الخميس 18 / رمضان / 1445 - 28 / مارس 2024
(019) قوله تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ...} الآية
تاريخ النشر: ٢٢ / شوّال / ١٤٣٧
التحميل: 925
مرات الإستماع: 1447

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فبعد ما ذكر الله -تبارك وتعالى- أن الكافرين لن تُغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئًا، حذّر بعد ذلك من الافتتان بمباهج الدنيا وما فيها من الزينة والمتاع الزائل، حذّر من التعلق بذلك على حساب العمل للآخرة والتقرب إلى الله -تبارك وتعالى- وطاعته فقال: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ [آل عمران:14].

زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ، هنا بُني الفعل فعل التزيين "زُين" للمجهول حُذف فاعله، وذلك معلوم فالله -تبارك وتعالى- هو الذي زين ذلك بما جبل النفوس على محبة هذه المذكورات والميل إليها وشدة الرغبة فيها كما قال الله : وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا [الفجر:20]، وقال: إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ [التغابن:15]، لشدة علوق القلب بذلك، ولذلك لما رأى النبي ﷺ الحسن أو الحسين والنبي ﷺ على المنبر وهذا يمشي ويقع فنزل وقطع خطبته -عليه الصلاة والسلام- ثم بعد ذلك ضمه وحمله، وقال: صدق الله: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ} [التغابن:15][1]، يعني: أن ذلك لا يخلو بحال من الأحوال من جهة تعلق القلب بهم، وجاء بها كما ترون في صيغة الحصر: إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ [التغابن:15]، وكما ذكر في العداوة قال: إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ [التغابن:14]، "من" فهي للتبعيض؛ لأن بعضهم أي بعض الزوجات والأولاد يحثون على طاعة الله ، وقد يستقيم حال الوالد بسبب هؤلاء الزوجات والأولاد، ولكن بالنسبة للفتنة لا شك أن الأموال والأولاد فتنة، ولهذا كان بعض السلف جاء عن ابن مسعود في الاستعاذة من الفتن أن يقول:  اللهم إني أعوذ بك من مُضلات الفتن[2]، يعني: لا يقول: أعوذ بك من الفتن؛ لأن أولاده وأمواله فتنة، وإنما يقول: أعوذ بك من مُضلات الفتن، مع أنه من نظر في النصوص واستقرأ ذلك وجد أنه لا غضاضة أن يقال: اللهم إني أعوذ بك من الفتن.

فهنا: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ، وهنا "الناس" "ال" للجنس يعني جميع الناس: المؤمن والكافر، البر والفاجر، زُين لهم: رُكب في نفوسهم حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة، محبة الشهوات، محبة المُشتهيات، وهو ما يميل إليه الإنسان بطبعه ويهواه فتلك شهوته.

فهنا كما سيأتي إن شاء الله قال: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ، فصار ذلك مركوزًا في النفوس، ثم ذكر صنوفًا من هذه الشهوات وهي أعلاها وأعظمها وأشدها هذه المذكورات السبع في هذه الآية، إذا اعتبرنا الذهب والفضة شيئًا واحدًا يعني من القناطير.

فهنا ذكر من النساء والبنين وهم الذكور من الأولاد، والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة، والقِنطار اختلفت عبارات المفسرين وأهل اللغة في تفسيره؛ ولكن الأقرب أنه يُقال: للمال الكثير، لا يُقال: للقليل قنطار، وإنما يُقال: للكثير، وهنا صيغة الجمع "قناطير" ثم جاء ما يدل على الكثرة الكاثرة فقال: الْمُقَنْطَرَةِ، ومعنى المقنطرة يعني المُضاعفة، قناطير أموال كثيرة ومُضاعفة: مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ ومعنى الخيل المسومة فُسر بتفسيرات متعددة، قيل: "المسومة" يعني السائمة التي تسوم في المرعى، وقيل: المسومة يعني الخيل الجميلة التي عليها سيما الجمال، والجمال في الخيل ظاهر، وهو أظهر منه في الإبل مثلاً أو غيرها من الدواب؛ لأن الله ذكر ذلك على سبيل الخصوص فيها في هذا الموضع.

وبعضهم يقول الخيل المُعلمة عليها شيات وعلامات، إلى غير ذلك من الأقوال، وبعض المفسرين جمع بين هذه الأقوال قال: هي سائمة وجميلة وعليها علامات، كل ذلك واقع: وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ والمقصود بها: بهيمة الأنعام من الإبل والبقر والغنم، وَالْحَرْثِ وهو الزرع بأنواعه.

ثم قال الله : ذَلِكَ يعني المذكورات، مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، يعني: أنه شيء زائل، وأنه مُضمحل، فهو متاع، والمتاع يدل على القلة والزوال وأن ذلك مُضمحل لا محالة، كل هذا، النساء والبنين والقناطير المقنطرة كل هذا متاع الحياة الدنيا.

وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ، يعني: حُسن المرجع والمصير، وهنا قد يقول قائل أيضًا النار للكافرين، وقد ذكر الله حُسن المآب، يُقال هذا ذكره على سبيل الترغيب والتزييد فيما يتعلق به الناس في هذه الحياة الدنيا، فناسب أن يذكر حُسن المآب في الآخرة؛ ليجذبهم إليها، وإلا فلا شك أن الله عنده أيضًا سوء المآب للأشرار والكفار وأعداء الرسل فهذا لا إشكال فيه، وإنما هو سؤال قد يرد على بعض الأذهان فهذا جوابه.

يؤخذ من هذه الآية الكريمة من الهدايات: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ، يدل على أنها لا حقيقة لها، "زُين" هذا التزيين، وبالبناء للمجهول يدل على حقارة هذا، مع أن الذي زينه هو الله، لكن فرق بين أن يُقال: زين الله وبين أن يُقال: زُين للناس، فذلك أحقر من أن ينوه به بنسبته صراحة إلى الله .

في كثير من الأحيان قد يكون الإنسان في بعض سِنْي عُمره أو في بعض أحواله أو في بعض تقلباته يُعجبه بعض الأشياء ويميل إليها، ويتحدث عنها في المجالس، ويبذل الأموال في سبيلها زُينت له، بينما نجد آخرين لا يلتفتون إليها، ولا يرفعون بذلك رأسًا ولا يرون لها شأنًا، ثم هذا الذي زُينت له قد تنقلب الحال بعد ذلك فيتلاشى ما كان يجده، هذا قد يكون في حُب بلد زارها يُعجب بها وتُزين له، ثم يزورها مرة أخرى، ويتعجب كيف كان ينجذب إليها، قد يهوى لونًا من الطعام، ثم بعد ذلك يتغير مزاجه، ويعجب كيف كان يستصيغه ويلتذ به، وقد يهوى امرأة ويبذل المُستطاع في طلبها، ويبذل الأموال في نكاحها، ثم بعد ذلك قد يبدو له شيء آخر فينصرف قلبه عنها بالكلية، فيتعجب كيف فُتن بها؟ وكيف زُينت له هذه المرأة؟ وقد يُضيع امرأته وأولاده من أجل هذه المرأة الجديدة ثم بعد ذلك المنظار يتغير، هو كان يراها بصورة معينة ثم بعد ذلك تحولت هذه الصورة وصار يراها بصورة أخرى، ليس بالسحر ولكن أحوال الإنسان قد تتغير، هذا موجود.

قد يُعجب الإنسان بكتاب، وقد يُعجب بشخص فليهج بذكره بعد سنين بعد مدة قد يتغير رأيه في ذلك من غير موجب، يقرأ في هذا الكتاب مرة أخرى فيتعجب ما الذي كان يُعجبه في هذا الكتاب ويشده، ويجذب نفسه إليه، هذا يحصل، قد يُحب الإنسان مكانًا يذهب إليه حتى إن بعضهم أوصى أن يُدفن فيه، وهو ليس بمقبرة من شدة محبته لذلك المكان، وإذا رأيت ذلك المكان القاحل الذي لا يوجد فيه شيء من معالم الجمال تعجب كيف كان هذا يتعلق بهذا المكان حتى أنه كان يوصي أن يُدفن في ذلك الموضع، مكان قفر لا نبات فيه، ولا مظهر من مظاهر الحياة، ويُعجب به ويذهب دائمًا ويجلس فيه وعُرف هذا المكان أنه لفلان، هو لا يملكه عُرف لكثرة مُلازمته له، هو أوصى أن يُدفن فيه، ليس ببلد هو موضع، ما الذي جعل هذا الإنسان..؟!

وأحيانًا الإنسان قد ينجذب إلى بعض الأموال يُفتن بلون من المال: الإبل، الخيل، الغنم، النخيل، لون من الزرع، حتى قال الألوسي -رحمه الله- [3] عند الكلام على قوله: مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ [الحشر:5]، هذا في قطع بعض النخيل في الحصار، حصار اليهود في وقعة النضير، غاظهم قطع بعض النخيل، مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ يعني نخلة، على خلاف في التفصيل، هل هو لون خاص من النخيل أو يشمل جميع أنواع النخيل، بصرف النظر، مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ [الحشر:5]، يعني: اليهود؛ لأنهم يتغيظون وهم ينظرون من فوق الحصون أن هذا النخل الذي تعبوا في غرسه وسقيه أنه يُحرق، قُطع أو حُرق نخلتان تقريبًا ما أُحرق شيء كثير، فجاء هذا الرد حينما قالوا: يا محمد تدعي الصلاح والإصلاح فما بال حرق النخيل؟ شنعوا عليه ﷺ في هذا، فجاء الرد القرآني، الشاهد أن الألوسي -وهو عالم عراقي- كان يقول: بأن بعض أصحاب النخيل في العراق يقول: "السعفة عندي كأصبع من أصابع يدي، وتحقق الحسرة على الذهاب إن كانت المقطوعة النخلة الكريمة أظهر"[4]، تصور الآن طرف العسيب يعني أحيانًا العسيب يكون يضيق الطريق الممر يحتاج الناس توسيع الممر فيُقطع بعض العسيب هنا وهناك في النخيل إذا طال، هؤلاء الذين يُفتنون بالنخيل هذا يقول: "ود أن بنانه قُطعت ولا يُقطع طرف العسيب"، هذا قد لا يتصوره الإنسان الذي لا يرى النخيل شيئًا، ويرى أنها تُضيق عليهم في البيوت وفي أماكنهم ونحو ذلك، ولكن هذا المفتون فيها لربما لا يوفر موضع شبر يمكن أن يضع فيه فسيلة إلا وضع، مفتون، ويبذل فيها الأموال الكثيرة، في بعض الأوقات غلا النخيل في المدينة في زمن عثمان ارتفعت النخيل الفسيل بمبلغ وقدره، الإبل أنفس أموال العرب بعض الناس يُفتن بها.

وبعضهم يُفتن بالغنم أو بعض أنواع الغنم، والآن ما شاء الله اهتمامات الناس أصبحت لا تخفى بأنواع هذه الأنعام والمُبالغة في أثمانها، وبذل الأموال الطائلة فيها، شيء لا يُصدقه العاقل، ما الذي جعل هؤلاء بهذه المثابة؟ "زُين" وإلا فلا حقيقة لذلك، كل هذا يضمحل ويتلاشى، وإذا أردت أن تعرف حقيقة هذا انظر إلى ما مضى أين الخيل؟ وأين الأنعام؟ وأين الزروع التي كانت عبر القرون؟ كل ذلك ذهب واضمحل، والموجود سيذهب ويضمحل إنما هو متاع يتمتع به من شاء الله، متاع قليل ثم بعد ذلك ينتقل صاحبه إلى ملحودة جوانبها غُبرُ، وعند ذلك لا خيل ولا جمال.

هذه حقيقة لهذا المتاع يُدركها المؤمن ببصيرته النافذة، ومن على قلبه غشاوة فإنه لا يزال يتبع ذلك حتى ينقضي العمر، وهو في شُغل شاغل ولهو، ثم بعد ذلك إذا وافى ربه، ورأى الأمور على حقيقتها وصار بصره حديدًا عند ذلك أدرك أنه كان عابثًا وأنه كان مُضيعًا ضيع العمر بما لا يستحق الاشتغال به والإقبال عليه.

فهذه الآية تدل على تزهيد في هذه المُتع، وذكر أعلى أنواع المُتع، بهذا الأسلوب، ثم أيضًا بختم الآية بقوله: ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [آل عمران:14]، والإشارة هنا كما سيأتي إلى البعيد يدل على بُعد مرتبتها ووصف ذلك بالمتاع إضافة ذلك إلى الدنيا، ما قال متاع: مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [آل عمران:14] قيل: من الدنو فهي لا تستحق كل هذا الجُهد، ولا التهافت عليها، ولا التنافس فيها، ولا الحزن على ما فات، فالكل يشقى إلا من شاء الله -تبارك وتعالى-، الذي لا يجد دائمًا يُفكر كيف يجد المال؟ وكيف يجمع الثروة؟ وكيف يُحصل هذه الشهوات؟ والذي يجد هو في شقاء في الجمع والحياطة والحفظ والتثمير وبين ذلك الحزن على ما فات منها، وتصرم من ديون ضائعة وخسائر واقعة، وقلق يساوره عن المستقبل، نزل سعر العقار، نزل قيمة الأسهم، ونحو ذلك مما يُفكر فيه دائمًا قائمًا وقاعدًا فهو في شُغل شاغل وألم، ولذلك تجد كثيرًا من الأمراض أمراض العصر السُكر الضغط وما أشبه ذلك تكثر عند الناس، لاسيما أصحاب الأعمال والثروات؛ بل يذكر بعض أصحاب المصحات النفسية أن أكثر المراجعين لهم هم من ذوي الثراء؛ لأنه في معاناة وشقاء ولربما أُصيب بشيء من العِلل المستعصية والجلطات ونحو ذلك بسبب خسارة وقعت، وقد سمعت من بعضهم هذا.

وبعضهم مَن الله عليه ورجع إلى ربه -تبارك وتعالى- بعد أن بلغه خسائر فادحة بأموال طائلة فجأة وهو في سفر في تجارة مع وفد من العاملين معه ومدراء الشركات المجموعة التي تنتسب إليه، ونحو ذلك ويأتيه الخبر ثم يقع في مكانه في ذلك البلد البعيد في المشرق، ويُكتب له حياة من جديد، ويكون ذلك سببًا لحياة جديدة، هذا قليل من يرجع إلى الله ، وإلا فقد يبقى الإنسان يتحسر، وأنتم تشاهدون وترون من الوقائع والنماذج في هذا العالم الشيء العجيب، الحرص الشديد من يجد ومن لا يجد، فهذا كله خلف وهم لو عرف الإنسان الأمور على حقيقتها فهو يجري خلف وهم، فإذا كان بهذه المثابة فهو لا يستحق.

هذا، والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.

  1. أخرجه أبو داود، تفريع أبواب الجمعة، باب الإمام يقطع الخطبة للأمر يحدث، برقم (1109)، والترمذي، في أبواب المناقب عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، برقم (3774)، والنسائي، كتاب الجمعة، باب نزول الإمام عن المنبر قبل فراغه من الخطبة، وقطعه كلامه ورجوعه إليه يوم الجمعة، برقم (1413)، وابن ماجه، أبواب اللباس، باب لبس الأحمر للرجال، برقم (3600)، وأحمد في المسند، برقم (22995)، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (3757).
  2. انظر: تفسير الطبري (11/ 127)، وتفسير ابن كثير (4/ 38).
  3. انظر: تفسير الألوسي (روح المعاني) (14/ 238).
  4. انظر: روح المعاني (14/ 238).

مواد ذات صلة