على النبي ﷺ في هذا الاعتبار، تفسير صحابي، لكن قد لا ينفي ذلك أخذ الميثاق عليهم بالإيمان بكل نبيٍ يُبعث في زمانهم، وبنو إسرائيل كان الأنبياء فيهم كُثر في الوقت الواحد، يعني كان يسوسهم الأنبياء هذه الأمة انقطعت النبوة، فلا نبي بعد النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- فتسوسهم العلماء، لكن بنو إسرائيل كان يسوسهم الأنبياء، حتى إنهم قتلوا في يومٍ سبعين نبيًّا، هذا يدل على الكثرة، يحيى وعيسى -عليهم السلام- كانا في وقتٍ واحد، يقولون: بينهما ستة أشهر، يعني إن يحيى أكبر من عيسى بستة أشهر.

 قال: وتضمن ذلك أخذ هذا الميثاق على أمم الأنبياء.

إذا أُخذ الميثاق على الأنبياء أن يؤمنوا، فهم مطالبون أيضًا بالبلاغ، وأن يكون أتباعهم على هذا الميثاق ولابد، والله أعلم.

  1. تفسير ابن كثير ت سلامة (2/62).
  2. أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (1/312).
  3. تفسير البغوي (2/57).
  4. أخرجه البخاري في مواضع متعددة منها: في كتاب المساقاة، باب الخصومة في البئر والقضاء فيها، برقم (2356)، وبرقم (2676)، في كتاب الشهادات، باب قول الله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ [آل عمران: 77]، ومسلم، كتاب الإيمان، باب وعيد من اقتطع حق مسلم بيمين فاجرة بالنار، برقم (138).
  5. تفسير ابن كثير (2/62).
  6. أخرجه البخاري، كتاب الرهن، باب إذا اختلف الراهن والمرتهن ونحوه، فالبينة على المدعي، واليمين على المدعى عليه، برقم (2515)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب وعيد من اقتطع حق مسلم بيمين فاجرة بالنار، برقم (138).
  7. أخرجه البخاري، كتاب الخصومات، باب كلام الخصوم بعضهم في بعض، برقم (2416).
  8. أخرجه البخاري، كتاب البيوع، باب ما يكره من الحلف في البيع، برقم (2088).
  9. تفسير ابن كثير (2/65).
  10. تفسير ابن كثير (2/65).
  11. التفسير الوسيط للواحدي (1/456).
  12. تفسير الطبري (5/525)، ودلائل النبوة للبيهقي (5/384).
  13. أخرجه مسلم بلفظ: ((إن أول الناس يقضى يوم القيامة عليه رجل استشهد...، الحديث))، كتاب الإمارة، باب من قاتل للرياء والسمعة استحق النار، برقم (1905).
  14. انظر: تفسير الطبري (5/529).
  15. تفسير الطبري (5/530).
  16. انظر: الرد على المنطقيين (ص:453).
  17. تفسير ابن عطية (1/463).
  18. تفسير ابن كثير (2/67).
  19. تفسير ابن كثير (2/68).
  20. تفسير ابن كثير (2/67).

مواد ذات صلة