السبت 11 / شوّال / 1445 - 20 / أبريل 2024
قوله تعالى: يا أيها النبي اتق الله ولا تطع الكافرين
تاريخ النشر: ١٣ / محرّم / ١٤٣٣
التحميل: 7163
مرات الإستماع: 17393

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فسيكون الحديث عن صدر سورة الأحزاب، وذلك من خلال الآيات التسع في أولها، وهذه الآيات التسع وإن لم تكن تتصل اتصالاً مباشراً بما بعدها وهو مما يتعلق بموضوعنا الذي من أجله تحدثنا عن هذه السورة، وذلك في قوله يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا [سورة الأحزاب:9]، لكن رأيت أن الحديث عن أولها يُحتاج إليه في موضوعنا هذا.

بسم الله الرحمن الرحيم

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا ۝ وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ۝ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا ۝ مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ ۝ ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا [سورة الأحزاب:1-5].

هذه السورة من السور النازلة في المدينة باتفاق أهل العلم، وكان نزولها بعد سورة الأنفال وقبل سورة المائدة، رقمها في النزول بما ذكره بعض أهل العلم يبلغ التسعين، وهذه الآيات التي صدّرها الله في أولها تأمر النبي ﷺ وتخاطبه يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًاا حَكِيمًا، وقد تنوع ذلك وتعدد هذا الخطاب في هذه السورة في مواضع مختلفة، فهذه السورة تتحدث عن جملة من القضايا والموضوعات، ومن هذه الموضوعات ما أشارت إليه هذه الآية وغيرها من الآيات من الأمر بطاعة الله وطاعة رسوله ﷺ، والنهي عن طاعة غيره.

والأمر الثاني: تضمنت إبطال ما كان عليه الناس في الجاهلية، وفي أول الإسلام مما يتصل بالتبني والظهار، والثالث: وهو ما يتعلق بوقعة الأحزاب وما يتصل بها مما وقع مع بني قريظة، ثم بعد ذلك ما نتج عن ذلك مما حصل للمسلمين من الغنائم التي أفاءها الله عليهم من اليهود، فطلب أزواج النبي ﷺ من رسول الله ﷺ التوسعة في النفقة، وجاء الخطاب إلى أمهات المؤمنين، كما تضمنت هذه السورة أيضاً بيان جملة من حقوق النبي ﷺ، وما يختص به من الأحكام، وفي السورة أيضاً حديث عن المنافقين ومخازيهم ومواقفهم، وما توعدهم الله -تبارك وتعالى- به، وهكذا أيضاً تضمنت هذه السورة ما توعد الله به الكافرين، وما ينتظرهم من العذاب الأليم، وهذا ظاهر في آخرها.

وفيها حث لأهل الإيمان على طاعة الله ، وطاعة رسوله ﷺ، يقول الله مخاطباً لرسوله ﷺ: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ، والخطاب للنبي ﷺ خطاب لأمته، إلا إذا دل دليل على اختصاصه بذلك، ولاشك أن هذا الموضع يشمل رسول الله ﷺ، ويشمل أمته، فالأمة قد تُخاطَب في شخص قائدها وقدوتها ومقدَّمها ﷺ، فهو الأسوة والقدوة، ومما يدل على أن الأمة مرادة هنا أن الله -تبارك وتعالى- قال: إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا، فوجه الخطاب إليهم في الآية التي بعدها، وفي القراءة الأخرى كما سيأتي إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرًا، كما يقول الله في أول سورة الطلاق: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ [سورة الطلاق:1]، جاء بصيغة الجمع، مما يدل على أن هذا الخطاب يتوجه إلى أمته كذلك، وقد يكون المقام أصعب من هذا ومع ذلك يحمل على الأمة،  يعني: قد يكون الخطاب صريحاً للنبي ﷺ على سبيل الانفراد ومع ذلك يحمل على الأمة لقرينة أخرى، كقوله -تبارك وتعالى- في الوصايا التي ذكرها في سورة الإسراء: وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكََ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا [سورة الإسراء:23]، "عندك" فالخطاب في ظاهره موجه إلى النبي ﷺ، ولاشك أنه حينما نزلت هذه الآيات لم يكن له أب ولا أم.

ونودي النبي ﷺ هنا بوصفه يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ، ما قال: يا محمد، وذلك فيه من التشريف والتكريم والتعظيم ورفع المنزلة ما فيه، ولاشك أن النداء بمثل هذا اللقب في باب المخاطبة يدل على هذا التكريم، بخلاف الإخبار فإن الله قد يخبر عنه باسمه مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ [سورة الفتح:29]، ومَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ [سورة الأحزاب:40]، فهنا لا بأس في مقام الإخبار أن يذكر الاسم، لاسيما أنه أضاف بعده الرسالة ليكون ذلك متعلقاً بهذا الاسم، فهذا المسمى بهذا الاسم هو رسول الله ﷺ، وهو كذا وكذا وكذا، مما عرّفهم الله به، فهو يعلمهم بذلك.

وهنا يقول: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ، النبي ﷺ هو أتقى الأمة لله، فإذا كان رسول الله ﷺ يؤمر بالتقوى فغيره من باب أولى، لا يستنكف من هذا أحد، ولا يترفع عليه أحد، ولا يرى أحد من الناس أنه فوق هذا التوجيه والخطاب لاسيما أن الأمر بالتقوى يعني الأمر بلزومها والدوام عليها، كما أن التقوى هي حاصلة بمجموع أمور، وذلك أن يفعل الإنسان كل ما أمره الله به، وأن يترك كل ما نهاه عنه، فهذا الأمر بالتقوى هو توطئة لما بعده يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ فإن طاعة الكافرين والمنافقين مخالفة لتقوى الله ، ثم إن قوله -تبارك وتعالى: اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ حينما يترك الإنسان طاعة الكافرين والمنافقين أو يُنهى عن طاعتهم فإن هذا بمنزلة -أو بمعنى: ولا تتقِ الكافرين والمنافقين؛ لأن الإنسان إنما يطيعهم من أجل أن يتقيهم فإذا أطاعهم فقد اتقاهم، ومن أطاع الله فقد اتقاه، فكأنه يقول: اتق الله ولا تتقِ الكافرين والمنافقين.

وإنما تكون التقوى لله ، ولا تجتمع طاعة الله مع طاعة الكافرين والمنافقين، فإن هؤلاء يصرفونه عن طاعة ربه ومليكه ومعبوده ؛ لأنهم محادون لله ، فلا ينتظر منهم أن يأمروه بمعروف أو أن يشيروا عليه بخير، ومن ثَمّ فقد علمه الله طاعته ونهاه عن طاعة هؤلاء بما يشيرون به، وما يأمرونه به؛ لأنهم لا يجرونه إلى خير بحال من الأحوال.

والمقصود: أن مراتب التقوى لا تنتهي، وأن شأنها عظيم، ولهذا أمر النبي ﷺ رسوله ﷺ بها، ثم قال له: وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا، حينما أمره بطاعته ونهاه عن طاعة المنافقين والكافرين قال: إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا، إِنَّ هذه تدل على التوكيد وهي تشعر بالتعليل، لماذا أنت مأمور بطاعة الله ومنهي عن طاعة الكافرين والمنافقين؛ لأن الله كان عليماً حكيماً، إنما يرِدُ الخلل في التصور أو التدبير أو المشورة أو نحو ذلك بسبب نقص العلم، أو بسبب نقص الحكمة، قد يكون الإنسان عنده اطلاع وعلم وبصر في الأمور، ولكنه لا يضع الأمور في مواضعها ولا يوقعها في مواقعها، ومن ثَمّ يكون ما يأمر به أو ما يشير به ناقصاً، فيورده ذلك العطب والمهالك، وقد يكون الخلل الواقع بسبب نقص العلم، وقد يجتمع الأمران، فالله -تبارك وتعالى- عليم بما يأمر به، عليم بخلقه، عليم بما يُصلحهم، عليم بأحوالهم، وهو حكيم يضع الأمور في مواضعها ويوقعها في مواقعها، فإذا أمرك بشيء أو نهاك عن شيء فإن ذلك قد صدر عن علم محيط، وحكمة تامة فينبغي أن تثق به، وتركن إليه، وتسلم له، ولا تتشكك ولا تتردد ولا تظن بحال من الأحوال أن هذا الأمر الذي أمرنا الله يمكن أن يورثك ضرراً أو مفسدة أو مهلكة أو عطباً، أو نحو ذلك.

ثم قال الله -تبارك وتعالى: وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا، كما هي العادة، كما يقال: التخلية قبل التحلية، نهاه عن طاعة الكافرين والمنافقين ثم بين له ما يجب عليه أن يفعله؛ لأن النفوس خلقت للفعل ولم تخلق للترك، وإنما الترك مقصود لغيره، من باب التخلي والتنزه، فإذا نهى الله عن شيء أمر بما يصلح، فقال: وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ، لا يكفي أن نقول: لا تفعل كذا، لا تصحب فلاناً، لا تأتِ الأمر الفلاني، وإنما يجب أن نبين له ما ينبغي أن يفعله، فقال: وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ، هناك عمّم، قال: وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ، فنهاه عن طاعتهم في أي شيء من الأشياء، وهنا قال: وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ، فـ"ما" هذه تدل على العموم، اتبع كل ما يوحى إليك من ربك، في كل شأن من الشئون، في قضايا السلم والحرب، والمعاهدات والعلاقات، وما يتلق بالعبادات، وما يتعلق بالآداب والأخلاق، إلى غير ذلك اتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ، لا تتشبه بهؤلاء، ولا تأخذ عنهم، وإنما تتلقى عن الله ، ويكون الإنسان متبعاً لوحي الله ، اتبع ما يوحى إليك، قال: واتبع ما أمرك الله به، فربطه بالوحي، والوحي معصوم لا يمكن أن يأتيه خلل ولا يتطرق إليه خطأ، فيُقبل الإنسان على أمر الله وأمر رسوله ﷺ بكل طمأنينة، إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا، فيعلم أحوالكم، فالخبير هو الذي يعلم بواطن الأشياء وخفايا الأمور، فكل ما تعملون فهو خبير، يعلم ما تسره النفوس، وما يخفيه الإنسان مما يوافق أمر الله وما يخالفه، ومن ثم إذا استشعر الإنسان هذا المعنى حصلت له التقوى في الظاهر وفي الباطن؛ لأن الله يعلم سره وما يختلج في نفسه، وما يحدث به المرء نفسه، فلا يخفى عليه خافية، وفي قراءة أبي عمرو قال: إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرًا وهذا في ظاهره يعم المنافقين والكافرين الذين نهاه عن طاعتهم، كما يشمل غيرهم من أهل الإيمان، وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ، ثم قال: {وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا، فالله  محيط بهم، وقد أخبرنا أنه ما تسقط من ورقة إلا يعلمها، وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ [سورة الأنعام:59]، ولهذا قال بعده: وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ لما طمأنه أنه عليم حكيم، نهاه عن طاعتهم، وأمره بتقواه، وباتباع وحيه، فإنه يرِدُ على ذلك أن هؤلاء لن يسلموا له بهذا، بل سيسعون إلى إلحاق الأذى والضرر به، فقال له: وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ، والإنسان إذا التزم طاعة الله وطاعة رسوله ﷺ فسيناله الأذى من الكافرين، وسيتربصون به، ويعملون على إيصال الأذى إليه بكل طريق، سيحاصرونه حصاراً اقتصادياً، وحصاراً عسكرياً، وسيرمونه بكل قبيح من إرهاب وغير ذلك، كما يقول الرئيس الأمريكي قبل يوم أو يومين: إن هجمات حماس على إسرائيل يقول: هذه هجمات إرهابية، وتقول وزيرة خارجيته: إن ما تفعله إسرائيل هو دفاع مشروع، فماذا بقي؟!

قرروا أن لا تكون هناك مواجهة حتى مع الدخول البري، دمروا كل شيء بالمدفعيات؛ من أجل أن لا تكون مواجهة مع المجاهدين؛ لأنهم لا يطيقون هذا، ما يستطيعون، يحطمون كل شيء، ثم بعد ذلك يأتون إلى أرض محروقة على مراحل، هذا الذي يريدونه من بعد القصف بالمدافع، وهذا ليس بإرهاب، هذه قفازات حريرية لمعالجة خلل، هكذا يصورون هذه الأمور، وكل إناء بما فيه ينضح، ولا يُنتظر منهم إلا هذا، وعلينا أن نحقق ما أمرنا الله به، قال: وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا، فوض أمرك إلى الله العليم الحكيم الذي هو خبير بما يعمله الخلق، وبيده أزمّة الأمور، هو الذي أمرك بهذا، وهو الذي رسم لك هذا الطريق، وهو الذي أمرك بسلوكه، فأنت يجب عليك أن تنفذ أمر الله ، وأن تسلك الصراط المستقيم، ثم بعد ذلك يكفيك الله شر الأشرار وكيد الفجار، فالله حافظك، وتوكل على الله، فوض أمورك إليه ولا تفوض أمورك إلى المخلوقين، لا تنتظر من المخلوقين أن يعينوك أو أن ينصروك، إنما النصر من الله وحده لا شريك له، وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا، كفى به حافظاً وناصراً لمن توكل عليه، وأسند ظهره وألجأه إليه .

ثم بعد ذلك قال: مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءكُمْ أَبْنَاءكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ، فقوله: مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ-على ظاهره- أن الله ما جعل لرجل والمرأة داخلة في هذا؛ لأن العرب يعبرون بالرجل ويدخل في ذلك المرأة في مثل هذا الخطاب أو الخبر، مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍورجل هنا نكرة في سياق النفي فيعم كل رجل، فهذا فيه إبطال لدعوى كل من يدعي أن أحداً يملك قلبين، مع أن الروايات الواردة في هذا لا يصح منها شيء، يعني قول من قال من المنافقين: إن النبي ﷺ له قلبان، أو أن رجلاً يقال له ذلك، يلقب بذي القلبين لشدة دهائه وفطنته وحذقه ومعرفته وبصره، أو أن أحداً من المنافقين ادعى ذلك لنفسه، وقال: إن قلباً يأمره بطاعة الله، والقلب الآخر يأمره بطاعة النفس والهوى والشيطان، كل ذلك لا يصح منه شيء، ومن أهل العلم من يرى أن هذه الآية هي توطئة للآية التي بعدها، وذلك أنه قال بعده: وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ يقول له: مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ، كما أن الله لم يجعل لرجل قلبين في جوفه فكذا لم يجعل الدَّعِيّ ابناً، لم يجعل لأحد أبوين، ولم يجعل الزوجة زوجة وأمًّا في آن واحد، فيكون قد دل على ذلك بأمر معلوم يسلم به السامع، كما أن الله ما جعل لرجل من قلبين في جوفه، فكذلك ما جعل شيئاً من هذه الأمور التي تتردد على ألسنتهم: زيد بن محمد، والرجل يقول لامرأته: أنت عليّ كظهر أمي، فنزلها منزلة الأم، والزوجة ليست كالأم.

وابن جرير -رحمه الله- حمل الآية على العموم، مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ أيًّا كان مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ، وابن كثير جعلها توطئة لما بعدها، ولا شك أن الآية تحتمل هذا كله، وقوله: ذَلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ أضافه إلى الأفواه مع أن الإنسان إنما يقول بفيه؛ ليبين أن هذا القول لا يتجاوز الأفواه، هو قول لا رصيد له من الحقيقة والواقع، هو قول يرددونه بأفواهم لكن لا حقيقة له.

ثم قال الله -تبارك وتعالى- لما نهاهم عن نسبة هؤلاء الذين يتبنونهم ويدّعونهم وينسبونهم إليهم، لما نهاهم عن نسبتهم إليهم قال: ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ، على الطريقة التي ذكرت آنفاً في منهج القرآن في تربية النفوس، ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ، تقول: زيد بن حارثة، يُدعى وينسب لأبيه، أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ أعدل عند الله، فَإِن لَّمْ تَعْلَمُوا آبَاءهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ، إن لم تعلم أباه فتقول: أخي، ويقول الرجل لمن تبناه: مولاي، ولا يقول: ابني، أو فلان ابن فلان، -يُنسب إليه- إلا إن كان يقال: ابني على سبيل التحبب إليه والتلطف به.

فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ لأنهم قد اعتادوا على ذلك ردحاً من الزمان فيسبق اللسان إلى هذا فرفع عنهم الحرج، رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا [سورة البقرة:286]، قال الله: قد فعلت، وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا، غفوراً لما سلف ولما وقع وبدر من غير قصد.

وأسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا وأن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا ۝ وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا ۝ لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا [سورة الأحزاب:6-8].

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقوله -تبارك وتعالى: النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ، لما بين الله -تبارك وتعالى- فيما سبق ما يكون به إبطال التبني، وكان زيد بن حارثة ينسب للنبي ﷺ فيقال: زيد بن محمد، والله -تبارك وتعالى- يقول: مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ [سورة الأحزاب:40]، فهنا يبين منزلته منهم، فقال: النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، أولى بماذا؟ من أهل العلم من يقول: أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ يفسره الحديث الذي قال فيه النبي ﷺ: أنا أولىى بالمؤمنين من أنفسهم، فمن توفي وعليه دين فعليّ قضاؤه، ومن ترك مالاً فلورثته[1]، وهو مخرج في الصحيحين، وظاهر هذا أنه لا يدل على الحصر في قضاء الديون عمن مات ولم يترك وفاءً، وإنما قال النبي ﷺ: أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم، ثم ذكر هذه القضية بعدها، فهذا مما يدخل في معناه، ويحتمل أن تكون هذه الأولوية: أن يكون أولى بالمحبة، أن تكون محبته ﷺ مقدمة على محبة النفس والوالد والولد والناس أجمعين، ويدل على هذا الحديث المخرج في الصحيح: لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبَّ إليه من والده وولده والناس أجمعين[2]، وحديث عمر  لما قال: يا رسول الله، والله إنك لأنت أحب إليّ من كل شيء إلا من نفسي، فقال رسول الله ﷺ: لا يا عمر، حتى أكون أحب إليك من نفسك[3]، فهو أولى بالمحبة، أن تكون محبته مقدمة على محبة النفس ومحبة الولد والوالد، ومحبة كل محبوب، وهذا ذهب إليه بعض أهل العلم، وبعضهم يقول: المراد أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ أنه ﷺ إذا أمر بشيء ودعت النفس إلى غيره كان أمر النبي ﷺ أولى، أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ أي: يقدمون مطلوبه على مطلوبات النفس ومشتهياتها ومحبوباتها، وبعضهم يقول: هو أولى في أن يحكم على الإنسان من حكمه على نفسه، النبي ﷺ أولى بك في نفاذ حكمه عليك من حكمك على نفسك، وبعضهم يقول -على كل حال- غير هذا، وجاء في الصحيح من حديث أبي هريرة مرفوعاً: ما من مؤمن إلا وأنا أولى الناس به في الدنيا والآخرة، اقرءوا إن شئتم النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، فأيُّما مؤمنٍ ترك مالاً فليرثه عصبته مَن كانوا، وإن ترك ديناً أو ضياعاً فليأتني فأنا مولاه[4]، والحافظ   ابن القيم -رحمه الله- جمع بين ذلك أن يكون النبي ﷺ أحب إليه من كل أحد حتى من نفسه، النَّبِيُّ أَوْلَىى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ في المحبة، وكذلك يلزم من كمال محبته إذا كان النبي ﷺ أحب إليك من نفسك أن يكون حكمه أنفذ من حكمك على نفسك، فهو أولى بالاتباع من مطلوبات النفس ومشتهياتها وأهوائها، إذا أمرت النفسُ بشيء وأمر النبي ﷺ بشيء كان أمره مقدماً، وهكذا سائر لوازم المحبة، فبهذا لا يكون للعبد حكم على نفسه يقدم على حكم رسول الله ﷺ، المقصود أن ذلك يحمل على العموم، النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، في النصرة والمحبة والولاء والطاعة والاتباع والتقديم، كل هذه المعاني كما أنه ﷺ ينفذ حكمه فيهم أعظم من نفاذ أحكامهم على أنفسهم، هذه منزلته ﷺ، وهكذا ينبغي أن يكون المؤمن مع رسول الله ﷺ وأمْرِه ونهيِه، لا أن يدير ظهره، أو أن يستخف بكلامه وسنته وحديثه ﷺ، وهذا كله يبين منزلته ﷺ، وما له من رفيع الدرجات.

قال: وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ، لما كان النبي ﷺ بهذه المنزلة كان لأزواجه من الحرمة والتعظيم والإجلال والإكرام ما جعلهن بهذه المثابة: أمهات المؤمنين، وليس المقصود هنا أنها تكون أمًّا بمعنى أنهم يرثونها ولا يحل لهم أن يتزوجوا بنتها مثلاً، وإنما المقصود في الحرمة والتعظيم والإجلال، يحرم عليه أن يتزوجها، ويجب أن يوقرها وأن يعظمها فهي أم له، هذه منزلة أمهات المؤمنين، وإنما حصلت لهن تلك المنزلة لمكانهن من رسول الله ﷺ، فإن تعظيمهن تعظيم له -بأبي هو وأمي عليه الصلاة والسلام، وهل هذا يختص بالرجال وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ، أو يكون ذلك للرجال والنساء؟ قالت امرأة لعائشة: "يا أُمَّهْ، فقالت: لست لك بأم إنما أنا أم رجالكم"، والأقرب -والله تعالى أعلم- أنها أم للجميع، للرجال والنساء، أمهات المؤمنين؛ لأن مثل هذا اللفظ يدخل فيه النساء بحكم التبع، فهو وإن كان الخطاب للذكور كما هو الغالب في القرآن أن الله يخاطبهم، لكن النساء يلحقن بهم على سبيل التبع، وهذا الذي اختاره أبو عبد الله القرطبي -رحمه الله.

وهل يقال للنبي ﷺ أنه أب للمؤمنين؟ معلوم أن الأبوة نوعان:

الأولى: أبوة نسب، وهذه التي تكون سبباً للوجود في الحياة.

والثانية: وهي أبوة تربية وتعليم، وهذه التي تكون سبباً للفلاح؛ ولهذا تكلم العلماء -رحمهم الله- على الأبوتين وأيهما أشرف، هل هي الأبوة التي كانت سبباً لخروج الإنسان إلى الدنيا أم الأبوة التي تكون سبباً لفلاحه وفوزه، ونيله للمطالب العالية؟، فالنبي ﷺ أب للمؤمنين ويدل على ذلك ما جاء في مصحف أُبيّ وهي قراءة غير متواترة، لكنه يحتج بالقراءة الأحادية إذا صح سندها، وتفسر القراءة المتواترة، قال: "وأزواجه أمهاتهم وهو أب لهم"، وقرأ ابن عباس: "النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وهو أب لهم وأزواجه أمهاتهم"، فهذه الأبوة ثابتة للنبي ﷺ، وعلى هذا المعنى حمل طوائف من المفسرين قوله -تبارك وتعالى- في خبر لوط حينما قال لقومه عندما جاءوا يهرعون إليه قال: هَؤُلاء بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ [سورة هود:78] فكثير من أهل العلم قال: المقصود بنات القبيلة، فالنبي بمنزلة الوالد لهن، بمنزلة الأب هَؤُلاء بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ، وعلى هذا تحمل بعض العبارات التي يلبس بها النصارى مما يذكر في أناجيلهم المحرفة، عن قِيل عيسى  في بعض العبارات أنه قال: "أبي" يقصد ربه -تبارك وتعالى، فلو صح ذلك فإنه يحمل على أبوة التربية، وإن كنا لا نستسيغ هذا في شرعنا؛ لأن الله لا يوصف ولا يسمى إلا بما سمى به نفسه أو سماه به رسوله ﷺ، وتلك كتب محرفة لا نستطيع أن نثبت ما جاء فيها مما لم يرد في شرعنا، ثم اختلف العلماء في من طلقها النبي ﷺ هل تثبت لها هذه المنزلة أو الصفة: أم المؤمنين؟ فمن أهل العلم من يقول: نعم، ومنهم من يقول: لا، ومن يقول يفرق بين من دخل بها النبي ﷺ وبين من لم يدخل بها، وهذا هو الأقرب، وأخبار الصحابة دالة على هذا، وهل يقال: بنات النبي ﷺ أخوات للمؤمنين، هو أب لهم وأزواجه أمهاتهم فهل بناته أخواتهم؟، وهل يقال لإخوان أمهات المؤمنين: أخوال المؤمنين كما يقوله بعضهم: إن معاوية خال المؤمنين، كما في بعض المنظومات في العقيدة؟، فمن أهل العلم من قال بهذا، وقد نص عليه الشافعي ولا دليل عليه، ومثل هذا لا يطرد وإنما يوقف عند ما ورد به النص، والعلم عند الله ، فالله -تبارك وتعالى- يقول: النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُوْلُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَن تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُم مَّعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا، فهذه الآية تقرر حكماً جديداً ينسخ حكماً كان في أول الإسلام، كان الناس يتوارثون بالولاء والهجرة، كان الرجل إذا جاء من مكة أو مهاجراً من محل مهاجرته فإن النبي ﷺ يؤاخي بينه وبين أحد من الأنصار، ثم يحصل التوارث بينهم على هذا الولاء والمؤاخاة، فنسخ ذلك، فقال الله -تبارك وتعالى: وَأُوْلُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ يعني: في الميراث، ومعنى فِي كِتَابِ اللَّهِ الأقرب -والله تعالى أعلم- أن المراد به القرآن، ومن أهل العلم من حمله على اللوح المحفوظ، أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَالذين حصل بينهم المؤاخاة والحلف والولاء ثم قال: إِلَّا أَن تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُم مَّعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا، هؤلاء الأولياء ممن حصلت المؤاخاة بينكم وبينهم فإذا أردت أن تحسن إليه -وحسن العهد من الإيمان- فأن توصي له بما لا يزيد عن الثلث؛ لأنه لن يرث بهذه المؤاخاة وهذا النوع من الولاء، وبعض أهل العلم يقول: إلا أن توصوا لذوي قراباتكم من غير أهل الإيمان والهجرة، وهذا قال به طائفة من السلف، والأقرب -والله تعالى أعلم- وهو الذي اختاره كبير المفسرين ابن جرير -رحمه الله- أن المراد به تلك المؤاخاة التي حصلت في أول الإسلام فكانوا يتوارثون بها، في أول الهجرة، ثم نسخ هذا فصار الميراث بين القرابات، ومن أراد أن يحسن إلى أحد من هؤلاء أوصى له.

وقوله -تبارك وتعالى: كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا الكتاب هنا المراد به اللوح المحفوظ، ومعنى مَسْطُورًا أي: مكتوباً، لكن ذلك الحكم كان مؤقتاً للحاجة، الناس يأتون في حال من الفقر والشدة ويترك كل شيء خلف ظهره، فيأتي إلى بلد ليس عليه إلا إزار أو رداء ثم بعد ذلك يكون بحاجة إلى رعاية وإلى من يحسن إليه، أو من يقوم على بعض شئونه، فوجد هذا الحلف أو الولاء أو المؤاخاة بين أهل الإيمان من المهاجرين والأنصار .

ثم قال الله وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا، واذكر إذ أخذنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ... هذه الآية تبين أخذ الميثاق على الأنبياء كما في قوله -تبارك وتعالى: وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ [سورة آل عمران:81]، فدل القرآن على أنه أخذ عليهم الميثاق أن يصدق بعضهم بعضاً، وأن ينصر بعضهم بعضاً، فهذا أظهر ما قيل في هذه الآية، وكتاب الله يفسر بعضه بعضاً، إضافة إلى بعض المعاني التي قد لا تنافي هذا المعنى أن الله أخذ عليهم الميثاق ببلاغ الرسالة وألا يخشوا أحداً إلا الله -تبارك وتعالى، الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحداً إلا الله، وهكذا بإقامة الدين وعدم التفرق فيه، أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ [سورة الشورى:13]، فهذا مما أخذ به الميثاق، وهذا الذي ذهب إليه الحافظ ابن كثير -رحمه الله تعالى.

وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ ثم قال: وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ هذا من باب عطف الخاص على العام، فإن لفظ النبيين يشمل النبي ﷺ ونوحاً ومن ذكر، لكن الله ذكر هؤلاء، فذكْرُ الخاص بعد العام مؤذن بشرفه أو منزلته أو تكريمه أو نحو ذلك، فذكَرَ هؤلاء الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- الخمسة، وَمِنكَ فقدمه ﷺ عليهم فهو أشرفهم ﷺ، وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا، هذه الآية يذكر كثير من أهل العلم أن هؤلاء هم أولو العزم من الرسل -عليهم الصلاة والسلام، ويربطون بين هذه الآية وآية الشورى، وهي قوله -تبارك وتعالى: شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وقدم نوحاً في سورة الشورى، وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى، فقالوا: إن هؤلاء هم أولو العزم الذين ذكرهم الله بقوله: فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ، والأقرب -والله تعالى أعلم: أن أولي العزم لا يحصرون بخمسة، وآية الأحزاب والآية الأخرى ليس فيهما ما يدل على الحصر، وقوله -تبارك وتعالى: فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ [سورة الأحقاف:35] يأمره بأن يصبر كما صبر أصحاب العزائم العظيمة من الرسل الكبار -عليهم الصلاة والسلام- حيث صبروا صبراً عظيماً في ذات الله ، ولا يوجد دليل على حصر هؤلاء بخمسة، ولاشك أن هؤلاء الخمسة من أجلّهم وأشرفهم وأعظمهم، وهذا الوصف ليس نفياً له عن غيرهم، ولهذا فإن بعض أهل العلم يقول: كل الرسل من أولي العزم، والله -تبارك وتعالى- أمر نبيه ﷺ أن يصبر صبراً كصبر أولي العزم من الرسل وهم أصحاب العزائم العظيمة، ولعل هذا أقرب ما تفسر به هذه الآية، وبعضهم يقول: إن الميثاق هو حينما كانوا على صورة الذرّ استخرجهم الله من صلب أبيهم آدم .

ثم قال الله -تبارك وتعالى- بعد ذلك: لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَن صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا، ليسأل الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- عن البلاغ، وعما أجابهم به أقوامُهم، وعن الوفاء بالميثاق الذي أخذه عليهم، وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ، قال: لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَن صِدْقِهِمْ، ليسأل المبلغين عن الله مِن أتباع الرسل، المبلغين عن الرسل -عليهم الصلاة والسلام- هل قاموا بما يجب عليهم الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ، فالآية تحتمل هذا كله، فالمقصود بها أن الصادقين يُسألون عن صدقهم، والشأن كما قال ابن القيم -رحمه الله: إذا سئل الصادقون عن صدقهم وحوسبوا عليه، فما الظن بالكاذبين؟!، فالحافظ ابن القيم -رحمه الله- يحمل الآية على هذه المعاني جميعاً، وكل هؤلاء ممن ينطبق عليهم هذا الوصف -وصف الصدق- يسألون عن صدقهم، يحاسبون على هذا الصدق، فالأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- وأتباع الرسل من الدعاةِ إلى الله والمبلغين عن الرسل إلى غير ذلك، والله تعالى أعلم.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا ۝ إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا ۝ هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا ۝ وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا ۝ وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا ۝ وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا ۝ وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا [سورة الأحزاب:9-15].

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

ففي هذه الآية يذكر الله -تبارك وتعالى- خبر هذه الوقعة وهي وقعة الخندق –الأحزاب، وذلك أن نفراً من اليهود وهم من أشراف بني النضير الذين أجلاهم النبي ﷺ إلى خيبر، وكان جلاؤهم وخروجهم قبل قريظة، ومعلوم أن اليهود الذين كانوا في المدينة كانوا يهود النضير وقريظة وقينقاع، فقينقاع أُجلوا في الواقعة المعروفة، وذلك أن امرأة من المسلمين جاءت إلى سوقهم، فجلست إلى أحد هؤلاء الباعة فطلب منها أن تكشف وجهها، والمؤمنة تغطي وجهها؛ لأن الله أمرها بذلك، فاحتال عليها وتحين غفلتها، فربط طرف ثوبها من أسفله في أعلاه دون أن تشعر فلما قامت انكشفت عورتها، فصاحت: يا للمسلمين، فلا يُدرى أيهما أسرع هو صوتها الذي قالته أو تدحرُجُ رأس اليهودي، مباشرة سبق السيف إلى رأسه فتدحرج رأسه، فهذا نقض للعهد الذي عاهدهم النبي ﷺ حينما قدم إلى المدينة، وإذا برسول الله ﷺ يتهيأ لحربهم، فكان آخر ذلك أنهم سلموا أمرهم إليه، وشفع فيهم: من الذي يتحرك في هذه الأجواء عادة ويغار على اليهود، ويدافع عن اليهود، ويحامي لليهود؟، هم أهل النفاق، فتحركت نخوة عبد الله بن أبيّ بن سلول فشفع لهم، فاكتفى النبي ﷺ بطردهم من المدينة، بسبب امرأة واحدة عُقد ثوبها، عُقد أسفله بأعلاه، فكانت سبباً لإخراجهم من المدينة، والثكالى كما ترون الآن والحرائر والعجائز يرفعن أيديهن إلى السماء ويبكين بملء أفواههن، والحال ما ترون، وتأتي رسائل في الجوال: أنتم نساء، أنتم جبناء، ماذا فعلتم؟!! ونحن لا نستطيع أن نفعل شيئاً، وليس بأيدينا شيء إلا أن نبين للناس الأحكام والواقع، وما يتصل بكل مكلف، وأما الطائفة الثانية فهم النضير وقد نقضوا العهد مع رسول الله ﷺ وقد ذكر لذلك أسباب في كتب السيرة، من أشهرها خبر الرحى التي أرادوا إلقاءها على رسول الله ﷺ، وقد تتابعت المصائب على المسلمين بعد وقعة أحد، كالغدر الذي حصل في بئر معونة، ووقعة الرجيع، ومَن قتل من خيار أصحاب النبي ﷺ إضافة إلى الهزيمة التي كانت في أحد وما وقع فيها من القتل والجراح، ثم بعد ذلك ذهب هؤلاء اليهود الذين لم يرضهم رجوع قريش بعد وقعة أحد قبل أن يستأصلوا المسلمين، فذهب هؤلاء من أشراف بني النضير، وبنو النضير يرون أنهم أشرف من بني قريظة، وهم فئة يقال: إن نسبهم يتصل بهارون ولم يقع لهم جلاء في التاريخ قبل هذا -أي بني النضير، فأخرج طائفة من أشرافهم إلى خيبر وهم حيي بن أخطب ومن معه، وكثير منهم ذهبوا إلى الحيرة وأطراف الشام في أذرعات قريباً من أطراف جزيرة العرب، في أول الشام، وجاء هؤلاء من الموتورين الحانقين فذهبوا يؤلبون قريشاً ويخبرونهم أنهم سيؤلبون غيرهم من قبائل العرب على رسول الله ﷺ، ولا فرق بين يهودي وغيره من أعداء الإسلام، فأعداء الإسلام يجتمعون -وإن اختلفت أعراقهم وأجناسهم ولغاتهم وأديانهم- في سبيل حرب هذا الدين، وقد قال الله في من تولى غير المؤمنين:، أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِم مَّا هُم مِّنكُمْ وَلَا مِنْهُمْ [سورة المجادلة:14]، يعني: هؤلاء تولوا قوماً ليسوا من المسلمين، فأهل النفاق في الظاهر من المسلمين، فيكون لهذا التولي مبرر، وَلَا مِنْهُمْ، وليسوا من المنافقين، هم يهود، جاء طائفة من هؤلاء منهم سلَّام بن أبي الحقيق النضري وحيي بن أخطب وكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق وسلَّام بن مشكم وهوذة بن قيس، وأبو عمار الوائلي في طائفة من بني النضير وبني وائلة، قدموا مكة ودعوا إلى حرب النبي ﷺ، ويروى -وإن كان في هذه الروايات ضعف- أن قوله -تبارك وتعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَؤُلاء أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ سَبِيلاً ۝ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللّهُ وَمَن يَلْعَنِ اللّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا ۝ أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لاَّ يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا ۝ أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَآ آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا ۝ فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُم مَّن صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا [سورة النساء:51-55]، كان بسبب ذهاب كعب بن الأشرف أو حيي بن أخطب يحرض على قتال النبي ﷺ وأنهم سألوه قالوا: أنتم أهل كتاب، نحن أهدى أم محمد؟ قال: أنتم أهدى من محمد وسجدوا لأصنامهم، ثم انطلقوا إلى غطفان، فجاءت غطفان مع قائدهم عيينة بن حصن بن بدر، وجاءت قريش ومن معها من الأحزاب، فخرج حيي بن أخطب متسللاً إلى قريظة وطرق على كعب بن أسد وهو سيد قريظة الذي كانت تتراءى عذارى الحي بالنظر في وجهه من جماله، كأن وجهه مرآة صينية، وهذا في نظر هؤلاء اليهود، وإلا فهو وجه كالح أسود؛ فإن العقائد تظهر على الوجوه كما تظهر السيئات على وجوه أصحابها، فالشاهد أن حيي بن أخطب طرق عليه الباب -باب الحصن- فأبى أن يفتح له، فاستفزه بكلمة قال له: إنما خشيتَ أن أطعم معك، يعني أغلقت عليّ الباب من أجل ألا آكل معك، ففتح له الباب، فقال: جئتك بعز الدهر، جاءت قريش ومن معها من الأحابيش وغطفان، يريد منه أن ينقض العهد مع رسول الله ﷺ، فقال: جئتني والله بذل الدهر، وتكلَّم عليه وقال: إنك رجل مشئوم، وقال له: جئتني بجهام يبرق ويرعد، وليس فيه شيء، ليس فيه مطر، بجهام، والجهام هو السحاب الذي لا مطر فيه، فما زال به حتى نقض العهد، واستجاب له، وكانت قريظة في بعض الإحصاءات التي ذكرت: تقرب من ثمانمائة مقاتل، ولكن هذا ليس محل اتفاق، فسيأتي في الكلام عليهم حينما قتلهم النبي ﷺ أنهم لربما يبلغون الأربعمائة مقاتل، يعني من يقدر على حمل السلاح، وفي هذا يقول عبد الله بن أبيّ رئيس المنافقين ينتقد حكم النبي ﷺ وحكم سعد بن معاذ الذي قال فيه النبي ﷺ: والذي نفسي بيده لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة[5]، سبع سماوات، فيقول: يقتل أربعمائة دارع في غداة واحدة! ينتقد النبيَّ ﷺ، ولما أرسل النبي ﷺ والناس على الخندق- ليستطلع الخبر، لما بلغه أن قريظة قد نقضت، كانوا في شدة، في شتاء وجوع وخوف شديد، يحاربهم مَن في الأرض، فخرجوا، وضعوا النساء في بعض آطام المدينة -أي الحصون- وخرجوا إليهم، وولى النبي ﷺ على المدينة عبد الله بن أم مكتوم ، وأرسل إلى قريظة خوَّات بن جبير وعبد الله بن رواحة والسعدين: سعد بن عبادة وسعد بن معاذ، فوجدوهم قد أدخلوا مواشيهم ويصلحون الطرق ويهيئون حصونهم، ووجدوهم بشر حال وقد نالوا من النبي ﷺ وشتموه، فجعل سعد بن عبادة يشتمهم ويرد عليهم بالمثل، فالشاهد أن النبي ﷺ طلب منهم إن كان ذلك الخبر غير صحيح أن يعلنوا ذلك في الناس، وإن كان صحيحاً أن يلحنوا له لحناً يعرفه، فقالوا: عضل والقارة، وهؤلاء هم القبائل الذين غدروا بالقراء، ودعا عليهم النبي ﷺ في القنوت، فكان ذلك -على الأشهر والأرجح الذي عليه عامة أهل العلم- في السنة الخامسة في شهر شوال، وهذا هو الذي اختاره الحافظ ابن كثير، والحافظ ابن القيم -رحمهما الله تعالى، وبعضهم يقول كموسى بن عقبة ورجحه ابن حزم وهو المروي عن الإمام مالك: إن ذلك كان في السنة الرابعة، معلوم أن غزوة أحد كانت في السنة الثالثة في شوال، فيقولون: إن هؤلاء اليهود أرادوا منهم أن يرجعوا ثانية ليستأصلوا المسلمين فجاءوا في السنة الرابعة، والذين يقولون في السنة الخامسة يحتجون أيضاً ببعض الحجج، واستمر الحصار أكثر من عشرين ليلة، وبعضهم يقول: قريباً من شهر، وسلمان هو الذي أشار على النبي ﷺ بحفر الخندق، ولسنا بصدد ذكر التفاصيل في الوقعة، لكن حفر الخندق من ابتداء الحرة الغربية إلى أطراف الحرة الشرقية تقريباً، واختلف في المدة التي حفر فيها هذا الخندق، لكنها في المقاييس المعتادة المعهودة تعتبر مدة وجيزة جداً؛ لأن الحفر بالمعاول في وقت شدة وجوع، وكان رسول الله ﷺ يحفر مع أصحابه، وتعرفون خبره ﷺ حينما خرج عليهم وهم يحفرون في غداة باردة، فقال:

اللهم لا عيشَ إلا عيش الآخرة فاغفر اللهمّ للأنصار والمهاجرة

وكانوا يقولون:

نحن الذين بايعوا محمداً  على الجهاد ما بقينا أبداً

الشاهد: الذين جاءوا، جاءت قريش ومن معها من الأحابيش، وليس المقصود بالأحابيش أنهم من الحبشة، أفارقة، لا، هم عرب من بني المصطلق ونحوهم نسبوا إلى جبل قريب من مكة، فهم قبائل عربية يقال لهم: الأحابيش، جاء بنو سليم وديارهم معروفة إلى اليوم، بين مكة والمدينة مما يلي مكة، وجاء بنو أسد وبنو فزارة وأشجع وبنو مرة وجاءت غطفان وقائدهم عيينة بنحو ألف مقاتل، وهذه الآيات يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا، جرى التعليق على أول هذه السورة لارتباطه بالوقعة من جهة المعنى، فآيات القرآن الترتيب فيها توقيفي، بمعنى أن النبي ﷺ هو الذي أرشدهم إلى هذا الترتيب، فالمناسبات في هذا الترتيب معتبرة، خلافاً للمناسبات بين السور على القول بأن ترتيب السور غير توقيفي، فلما أمر الله في أولها رسوله ﷺ بالتقوى ومخالفة الكافرين والمنافقين وأمره باتباع ما أوحاه الله إليه، وأمره بالتوكل عليه، كل ذلك ذكره قبل ذكر هذه الواقعة، وقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ فيه إشارة إلى أن ذلك التأييد الذي حصل،فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا، هذا التأييد حيث رد عنهم الأحزاب بما ردهم به، فرجعوا بغيظهم، وهكذا أيضاً بقي الحنق والغيظ في نفوس المنافقين فلم يحصل لهم التشفي، وإنما ذلك أثر من آثار الميثاق، كإقامة الدين، والبلاغ المبين، والقيام بما أمر الله به، وترك طاعة الكافرين والمنافقين، كل ذلك نتيجته هذا النصر المؤزر، فلما كان المسلمون لا يملكون العدة التي يستطيعون بها مقارعة هؤلاء، المسلمون يبلغون نحو ثلاثة آلاف، والكفار جاءوا بنحو عشرة آلاف، فلا يملكون مواجهة هذه الجيوش الجرارة بهذه المساحة الصغيرة من الأرض، فأنزل الله جنوداً من السماء، فزلزلهم وأرسل هذه الرياح فتحركت بقوة عاصفة وصارت تحمل الأتربة وتملأ عيونهم وأفواههم ووجوههم وقدورهم فتشردت أنعامهم، وجالت خيلهم، وانقلعت خيامهم، وألقى الله في قلوبهم الرعب، فالشاهد أن الله بدأ بالتذكير بهذه النعمة، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ، فإن ذكر النعم مؤذن ببقائها وثباتها ودوامها، وهذا الذكر يكون بالقلب وباللسان وبالجوارح، استحضار النعمة بالقلب، والقيام بألوان العبوديات القلبية من التوكل والصبر والتقوى ومحبة الله والخوف منه وحده لا شريك له، أضف إلى ذلك العبادات التي تكون باللسان باللهج بذكره، لا بذكر غيره، وقيام الجوارح بالعبودية لله دون أحد سواه، فهذا التذكير أيضاً يزيدهم يقيناً ويبصرهم بقوة ربهم ، وأن حاجتهم إليه وفقرهم إليه فوق كل فقر وحاجة، ووجَّه الخطاب إليهم، يا أيها الذين آمنوا؛ لأنه يعنيهم، وهم المتهيئون للقبول، والواقعة كانت تتصل بهم، وفي هذا تخليد لهذه الوقعة، وتخليد لكرامتهم، وما حصل لهم من ألطاف الله ، وفيه تحقير لعدوهم بشقيه المنافق والمشرك الكافر، وما يعقب ذلك من ذكر اليهود، فالله يأمرهم بذكر هذه النعم؛ ليتجدد لهم الاعتزاز بالدين، والثقة به، وبالصراط المستقيم الذي يسيرون عليه، والثقة بالله ربهم ومليكهم وخالقهم فهو الذي يملك القوى والقُدر، فكل شيء إنما هو بيده له مقاليد السماوات والأرض، فهو القاهر فوق عباده، وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ، لمّا قال: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا [سورة الأنعام:112]، قال: وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ ۝ وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُواْ مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ [سورة الأنعام:112-113]، اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ۝ وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكُواْ وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ [سورة الأنعام:106-107]، كل هذه التعليمات من الله -، ولو شاء لآمن من في الأرض كلهم جميعاً، وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ ۝ وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ [سورة يونس:99-100]، وهكذا الله -تبارك وتعالى- في هذه السورة في أوائلها حيث يذكر بهذه النعمة يبتدئها بالنهي عن طاعة الكافرين والمنافقين؛ لأنهم لا يورثونهم إلا الذل والمهانة والاستخفاف، فهو يحذرهم منهم ومن كيدهم وأراجيفهم، وقضية التبني وتزوج النبي ﷺ من زوجة المتبنَّى زينب بنت جحش بنت عمته ﷺ، كل هذا مجال لإرجاف المنافقين، هم يبحثون عن أدنى فرصة من أجل أن يقوموا بهالة إعلامية يرجفون بها بأهل الإيمان، ولو كان أكبر رأس كرسول الله ﷺ، ولهذا قال الله في هذه السورة: وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ، ما الذي أخفاه؟، ما تجدونه في بعض كتب التفسير لا أساس له من الصحة، الذي أخفاه النبي ﷺ هو ما وقع في نفسه من التخوف من ألسنة المنافقين، فكان يقول لزيد لما تعثرت العشرة وتعذرت بينه وبين زوجه زينب بنت جحش، لما تعذرت العشرة كان النبي  ﷺ يقول: أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ [سورة الأحزاب:37]، مع أن الله أخبره أنه سيطلقها، وسيتزوجها النبي ﷺ، ومع ذلك كان يقول: اتق الله وأمسك عليك زوجك، يقول: وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا، فالشاهد: أن الله -تبارك وتعالى- أمر رسوله ﷺ أن لا يصغي لهؤلاء ولا يكترث بهم، ولهذا يقول في ثنايا هذه السورة: وَدَعْ أَذَاهُمْ [سورة الأحزاب:48] فُسر بالوجهين، دع أذاهم: بعضهم يقول: معنى ذلك لا توصل الأذى لهم أعرض عنهم، وهذا لا يخلو من إشكال في السور المدنية، والمعنى الثاني: وَدَعْ أَذَاهُمْ: لا تلتفت إلى ما يوصلونه إليك من الأذى أعرض عنه، فلا يؤثر في قلبك ونفسك، ولا تضعف من أجله، فالله يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا، وقدم الريح هنا باعتبار أن الريح هي التي أطارت بهم، والملائكة لم تقاتل في وقعة الأحزاب، فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا، وهذه الريح هي الصِّبا، وهي الريح التي تهب من جهة الشرق، والنبي ﷺ يقول: نصرت بالصِّبا وأهلكتْ عاد بالدبور[6]، والدبور هي الريح التي تأتي من جهة الغرب، بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ [سورة الحاقة:6]، هذه هي الدبور التي أُهلكت بها عاد، وهذه هي الصبا التي نُصر بها النبي ﷺ، بِرِيحٍ والتنكير هنا يمكن أن يفيد التعظيم، أي ريح عظيمة، قلعت الخيام وأفسدت معسكر المشركين وفرقت جمعهم، وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ [سورة المدثر:31]، بريح، فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا، وهم الملائكة -عليهم الصلاة والسلام، فزلزلوا بهم وألقوا الرعب في قلوبهم، وحصل ما حصل مما تعرفون، ثم يقول الله عن هؤلاء الجموع الذين تحزبوا على رسول الله ﷺ وعلى أهل الإيمان معه: إِذْ جَاءُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا ۝ هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا [سورة الأحزاب:10-11].

  1. رواه البخاري، كتاب الكفالة، باب الدين، برقم (2176)، ومسلم، كتاب الفرائض، باب من ترك مالا فلورثته، برقم (1619).
  2. رواه البخاري، كتاب الإيمان، باب حب الرسول ﷺ من الإيمان، برقم (15)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب وجوب محبة رسول الله ﷺ أكثر من الأهل والولد والوالد، برقم (44).
  3. رواه البخاري، كتاب الأيمان والنذور، باب كيف كانت يمين النبي ﷺ، برقم (6257).
  4. رواه البخاري، كتاب الاستقراض وأداء الديون والحجر والتفليس، باب الصلاة على من ترك دينا، برقم (2269).
  5. رواه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب إذا نزل العدو على حكم رجل، برقم (2878)، ومسلم، كتاب الجهاد والسير، باب جواز قتال من نقض العهد وجواز إنزال أهل الحصن على حكمِ حاكمٍ عدلٍ أهلٍ للحكم، برقم (1768)، ولفظهما: لقد حكمت فيهم بحكم الملك، وهذا اللفظ رواه ابن سعد في الطبقات (2/75).
  6. رواه البخاري، كتاب الاستسقاء، باب قول النبي ﷺ: نصرت بالصبا، برقم (988)، ومسلم، كتاب صلاة الاستسقاء، باب في ريح الصبا والدبور، برقم (900).

مواد ذات صلة