الجمعة 19 / رمضان / 1445 - 29 / مارس 2024
(152) قوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ...} الآية 142
تاريخ النشر: ٢٤ / جمادى الأولى / ١٤٣٨
التحميل: 600
مرات الإستماع: 914

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

في سياق هذه التعزية لأهل الإيمان في هذه السورة الكريمة سورة آل عمران مما وقع، وجرى في أُحد إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِين ۝ وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِين [آل عمران:140-141].

هذا قد تحدثنا عن الحِكم مما يُجريه الله من الابتلاء، ومداولة الأيام بين الناس.

وبقي الكلام على هذه الآية الكريمة التي يذكر الله بها حكمتين من هذه الحِكم وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِين، فهذا الذي جرى هو اختبار وتمحيص وتنقية وتصفية لأهل الإيمان، هذا التمحيص لا يبعُد أن يشتمل على صور متنوعة، فيكون ذلك بتمحيص المؤمنين وتمييزهم من المنافقين، ويكون ذلك أيضًا بتمحيص النفوس من عوالق وشوائب تتعلق بها، سواء كان ذلك من التعلق بالدنيا والأرض، أو كان ذلك بلون من الاشتغال أو الالتفات عن الله -تبارك وتعالى- والدار الآخرة وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ.

كذلك أيضًا يُمحصهم من الذنوب والخطايا وآثارها، فيكون البلاء سببًا لصقل هذه النفوس وتطهيرها وتنقيتها، فيعود الواحد منهم بعد ذلك خالصًا من غير شوب، طاهرًا نقيًّا من غير ذنب، وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِين يُهلكهم، فدل ذلك على أن من الحِكم: التمحيص والاختبار، عجبًا لأمر المؤمن، إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له[1].

وهكذا فإن الله -تبارك وتعالى- يُقدر من الأقدار ما يكون فيه محق الكافرين، وذلك بإهلاكهم واستئصالهم، فإن ما يصدر عنهم من الفساد والشر والاستطالة على أهل الإيمان، والقتل، وما إلى ذلك، كل ذلك يكون سببًا للمحق، سببًا لهلاكهم، سببًا لنزول العقوبات بهم، فهم بهذا الانتصار الذي يحصل، يزدادون كفرًا وشرًا وطُغيانًا وأشرًا وبطرا، فيكون عذاب الله واقعًا بهم.

كذلك فإن قوله -تبارك وتعالى-: وَيَمْحَقَ الْكَافِرِين، هذا النصر كالطُعم بالنسبة إليهم، فرحوا به واستبشروا وطاروا، ولكن قد تكون هذه الأمور التي هي في ظاهرها نِعمة، قد تكون نِقمة على صاحبها، ولذلك فإن الإملاء للكافرين في ظاهره خير لهم، وقد نفى الله -تبارك وتعالى- ذلك، بل هو شر لهم، فإن الله -تبارك وتعالى- يُملي لهم كما قال: إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمًا [آل عمران:178].

فالازدياد من الآثام سواء كان ذلك بإغداق النِعم عليهم، أو بطول الأعمار، يكون سببًا للمزيد من الضلال والشر، واكتساب الذنوب والخطايا والجرائر والجرائم، فلا يُفرح للواحد منهم بزيادة نعمة أو بطول عمر، فأي الناس شر؟ قال: من طال عمره وساء عمله[2]، هكذا ينبغي أن تُقاس الأمور، ويُنظر إلى الحقائق لا إلى مظاهر لربما تستهوي قاصر العقل قليل الفقه والعلم، وهي في حقيقتها نقمة على أولئك.

وكذلك قال الله -تبارك وتعالى- بعد هذا: أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِين [آل عمران:142]، هذا من جملة ما عزاهم به، وذلك أنه يُبين لهم -تبارك وتعالى- أن الجنّة التي يطلبونها لابد لها من تكاليف، أَمْ حَسِبْتُمْ فهذا الاستفهام يدل على الإنكار، أظننتم أن تدخلوا الجنة، ولم تُبتلوا بالشدائد، وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِين، الابتلاء بالشدائد سواء كان ذلك من التكاليف التي تشق على كثير منهم كالجهاد والقتال في سبيل الله، أو كان ذلك بما يقع من الهزيمة أو الجراح أو العِلل والأوصاب والأمراض أو الفقر، أو غير ذلك مما يتطلب صبرًا، فلابد من هذا، فهو القنطرة إلى الجنة، لا يمكن أن يتوصل إلى الجنة إلا بالعبور على هذه القنطرة، فإن الجنة حُفت بالمكاره، وحُفت النار بالشهوات.

يؤخذ من هذه الآية الكريمة: أن دعوى الإيمان، ودعوى محبة الله ، ومحبة دينه ورسوله -صلى الله عليه وآله وسلم- لا يمكن أن تُقال هكذا إرسالاً باللسان من غير بُرهان، فلا بد مما يُصدقها ويُحقق هذه الدعوى، فإذا جاء الابتلاء، وجاءت المكاره، هنا يتبين الصادق من الكاذب، ويتبين الدخيل والدعي من الأصيل.

أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ، تريدون هذه الجنة من غير بذل ولا تضحيات، هذا أمر لا يمكن أن يقع، فلا بد من أمور تقع موجبة للصبر، هذا إذا عرفه المؤمن وطن نفسه على الصبر، إذا كانت الحياة من أصلها كبد، لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَد [البلد:4]، هو يُكابد فيها، فكذلك الطريق إلى الآخرة فيه ابتلاءات وامتحانات فيحتاج إلى صبر، ويحتاج إلى تحمل، ويحتاج إلى توطين النفس على المكاره وتحملها، والمشقات والقيام بالتكاليف، وما إلى ذلك، أما أن يبقى الإنسان يتمنى وبضاعته الأماني فإن هذا رأس مال المفاليس، فهذا التمني من غير بذل الأسباب هو رأس مال المُفلس، والجنة لا تُدرك بالأماني.

وكذلك أيضًا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِين، لا بد من المجاهدة، لابد من الجهاد، هذا الجهاد يكون بالميدان لأعداء الله الكفار، ويكون أيضًا بجهاد المنافقين بالقرآن، وكذلك أيضًا الجهاد بالعمل بطاعة الله ، ومجاهدة النفس الذي سماه الحافظ ابن القيم -رحمه الله- بالجهاد الأكبر[3]، بحيث أن التكاليف تعرض للإنسان في كل لحظة، وتعرض له الفتن في كل ناحية، فهو في جهاد مستمر دائم، ولله عبوديات في كل حال من أحواله، فهذا يحتاج إلى مجاهدة من أجل أن يأتي بما أمره الله -تبارك وتعالى- به، الصبر على التكليف، والصبر على الدعوة، والصبر على التعلم، ومعرفة مراد الله من عبده، والصبر على ما يلحقه من جراء ذلك من السفهاء، وأهل الأهواء كل هذا من الجهاد، يُجاهد ليتعلم، ويُجاهد ليعمل، ويُجاهد ليتقي، فإن النفس جموح قد غُرست فيها الغرائز والشهوات، فهي تطلبها طلبًا حثيثًا، فتحتاج إلى صد وإلى ترويض على طاعة الله -تبارك وتعالى-، فهنا معاناة يومية بل في كل حين وساعة، من أجل أن يكون الإنسان صحيح السير على صراط الله المستقيم.

كذلك الصبر حينما يستفزه الباطل، ولربما يرى له بعض الظهور، فإنه لا يتزعزع، ويثبت، وهكذا حينما يبذل ويُنفق ويتصدق وَتَثْبِيتًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ [البقرة:265]، فالنفس تُنازعه، والشيطان يعده الفقر، فيحتاج إلى تثبيت لهذه النفس، وتوطين، وتصبير، وثقة بوعد الله -تبارك وتعالى-، وهكذا الصبر على طول الطريق، وما فيه من العقبات، وما تميل إليه النفس من طلب الراحة والدعة والاسترخاء والترك، وهكذا أيضًا من يحيطون به، ويحتفون حينما يلقون إليه مثل هذه الدعوات والوساوس؛ ليلحق بركب القاعدين والمتخلفين والناكثين لعهد الله -جل جلاله وتقدست أسماؤه-، فصار الجهاد بالقتل للأعداء، وكذلك الجهاد بجميع صوره، ومن ذلك بذل العلم والدعوة إلى الله -تبارك وتعالى- كل هذا جهاد، وقد يكون في بعض الأوقات أحد هذه الأنواع أولى وأبلغ من الآخر.

وقد نوع الله -تبارك وتعالى- مواهب الخلق وما أعطاهم وما أولاهم، وكل مُيسر، فمن فُتح له في باب فذلك خير يلزمه، ولا يُطالب الجميع بما يكون عليه الواحد منهم، أو ما يكون في نظره أنه الأفضل والأجدى، ومن هنا تقوم حضارة الأمة، وتتحقق عزتها وقوتها، وكل على ثغر، لكن القعود عن طاعة الله هذا الذي ليس له مُبرر أيها الأحبة! في حال من الأحوال.

وهكذا فإن هذا الصبر الذي دلت عليه هذه الآية يدل على أن المطلوب إذا عظُم فإن ذلك يتطلب مزيدًا من البذل، وقد ذكر الشيخ عبد الرحمن بن سعدي -رحمه الله- هذا المعنى، وأنه كلما عظُم المطلوب عظُمت وسيلته، والعمل الموصل إليه، يقول: "فلا يوصل إلى الراحة إلا بترك الراحة، ولا يُدرك النعيم إلا بترك النعيم، ولكن مكاره الدنيا التي تصيب العبد في سبيل الله عند توطين النفس لها، وتمرينها عليها، ومعرفة ما تأول إليه تنقلب عند أرباب البصائر منحًا يُسرون بها، ولا يُبالون بها، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء"[4].

لا يُنال النعيم إلا بترك النعيم، إنسان يريد أن يتنعم في الدنيا، ويُخلد إلى اللذات، ثم هو يطلب النعيم المُقيم في الآخرة، وكذلك لا يوصل إلى الراحة إلا بترك الراحة، حتى في المطالب الدنيوية والمكاسب والأعمال الناس يغدون مع شروق الشمس إلى معايشهم وأعمالهم، ونحو ذلك، والنوم يُغالبهم، ولو بقوا مع شهوات النفوس لما قاموا من فُرشهم، فهكذا النهوض إلى الفريضة، صلاة الفجر، النهوض لقيام الليل، النهوض إلى طاعة الله -تبارك وتعالى-.

لا يوصل إلى الراحة إلا بترك الراحة، فمن يريد أن يسلك طريق الجنة عليه أن يُعد نفسه للتحمل، وتحمل المشقات، الأعباء، أن يصبر عن المعاصي، واللذات، وأن يصبر على طاعة الله -تبارك وتعالى-، هذا هو الطريق.

أيها الأحبة! والعقلاء -كما قال بعض الفضلاء من المعاصرين- يستحيون أن يطلبوا السلعة الغالية بالثمن التافه، وهم يبدون استعدادهم للتضحية بأنفسهم في سبيل الله، أو في سبيل ما ينشدون، لكن قد يكون هذا العزم والصبر في أيام الأمن والراحة زائلاً ومتلاشيًا في أيام الشدة؛ ولهذا قال شيخ الإسلام رحمه الله: "بأن العزم على الصبر غير الصبر"[5].

وانظروا إلى ما ذكره الله -تبارك وتعالى- من خبر بني إسرائيل إِذْ قَالُواْ لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ [البقرة:246]، فهم كانوا في غاية العزم فيما يدعون، ولكنهم ما لبثوا يتساقطون حتى ما بقي إلا فئة قليلة هي التي انتصرت.

وهكذا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُون [الصف:2]، فقد يعزم الإنسان على الصبر، ولكنه إذا جاء الجد لا يتحقق ذلك، وقد تكلمنا عن هذا المعنى طويلاً في الكلام على الصبر من الأعمال القلبية.

وهذه الآية وَيَعْلَمَ الصَّابِرِين المقصود بالعلم: العلم بتحقق الوقوع، العلم الذي يترتب عليه الجزاء، وإلا فكما ذكرنا فإن الله يعلم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف يكون، وهذا يدل أيضًا على منزلة الصبر في الإيمان، فهو المحك والاختبار، وهو مُر المذاق، شديد فيه حرارة وضيق، ولهذا ذكر شيخ الإسلام -رحمه الله- في قوله -تبارك وتعالى-: "وَجَزَاهُم بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا [الإنسان:12]، يقول: لما كان في الصبر من الضيق والحرارة قابله بالجنة التي فيها السَعة والبرودة، ولما كان فيه من الخشونة قابله بالحرير الذي فيه النعومة فالجزاء من جنس العمل"[6]، فالصبر هو طريق إلى الجنة، والله -تبارك وتعالى- يقول: إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَاب [الزمر:10]، فهذا يدل على عِظم منزلة الصبر في دين الله.

هذا، وأسأل الله -تبارك وتعالى- أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، وأن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين، اللهم ارحم موتانا، واشفِ مرضانا، وعافِ مبتلانا، واجعل آخرتنا خيرًا من دنيانا، والله أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

  1. أخرجه مسلم، كتاب الزهد والرقائق، باب المؤمن أمره كله خير، برقم (2999).
  2. أخرجه الترمذي في سننه، برقم (2330)، وأحمد في مسنده، برقم (20415)، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (3295).
  3. انظر: شفاء العليل في مسائل القضاء، (225)، وزاد المعاد، (3/9).
  4. انظر: تفسير السعدي، (150).
  5. راجع مجموع الفتاوى، (8/76)، والزهد، والورع، والعبادة، (191)، والمستدرك على مجموع الفتاوى، (1/150).
  6. انظر: دقائق التفسير، (3/24).

مواد ذات صلة