الجمعة 10 / شوّال / 1445 - 19 / أبريل 2024
[1] من قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ} الآية:1 إلى قوله تعالى: {عابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارا} الآية:5
تاريخ النشر: ٢٣ / محرّم / ١٤٢٧
مرات الإستماع: 33145

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المفسر -رحمه الله تعالى:

تفسير سورة التحريم وهي مدنية.

بسم الله الرحمن الرحيم

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ۝ قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ۝ وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ ۝ إِن تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ ۝ عَسَى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِّنكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا [سورة التحريم:1-5].

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فسورة التحريم سميت بذلك للسبب الذي نزل صدرها من أجله، وهو ما وقع من النبي ﷺ من التحريم، تحريم العسل أو تحريم الجارية، وليس فيها لفظة بهذه الصيغة –أي المصدر: التحريم- وإنما في أولها: لِمَ تُحَرِّمُ.

وذكرنا مراراً أن أسماء السور تتنوع، فمنها ما يسمى باسم أول السورة قَدْ سَمِعَ [سورة المجادلة:1] مثلاً، أو موضوعها مثل: الإخلاص، أو بواقعة حصلت فيها مثل: البقرة، أو نحو ذلك.

فالحاصل أن هذه السورة قطعاً من السور المدنية، والموضوع الذي تتحدث عنه يمكن أن نقول: إنها تتحدث في صدرها عن قضية التحريم التي وقعت للنبي ﷺ، بسبب ما وقع من أزواجه -رضي الله عنهن، ومَن نظرَ وجدَ أن آخرها مرتبط بأولها، فالله لما ذكر التحريم وجه الخطاب إلى أمهات المؤمنين، ودعاهن إلى التوبة وخيّرهن.

فالحاصل أنه في آخرها ضرب مثلين، مثلاً لأهل الإيمان ومثلاً للكافرين، أما أهل الإيمان فضرب لهم مثلاً يبين فيه أن الإنسان إذا كان صالحاً تقياً فإنه لا يضره عمل غيره ولو كان مقترناً أو مرتبطاً أو مبتلىً من جهة قرابته بأسوأ الخلق، كحالة امرأة فرعون.

وضرب مثلاً للكفار بامرأتين سيئتين، اقترنتا وارتبطتا بأصلح أهل زمانهما، هؤلاء الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- نوح ولوط، فلم ينفعهما ذلك، ووجه الارتباط بين آخرها وأولها كأنه يقول لأمهات المؤمنين: ليس هناك إلا العمل الصالح، فإن القرب من النبي ﷺ لا يكفي وحده لتحقيق الفوز والنجاة، بل لابد من الجد والاجتهاد في طاعة الله ، وبهذا الاعتبار كأن السورة تتحدث عن موضوع واحد في الجملة، وبين ذلك خطاب للكافرين، ووعيد لهم كما ترون في قوله -تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ [سورة التحريم:9] وقبله قال: لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ [سورة التحريم:7] وخاطب المؤمنين: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ [سورة التحريم:6] وهذا يمكن أن يرجع إلى الموضوع الأصلي، أزواج النبي ﷺ وقع منهن هذا، فالله يحث أهل الإيمان على حمل من تحت ولايتهم على طاعة الله ، ثم قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ [سورة التحريم:7] والله تعالى أعلم.

روى البخاري في كتاب الإيمان والنذور عن عبيد بن عمير قال: سمعت عائشة -رضي الله تعالى عنها- تزعم أن رسول الله ﷺ كان يمكث عند زينب بنت جحش، ويشرب عندها عسلاً، فتواطأت أنا وحفصة أنّ أيَّتَنا دخل عليها النبي ﷺ فلتقل له: إني أجد منك ريح مغافير، أكلت مغافير؟

يشرع الآن الحافظ ابن كثير -رحمه الله- في بيان ذكر سبب النزول، عامة الروايات الصحيحة سواء كانت في الصحيحين أو في غيرهما على أن صدر هذه السورة قضية التحريم، هذه الآيات المتعلقة بالتحريم يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ أنها نزلت بسبب تحريم النبي ﷺ على نفسه العسل، بسبب تواطؤ بعض أزواجه.

هنا في هذه الرواية -كما ترون- عائشة وحفصة، وفي بعض الروايات دخل معهن في ذلك بعض أزواج النبي ﷺ.

المقصود أن الأمر يرجع إلى تحريم العسل، وهذا الذي عليه عامة أهل العلم، وقد جاءت فيه أصح الروايات، وهناك روايات أخرى متعددة تدل على أن السبب في ذلك هو تحريم الجارية، وذلك أن النبي ﷺ وطأ جاريته، فعلم بذلك بعض نسائه كعائشة وحفصة، وأن النبي ﷺ بعْد ذلك إرضاءً لهما قال ما قال من تحريم الجارية.

فعلى كل حال من أهل العلم من سلك مسلك الترجيح، وأخذ بمثل هذه الروايات المشهورة في الصحيح وفي غيره، فقالوا: إن السبب هو تحريم النبي ﷺ العسل، وهذا الذي مشى عليه الحافظ ابن كثير -رحمه الله، وبه قال جمع غفير من أهل العلم من السلف والخلف -رضي الله تعالى عنهم.

ومن أهل العلم من قال: نزلت بسبب تحريمه الجارية، ولعل الأقرب -والله تعالى أعلم- أن يقال: إن الآية نزلت بسبب هذه الأمور مجتمعة؛ لأنه صحت الروايات بمجموعها في أن ذلك نزل بسبب تحريمه الجارية، ونحن ذكرنا في قواعد التفسير في بعض المناسبات أن أسباب النزول قد تتعدد، وتكون صحيحة صريحة، عندئذٍ يُنظر إن كان النزول متقارباً: قيل: إن هذه الآية أو الآيات نزلت بعد هذه الوقائع، وإن كان متباعداً: قلنا: إن الآية نزلت أكثر من مرة، هنا قد لا يمكن أن يقال: إن الآية نزلت أكثر من مرة؛ لأن الله نهى نبيه ﷺ عن أن يحرم ما أحل الله له، عاتبه على هذا، فهل يتصور أنه يتكرر منه؟! حاشا وكلا، والروايات صحت في هذا وهذا، فماذا عسى أن يقال؟

إما أن نسلك مسلك الترجيح وفيه إهدار لبعض الروايات، أو أننا نقول: إن الآية أو الآيات نزلت بسبب هذه الأمور مجتمعة، حصلت في أوقات متقاربة، فأنزل الله هذه الآيات التي تتحدث عنها لِمَ تُحَرِّمُ كالعسل والجارية، ولا شك أننا لو أردنا أن نرجح لرجحنا؛ لأن الروايات التي وردت في هذا أصح وأقوى، وهو أحد طرق الترجيح، من جهة الثبوت والصحة، كالمخرج في الصحيحين ونحو ذلك يُرجح ويقدم على غيره إذا احتيج إلى الترجيح، والقاعدة: أن الجمع مطلوب ما أمكن، فهو قبل الترجيح، هذه خلاصة فيما يتعلق بسبب النزول.

فتواطأت أنا وحفصة أنّ أيَّتَنا دخل عليها النبي ﷺ فلتقل له: إني أجد منك ريح مغافير، أكلت مغافير؟ فدخل على إحداهما النبي ﷺ فقالت ذلك له، فقال: لا.

المغافير معروفة، ما هي المغافير؟ صمغة، رائحة غير جيدة، مثل العسل الأسود، هي صمغة لها رائحة، يعني هي أكلة –صمغة- لها رائحة غير جيدة، غير مستساغة.

أكلت مغافير؟ واحدها: مغفور، قلن ذلك من باب الغيرة، وكان يطوف على نسائه بعد صلاة العصر، وهذا مما يستدل به على أن النهار لا تملكه من كانت ليلتها، لا تملك إلا المبيت، أما النهار فليس لها أن تحجر عليه، أو أن تطالبه بالبقاء عندها نهاراً، وإنما له أن يطوف على نسائه نهاراً من غير محاباة.

فقالت ذلك له، فقال: لا، بل شربت عسلاً عند زينب بنت جحش، ولن أعود له...

زينب بنت جحش -رضي الله عنها- هي في الفريق الثاني، فأزواج النبي ﷺ كما هو معلوم كنّ على حزبين، كما جاء في بعض الروايات، بينهن مغايرة ومنافسة، فزينب كانت تمثل الفريق الآخر، بل هي التي كانت تسامي عائشة كما جاء عن عائشة -رضي الله عنها، يعني تنافسها في الشرف والمنزلة، فكان النبي ﷺ يأتي إليها بعد العصر، ويشرب عندها العسل، فغِرنَ منها ففعلن ذلك.

لكن على كل حال كما قلت لكم: أصل الآية نازلة في هذا، بغض النظر عن التفاصيل، من التي كان يشرب عندها العسل؟ من اللاتي اشتركن في هذا وتواطأن عليه؟ تجد في بعض الروايات شيئاً من التفاوت، لكنه لا يضر.

فنزلت: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ إلى قوله تعالى: إِن تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا لعائشة وحفصة.

لاحظ الآن أن هذه الرواية إلى هذا الحد ليس فيها قَسَم، ما حلف النبي ﷺ هنا في هذه الرواية، وقول الله : إِن تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا يعني: إن تتوبا إلى الله فقد أتيتما ما يستوجب التوبة، ويدعو إليها.

فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا هذا ذكر ما يوجب عليهما التوبة، ذكر الإساءة.

صغت: أي زاغت ومالت، والمقصود بالزيغ والميل هاهنا هو أنهن هوين وأحببن ما كرهه رسول الله ﷺ، وفارقنه فيما يميل إليه، فحصل منهن ما حصل، فكان ذلك سبباً لحرمانه -عليه الصلاة والسلام- من هذا العسل، ووقوعه في هذا التحريم، هذا معنى صَغَتْ قُلُوبُكُمَا أي: مالت وزاغت، وليس المقصود به الضلال، وإنما المقصود ما ذكرتُ، والله تعالى أعلم.

فقوله: فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا يعني: هذا موجب التوبة، حصل منكن ما يوجبها.

وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا لقوله: بل شربت عسلاً وقال إبراهيم بن موسى عن هشام...

بل شربت عسلاً ويأتي في بعض الروايات أنه قال لها: لا تخبري بذلك أو أنه في قصة الجارية قال: لا تخبري فلانة وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا -والله أعلم.

وقال إبراهيم بن موسى عن هشام: ولن أعود له، وقد حلفت فلا تخبري بذلك أحداً[1].

لاحظ الآن قوله: وقد حلفت هذه مهمة جداً في الموضوع، فالكلام على حكم التحريم، فهذا التحريم يتوجه إلى ماذا؟ من أهل العلم من يقول: إن التحريم لا يتوجه إلا إلى المرأة فقط، فلو حرم على نفسه طعاماً، أو متاعاً أو مركباً أو نحو ذلك فهو لغو، لا يجوز لكنه لا يترتب عليه شيء، وإنما يتوجه ذلك إلى المرأة فحسب.

ومن أهل العلم من يقول: إنه يقع على المرأة وعلى غيرها، كما وقع هنا بسبب العسل، وقول من قال: إنه هنا بسبب العسل يؤخذ منه أمران، الأمر الأول: أن التحريم يقع في غير المرأة، والأمر الثاني: أن ما يتعلق بتحريم المرأة، وما ذُكر فيه من أنه طلاق أو ظهار أو غير ذلك -على القول بأنها نزلت في العسل- ليس في الآية ما يدل على حكمه إلا من جهة واحدة أن التحريم لا يجوز؛ لأن الله عاتبه على هذا يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ.

لكن الرواية الأخرى من أن ذلك نزل بسبب الجارية فعندئذٍ يقال: من حرم امرأته عليه فما الذي يترتب على هذا؟ وهذا كثير من الناس يسألون عنه، لا يكاد يمر يوم إلا وسائل يسأل قال لامرأته: عليّ الحرام، أنتِ حرام عليّ، وما أشبه ذلك من العبارات، وبعضهم يجمع بين تحريم وظهار وطلاق، ولا يدري ما قال، ولو سألته في بعض العبارات التي قالها وأدخل بعضها في بعض ما يعرف شيئاً.

فالمقصود على القول بأنه نزل بسبب الجارية، فهنا يأتي الكلام على مسألة تحريم المرأة ما الذي يوجبه؟ النبي ﷺ ما نُقل عنه إطلاقاً أنه كفر كفارة الظهار، وما أمره الله بذلك، وإنما قال: قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ والقرطبي -رحمه الله- في التفسير ذكر في هذه المسألة عن أهل العلم من السلف وعلماء الأمصار ثمانية عشر قولاً، مسألة التحريم إذا حرم امرأته ما الذي يترتب عليه؟ ما حكم هذا الخلاف؟ هم متفقون على أن التحريم لا يجوز، لكن ما الذي يترتب عليه؟ هذا الخلاف الطويل الواسع.

والعجيب كما يقول الشنقيطي -رحمه الله: إن أقوى الأقوال في هذه المسألة ثلاثة متناقضة، وهذا له وجه قوي من النظر -الكلام الذي ذكره الشيخ الشنقيطي رحمه الله، فعلاً هي من أقوى الأقوال، هذه الأقوال أحدها: أنه لغو لا كفارة فيه، لكنه لا يجوز طبعاً، لغو، لا يترتب عليه شيء.

طيب قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ لأن النبي ﷺ حلف هنا إن كان في قضية العسل، أو هناك حلف أن لا يطأها فهذه الجملة قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ بسبب أنه حلف، لكن لو ما حلف؟ قالوا: هذا لغو، حرم ما أحل الله، وهذا لا يتغير في حقيقة الحكم، في حقيقة الأمر، فهو لغو، لا يترتب عليه شيء ولكنه لا يجوز، والنبي ﷺ حينما فعله لم يكن عاصياً لله حاشا وكلا، ولكن قبل أن ينزل الحكم، نزل الحكم بعد هذا.

القول الثاني: وهو الذي ذهب إليه الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه، وهذه الأقوال تجد فيها أئمة كباراً من الصحابة فمن بعدهم، أحياناً تجد في قول من الأقوال: قال به أبو بكر وعمر وجماعة من الصحابة، وقول آخر قال به عثمان، وقول آخر تجد فيه: قال علي ، وقول تجد فيه ابن عباس وعائشة وابن مسعود، فالمسألة بهذه الطريقة، منذ عهد أصحاب النبي ﷺ، ابتداءً من العشرة فمن بعدهم، ومنشأ الخلاف هو هذا.

القضية النبي ﷺ حرم، والآية: قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ هل التحريم بسبب العسل أو الجارية؟ إن كان بسبب العسل فلا يؤخذ من الآيات حكم تحريم المرأة أنه حرام، إلا أن أجرينا الجميع على وزان واحد، وقلنا: لا فرق بين تحريم العسل وتحريم المرأة، المطعوم والملبوس والمنكوح، وكل شيء يمكن أن يحرمه الإنسان فالجزاء فيه واحد، فالمقصود هنا: أن النبي ﷺ سواء حرم هذا أو هذا، فعلى أنه الجارية قال الله: قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ من نظروا إلى الحلف الوارد في الرواية قالوا: هذا بسبب أنه حلف، لكن لو ما حلف ليس فيه شيء، لغو.

والقول الآخر: قال به إسحاق وأحمد وأئمة كبار، قالوا: فيه كفارة الظهار، من حرم امرأته فعليه كفارة ظهار، الكفارة المغلظة، عتق، فإن لم يستطع فصيام شهرين، فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً، قالوا: هذا بمثابة الظهار باعتبار أنه جعل هذه المرأة محرمة عليه، والتي تحرم عليه هي أمه أو أخته أو المرأة الأجنبية أيضاً؛ لأن الراجح في الظهار -والله تعالى أعلم- أنه لا يختص بالأم، ولا يختص بالظهر، ولا يختص بالمحارم اللاتي يحرمن عليه تحريماً مؤبداً، وإنما كل امرأة تحرم عليه، فلو قال: أنت علي كأم الجيران، أو كبنت فلان ممن تحرم عليه تحريماً مؤقتاً، أو قال: كزوجة فلان أو نحو ذلك، أو تحريماً مؤبداً قال: كعمتي وخالتي وابنتي كل ذلك ظهار، الآن هنا على هذا القول يكون ظهاراً، وهذا من أقوى الأقوال، لاحظ الآن هذا لغو، وهذا ظهار، تناقض.

والقول الآخر الثالث: أن فيه كفارة اليمين، وهذا قال به جمع كبير من الصحابة فمن بعدهم، كفارة يمين؛ لماذا كفارة يمين؟ قالوا: لأن الله قال: قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ فأياً كان السبب الجارية أو العسل فهذا الجزاء مذكور في الآية، ولكن إذا نظرنا إلى أن النبي ﷺ حلف، فنقول: من لم يحلف ليس عليه، ولهذا قال بعض أهل العلم: إنه بحسب نيته، إن قصد اليمين فعليه كفارة يمين، وإن قصد الظهار فهو ظهار، وإن قصد الطلاق فهو طلاق، وبعضهم يقول: هو ثلاث تطليقات، وبعضهم يقول: طلقة واحدة بائنة، وبعضهم يقول: طلقة واحدة رجعية، وتفاصيل كثيرة جداً، واضح؟

لكن كثير من هذه الأقوال لا دليل عليه، إنما الذي له تعلق بسبب النزول، أو بظاهر الآية قد يكون أقرب ذلك، هذه الأقوال الثلاثة.

فإذا أراد أن يحتاط الإنسان فيخرج كفارة ظهار، ومن قال: إنه كفارة يمين عرفتم وجه هذا، والجواب عنه، ومن قال: إنه لغو لكنه يحرم، كلامه له وجه ظاهر، باعتبار أنه إن لم يحلف يكون قد حرم شيئاً لم يحرمه الله فلا يترتب عليه شيء، على كل حال الروايات هذه تفسر الآية وَإِذْ أَسَرَّ هنا قال: فلا تخبري بذلك أحداً يعني موضوع العسل، وإن كان موضوع الجارية قال: لا تخبري فلانة.

وهكذا رواه في كتاب الطلاق بهذا الإسناد، ولفظه قريب منه، ثم قال: المغافير: شبيه بالصمغ، يكون في الرِّمث فيه حلاوة، أغفر به الرمث إذا ظهر فيه.

يعني هذا النوع من النبات –الرمث- معروف إلى اليوم، تعرفونه، يفرز هذه الصمغة، يفرزها هذا النبت، ما تلاحظون بعض النباتات يفيض صمغاً أياً كان نوعه؟ فهذا النبات يفرز هذه الصمغة التي لها رائحة، والنبي ﷺ كان يتأذى -وهذا من شمائله وكريم أخلاقه -عليه الصلاة والسلام- أن توجد منه الرائحة يعني التي يكرهها الناس، يأكل شيئاً أو نحو ذلك، لا سيما أنه يناجي الملك.

واحدها مغفور، ويقال: مغافير، وهكذا قال الجوهري، قال: وقد يكون المغفور أيضاً للعُشر والثُّمام والسَّلَم والطلح.

هذه أنواع من الأشجار معروفة في الحجاز، قد يؤخذ منها هذا، تفرز هذه الصمغة.

قال: والرِّمث بالكسر مرعى من مراعي الإبل، وهو من الحَمْض، قال: والعُرْفط: شجر من العضاه، ينضح المغفور.

شجر من العضاه الشجر الذي له شوك، وهذا كثير في أرض الحجاز.

وقد روى مسلم هذا الحديث في كتاب الطلاق من صحيحه عن عائشة -رضي الله تعالى عنها- به، ولفظه كما أورده البخاري في الأيمان والنذور، ثم روى البخاري في كتاب الطلاق عن عائشة -رضي الله تعالى عنها- قالت: كان رسول الله ﷺ يحب الحلوى والعسل، وكان إذا انصرف من العصر دخل على نسائه، فيدنو من إحداهن، فدخل على حفصة بنت عمر، فاحتبس أكثر ما كان يحتبس، فغرت، فسألت عن ذلك، فقيل لي: أهدت لها امرأة من قومها عكة عسل، فسقت النبي ﷺ شربة، فقلت: أما والله لنحتالن له، فقلت لسودة بنت زمعة...

لاحظ الآن الروايات عائشة غارت من حفصة هنا، فكلمت سودة، هذا لا يضر، هذا التفصيل لا حاجة إليه، يعني لا نستفيد إذا عرفنا أن هذا بالضبط وقع من حفصة وعائشة، وشاركت في ذلك سودة، في مقابل زينب مثلاً، لا يترتب على هذا عمل، فليس ذلك من صلب العلم، بل ولا من ملح العلم، وإنما هو من فضول العلم، لكن يبقى أصل الموضوع هو الذي يترتب عليه فائدة، ما الذي حرمه النبي ﷺ؟ لأنه ينشأ من ذلك أحكام.

فقلت لسودة بنت زمعة: إنه سيدنو منك، فإذا دنا منك فقولي: أكلت مغافير؟، فإنه سيقول لك: لا فقولي له: ما هذه الريح التي أجد؟، فإنه سيقول لك: سقتني حفصة شربة عسل فقولي: جرَسَتْ نحلُه العُرْفُط، وسأقول ذلك...

يعني في النتيجة في المآل واحد، ما أكلت مغافير، إذاً النحل امتص هذه الصمغة، أو هذا النبات الذي يكون بهذه الرائحة، وهذا ينتج في رائحة العسل وطعمه، بحسب ما أخذ.

فقولي: جرَسَتْ نحلُه العرفط، وسأقول ذلك، وقولي له: أنتِ يا صفية ذلك، قالت: تقول سودة: فو الله ما هو إلا أن قام على الباب، فأردت أن أناديه بما أمرتِني...

خافت منها، فهي مستوفزة تنتظر متى يدخل حتى تلقي هذا عن كاهلها، وتقول: قلت له ذلك، بمجرد ما رأته أرادت أن تقول من بعيد: أكلت مغافير؟ قبل أن يقترب منها، وتجد هذه الرائحة.

فلما دنا منها قالت له سودة: يا رسول الله أكلت مغافير؟ قال: لا قالت: فما هذه الريح التي أجد منك؟ قال: سقتني حفصة شربة عسل قالت: جرست نحله العرفط، فلما دار إليّ قلت نحو ذلك، فلما دار إلى صفية قالت له مثل ذلك، فلما دار إلى حفصة قالت له: يا رسول الله ألا أسقيك منه، قال: لا حاجة لي فيه قالت: تقول سودة: والله لقد حرمناه، قلت لها: اسكتي[2] هذا لفظ البخاري.

يعني كأن سودة ندمت، فخافت عائشة أن يظهر الأمر وتعتذر إليه، وتنكشف هذه القضية، فقالت لها: اسكتي، لا تتكلمي بهذا.

وقد رواه مسلم، وعنده قالت: وكان رسول الله ﷺ يشتد عليه أن يوجد منه الريح[3]. يعني: الريح الخبيثة، ولهذا قلن له: أكلت مغافير؟ لأن ريحها فيه شيء، فلما قال: بل شربت عسلاً قلن: جرست نحله العرفط، أي: رعت نحله شجر العرفط، الذي صمغه المغافير، فلهذا ظهر ريحه في العسل الذي شربته، قال الجوهري: جرست النحل العرفط تجرس إذا أكلته، ومنه قيل للنحل: جوارس، قال الشاعر:

  تَظلُّ على الثمراءِ منها جوارسٌ

وقال: الجَرْس والجِرْس الصوت الخفي، ويقال: سمعت جرس الطير إذا سمعت صوت مناقيرها على شيء تأكله، وفي الحديث: فيسمعون جرس طير الجنة[4] قال الأصمعي: كنت في مجلس شعبة، قال: "فيسمعون جرش طير الجنة" –بالشين، فقلت: جرس، فنظر إلي فقال: خذوها عنه، فإنه أعلم بهذا منا[5]، والغرض أن هذا السياق فيه أن حفصة هي الساقية للعسل.

على كل حال مثل هذا أمر يقع بين الأزواج بسبب المغايرة، والله جبلهن على هذه المغايرة، فتصدر منهن أمور قد لا تستطيع الواحدة أن تسيطر على مشاعرها وعلى تصرفاتها الناتجة عن هذا، فيصدر منها ويبدر منها هذا، والله له حكمة في هذا كله، ولا ينقص ذلك من أقدارهن، فكُنّ بتلك المنزلة عند رسول الله ﷺ مع هذا، وكان يقع بينهن -مثل عائشة وزينب- من المنافسة والمنافرة والمجاوبة أمام النبي ﷺ، وهو لا يزيد على أن يتبسم، بل لربما من لطفه -عليه الصلاة والسلام- يقول للأخرى: أجيبي فلانة، ولما تأخذ الواحدة القصعة وتكسرها أمام الضيف -ترسل جاريتها وتكسرها- يأخذ الطعام ويضعه في القصعة الأخرى، ويقول: طعام بطعام[6] ولم يترتب على هذا شيء. واجتمعن عليه يطالبنه بالزيادة في النفقة، ونزلت الآيات المعروفة: إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا [سورة الأحزاب:28] وعَسَى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ... إلى آخره.

فاخترن الله ورسوله، والإنسان إذا كان شريفاً عظيماً، كثير الحسنات، كثير البر والمعروف والخير والطاعة فإن مثل هذه الهنّات تنغمر في بحر حسناته، أما ترى أن الماء إذا بلغ القلّتين لم يحمل الخبث؟! وهؤلاء بحور في الفضل والدين والتقى والصلاح، وهن أزواجه -عليه الصلاة والسلام- في الجنة، وكل الناس عندهم من التقصير والضعف الذي ينتابهم في بعض الأحيان مما هو شأن البشر، ولكن العبرة بما غلب على الإنسان من الفضائل والحسنات.

لكن حينما تصدر بعض الأفعال من المفاليس فهنا تكون المشكلة، ممن ليس له فضل، ولا حسنات عظيمة، فهنا يكون الإشكال، حاطب بن أبي بلتعة أفشى سر النبي ﷺ إلى المشركين، ومع ذلك قال النبي ﷺ لعمر: أما علمت أن الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم، قد غفرت لكم[7] إلى غير هذا لمن أراد أن يتتبعه، ولكن من مرض قلبه، فوقع على مثل هذه الأشياء، وجعلها هي السمة لمثل هؤلاء الكبراء والفضلاء والعظماء، ولمزهم وغمزهم بسبب ذلك، فلا شك أنه ضال مضل منحرف.

وهؤلاء أمهات المؤمنين وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ [سورة الأحزاب:6] فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام [8].

  1. أخرجه البخاري في كتاب الأيمان والنذور، باب إذا حرم طعامه (8/ 141- 6691).
  2. أخرجه البخاري في كتاب الطلاق، باب: لم تحرم ما أحل الله لك (7/ 44- 5268) وفي كتاب الحيل، باب ما يكره من احتيال المرأة مع الزوج والضرائر، وما نزل على النبي ﷺ في ذلك (9/ 26- 6972).
  3. أخرجه مسلم في كتاب الطلاق، باب وجوب الكفارة على من حرم امرأته، ولم ينو الطلاق (2/ 1101- 21) (1474).
  4. لم أعثر على هذا الأثر بهذا اللفظ بعد البحث والتتبع.
  5. انظر: الكفاية في علم الرواية للخطيب البغدادي (ص: 256).
  6. أخرجه الترمذي في أبواب الأحكام، باب ما جاء فيمن يكسر له الشيء ما يحكم له من مال الكاسر (3/ 632- 1359) وغيره، وصححه الألباني في الروض النضير (93) والإرواء (1523). وهو في البخاري في كتاب النكاح، باب الغيرة (ج16/ ص246- 4824).
  7. أخرجه البخاري في كتاب الجهاد والسير، باب الجاسوس (4/ 59- 3007) وفي كتاب الجهاد والسير، باب إذا اضطر الرجل إلى النظر في شعور أهل الذمة، والمؤمنات إذا عصين الله، وتجريدهن (4/ 76- 3081) وفي كتاب تفسير القرآن، باب: لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء [سورة الممتحنة:1] (6/ 149- 4890) وفي كتاب الاستئذان، باب من نظر في كتاب من يحذر على المسلمين ليستبين أمره (8/ 57- 6259). ومسلم في كتاب فضائل الصحابة -رضي الله تعالى عنهم- باب من فضائل أهل بدر وقصة حاطب بن أبي بلتعة (161 - 2494- 1941).
  8. أخرجه البخاري في كتاب فضائل الصحابة، باب فضل عائشة -رضي الله عنها- (3/ 1375- 3559) ومسلم في فضائل الصحابة، باب فضائل خديجة أم المؤمنين -رضي الله عنها- رقم (2431).

مواد ذات صلة