الجمعة 19 / رمضان / 1445 - 29 / مارس 2024
تأملات في سورة الحشر (1) قوله تعالى " هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر.
تاريخ النشر: ١٥ / محرّم / ١٤٣٣
التحميل: 6756
مرات الإستماع: 20160

سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ۝ هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ ۝ وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ ۝ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [سورة الحشر:1-4].

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فهذه السورة عرفت واشتهرت بسورة الحشر لذكر الحشر فيها، ولها اسم آخر غير مشهور، كما جاء عن ابن عباس -ا- في الصحيح[1]، حيث سماها بسورة بني النضير، وهي من السور النازلة في المدينة بعد البينة، وقبل النصر.

وقال بعض أهل العلم: كان نزولها في السنة الرابعة للهجرة، وذلك بحسب ما قيل في تاريخ هذه الغزوة غزوة بني النضير؛ لأنها نزلت تتحدث عنها، فهي نازلة بعدها، وجاء عن عروة بن الزبير -رحمه الله: أن وقعة النضير كانت بعد ستة أشهر من غزوة بدر، وغزوة بدر كانت في رمضان من السنة الثانية للهجرة، فمعنى ذلك أنها كانت في أوائل السنة الثالثة من الهجرة، يعني: إذا حسبت شوال وذا القعدة وذا الحجة ومحرم وصفر فهي في ربيع الأول، بعد غزوة بدر بستة أشهر.

وجاء عن ابن إسحاق: أنها كانت بعد أُحد وبئر معونة، فوقعة أُحد كانت في السنة الثالثة من الهجرة، لما هزم المشركون في وقعة بدر في رمضان أرادوا أن ينتقموا، فعادوا لغزو المسلمين بعد عام، فجاءوا في شهر شوال، وكان مسيرهم من مكة إلى أُحد في اليوم الخامس من شهر شوال، يعني: من السنة الثالثة للهجرة، وكانت وقعة بئر معونة بعد أُحد في صفر، بعد أُحد بأربعة أشهر، يعني: أُحد في شوال، فإذا حسبنا: ذا القعدة وذا الحجة ومحرم وصفر، هذا هو الشهر الرابع، فهذه بئر معونة فهي في أوائل السنة الرابعة للهجرة، وعليه فإذا كانت وقعة النضير بعدها فمعنى ذلك أنها في السنة الرابعة للهجرة، وهذا هو المشهور لا أنها في السنة الثالثة وإنما هي في السنة الرابعة.

وحصل للمسلمين من المصيبة والهزيمة في وقعة أحد، والقتل والجراح، ثم خرجوا إلى حمراء الأسد، ثم بعد ذلك وقع ما وقع من أمور مؤلمة، وقعة الرجيع وبئر معونة في أوقات متقاربة جداً، يعني: لم تندمل جراح المسلمين بعدُ في وقعة أُحد وإذا بالمصيبة الثانية تقع بعدها وذلك في بئر معونة، وكذلك في وقعة الرجيع.

ثم بعد ذلك -بعد وقعة بئر معونة- إذا بهؤلاء اليهود يغدرون، على خلاف بين أهل العلم في سبب النزول أو في سبب هذه الوقعة، وبناء عليه يكون سبب النزول، لكن هذه الروايات يذكرها أهل السير وإن كانت في موازين المحدّثين قد لا يصح منها شيء، فحينما نقول: هذا هو سبب النزول نحتاط ونجري على ذلك مقاييس ومعايير المحدّثين.

فمن أشهر ما يذكر في سبب هذه الوقعة: هو أنه بعد وقعة بئر معونة، وبعد أن حصل ما حصل من قتل أصحاب النبي ﷺ من القراء، ووقع بعد ذلك قتل لرجلين من الكلابيين، ظُن أن هؤلاء من أولائك الذين غدروا بالقراء فقتلوا، فلما علم النبي  ﷺ بذلك وكان بينهم وبين النبي ﷺ عهد، فأراد النبي ﷺ أن يتحمل فدية هؤلاء، وكان ﷺ حينما هاجر إلى المدينة قد عاهد اليهود بطوائفهم ألا يكونوا معه، ولا يكونوا عليه، سالمهم، فوقع منهم نقض لهذا العهد، فلما جاء النبي ﷺ يطلب منهم المشاركة في هذه الدية وأقبل عليهم أظهروا الفرح والسرور والاستبشار، ورحبوا به وأخبروه أنه يسرهم ويعجبهم أن يغشى مجالسهم، فجلس النبي ﷺ تحت حجرة أو جدار فتآمروا على قتله بإلقاء حجر على رأسه ﷺ، فجاءه الوحي فأخبره، فانطلق النبي ﷺ إلى المدينة ولم يشعر به من صَحِبَه من أصحابه ، ثم جهز لهم النبي ﷺ الجيش، هذا ملخص لرواية طويلة في هذا المعنى.

وبعضهم يذكر سبباً آخر وهو: أن النبي ﷺ لما ظهر في يوم بدر، قالت اليهود: هذا هو النبي المنعوت في التوراة بالنصر، فلما انهزم المسلمون في يوم أحد ارتابوا ونكثوا، فخرج كعب بن الأشرف في أربعين راكباً إلى مكة، وحالفوا أبا سفيان عند الكعبة، ويروى في ذلك: أنه لما سألهم المشركون: نحن أهدى أم محمد؟ قالوا: بل أنتم أهدى من محمد، وسجدوا لآلهة المشركين، فأنزل الله أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَؤُلاء أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ سَبِيلاً ۝ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللّهُ وَمَن يَلْعَنِ اللّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا ۝ أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لاَّ يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا ۝ أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ... [سورة النساء:51-54] الآيات، فهذا ذكر في سبب النزول وإن كانت الرواية لا تخلو من ضعف.

فالشاهد: أن هؤلاء ألّبوا المشركين وطمعوا باستئصال المسلمين لما هزم المسلمون في يوم أُحد، فأمر النبيﷺ محمد بن مسلمة الأنصاري ، وكان أخاً لكعب بن الأشرف من الرضاعة فقتله في القصة المعروفة، ثم صبّحهم النبي ﷺ بالكتائب، فأمرهم بالخروج من المدينة، فاستمهلوا النبي ﷺ عشرة أيام ليتجهزوا للخروج، فتحرك المنافقون وضاقوا ذرعاً بهذا القرار، وأرسل إليهم عبد الله بن أبيّ وقال: لا تخرجوا، فإن قاتلوكم فنحن معكم، ولئن خرجتم لنخرجن معكم، وما شأنهم بهؤلاء اليهود؟ ولماذا يتحركون من أجلهم؟ ولماذا يضيقون ذرعاً؟ ولكنها العداوة للإسلام، فصدقوه، فحصنوا الأزقة، وتهيئوا للقتال، ووضعوا المتاريس، وحاصرهم النبي ﷺ إحدى وعشرين ليلة، وقيل: أقل من ذلك، وقيل: أكثر من هذا، حتى طلبوا الصلح، فأبى النبي ﷺ إلا الجلاء على أن يحمل كلُّ ثلاثة بيوت متاعَهم على بعير واحد، يحملون ما شاءوا من متاعهم، فخرجوا إلى الشام وأريحا، أو أطراف الشام أذرعات وأريحا، إلا أهل بيتين منهم ابن أبي الحقيق وآل حيي بن أخطب، فقد لحقوا بخيبر، ولحقت طائفة منهم ليست كثيرة بالحيرة، هذا ذكر أيضاً في سبب هذه الغزوة.

وبعضهم يقول: إن السبب فيها هو أن اليهود طلبوا من النبي ﷺ أن يخرج إليهم في ثلاثين من أصحابه، ويخرجوا إليه في ثلاثين من أحبارهم، فيلتقوا في منتصف الطريق من أجل أن يسمعوا منه، فإن سمعوا ما يقبلون صدقوه وآمنوا به هم ومن تبعهم، وإن لم يقبلوا تركوه، ثم بعد ذلك تحدثوا فيما بينهم، وأنه إن خرج مع ثلاثين من أصحابه فسيموتون دونه -وكانوا قد أرادوا قتله، فقالوا: لا يمكن أن نسمع وتسمع مع ستين رجلاً، فاخرج بثلاثة ونخرج بثلاثة، فأخبرت امرأة منهم رجلاً من قراباتها قد أسلم، فذهب إلى النبي ﷺ وأخبره، فرجع النبي ﷺ من الطريق وجهز لهم الجيش، لكن المشهور هو ما ذكرته في قصة الدِّية وما هموا به من إلقاء حجر أو رحى على رأس النبي ﷺ، مع أن هذه الروايات لا تخلو من ضعف.

وهؤلاء حينما قتلهم عمرو بن أمية الضمري، لما جلس معهم وأكل في مكان أو في غار ثم ناموا، فوضع الرمح في عين واحد منهم واتكأ عليه حتى سمع خشخشة عظامه، كان يظن أنه حصّل ثأراً من الذين قتلوا الصحابة في بئر معونة.

الشاهد: هذا أشهر ما ذكر في سبب نزولها، هؤلاء اليهود من بني النضير يقال: لم يُسلم منهم سوى رجلين، واحد يقال له: يامين بن عمير، والثاني: أبو سعد بن وهب.

وافتتح الله هذه السورة بالتسبيح: سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ، واختتمها أيضاً بالتسبيح، لما ذكر الله جملة من أسمائه الحسنى: هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِي [سورة الحشر:22] إلى آخر ما ذكر، ثم قال: يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [سورة الحشر:24]، فاكتنفها التسبيح في أولها وفي آخرها.

ومن تأمل فيما اشتملت عليه هذه السورة عرف علة ذلك -والله تعالى أعلم، وذلك أن الله قد أخرج هؤلاء اليهود وهم في غاية التمكين والقوة كما سيتضح، أخرجهم بقوته وبأسه، وكان ذلك في غاية العدل منه والحكمة، حيث وضع الأمور في مواضعها وأوقعها في مواقعها.

سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ كل شيء يسبح لله ، وهذا التسبيح بمعنى التنزيه وهو على ظاهره، فالله -تبارك وتعالى- لا يمتنع عليه شيء، فهو قادر أن يجعل لهذه الجمادات من الإدراكات ما يكون لها من التنزيه والتسبيح والتقديس لله ، والأدلة على هذا كثيرة، ففي القرآن الله يقول: وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [سورة الإسراء:44]، وكذلك أيضاً جاء في قصة داود يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ [سورة سبأ:10]، فكانت تردد معه تلاوته الزبور، والنبي ﷺ يقول: إني لأعرف حجراً كان يسلم عليّ بمكة قبل أن أبعث[2]، وخبر الجذع الذي كان يخطب عليه النبي ﷺ: "ثم اتخذ المنبر فحن الجذع كحنين العشار -الناقة لولدها، فنزل النبي ﷺ وسكّنه وأمر بدفنه، وأخبر أنه لو لم يفعل لحن إلى يوم القيامة"[3]، وفي صحيح مسلم من حديث جابر -ا: لما ذهب النبي ﷺ في بعض الطريق ليقضي حاجته فلم يجد شيئاً يستتر به، فأخذ بطرف شجرة ثم قال: انقادي عليّ بإذن الله، هو ما أخذ بطرف شجرة ثانية وقال: انقادي عليّ بإذن الله، وإنما جاءت كل شجرة تمشي والتأمتا، ثم بعد ذلك أمر كل واحدة أن تنطلق فرجعت إلى مكانها"[4]، إلى غير ذلك مما جاء من خبر تسبيح بعض الجمادات، وكان الطعام يسبح بين يديه ﷺ وكانوا يسمعون تسبيحه.

فالمقصود أن هذا التسبيح على ظاهره، حقيقي، كل ما في هذا الكون مسبح لله ، وهو طيّع له خاضع لأمره وإرادته، إن شاء سير الجبال وإن شاء سخر الريح وإن شاء سخر ألواناً أخرى من جنده على أعدائه فتهلكهم، هذه الأرض التي يمشي عليها الأعداء ويحادون الله هي مسخرة لله إن شاء خسف بهم، وهذا الهواء مسخر لله إن شاء صار عاصفاً فأهلكهم، كما أهلك الله عاداً بالدبور، وإن شاء الله -تبارك وتعالى- حبسه عنهم فأزهق نفوسهم، فلا يتعاصاه شيء، لكن ينبغي علينا أن نعرفه ونتقرب إليه، وأن تكون صلتنا قوية بربنا ومعبودنا ، وإلا فكل شيء بيده، النصر بيده، والخلق خلقه والملك ملكه وقلوب العباد بين أصبعين من أصابعه، فتارة ينزل الملائكة، وتارة يهلك بالصيحة، وتارة ترجف الأرض، وتارة يرسل الريح العقيم، وتارة يلقي الرعب، إلى غير ذلك من الأسباب التي يسببها الله  فيهلك أعداءه ويأخذهم، وفي هذا التسبيح تنزيه لله عن كل ظن سيئ، وعن كل وصف قبيح، يصفه به من لا يعرف ربه، ولم يقدره حق قدره، ولم يعظمه حق تعظيمه، فالله لم يسبحه ولم ينزهه من نسب له الصاحبة والولد، أو قال بأن له شريكاً، أو ظن أنه يخذل أولياءه ويسلمهم لعدوهم، أو أن الله -تبارك وتعالى- لا ينصر أهل الإيمان، أو أنه يديل الكافرين على أهل الإيمان إدالة دائمة مستمرة، أو أن ما فعله بأهل الكفر من هزيمة وهلاك أن هذا من قبيل الظلم لهم، كل هذا ينفيه هذا التسبيح: سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ و"ما" هذه للعموم، وهي -هذه الصيغة- تستعمل لغير العاقل "ما"، وللعاقل "مَن" ويقال للعالِم؛ لربما لأن الأشياء التي لا تعقل أكثر مما يعقل، فمن باب الغلبة سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ، فالذي قهر هؤلاء وأذلهم وأخزاهم وأخرجهم من حصونهم، هو العزيز الذي لا يغالب ولا يقهر ولا تطاق سطوته، والعزة هي وصف يتحقق من اجتماع جملة من الأوصاف: القوة والغنى والعظمة، إلى غير ذلك من أوصاف الكمالات التي تحصل بها العزة، والعزة وحدها لا تكفي ولكنها تكون كمالاً إذا وجدت معها الحكمة؛ لأن العزة قد تحمل على شيء من العسف والقهر والتسلط بغير حق أو نحو ذلك، والله منزه عن ذلك كله، فهو مع عزته إلا أنه حكيم، أما المخلوق فقد تحمله العزة التي تحصل له في بعض الأحيان على ظلم المخلوقين وقهرهم، كما نرى حينما يشعر الكافر في يوم من دهره أنه قد ملك قوة فتسلط بها على الضعفاء، ويسخر هذه القوة للإفساد في الأرض، كما نرى اليوم في القوة التي لم تهذب بالإيمان، فتكون هذه القوى لتلك النفوس -نفوس السباع- كالمخالب والأنياب للسبع ، فتستعمل للبطش والافتراس، والفتك والقتل، والحكيم هو الذي يضع الأمور في مواضعها، ويوقعها في مواقعها، فأفعاله واقعة في غاية الصواب؛ لأن الحكمة هي الإصابة في القول والعمل، في غاية الصواب، وإذا عرف الإنسان أن ربه عزيز وحكيم وعليم، -والحكمة تتضمن العلم؛ لأنه لا يمكن أن يكون حكيماً إلا إذا كان عالماً، فإنه يطمئن إلى أحكامه الشرعية وإلى أحكامه القدرية، فيرضى بأحكامه الشرعية إذا أمره الله بشيء انقاد واستسلم ورضي وعمل بما أمره الله به، وإذا حصل له أمر كوني من بلاء أو نحوه فإنه يعلم أن الله حكيم، وأنه ما فعل به ذلك ليكسره، وإنما فعل ذلك ليرفعه ولينقله من طور إلى طور أكمل منه، ومن حال إلى حال أفضل من حاله التي كان عليها، هكذا يكون أهل الإيمان، وانظروا أحداث غزة كيف انزعج أهل الإيمان وضاقوا ذرعاً بما رأوا من قتل إخوانهم، وكيف آلت هذه الأمور إلى خير للمسلمين، جميع المسلمين وليس أولائك الذين في غزة، فهذه وخزة إبرة في جسم هذا العملاق النائم، فاضطرب من أوله إلى آخره، فخاف الأعداء وتنادوا، مباشرة لا يستيقظ فيدمرهم، كانوا يظنون أن القضية هي جولة سهلة ونزهة يقضون فيها على هؤلاء الذين تمردوا على مرادهم، ثم بعد ذلك ينتهي كل شيء، فالذي حصل هو خلاف ما يظنون ويتوقعون، فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ [سورة الحشر:2]، فتحرك هذا الجسم العملاق من أوله إلى آخره بدأ يضطرب، وكل المعاني التي كانوا يخدّرونه بها من أجل أن يبقى جثة هامدة لا حراك به، ولا يستطيع أن يدفع عدواً ولا يسترد سليباً، ويصوَّر له أنه لا فرق بين العدو والصديق، وأن الأعداء هؤلاء من ذوي الأنياب والمخالب كلهم في غاية القرب والمحبة والصداقة له، وأن هؤلاء يحبونه، وأنهم يريدون به خيراً، فاضطرب هذا الاضطراب فتداعى هؤلاء من أجل ألا يخرج الأمر من أيديهم، فقالوا: هذه الوخزة دمرت وأفسدت علينا كل ما عملناه عبر السنين، وصار الصغير والكبير الآن تتحرك في نفوسهم والعزة وأمور تشاهدونها وتسمعونها في نشرات الأخبار، الرجال والنساء والأطفال وأمور عجيبة جداً، ما كنا نؤمل هذا ولا نطمح بعشر معشاره، فساق الله هذا الحدث؛ ليحرك هذه الأمة وينفض هذا التراب وهذا الغبار الذي تراكم عليها، فأفعاله في غاية الحكمة، وخرج أهل الإيمان وقد رفعوا رءوسهم وهم في غاية الاستبشار، قُتل ألف، قتل عشرة آلاف، قتل من النصارى، في الحرب العالمية الثانية ما يزيد على خمسين مليوناً، فإذا قتل ألف أو قتل عشرة آلاف أو نحو ذلك ننظر إلى المصالح التي تحققت، خرج أهل الإيمان في غاية العزة، رفعوا رءوسهم وخنس المنافقون تماماً وذابوا، ولم يعد لهم صوت مسموع، وأما اليهود والنصارى فظهرت عداوتهم لكل ذي عينين، ولا يشك في هذا أحد، بل حتى المنصفين من اليهود والنصارى خرجوا يحتجون ويتظاهرون على هذه الأفعال، فكيف من كان في قلبه ذرة من إيمان؟ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ [سورة النور:11]، وظهر هؤلاء على حقيقتهم من الضعف والعجز، ما استطاعوا أن يفعلوا شيئاً بهذا الجيش الذي يقولون ويزعمون أحياناً أنه من أقوى جيوش العالم، ولم يستطيعوا أن يقضوا على هؤلاء العزّل، فأين ذهبت قوتهم؟

وافتتاح هذه السورة بالإخبار عن تسبيح ما في السموات والأرض لله فيه تذكير للمؤمنين بأن يسبحوا الله تسبيحَ شكر على ما نالهم من هذا النصر العظيم، فكأنه يقول: سبِّحوا له كما سبح له ما في السموات والأرض، مخلوقات تعرف ربها وخالقها وتعرف عظمته، فأنتم يا أهل الإيمان سبحوه على ما منحكم ووهبكم من النصر العظيم، حيث كف يد عدوكم وأركسه، ورده خائباً لم ينل خيراً، سبحوه، فأكثروا هذه الأيام من التسبيح، وهذا هو الصحيح، والرسائل التي نشاهدها أحياناً هي من البدع المحدثة في الدين، صيام يوم الإثنين والخميس، يقولون: صيام جماعي، أو الصيام المليون أو القيام المليون! هذا كله من البدع، يتفق الناس هكذا: صوموا جميعاً يوم الخميس القادم من أجل كذا، فهذه بدعة لها قرنان، ينبغي للإنسان ألا يستجيب لمثل هذا، ولا ينشر هذه الرسائل، وإنما يعلّم هؤلاء وينصحهم، فنكثر من شكر الله وتسبيحه وتقديسه، ثم ذكر سبب ذلك.

والذين عناهم الله بقوله: هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ هم بنو النضير من اليهود، وإنّ ذكر الكفر يفهم التعليل، فسبب هذا الإخراج وسبب ما وقع بهم وحل بهم من الخور والضعف والهزيمة إنما هو الكفر بالله ، وهذا وصف يصدق على طوائف الكفار بأصنافهم من أهل الكتاب ومن غيرهم، فالكافر مخذول، وإذا قام أهل الإيمان بما أمرهم الله به فإنه كما قال الله لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأَدُبَارَ ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ [سورة آل عمران:111].

أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ والديار كما قال الله  في قصة بني قريظة: وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ [سورة الأحزاب:27]، فهذه الديار تشمل المباني والمساكن والقرية، وتشمل ما حولها مما يلحقها ويتبعها، وكل ذلك يقال له: الديار، فصار ذلك جميعاً للمسلمين.

وقوله لِأَوَّلِ الْحَشْرِ اللام هذه تدل على الأولية، وهذه الأولية يحتمل أن تكون أولية مكانية، لِأَوَّلِ الْحَشْرِ يعني: لأول أرض المحشر، وأرض المحشر في الشام، وأكثر هؤلاء حينما خرجوا إلى خيبر، وخرج قليل منهم إلى الحيرة، وأكثرهم ذهبوا إلى أطراف الشام في مكان يقال له: أذرعات، فمن أهل العلم من يقول: إن الأولية مكانية، أو أن تفسيرهم يصدق عليه هذا الوصف، الأولية فسروها باعتبار الأولية المكانية، فأول الحشر أول أرض المحشر وهي أذرعات، وعامة أهل العلم يفسرون الأولية هنا بأنها أولية زمانية، وإن اختلفوا في تفصيل ذلك، فإذا كانت الأولية زمانية فمنهم من يقول: لِأَوَّلِ الْحَشْرِ يعني: عند أول حشر للجيش، بمعنى: أنهم تهافتوا بما ألقى الله في قلوبهم من الرعب لمجرد حشر الجيش لهم سقطوا وأذعنوا واستسلموا، وهذا يدل على سرعة الهزيمة والانكسار والسقوط والاستسلام، وهذا ذكره طائفة من أهل العلم، ولكن الذي يظهر أن هذا المعنى غير مترجح؛ لأن أقل ما قيل في المدة التي بقي فيها هذا الحصار أنها كانت ستة أيام، وبعضهم يذكر أكثر من هذا.

وهناك أقوال أقوى منه وتندرج تحت هذا المعنى، وهو أن الأولية زمانية، فبعضهم يقول: هذا أول حشر في الدنيا إلى الشام، وهذا صح عن عائشة -ا- في صحيح البخاري قالت: فكان جلاؤهم ذلك أول حشر في الدنيا إلى الشام، لِأَوَّلِ الْحَشْرِ الحشر الأول إلى الشام.

وبعضهم يقول: هؤلاء هم أول من حشر من أهل الكتاب، وأخرج من دياره، وقريظة كانوا بعدهم، فهؤلاء بعد بئر معونة قبل الأحزاب، وقريظة كانوا بعد الأحزاب مباشرة، لِأَوَّلِ الْحَشْرِ لأول حشرٍ لأهل الكتاب، لأول حشر لليهود، لأول إخراج لليهود.

وبعضهم يقول: إن هؤلاء من بني النضير وهم من نسل هارون لم يحصل لهم جلاء في التاريخ، يقولون: الجلاء الذي كان يقع لليهود كان يقع للذين كانوا في الشام وفي نواحٍ أخرى، فكان ملوك الرومان يتسلطون عليهم ويخرجونهم إلى غير ذلك، وهؤلاء كانوا منذ زمن بعيد جاءوا إلى أطراف المدينة ولم يحصل لهم جلاء، وبعضهم يقول: جاءوا في زمن موسى وأنه أرسلهم لمهمة لقتال قوم من الكافرين، فلما علموا بموته رجعوا ولم يفعلوا ما أمرهم به فالناس نبذوهم وعابوهم ومنعوهم من دخول الأرض المقدسة، فرجعوا وبقوا في هذه الأماكن.

وبعضهم يقول: إن هؤلاء كانوا قد جاءوا واستوطنوا هذه الناحية ينتظرون النبي الذي وعدوا به.

والمقصود: أن من أهل العلم من يقول: إن هذا أول حشر يقع لهؤلاء، ولم يحصل لهم جلاء قبل ذلك، وهذا الجلاء الأول على يد النبي ﷺ.

وبعضهم يقول: إن إخراج هؤلاء هو الحشر الأول لهم، وهذا يرجع إلى بعض الأقوال السابقة.

والحشر الثاني: هو إخراج أهل خيبر في عهد عمر ، أخرجهم إلى الشام؛ ولهذا من أهل العلم من يذكر أن الحشر حشر في الدنيا، فهذا الحشر إلى الشام، وقرب القيامة تخرج نار من قعر عدن تسوق الناس إلى محشرهم، يعني: الناس الأحياء الذين لا زالوا على قيد الحياة، تسوقهم إلى محشرهم، يعني: إلى أرض الشام، فـ لأول الحشر هو إخراج هؤلاء اليهود إلى أرض الشام.

وبعضهم قال: الحشر له أول وأوسط وآخر، فالأول هو إخراج بني النضير، والأوسط إجلاء خيبر، والأخير حشر القيامة.

والقول بأن الأولية زمانية قول له وجه أقوى من القول بأن اللام تدل على الأولية المكانية، وهذا الذي عليه عامة أهل العلم، وأقوال أهل العلم تندرج حول القول بأنها زمانية، سواء كان أول إخراج لليهود الذين كانوا حول المدينة أو كان غير ذلك، بغض النظر عن الحشر الثاني ما هو، لِأَوَّلِ الْحَشْرِ يمكن أن يقال: هذا الحشر الأول، والحشر الثاني قريظة، لكن لم يحصل لقريظة إجلاء؛ لأن النبي ﷺ قتل المقاتلة وسبى النساء والذرية.

والله -تبارك وتعالى- يقول: هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ والحشر هو إخراج الجمع من مكان إلى مكان، لما يقول: وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ [سورة الشعراء:36] يعني: يجمعون السحرة ويسوقونهم ويأتون بهم إلى فرعون.

ثم قال الله مصوراً شدة تمكن هؤلاء اليهود، وما كان لهم من المنعة والقوة في نظر أهل الإيمان وفي نظرهم، فكانوا في غاية الوثوق بقوتهم وحصونهم وما عندهم من العدة والسلاح، فقال الله -تبارك وتعالى: مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا فهذا أمر لم يكن يتوقعه أهل الإيمان، فالقضية لم تكن مجرد غرور عند اليهود في قوة وهمية مصطنعة، فكانوا قد اغتروا وظنوا أنه لا يمكن أن يخرجوا، حتى أهل الإيمان يقول الله مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا فهذا الانطباع وهذا التصور موجود عند المؤمنين.

وقال: وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ سياق الكلام لو أردنا أن نرتبه على النسق المعهود فإنه يقال: وظنوا أن حصونهم تمنعهم من الله، لكن الله قدم في الكلام هنا فقال: وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ هذه هي الحصون، كانت لهم حصون متعددة الكُتيبة والوطيح والسُلالِم والنطاة والوخدة وشق، هذه حصون كانت لبني النضير، حاصرهم النبي ﷺ ستة أيام، وقيل: خمس عشرة ليلة، وقيل: قريباً من عشرين، وقيل: ثلاثاً وعشرين ليلة، وقيل: خمساً وعشرين، فهذا يضعف القول الذي سبق أن أشرت إليه وهو أن الأولية زمانية بمعنى: أنه لأول حشر الجيش سقطوا، لم يكن كذلك، وقد وعدهم عبد الله بن أبيّ بالنصر والمدد كما سيتبين فانتظروا، وتترسوا، وحصنوا تلك الديار، واستعدوا للقتال.

وهذا التركيب: وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ يدل على تقديم الخبر على المبتدأ، وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم الأصل: وظنوا أن حصونهم مانعتهم، فقال: وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم، ولم يقل: إن حصونهم مانعتهم، فجاء بمانعتهم وقدمها، أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم يدل على شدة وثوقهم بحصانتها ومنعها إياهم، والضمير المختص بهم في قوله: وَظَنُّوا أَنَّهُم صار اسماً لـ"أنّ"، فهذا أيضاً إسناد الجملة إليه دليل على اعتقادهم في أنفسهم أنهم أعزة ولا يمكن أن يقهروا، وأن لهم من المنعة ما يحول بينهم وبين أن يغلبوا، وَظَنُّوا أَنَّهُم عندهم ثقة كبيرة بأنفسهم، ولم يقل: وظنوا أن حصونهم، وَظَنُّوا أَنَّهُم الضمير المتعلق بهم قدمه، وجاء بالخبر هنا مَّانِعَتُهُمْ؛ لأن قضية المنعة هي محل الاهتمام، فهم يريدون المنعة بهذه الحصون، وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فدل على شدة وثوقهم بهذه الحصون، وأنها تحول بينهم وبين أي اعتداء أو محاولة لحربهم والتغلب عليهم، وكل زمان له ما يناسبه في القوة لكن يكفي هذا التصوير من الله  -تبارك وتعالى، حيث صور لنا حال هؤلاء ونظر أهل الإيمان إلى تلك الحصون، يعني كما نحن ننظر بمعادلات وقوى في هذا العصر إلى قوى معادية، ننظر إلى أن هذه القوة قوية جداً ويصعب أن تغلب أو نحو ذلك، في ذلك الزمان أهل الإيمان يرون أن تلك القوة -قوة اليهود- بمنزلة يصعب دحرها وقهرها والغلبة عليها، ولو جاءت طائرة في هذا الزمن لدمرت تلك الحصون بقذيفة واحدة، لكن في زمانهم الأمر ليس كذلك، ليس عندهم إلا النبال والسيوف والرماح، وهذه الحصون منيعة، في أرض حَرَّة سوداء، إذا قدمت على المدينة انظر من الطائرة قبل ما تصل للمطار بقليل ستجد حَرّة سوداء شديدة السواد، وستجد أنه يسيل فيها  -في هذا السواد- سواد حالك، هذا السواد الحالك المنصهر أو الذي هو متعرج هي حرة النار التي كانت في القرن السابع الهجري شديدة جداً، والباقي هذه حرة لها لربما أكثر من ثلاث آلاف سنة، شديدة التضاريس، يصعب أن يمشي الإنسان فيها على قدميه، أو على الدواب، بل إن بعض الخبراء العسكريين يقول: إن جنازير الدبابات تتقطع حينما تمشي عليها، وهي تحيط بالمدينة من ثلاث جهات: حرة جنوبية، وحرة غربية، وحرة شرقية، فهذه الحصون في وسط الحرار، فكيف بالحياة آنذاك، ولا يوجد هناك جرافات وأشياء تمهد الطرق؟، فالصخور مدببة، صخور بركانية مرتفعة ومنخورة، سوداء ليس فيها نبات، يصعب المشي فيها.

فالشاهد: أنهم كانوا يقيمون في وسط هذه الحَرَّة، فعندهم من التقسيمات الطبيعية وعندهم من التحصينات التي اتخذوها بتلك القلاع والحصون، وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ، ولا يعقل أن أحداً تمنعه قوته مهما بلغت من الله ، وهذه القوى الموجودة على وجه الأرض لا يتعاصى شيء منها على الله ، بل هذه الأرض جميعاً كما قال الله وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [سورة الزمر:67]، فهذه القوى ليست بشيء بالنسبة لقوة الله ، ولكن ليبلو الناس بعضهم ببعض، فيرى عملهم ويرى صبرهم ويرى بذلهم ويرى إيمانهم ويتبين الصادق من غيره.

فالذي حصل لهؤلاء وهم في هذه المنعة فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا، بعضهم يقول: بقتل سيدهم   كعب بن الأشرف، وبعضهم يقول: بنزول النبي ﷺ لساحتهم، وبعضهم يقول: بإلقاء الرعب في قلوبهم، كل ذلك وارد، إذا أتى أمر الله  تهيأت الأسباب وتداعت، فتداعى الخراب والسقوط والهزيمة، ويصير كل عمل يحاول الإنسان أن يرقع به وأن يستدرك يتحول إلى خراب كما سيأتي: يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ، فإذا جاء أمر الله فلا مرد له، لا يستطيع أحد أن يدفعه، فَأَتَاهُمُُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا ما قال: فأتاهم جيش، أو فأتاهم المؤمنون، لا، أتاهم الله، وإذا أتى الله أحداً فلا مفر، والخلق في غاية الضعف والعجز أمام قوة الله وبأسه، مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا لم يظنوا، لم يعلموا، لم يتوقعوا.

وقوله: وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فالقذف هو الرمي بقوة، فألقى الرعب وهو الخوف الشديد الذي تنخلع له القلوب، ألقاه في قلوبهم، وإذا وجد الرعب في القلب فإن المقاتل لا يستطيع أن يتمالك، ولا يثبت بأرض المعركة، رجلاه لا تحملانه، يفر وينهزم، والمسلمون حينما غزاهم التتر، كان الرجل من التتر ربما جاء إلى سرداب أو مكان أو ناحية فيها أكثر من مائة من المسلمين وليس معه سيف فيقول لهم: انتظروا، ويذهب ويأتي بالسيف ولا أحد يتحرك، ثم بعد ذلك يقتلهم، حتى لو كان معه سيف وانطلق عليه هؤلاء يجرح ثلاثة يقتل واحداً أو خمسة والباقي يأخذونه، لكن من شدة الخوف ينتظرون، فأصابهم رعب شديد، وظنوا أن هؤلاء التتار لا يمكن أن يقهروا، وأنهم غير عاديين، عندهم قوة وإمكانات لا يمكن أن تواجه الرعب، بل نقل في التاريخ: أن الرجل التتري أحياناً ربما أضجع المسلم ليذبحه فلم يجد معه ما يذبحه به، فيقول له: انتظر، فيبقى في مكانه، ويذهب ويأتي بالسيف أو السكين وهذا لم يتحرك، وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ، نسأل الله العافية.

يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ يخْرِبون فيها قراءتان: هذه القراءة قرأ بها الجمهور، وقرأ أبو عمرو: يُخَرِّبون، ومن أهل العلم من يقول: القراءتان بمعنى واحد يُخْربون ويُخَرّبون، وأن الثانية "يُخَرّبون" تدل على كثرة التخريب؛ لأن زيادة المبنى دليل على زيادة المعنى، زاد حرفٌ فزاد المعنى، كثرة التخريب.

وبعضهم يقول: هناك فرق: يُخْرِبُونَ يعني: يتركونها خراباً، ما تسمع الناس أحياناً يقولون للبعيد: يخرب كذا، ويقال للبعيد: يخرب بيتك، يعني: يتركه خراباً، ويُخَرِّبون من التخريب بالهدم ونحو ذلك.

كيف يخربون بيوتهم بأيديهم، وكيف يخربونها بأيدي المؤمنين؟ هم تعبوا وبقوا من العقود ربما مئات السنين، وهم يشيدون في هذه الحصون، هذه الحصون فيها آبار، وفي داخلها من المؤن والأقوات ما يمكن أن يُبقى هؤلاء لربما سنوات، فحصن كعب بن الأشرف "جداره" ربما بعرض الطاولة، وأطلاله موجودة إلى الآن، وفي داخله بئر، وكانت الحصون تبقى مدة طويلة متماسكة، فهؤلاء صاروا يخربونها تعبوا في تشييدها وتقويتها وبنائها وتحصينها وصاروا يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ جاء أمر الله.

كل الأقوال التي ذكرت داخلة فيه -والله تعالى أعلم، نقض العهد كان سبباً لخراب البيوت، وفي وقت الحصار كان المسلمون إذا فتقوا في الحصن شيئاً سارع هؤلاء وأخذوا من دُورهم من الأحجار والأبواب ونحو ذلك وسدوا فيه هذه الثغرة التي فتحها المسلمون يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ، وحينما أجلاهم النبي ﷺ صاروا يأخذون ما استحسنوه من هذه البيوت من أخشاب ونوافذ أبواب، ما استحسنوه أخذوه والباقي كانوا يخربونه من أجل ألا ينتفع به المسلمون، فدمروا ديارهم، من أجل إذا دخل المسلمون لا يجدون شيئاً يصلح للانتفاع والاستعمار، تعبوا في تشييدها ثم صاروا يخربونها بأيديهم، لو قيل لهم وهم يشيدونها: سيأتي اليوم الذي تخربونها بأيديكم، قد لا يصدقون.

حينما أجلاهم النبي ﷺ صاروا يأخذون ما استحسنوه من هذه البيوت من أخشاب ونوافذ أبواب، ما استحسنوه أخذوه والباقي كانوا يخربونه من أجل ألا ينتفع به المسلمون، فدمروا ديارهم، من أجل إذا دخل المسلمون لا يجدون شيئاً يصلح للانتفاع والاستعمار، تعبوا في تشييدها ثم صاروا يخربونها بأيديهم، لو قيل لهم وهم يشيدونها: سيأتي اليوم الذي تخربونها بأيديكم، قد لا يصدقون.

وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فكان المؤمنون يهتكون تلك الحصون ويهدمون فيها، فكانت تندك أمام جيش أهل الإيمان.

يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ فاعتبروا هذه يحتج بها الأصوليون دائماً على حجية القياس، يقولون: الله قال: فَاعْتَبِرُوا  فنحن ننتقل من حال إلى حال، من شيء إلى نظيره، هذا هو القياس، ونعتبر بما جرى لهم، وما حصل لهم، وكيف تحولت قوتهم هذه التي كانوا يتفاخرون بها ويعتزون بها وأورثتهم شيئاً من الانتفاش، وهو الغرور، والتعالي، والتعاظم، ونقض العهد، وهم يرون أن عندهم من القوة ما لا يمكن مواجهته ولا مقاومته، ثم تحول ذلك إلى خراب بأيديهم قبل أيدي المؤمنين، بأيديهم وأيدي المؤمنين، فتحولت تلك القوة إلى عبء ثقيل.

وأما الاعتبار فأصله من العبور، وهو المجاوزة من شيء إلى شيء؛ ولهذا يقال: عبّارة، ويقال: معبر ينقلك من ناحية إلى ناحية؛ ولهذا سميت العبرة فيقال: استعبر فلان؛ لأنها تنتقل من العين إلى الخد، وسميت الألفاظ عبارات؛ لأنها تنقل المعاني من لسان القائل إلى عقل المستمع، وفي الأمثال: السعيد من وُعظ أو من اعتبر بغيره، تقول: جعلته عبرة، صار فلان عبرة، معنى ذلك أنهم ينظرون إليه وينتقلون إلى أنفسهم فيقولون: لا يقع لنا ما وقع لفلان، فالاعتبار الذي يحصل من الإنسان حقيقته أنه ينتقل من حال ذلك الغير الذي اعتبر به إلى نفسه، فهو نظر في حقائق الأشياء وجِهات دلالاتها ليعرف بالنظر فيها شيئاً آخر من جنسها، فإذا أردنا أن نعتبر نقول: كل قوة على وجه الأرض لا تتعاصى ولا تتعاظم ولا تمتنع على الله ، فالله على كل شيء قدير، هذه القوى وهذه الإمكانات المشيدة يمكن أن تتحول إلى شيء آخر بأيدي أصحابها، وبين عشية وضحاها، ومن ثَم فاليأس لا يتطرق إلى قلب المؤمن، ولا يخاف المخلوقين كخوفه من الله أو أعظم من خوفه من الله ، وإنما يعطي المخلوقين الحجم اللائق بهم، فالله فوقه وأقوى منه، فيتوكل على الله، ويثق بقوته ومدده وعونه، فيقبل عليه ويجدّ ويجتهد في طلب مرضاته: إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ [ورة محمد:7] فهذا شرط، والحكم المعلق على وصف يزيد بزيادته وينقص بنقصانه، فعلى قدر نصرنا لله بالعمل بطاعته وترك معصيته على قدر ما يكون لنا من النصر، وأرانا الله هذه الأيام هذه الآية في فئة ضعيفة قليلة ليس لها قوة وقفت في وجه هذا العدو الذي لا يرقب في مؤمن إلًّا ولا ذمة، فما الذي منعهم وحال بينهم من أن يقوموا بعمل خاطف، ويحققوا كل الأهداف التي يريدونها، ولم يستنقذوا أسيرهم، ولم يمنعوا تلك الصواريخ التي تحلق على رءوسهم، ولم يكسروا قوة المجاهدين، ولم يسقطوا حكومة حماس، ولا حققوا شيئاً من هذا، كل هذه أهداف لم يتحقق منها شيء، ما الذي جعلهم يبقون أكثر من عشرين ليلة في هذه القوة الضاربة ويأتون بقواتهم الاحتياطية، ومع ذلك ما استطاعوا أن يحققوا هذا، وكان بالإمكان جولة في يوم واحد؟ ولكن: إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ فالله يحفظ عباده، ويدفع عنهم، ويكلؤهم ويحميهم ويحوطهم، وإن وقع فيهم آلام وجراح، كما في قوله -تبارك وتعالى: وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ أتباع كثير، فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ ۝ وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ۝ فَآتَاهُمُ اللّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ [سورة آل عمران:146-148]، فثواب الدنيا هو النصر، فجمع لهم بين هذا وهذا، فما على أهل الإيمان إلا أن يعرفوا الله معرفة صحيحة، وأن يقبلوا عليه ويثقوا بما عنده وأن يحققوا عبوديته، فعلى قدر تحقيقهم لهذه العبودية على قدر ما يكون من دفع الله وحراسته ونصره وتمكينه لهم، والله أعلم.

أسأل الله أن ينفعنا وإياكم بالقرآن العظيم، وأن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين، وأن يلطف بإخواننا في فلسطين وفي كل مكان، وأن ينصرهم على عدوه وعدوهم، وأن يشفي جرحاهم، ويغنيهم من فضله، وأن يصلح أحوالهم إنه على كل شيء قدير، رءوف رحيم، لطيف بعباده، ونسأل الله أن يلطف بنا جميعاً، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.

  1. رواه البخاري، كتاب التفسير، باب تفسير سورة الحشر، برقم (4600)، ومسلم، كتاب التفسير، باب في سورة براءة والأنفال والحشر، برقم (3031).
  2. رواه مسلم، كتاب الفضائل، باب فضل نسب النبي ﷺ وتسليم الحجر عليه قبل النبوة، برقم (2277).
  3. رواه البخاري عن ابن عمر -ا: "كان النبي ﷺ يخطب إلى جذع فلما اتخذ المنبر تحول إليه فحن الجذع فأتاه يمسح يده عليه"، كتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام، برقم (3390).
  4. رواه مسلم، كتاب الزهد والرقائق، باب حديث جابر الطويل وقصة أبي اليسر، برقم (3012).

مواد ذات صلة