الجمعة 19 / رمضان / 1445 - 29 / مارس 2024
[8] من قوله تعالى: {وَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ} الآية 65 إلى قوله تعالى: {كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلوبِ الْمُعْتَدِينَ} الآية 74
تاريخ النشر: ٠٧ / ربيع الآخر / ١٤٢٨
التحميل: 3012
مرات الإستماع: 2232

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وصحبه.

قال المصنف -رحمنا الله تعالى وإياه- في تفسير قوله تعالى:

وَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ۝ أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ ۝ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ [سورة يونس:65-67].

يقول تعالى لرسوله ﷺ: ولا يحزنك قول هؤلاء المشركين واستعن بالله عليهم، وتوكل عليه فإن العزة لله جميعاً، أي جميعها له ولرسوله وللمؤمنين هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ أي: السميع لأقوال عباده العليم بأحوالهم، ثم أخبر تعالى أن له ملك السماوات والأرض، وأن المشركين يعبدون الأصنام وهي لا تملك شيئاً لا ضراً ولا نفعاً، ولا دليل لهم على عبادتها، بل إنما يتبعون في ذلك ظنونهم وتخرصهم وكذبهم وإفكهم، ثم أخبر أنه الذي جعل لعباده الليل ليسكنوا فيه، أي يستريحون فيه من نَصَبهم وكلالهم وحركاتهم.

 وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا أي: مضيئاً لمعاشهم وسعيهم وأسفارهم ومصالحهم إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ أي: يسمعون هذه الحجج والأدلة فيعتبرون بها، ويستدلون على عظمة خالقها ومقدرها ومسيرها.

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقوله -تبارك وتعالى: وَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ: وَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ أي تكذيبك واتهامك بأنك ساحر وشاعر أو كذاب، أو غير ذلك مما يصدر عنهم من ألوان الإعراض والتكذيب والمكابرة، كما قال الله في مواضع من كتابه: وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ [سورة النمل:70] فنهاه عن الحزن عليهم، فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ [سورة الكهف:6] أي: مُهلك نفسك عَلَى ءاثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا فهذا كله تسلية للنبي ﷺ؛ لأن الله قدر ما قدر من الهدى والضلال عن علم وحكمة، وما على الأنبياء إلا البلاغ، وهكذا من جاء بعدهم من الدعاة إلى الله -تبارك وتعالى- إنما يبلغون الناس ويدعونهم وليس على أحد هداية الخلق، وإنما ذلك يختص بالله .

وقوله هنا: إِنَّ الْعِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعًا هذا لا ينافي قوله: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ [سورة المنافقون:8]، فالعزة التي تكون للرسول ﷺ وللمؤمنين هي مستمدة من عزة الله ، فإنما يحصل لهم ذلك بإعزاز الله لهم، فالعزة لله جميعاً، وقوله -تبارك وتعالى: وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ شُرَكَاء هذا أيضاً لا ينافي قوله -تبارك وتعالى- في الآيات الأخرى قُلِ ادْعُواْ شُرَكَاءكُمْ [سورة الأعراف:195] ونحو ذلك مما جاء في القرآن، فسماهم شركاء، وهنا نفى عنهم أن يكونوا شركاء، فالآيات التي سماهم فيها شركاء، هذا باعتبار نظر هؤلاء الكفار، فهم نزلوها هذه المنزلة، والخطاب في القرآن يأتي كثيراً باعتبار نظر السامع ومراعاة لحاله، سواء كان يعتقد المخاطِب، صحته أو لا يعتقد صحته، مثل قوله: قُلِ ادْعُواْ شُرَكَاءكُمْ، أو قولهم: يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ [سورة الحجر:6] فهم لا يؤمنون أنه نزل عليه الذكر.

فالحاصل أن هذا كثير في القرآن فبيّن حقيقتهم وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ شُرَكَاء إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ، وقوله هنا: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا النهار مبصراً: أي تبصرون فيه، ينجلي الظلام وينطلق الناس في معايشهم ومصالحهم، هذا هو المعنى، فأضاف الإبصار إليه، وذلك على طريقة العرب، فخاطبهم بما يعهدون من المخاطبة، وإن كان النهار في نفسه لا يبصر، وإنما الناس هم الذين يبصرون في النهار، ولكن العرب تعبّر بهذا كثيراً وتضيف الإبصار إلى النهار فعبر بمعهودهم.

قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ۝ قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ ۝ مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ [سورة يونس:68-70].

يقول تعالى منكراً على من ادعى أن له ولداً سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ أي: تقدس عن ذلك، هو الغني عن كل ما سواه، وكل شيء فقير إليه، لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أي: فكيف يكون له ولد مما خلق وكل شيء مملوك له، عبد له؟ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أي: ليس عندكم دليل على ما تقولونه من الكذب والبهتان.

 أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ إنكار ووعيد أكيد وتهديد شديد، كقوله تعالى: وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا ۝ لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا ۝ تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا ۝ أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا ۝ وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا ۝ إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا ۝ لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا ۝ وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا [سورة مريم:88-95].

ثم توعد تعالى الكاذبين عليه المفترين ممن زعم أن له ولداً بأنهم لا يفلحون في الدنيا ولا في الآخرة، فأما في الدنيا فإنهم إذا استدرجهم وأملى لهم متعهم قليلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ [سورة لقمان:24] كما قال تعالى هاهنا: مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا أي: مدة قريبة، ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ أي: يوم القيامة ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ أي: الموجع المؤلم، بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ أي: بسبب كفرهم وافترائهم وكذبهم على الله فيما ادعوا من الإفك والزور.

هنا في قوله: قَالُواْ اتَّخَذَ اللّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ وجه هذا الرد باعتبار أن اتخاذ الولد يكون من حاجة، فالإنسان يحتاج إلى الولد ليكون عاضداً له، فهو مفتقر إليه، أمّا الغَنِيُّ الغِنَى الكامل المطلق فإنه لا يحتاج إلى الولد، ثم إن قوله: لَهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ يعني: أن الكل عبيده ومماليكه، والولد بخلاف ذلك، ولهذا فإن الإنسان لو اشترى ولده المملوك فإنه يعتق عليه بهذا الشراء، فالولد له حكم الأب، ولو كان لله ولد فإنه سيكون إلهاً، والله يقول: كل من في السماوات والأرض فهم عبيده ومماليكه، هذا وجه الرد، هذا هو المقصود بهذا الجواب، والله تعالى أعلم.

وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ ۝ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ۝ فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ [سورة يونس:71-73].

يقول تعالى لنبيه -صلوات الله وسلامه عليه: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ أي: أخبرهم واقصص عليهم، أي على كفار مكة الذين يكذبونك ويخالفونك نَبَأَ نُوحٍ أي: خبره مع قومه الذين كذبوه، كيف أهلكهم الله ودمرهم بالغرق أجمعين عن آخرهم؛ ليحذر هؤلاء أن يصيبهم من الهلاك والدمار ما أصاب أولئك، إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ أي: عظُم عليكم، مَقَامِي أي: فيكم بين أظهركم، وَتَذْكِيرِي إياكم بِآيَاتِ اللَّهِ، أي: بحججه وبراهينه.

قال الحافظ -رحمه الله- في قوله -تبارك وتعالى: مَقَامِي: "أي فيكم وبين أظهركم"، المَقام بالفتح هو موضع الإقامة، وبالضم المُقام بمعنى الإقامة، إقامتي، إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي يعني: موضع الإقامة، وبالضم بمعنى الإقامة، ويحتمل أن يكون المراد أيضاً النفس؛ لأن ذلك يعبر به عنها، تقول: مقام فلان إلى مقامكم، ونحو هذا، ويعبر به أحياناً عن المكث -والله أعلم، وهذه المعاني بينها ملازمة، وإنما شق عليهم ذلك؛ لقيامه عليهم بالدعوة إلى التوحيد، فكبُر عليهم ما يدعوهم إليه.

فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ أي: فإني لا أبالي ولا أكف عنكم سواء عظم عليكم أو لا، فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ أي: فاجتمعوا أنتم وشركاؤكم، الذين تدعون من دون الله من صنم ووثن.

قوله: فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ قال الحافظ –رحمه الله: "فاجتمعوا"، وأجمعوا بمعنى اعتزموا، تقول: أجمع أمره يعني عزم، أجمع أمره على كذا، بمعنى عزم عليه، فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ قال: الذين تدعون من دون الله من صنم ووثن.

قوله: فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْأي: اعزموا عليه، وَشُرَكَاءَكُمْ نصب بفعل مقدر محذوف يصلح لمثل هذا؛ لأن هؤلاء الشركاء لا يحصل منهم العزم، فيكون فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وادعوا شركاءكم، ويدل على هذا المعنى قراءة أُبَيّ، وهي قراءة ليست متواترة، "فأجمعوا أمركم وادعوا شركاءكم" وذكرنا من قبل أن القراءة الأحادية يستفاد منها ثلاث فوائد:

من هذه الفوائد: أنها تفسر القراءة المتواترة، وهذا كثير في القرآن وفي كلام العرب، فالله يقول مثلاً في سورة الحشر: وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ [سورة الحشر:9]، وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ تبوءوا بمعنى نزلوا واستوطنوا، يعني سكنوا الدار، من اتخاذ المباءة تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ الإيمان لا يُسكن، فعبر عنهما بفعل واحد وهو التبوُّء، فيمكن أن يكون تَبَوَّءُوا الدَّارَ يعني سكنوا الدار واعتقدوا الإيمان أو: ولزموا الإيمان، كقول الشاعر:

ورأيت زوجك في الوغى متقلداً سيفاً ورمحاً.

والتقلد إنما يكون للسيف، وهي طريقة معروفة عند العرب، يعني يجعلون للسيف حمائل ويضعونه في الرقبة ويتقلدونه، والعجم يربطونه بحزام في جانبهم كما هو معروف، والرمح يحمل باليد، فقال: متقلداً سيفاً ورمحاً، والتقدير متقلداً سيفاً وحاملاً رمحاً، على كل حال وَشُرَكَاءَكُمْ أي وادعوا شركاءكم، ويدعونهم تبكيتاً لهؤلاء العابدين.

ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً أي: لا تجعلوا أمركم عليكم ملتبساً، بل افصلوا حالكم معي.

قال الحافظ -رحمه الله: "لا تجعلوا أمركم عليكم ملتبساً"، ويحتمل أن يكون المعنى: أي ظاهراً منكشفاً، ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً فالشيء الذي يغم غيره يكون مغطياً له، ولهذا قيل الغم لاغتمام القلب، كأنه يغطيه، فلا يكون في الإنسان، فلا يتفكر بطريقة صحيحة، لكثرة ما يغطي قلبه من الغم، ولهذا قيل: الغمام -لهذا المعنى- التغطية، كأنهما غمامتان أو غيايتان[1] فكل ما غيب الإنسان وغطاه فهو غيابة وغياية، ومنه غيابة الجب، فالغمة من غمه إذا غطاه، يعني لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً أي: فليكن ظاهراً منكشفاً.

فإن كنتم تزعمون أنكم محقون ثُمَّ اقْضُواْ إِلَيَّ وَلاَ تُنظِرُونِ أي: ولا تؤخروني ساعة واحدة، أي: مهما قدرتم فافعلوا فإني لا أباليكم ولا أخاف منكم؛ لأنكم لستم على شيء.

هنا ما فسر قولَه -تبارك وتعالى: ثُمَّ اقْضُواْ إِلَيَّ ما معنى اقضوا إلي؟ اقضوا إليّ يمكن أن يكون فسر القضاء هنا بمعنى الفراغ، يعني افرغوا إلي، ويمكن أن يكون بمعنى امضوا إلي.

فإني لا أباليكم ولا أخاف منكم؛ لأنكم لستم على شيء، كما قال هود لقومه: إِنِّي أُشْهِدُ اللّهِ وَاشْهَدُواْ أَنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ ۝ مِن دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ ۝ إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللّهِ رَبِّي وَرَبِّكُم [سورة هود:54-56] الآية.

وقوله: فَإِن تَوَلَّيْتُمْ أي: كذبتم وأدبرتم عن الطاعة، فَمَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ أي: لم أطلب على نصحي إياكم شيئاً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أي: وأنا ممتثل ما أمرت به من الإسلام لله ، والإسلام هو دين الأنبياء جميعاً من أولهم إلى آخرهم، وإن تنوعت شرائعهم وتعددت مناهلهم، كما قال تعالى: لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا [سورة المائدة:48]، قال ابن عباس: سبيلاً وسنة، فهذا نوح يقول: وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ

وقال تعالى عن إبراهيم الخليل: إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ۝ وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [سورة البقرة:131، 132]. 

وقال يوسف: رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنُيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ [سورة يوسف:101]. 

وقال موسى: يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ [سورة يونس:84]، وقال السحرة: رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ [سورة الأعراف:126].

وقالت بلقيس: رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [سورة النمل:44]، وقال تعالى: إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ [سورة المائدة:44].

وقال تعالى: وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي قَالُوَاْ آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ [سورة المائدة:111]، وقال خاتم الرسل وسيد البشر ﷺ: قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ۝ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [سورة الأنعام:162، 163] أي: من هذه الأمة، ولهذا قال في الحديث الثابت عنه: نحن معشر الأنبياء أولاد علات وديننا واحد[2] أي: وهو عبادة الله وحده لا شريك له وإن تنوعت شرائعنا، وذلك معنى قوله: أولاد علات وهم الأخوة من أمهات شتى والأب واحد.

وقوله تعالى: فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ [سورة يونس:73] أي: على دينه فِي الْفُلْكِ وهي السفينة، وَجَعَلْنَاهُمْ خَلاَئِفَ أي: في الأرض، وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنذَرِينَ أي: يا محمد كيف أنجينا المؤمنين وأهلكنا المكذبين.

وقوله: وَجَعَلْنَاهُمْ خَلاَئِفَ أي: يخلفون أولئك الذين أهلكهم الله وأفناهم من الكفار.

ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِ رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَآءُوهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ بِهِ مِن قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلوبِ الْمُعْتَدِينَ [سورة يونس:74].

يقول تعالى: ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِ رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَآءُوهُم بِالْبَيِّنَاتِ أي: بالحجج والأدلة والبراهين على صدق ما جاءوهم به، فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ بِهِ مِن قَبْلُ أي: ما كانت الأمم لتؤمن بما جاءتهم به رسلهم بسبب تكذيبهم إياهم أول ما أرسلوا إليهم، كقوله تعالى: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ [سورة الأنعام:110] الآية، وقوله: كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلوبِ الْمُعْتَدِينَ أي: كما طبع الله على قلوب هؤلاء فما آمنوا بسبب تكذيبهم المتقدم هكذا يطبع الله على قلوب من أشبههم ممن بعدهم ويختم على قلوبهم حتى يروا العذاب الأليم.

التفسير الذي ذكره الحافظ ابن كثير هنا ظاهر، وهو أحد المعاني التي تحتملها الآية، ولا شك أنه المراد في بعض المواضع في القرآن، بمعنى أن قوله -تبارك وتعالى: فَجَآءُوهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ بِهِ مِن قَبْلُ الحافظ ابن كثير -رحمه الله- جعل الباء للسببية، لماذا لم يؤمنوا؟ بسبب تكذيبهم المتقدم، فالتكذيب المتقدم صار سبباً لطمس القلوب، وجاء بآيات في هذا المعنى، كما قال الله : وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ [سورة الأنعام:110]، فيكون التكذيب المتقدم سبباً لصرف الإنسان عن الحق، والطبع على قلبه، فلا ينتفع بما يسمع.

بينما ابن جرير -رحمه الله- لم يفسرها بهذا المعنى وإنما فسرها بمعنى آخر، فعند ابن جرير فَجَآءُوهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ بِهِ مِن قَبْلُ بما كذبوا به كَذَّبُواْ مَن الذين كذبوا عند ابن جرير؟ الذين كذبوا هم الأمم المتقدمة، يعني يقول: ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِ رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ من بعد نوح -عليه الصلاة والسلام: فَجَآءُوهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ بِهِ مِن قَبْلُ بما كذب به مَن قبلهم، يعني أن الكفر يتكرر ويتجدد في كل أمة، كلما جاء أمةً رسولٌ كذبوه، فأولئك الأمم كذبوا برسالة نبيهم، وقالوا: سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ [سورة الذاريات:52]، وكذبوا بما يدعوهم إليه من وحدانية الله ، فيقول هؤلاء الذين أرسلوا بعد نوح -عليه الصلاة والسلام- إلى أممهم: بقيت تلك الأمم على الكفر، ولم يؤمنوا، فما كانوا ليؤمنوا بما كذب به من قبلهم، وهذا فيه بعد، والله تعالى أعلم.

والآية تحتمل معنى ثالثاً: وهو أن هؤلاء لم يؤمنوا بما كذبوا به مِن قبل أن تأتيهم الرسل؛ لأنهم كانوا أمة واحدة على الإيمان فاختلفوا فتفرقوا فبعث الله النبيين، فهؤلاء الذين جاءهم الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- كما قال الله: كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ [سورة البقرة:213]، جاءوهم يدعونهم إلى الله ، إلى توحيده وعبادته، فلما جاءوهم لم يؤمنوا بما كذبوا به من قبل، بماذا كانوا يكذبون قبل بعث نبيهم؟ كانوا يكذبون بالبعث مثلاً، كانوا يعبدون مع الله غيره، ينكرون التوحيد، فلما جاء الرسل ما حصل لهم الإيمان بهذه الأمور التي كذبوا بها، فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ بِهِ مِن قَبْلُ فهذا معنى أقرب من المعنى الذي ذكره ابن جرير -رحمه الله، فصارت المعاني التي تحتملها الآية ثلاثة.

والمراد: أن الله تعالى أهلك الأمم المكذبة للرسل، وأنجى من آمن بهم وذلك من بعد نوح فإن الناس كانوا من قبله من زمان آدم على الإسلام، إلى أن أحدث الناس عبادة الأصنام فبعث الله إليهم نوحاً ، ولهذا يقول له المؤمنون يوم القيامة: أنت أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض.
وقال ابن عباس: كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الإسلام، وقال تعالى: وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِن بَعْدِ نُوحٍ [سورة الإسراء:17] الآية، وفي هذا إنذار عظيم لمشركي العرب الذين كذبوا سيد الرسل وخاتم الأنبياء والمرسلين، فإنه إذا كان قد أصاب من كذب بتلك الرسل ما ذكره الله تعالى من العذاب والنكال، فما ظن هؤلاء وقد ارتكبوا أكبر من أولئك؟

المعنى الذي ذكره الحافظ ابن كثير توجد في الآية قرينةٌ تشهد له وهي قوله: كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلوبِ الْمُعْتَدِينَ يعني: باعتبار أن "الباء" سببية فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ بِهِ بسبب تكذيبهم مِن قَبْلُ بمعنى أن الله طبع على قلوبهم بسبب ذلك، ولهذا قال: كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلوبِ الْمُعْتَدِينَ والله أعلم.

  1. هو جزء من حديث رواه مسلم عن أبي أمامة الباهلي ولفظه: اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه، اقرءوا الزهراوين البقرة وسورة آل عمران فإنهما تأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان، أو كأنهما غيايتان، أو كأنهما فرقان من طير صواف تحاجان عن أصحابهما، اقرءوا سورة البقرة فإنّ أخْذها بركة، وتركها حسرة، ولا يستطيعها البطلة، برقم (804)، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب فضل قراءة القرآن وسورة البقرة.
  2. رواه مسلم عن أبي هريرة بلفظ قال فيه: سمعت رسول الله ﷺ يقول: أنا أولى الناس بابن مريم، الأنبياء أولاد علات وليس بيني وبينه نبي، برقم (2365)، كتاب الفضائل، باب فضائل عيسى .

مواد ذات صلة