الخميس 18 / رمضان / 1445 - 28 / مارس 2024
(018) تتمة قوله تعالى: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا...} الآية
تاريخ النشر: ٢١ / شوّال / ١٤٣٧
التحميل: 731
مرات الإستماع: 1200

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فنواصل الحديث على قوله -تبارك وتعالى-: قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُوْلِي الأَبْصَارِ [آل عمران:13]، وتقدم الكلام عن صدر هذه الآية، بقي الكلام على قوله في هذا التذييل: وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُوْلِي الأَبْصَارِ، وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ يقوي بنصره، فهؤلاء بذلوا السبب، وصححوا العمل والقصد، كما قال الله -تبارك وتعالى- عن الفئة الأولى: فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فهم يقاتلون ولم ينتظروا النصر بسبب سماوي أو أرضي لا يد لهم فيه، بل كان منهم التسبب في ذلك امتثالاً لأمر الله : قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ [التوبة:14]، فهم ممتثلون لأمر الله، قائمون بما ينبغي.

كذلك أيضًا مقاصدهم ونياتهم وأعمالهم صحيحة على الوجه المشروع، ليست القضية هي وجود القتال فإن هذا يقع بين الأقوام، وكان في كل زمان حتى أهل الجاهلية كانت حروبهم لا تنقضي، وإنما هو العمل المشروع الذي يُحبه الله ويرضاه، وأمر به عباده فهم يقاتلون في سبيل الله، قتالاً يقصدون به إعزاز الدين، وينضبطون مع تعاليم الشرع وأحكامه، فالقتال ليس بمقصود لذاته، وإنما هو وسيلة يُلجأ إليها إذا تعذرت الأسباب والوسائل التي هي دونه من قبول الحق، والدعوة إلى الإسلام، وما إلى ذلك، فهنا: وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ، فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى [الأنفال:17]، "أخذ النبي ﷺ بيده الشريفة بكفه قبضة من التراب، وقذف في وجوههم، وقال: شاهت الوجوه، فما بقي أحد إلا وقد دخل عينه من هذا التراب"[1]، وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى [الأنفال:17]، فهذا السبب ماذا عسى أن يتحقق من وراءه بقبضة من تراب أمام جيش؛ ولكن إذا كانت الأمة مُمتثلة لأمر الله -عز وجل- سخر لهم من الأسباب ما لا يخطر على بال: فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ [الأنفال:17]، فأضاف ذلك إليه -تبارك وتعالى-، ولكن هم مأمورون بالسبب، وإلا فلو شاء الله -تبارك وتعالى- لانتصر منهم.

وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ فالنصر ليس بقوتكم، ولا عدتكم، ولا بعددكم، ولا بشجاعتكم، ولا بمعارفكم وخبراتكم في القتال، وإنما النصر من الله، ومن أعظم العِبر الآيتان أعني: آية آل عمران وآية الأنفال: وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ [آل عمران:126]، يعني: نزول الملائكة: وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ [آل عمران:126]، وفي سورة الأنفال: وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى [الأنفال:10]، بأقوى صيغ الحصر، يعني: أن نزول الملائكة نزول ألف في غزوة بدر، ألف ملك في مقابل هؤلاء الكفار الذين كان عددهم ما بين التسعمائة إلى الألف، ألف ملك، ومع ذلك نفى أن يكون النصر منهم، إنما نزولهم فقط بُشرى: وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ [الأنفال:10]، في سورة الأنفال، وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ [آل عمران:126]، في سورة آل عمران: وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [آل عمران:126]، أقوى صيغ الحصر في هاتين القضيتين.

وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى [آل عمران:126]، في نزول الملائكة، وفي النصر: وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [آل عمران:126]، النفي والاستثناء، أقوى صيغ الحصر عند الأصوليين واللغويين: وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [آل عمران:126]، إذًا إذا كان هؤلاء الملائكة نزولهم مجرد بُشرى لا يتحقق النصر على أيديهم بقوتهم، ولهذا لما خرج المسلمون في يوم حُنين، وهم كثير، الذين خرجوا مع النبي ﷺ من المدينة عشرة آلاف، وخرج معه من أهل مكة بعد فتحها إلى حُنين ألفان فكان مجموع ذلك يبلغ اثني عشر ألفًا، فقال قائلهم: لن نُغلب اليوم من قِلة[2]، فقال الله : وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا [التوبة:25]، نفى تمامًا، وهنا شيئًا نكرة في سياق النفي: فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ [التوبة:25]، هذا المُنهزم تضيق به الأرض، كما قال الشاعر:

حتى ظن هاربهم إذا لم *** يرَ شيئًا ظنه رجلا.

من شدة الخوف، يُخيل إليه كل شيء أنه يُطارده، فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ [التوبة:25]، إذًا هذه الكثرة لم تفعل شيئًا، في يوم بدر القِلة قلبت ميزان المعركة لما جاء التأييد من الله -تبارك وتعالى-، في يوم حُنين: ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا [التوبة:26]، فجاء المدد بعد ذلك، الذين ثبتوا مع رسول الله ﷺ قريب من عشرة، وكان النبي ﷺ على بغلته البيضاء دُلدُل التي لا تُحسن الفر والكر، بغلة، ويقول: أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب[3]، في غاية الشجاعة والثبات، يهتف بهذا أمامهم والسهام كأنها مطر تُزعزعه الريح من كثرتها، وكانوا رُماة -أعني هوازن- لا يكاد يُخطأ لهم سهم، ويقف ﷺ أمامهم ويقول: أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب، حتى أمر العباس أن يُنادي: يا أصحاب السمُرة الذين بايعوا بيعة الرضوان تحت الشجرة فعطفوا عليه عطفة البقر على ولدها، ثم اطلع النبي ﷺ وتطاول على بغلته، وقال: الآن حمي الوطيس[4]، فتحول الميزان ميزان المعركة لما صار التوكل على الله، وتلاشى النظر إلى الذات والكثرة، فهنا نزل النصر.

إذًا الأمة يجب أن ترتبط بربها ومليكها وأن تعمل بطاعته، وأن تُصحح المقاصد والنيات والأعمال؛ فهنا يأتي التأييد: وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ ولاحظ التعبير بالفعل المضارع يؤيد الذي يدل على الاستمرار، فهذا التأييد يكون حينًا بعد حين، في كل زمان، فذلك لا يختص بعصر النبي ﷺ بل في كل حين: يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ وأضاف النصر إليه -تبارك وتعالى-؛ لأنه الذي يملكه وحده: وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [آل عمران:126]، وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ، من الذين يشاء؟ هم من ذكرهم الله -تبارك وتعالى- في مواضع من كتابه، أولئك الذين ينصرون الله: إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ [محمد:7]، فهذا جِماع ما يحصل به النصر أن ننصر الله، وتفاصيل هذه الجملة يدخل تحتها ما لا يخفى من المطالب الشرعية.

وهنا أيضًا: وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُوْلِي الأَبْصَارِ، يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ ليست القضية أنه يؤيد بنصره قومًا للغتهم، أو لجنسهم، أو لقلتهم، أو لكثرتهم، مَنْ يَشَاءُ فهو بمشيئته لا بالقلة ولا بالكثرة، ثم عقّب بهذا التعقيب: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُوْلِي الأَبْصَارِ ذكرنا العبرة، والمقصود بها الانتقال من حال الغير إلى النفس؛ لئلا يقع له ما حل بغيره، فالعاقل من وعِظ بغيره، وقلنا: إنها من معنى العبور، كأنه يعبر من حال ذاك إلى حاله هو إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً وجاء التأكيد بـ"إن" إِنَّ فِي ذَلِكَ، هذا اللقاء الذي حصل بين هاتين الفئتين واختلاف الأحوال والغايات: فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ [آل عمران:13]، فهذا التصوير وهذه الرؤية التي رأوها التكثير، ثم التقليل للإغراء كل ذلك فيه عِبرة وعِظة، كيف انتصرت هذه الفئة القليلة، على هذه الفئة الكثيرة المغرورة التي جاءت مُتبجحة، يريدون أن يضربوا بالدفوف والمعازف، وتضرب على رؤوسهم القيان، ويشربون الخمر عند بدر؛ ليتسامع العرب بهم، فيكون لهم من المهابة والرهبة ما يكون بسبب ذلك، خرجوا من ديارهم بطرًا ورئاء الناس، ويصدون عن سبيل الله، خرجوا يحملون أقبح الأوصاف: فئة كافرة، عربدة، فسق، مجون، الكفر، واللهو والمعازف، والغرور، والرياء، والسمعة كل هذا، أهل الإيمان: والإخبات، والثقة، والتوكل، والإيمان، والذكر لله -تبارك وتعالى-.

هؤلاء يضربون بالمعازف، وهؤلاء يذكرون الله: إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الأنفال:45]، أي: من أجل أن تُفلحوا، اذكروا الله كثيرًا، فذكر الله هو الذي يُستمد به المدد من السماء.

إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لمن؟ لِأُوْلِي الأَبْصَارِ، الأبصار أصحاب البصائر النافذة، وهو بصر القلب، وهو البصر المُعتبر.

إن يأخذ الله من عيني نورهما ففي فؤادي وقلبي منهما نور
عقلي ذكي وقلبي غير ذي دغل وفي فمي صارم كالسيف مشهور[5]
إذا رزق الله المروءة والتقى فإن عمى العينين ليس يضير[6]


العمى الحقيقي هو عمى القلب، حيث يُزين له الباطل، ويراه حقًا، ويرى الحق باطلاً فيرغب عنه: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُوْلِي الأَبْصَارِ فدل على أن أهل البصائر هم الذين ينتفعون ويتعظون ويعتبرون، أما من عميت بصائرهم فهؤلاء يمرون على الآيات ولكنهم في غاية الغفلة، يمرون عليها وهم في حال من الإعراض التام فهؤلاء لا ينتفعون مهما شاهدوا من العِبر والعِظات.

والقاعدة التي نذكرها كثيرًا: أن الحكم المُعلق على وصف يزيد بزيادته وينقص بنقصانه، فهنا: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُوْلِي الأَبْصَارِ، فدل ذلك على قدر ما يكون عند الإنسان من البصيرة يكون له من الاعتبار، ولهذا يتفاوت الناس، إذا زادت البصيرة عند الإنسان وأشرق القلب، وصار يرى الأشياء على حقائقها، يعتبر بكل شيء يُشاهده، كل ما يُشاهده من أحوال الناس الأفراد والمجتمعات، وتقلب الدنيا بأهلها، وغير ذلك يعتبر ويتعظ، ويقف عنده مليًّا؛ فينفعه ذلك.

وأما الغافل إنه يرى ما فيه مُعتبر ومع ذلك لا ينتفع ولا يعتبر: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً وهذا يدل على انطماس البصيرة، إذا رأيت الرجل لا يعتبر ولا ينتفع ولا يتعظ بما يُشاهده ويأتي عليه؛ فذلك لانطماس بصيرته.

وإذا كان الاعتبار والاتعاظ عابرًا قصير المدى ضعيف التأثير في النفس؛ فذلك يدل على ضعف البصيرة، أما أصحاب البصائر النافذة فإن ذلك يكون في غاية العُمق في دواخلهم وفي نفوسهم، يتعظون ويعتبرون وينتفعون، وهنا العبرة منُكرة: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً، يعني عبرة عظيمة، لكن لمن؟ لأولي الأبصار، أسأل الله أن يجعلنا وإياكم من أولي الأبصار.

اللهم اجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا، ونور صدورنا، وذهاب أحزاننا، وجلاء همومنا، اللهم ذكرنا منه ما نُسينا، وعلمنا منه ما جهلنا، وارزقنا تلاوته آناء الليل وأطراف النهار على الوجه الذي يُرضيك عنا -والله أعلم-.

وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.

  1. أخرجه مسلم، كتاب الجهاد والسير، باب في غزوة حنين، برقم (1777).
  2. تفسير الطبري (11/ 390).
  3. أخرجه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب من قاد دابة غيره في الحرب، برقم (2864)، ومسلم، كتاب الجهاد والسير، باب في غزوة حنين، برقم (1776).
  4. أخرجه مسلم، كتاب الجهاد والسير، باب في غزوة حنين، برقم (1775)، وأحمد في المسند واللفظ له، برقم (1776)، وقال محققوه: "إسناده صحيح على شرط الشيخين"، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (2752).
  5. انظر: شذرات الذهب في أخبار من ذهب (1/ 294)، وفي أسد الغابة ط العلمية (3/ 291)، بلفظ:
    إن يأخذ اللَّه من عيني نورهما *** ففي لساني وقلبي منهما نور
    قلبي ذكي وعقلي غير ذي دخل *** وفي فمي صارم كالسيف مأثور
  6. آخر لقاء مع (20) عالماً ومفكراً إسلاميًّا/ محمد خير رمضان يوسف، ط 1, 1426هـ، دار ابن حزم، (ص:51)، ولفظه:
    إذا أَبصَرَ المَرءُ المُروءَةَ وَالوَفَا *** فإنَّ عَمَى العَينَينِ لَيسَ يَضِيرُ.

مواد ذات صلة