الجمعة 19 / رمضان / 1445 - 29 / مارس 2024
(030) قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ...} الآية
تاريخ النشر: ١٧ / ذو القعدة / ١٤٣٧
التحميل: 806
مرات الإستماع: 1254

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

ما زال السياق -أيها الأحبة- في صدر هذه السورة الكريمة (سورة آل عمران) في الكلام على أهل الكتاب، فالله -تبارك وتعالى- ذكر كفرهم وتكذيبهم، وفي هذه الآية يُعَجب -تبارك وتعالى- من توليهم وإعراضهم، حينما يدعون إلى كتاب الله؛ ليحكم بينهم، فيقول: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ [آل عمران:23].

فقوله: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ هذا تعجيب من حالهم، والخطاب لنبيه ﷺ ويشمل أيضًا أتباعه، وأمته، يُعجبهم من حال هؤلاء الذين آتاهم الله حظًا من الكتاب.

يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ يحتمل أن يكون المراد بكتاب الله -تبارك وتعالى- هو الكتاب المُنزل عليهم، وهو التوراة، وهذا قال به بعض المفسرين، ويحتمل أن يكون المراد هو القرآن، ثم بعد ذلك يُعرض ويتولى فريق وطائفة منهم، وهم معرضون، يعني: هذه مُبالغة في التولي، فهو تولي مع إعراض، فالمتولي قد يرجع، ولكن إذا كان مُعرضًا فهذا لا سبيل إلى رجوعه.

فقوله -تبارك وتعالى-: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ هذا استفهام، والمقصود به التعجيب، وهو بمعنى التقرير؛ وذلك أن هؤلاء قد حصل منهم الإعراض والتولي على علم، فهو يوجب التعجب من صنيعهم وحالهم.

وقوله -تبارك وتعالى-: أَلَمْ تَرَ الرؤية هنا يمكن أن تكون رؤية علمية، بمعنى: ألم تعلم؟ ويحتمل أن تكون الرؤية بصرية، لا سيما أنها عُديت بـ(إلى) وأنهم معاصرون للنبي ﷺ.

ويُلاحظ هنا أنه جاء بالموصول الَّذِينَ ولم يقل: ألم تر إليهم، حيث يُدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم، ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون، وإنما قال: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ فهذا فيه زيادة في المعنى بلا شك؛ وذلك أن هذا التولي والإعراض في غاية القُبح؛ لأنه صدر عن قوم أوتوا الكتاب فهم على علم، ولم يكن هذا التولي والإعراض عن جهل منهم، ولو قال: "ألم تر إليهم" فهذا لا يُنبأ بما هم عليه من العلم، وما بلغهم من الهدى، فالتولي يختلف بحسب حال المتولي، فإذا كان التولي عن علم، فلا شك أنه أشد وأقبح؛ وذلك أنه على قدر المقام يكون الملام، فتولي من علم وعرف ليس كتولي من لم يعرف، فلهذا جاءت هنا بهذا الاسم الموصول والصلة أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ.

وبُني الفعل للمفعول أُوتُوا لأن المؤتي معروف، وهو الله -تبارك وتعالى-، لكنه لم يُضفه إليه، فيحتمل أن يكون ذلك لقُبح ما هم عليه، وأنهم لا يرفعوا بذلك رأسًا، ولم ينتفعوا به، فلم يُشرفهم بإضافة ذلك إليه.

والتنكير في قوله: نَصِيبًا يحتمل أن يكون للتعظيم، يعني عظيمًا من الكتاب، فيكون ذلك أقبح في حقهم، ويحتمل أن يكون التنكير هنا للتقليل، أُوتُوا نَصِيبًا أي: عندهم شيء من العلم، وإن قلّ، لكن لا شك أن الشناعة في الأول أعظم وأكبر، ولا شك أنهم كانوا على علم كبير دقيق بما جاء به أنبياؤهم، وما جاء به محمد ﷺ، ويعرفون صفته معرفة تفصيلية، وكانوا يتحدثون عن أوصافه قبل أن يُبعث، وكانوا يعرفون زمانه، ويعرفون مُهاجره؛ ولذلك الأوس والخزرج، وهم من قبائل اليمن، جاءوا إلى المدينة، إلى حرة سوداء، ليس فيها شيء، يسمعون من اليهود أن هذا مُهاجر نبي، ثم اليهود الذين جاءوا من بني النضير وقريظة ومن بني قينقاع، الطوائف الثلاث من اليهود حول المدينة، هؤلاء لم يكونوا من المدينة أصلاً، وإنما انتقلوا إليها ينتظرون مبعث هذا النبي، وكانوا في كلامهم يُقررون هذا، وأنه قد قرُب ويوشك أن يُبعث، فيعرفون المكان الذي سيُبعث فيه، وهم على انتظار، ويتوعدون هؤلاء المشركين من الأوس والخزرج في بعثه، كما ذكرنا في سورة البقرة، عند قوله: يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا[البقرة:89] يعني: هم يستنصرون بهذا النبي، وينتظرون بعثه؛ ليسحقوا هؤلاء المشركين من العرب، من الأوس والخزرج، فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ [البقرة:89] كما قال الله : يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ [البقرة:146] فلم يقل: كما يعرفون أنفسهم، فالإنسان لا يعرف نفسه حينما يولد، وإنما بعد مدة من النشأة، لكن يعرف ابنه منذ ولادته، فهو لا يُخطئه، ولا يلتبس مع غيره، يعرف أشباهه وأوصافه في غاية الدقة، فهذه المعرفة حينما تكون أكبر يكون الملام والمذمة أعظم.

وإذا كان هذا في حق اليهود -أيها الأحبة- فكذلك أيضًا فإن من عرف ليس كمن لم يعرف من هذه الأمة، ولهذا فإن أهل الإيمان إذا صدر عنهم ما لا يليق، كان ذلك شينًا في حقهم، وإذا صدر ذلك عن أحد من المنتسبين إلى العلم، أو إلى الدعوة، ونحو ذلك كان أقبح؛ لأنه كما قيل:

العيب فِي الْجَاهِل المغمور مغمور وعيب ذِي الشّرف الْمَذْكُور مَذْكُور
كفوفة الظفر تخفي من حقارتها وَمثلهَا فِي سَواد الْعين مَشْهُور[1].

هذا الشيء اليسير الحقير كفوفة الظفر إذا كانت في سواد العين تكون بادية ظاهرة مشهورة، كل من نظر إليه وهو لا يستطيع أن ينظر بصورة صحيحة، وخطأ العالم المشهور مشهور، فهذا يشتهر، والناس ينظرون إليه، وخطأ الجاهل المغمور مغمور، فلذلك ينظر الناس إلى العالم أو الداعية، أو من هو في موضع القدوة، إذا صدر منه أدنى شيء الناس أشاروا إليه بالأصابع، فيرون القذاة في عينه، ولا يرون الجذوع في أعينهم وأعين غيرهم من نظرائهم ومن يُشاكلهم من العامة، الذنب قبيح من الجميع، ولكن حينما يصدر عن علم، فهذ يكون أقبح وأشد؛ ولهذا كان شأن القدوات خطير، فيحتاج الإنسان أن يحترز، ويتقي الله فيما يأتي ويذر، ولو كان له وجهة نظر، قد يقول: أنا لي وجهة نظر، أنا أعتقد أن هذا ليس بمُحرم، والناس قد تلقوا ذلك من علمائهم والفتاوى المُقرة في بلادهم أن ذلك من المُنكرات والمحرمات، فلا حاجة هنا لأن ينفرد الإنسان برأي يكون فيه شاذًا، ويقول: هذا الذي أدين الله به، والناس بعد ذلك يُشيرون إليه بالأصابع، فبين ناقمٍ وشامت، وبين مقتدٍ به مغتر بفعله، أو مُتذرع بفعله؛ ليتوصل إلى مطلوبه من شهواته، فيكون ذلك فتنة للناس من الجهتين، ولا مصلحة في هذا، يعني: من جهة الحكمة والنظر إلى مآلات الأمور، والمصالح والمفاسد، فما الفائدة من أن يتكلم الإنسان بكلام، أو يصدر عنه بعض الأفعال والمزاولات مما يكون سببًا للبلبلة والفتنة، ثم يظهر أمام العالم ويقول: هذا الذي أدين الله به، احتفظ بهذا لنفسك، ثم مخالفة هذا السواد الأعظم، وزعزعة الناس في الثوابت التي نشأ الصغير عليها في قضية هي مُنكر، هب أنها من المُباح تُركت، هل تُرك شيء من دين الله ؟ تركها الناس وتركها خير من فعلها، فما الفائدة في مخالفة هؤلاء؟ وفي أشياء أيسر من هذا -أيها الأحبة- فيما بين الإنسان وبين الله، يتركها مع أن الناس لا يدرون عنه شيئًا في هذه القضايا، مسائل القصر والجمع، والجمهور يقولون: بأن الإنسان إذا كان ينوي الإقامة مدة محددة فهو كالمقيم، بعضهم يُحدد ذلك بأربعة أيام، قد يقول الإنسان بينه وبين ربه: بأنه يعتقد بأن الإنسان لا يزال مسافرًا حتى يرجع، وأن ظواهر الأدلة كلها تدل على عدم التحديد، لكن يبقى مخالفة الجمهور الأكثر سلفًا وخلفًا في قضية شرعية، كهذه الصلاة، فيحتاط لنفسه، ويُعامل نفسه معاملة المقيم، مع أن الناس لا يدرون عنه، فكيف في قضية مشهورة يرفع الناس إليه أبصارهم، وتكون حديث مجالس، ليست كقضية جمع وقصر، وأنا ذكرتها كمثال على ما لا يطلع عليه الناس، ومع ذلك يحتاط فيه الإنسان بينه وبين الله، لا يُخالف الجمهور الأكثر من أهل العلم في قضية يمكن أن يكون عن المخالفة مندوحة، فكيف بقضايا تكون حديث الألسن، وحديث المجالس، وسبب لفتنة كثيرين، فأين الفقه؟! لا سيما إذا كانت هذه القضايا أيضًا في أوقات ربما تدفع الناس في اتجاه الانحلال من الدين، فهذا يضرب بسهم ويقول: أنا أدين الله بهذا، وهذا يضرب بسهم آخر ويقول: أنا أدين الله بهذا، وهذا يضرب بسهم ثالث ويقول: أنا أدين الله بهذا، ويُزعزع الناس في ثوابت وقضايا بالنسبة إليهم مُسلمات، تلقوها بفتاوى علمائهم أن هذا لا يجوز، أو أن هذا من الواجبات، أو أن هذا من العمل المشروع، ثم يأتي من يشذ ويُخالف في ذلك، ويُعلن هذه المخالفة، فيقع بسبب ذلك شر كبير، ومن أعظم هذا الشر أن الناس يتشككون في قضايا هي بالنسبة إليهم مُسلمات، وهذا هو الخطير: أن العامة يُزعزعون في قضايا بالنسبة إليهم كانت ثوابت ومُسلمات، ثم بعد ذلك يُفيقون أن المسألة ليست كذلك، إذًا هذه ليست كذلك ربما أختها ليست كذلك، والثالثة ليست كذلك، والرابعة، فلا يبقى عند الناس يقين، فيكون الناس في حالة من التهيؤ لكل آسر وكاسر، ولكل من يُشككهم، ويُلبس عليهم دينهم، وإن كان الأول والثاني والثالث يدينون الله حقًا، وعلى نية طيبة، لكن بلا فقه، فمن ابتلي فليستتر، ولا داعي لإظهار مُنكراته في أعين الكثيرين، ويتبجح بها، ويصورها ويُذيعها ويُعلنها، وإذا نُوقش قال: هذا الذي أدين الله به، ومُستعد أن أُباهل على هذا، أو يُصدر فتاوى تُخالف الفتوى المعمول بها في البلد، وما تلقاه الناس، ثم يقول: هذا الذي أدين الله به، أين الفقه؟ ثم إذا نظرت إلى واقع الأمة والتشكيك في دينها وثوابتها وعقيدها وإيمانها، وانتشار الإلحاد، ثم نأتي ونقول: هذا الذي ندين الله به! هذا وقته؟! أبق الناس على ما تلقوا وعهدوا، وإن كان لك وجهة نظر فهذا هو النظر الصحيح، فنحتاج أن نتبصر، ونتعقل، ثم من زلة قدمه في هذه القضايا، ليس الحل هو الرشق من كل جانب، فنهدم ما بنينا، ونُخرب بيوتنا بأيدينا، إنما التواصل والتناصح بالتي هي أحسن، والكلام الذي يجذب النفوس، ويأسر القلوب، نصيحة مُحب ومُشفق، ونصيحة من يريد الخير لهذا المنصوح وللأمة، وليست كلام مُتشفٍ من بُعد، من وراء وراء، عبر هذه الوسائط والوسائل، ثم بعد ذلك تريد من هذا المنصوح أن يقبل منك، بل الغالب أنه يزداد بُعدًا، فيُبحر بعيدًا، حتى يتوارى عن الأنظار، ويتلقفه شياطين الإنس والجن، فهؤلاء كما كتب من قَبْلهم لكعب بن مالك : "قد علمنا بأن صاحبك قد جفاك، فالحق بنا نواسيك، ما جعلك الله في أرض مضيعة، الحق بنا نواسيك"[2]، هناك شياطين على أتم الاستعداد لفعل مثل هذا، فإن بقي الناس يرشق بعضهم بعضًا، ويشتغل بعضهم بعضًا، وثبت هذا على ما هو عليه، فهم في غاية الفرح والسعادة والغِبطة، حيث اشتغل الناس ببعضهم، وصارت الأمة تتمزق، وتنشغل في هذا القضايا، والعدو يكتسح، وفي كل يوم يأخذ مواقع جديدة، وفي كل يوم يُمنى المسلمون بهزائم جديدة، ثم بعد ذلك نقول: أنى هذا؟ ومن أين أوتينا؟ أوتينا من قِبل أنفسنا.


فنسأل الله الهداية للجميع، وأن يُرينا الحق حقًا، ويرزقنا اتباعه، وأن يُرينا الباطل باطلاً، ويرزقنا اجتنابه، ولا يجعله مُلتبسًا علينا فنضل.

اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدنا لما اُختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم.

الوقت انتهى والآية بقي فيها أشياء، لكن يكفي هذا -إن شاء الله تعالى- في هذه الليلة، وأسأل الله أن ينفعنا وإياكم بالقرآن العظيم، وأن يجعله حجة لنا لا حجة علينا، والله أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.

  1. البيتان لطاهر بن الحسين المخزومي في الدر الفريد وبيت القصيد (4/ 136).
  2. تاريخ الإسلام (2/ 656).

مواد ذات صلة