السبت 11 / شوّال / 1445 - 20 / أبريل 2024
(180) تتمة قوله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ...} الآية 159
تاريخ النشر: ١٥ / رجب / ١٤٣٨
التحميل: 554
مرات الإستماع: 997

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

لا زال الحديث متصلاً بقوله -تبارك وتعالى-: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِين [آل عمران:159].

بقي الحديث -أيها الأحبة-! على آخر هذه الآية: فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِين فذكر الله -تبارك وتعالى- ما ينبغي فعله من العفو والاستغفار لهم والمُشاورة، ثم أرشده إلى ما يكون بعد ذلك كله فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ.

والعزيمة معلوم أنها تكون بانعقاد القلب بغير تردد على الفعل أو الترك، وهذا يدل على أن النبي ﷺ يعتريه ما يعتري البشر من التردد في الأمور، فأرشده الله -تبارك وتعالى- إلى هذا فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ.

فالعزيمة خلاف التردد بمعنى أنه إذا صار عند الإنسان عزم واتضحت الرؤية أمامه في الأمر الذي ينوي الإقدام عليه فإنه بهذه الحال ينبغي أن يترك التردد والخواطر التي قد يُلقيها الشيطان في قلبه؛ فيثنيه عن هذا العمل، هذا هو الطريق مع ما جاء في سنة رسول الله ﷺ من الإرشاد إلى الاستخارة، يستخير فإذا أجمعت الاستخارة مع الاستشارة فإن ذلك يكون تتميمًا، وتكميلاً للحال المطلوبة التي يكون بعدها الإقدام أو الإحجام، نعم، هناك أمور أخرى مثل دراسة هذا العمل، أو هذا المشروع، أو هذا الجانب، أو هذا المطلوب من جميع جوانبه أن يقوم بنفسه بالاستقصاء والدراسة؛ سواء كان ذلك عملاً تجاريًّا، أو كان مشروع زواج، أو نحو هذا، بحيث يتحرى، ويسأل في التجارة: دراسة الجدوى، وأحوال السوق، والأنشطة المُشابهة أو المُماثلة، وهكذا الموقع إلى غير ذلك مما لا يخفى.

فإذا بذل الإنسان جهده، وشاور أهل الخبرة، واستخار الله فلا ينتظر بعد ذلك رؤيا كما يظنه الكثيرون، يظنون أنهم إذا فعلوا ذلك واستخاروا، فهم في هذه الحال لا بد أن يروا رؤيا في المنام تدفعهم إلى العمل بمقتضى ذلك أو الترك، وهذا غير صحيح.

ليس فيما ورد في الكتاب والسنة في باب الاستشارة، ونحوها من الاستخارة مما يُطلب قبل الإقدام على الفعل، ما يدل على أن الإنسان يرى رؤيا، فيبني عليها بعد ذلك، لا، قد يكون ذلك برؤيا، وقد لا يكون، لكن المقصود أنه إذا استتم المطلوب، واستوفى ما ينبغي استيفاءه، ففي هذه الحال بناء على المعطيات التي صارت بين يديه، فإنه يُقارن بين المصالح والمفاسد، ويُرجح بينها، ثم بعد ذلك أيضًا يستضيء كما سبق بأقوال المُشيرين وأهل الخبرة، فإن الاستشارة تكون لمن له بصر في هذا المطلوب.

يريد أن يفتح عيادة أسنان، فيستشير حدادًا، أو صاحب ورشة حدادة أو نجارة، أو غير ذلك، هذا كلام لا معنى له، وهكذا حينما يستشير من لا شأن له بهذا الجانب، وهذا الذي يستشيره لا بد أن يكون مؤتمنًا، وأن يكون حسن النظر في الأمور، وله خبرة في هذا الباب.

على كل حال فعندها يكون التوكل على الله بالتفويض والاعتماد والثقة مع حُسن الظن بالله -تبارك وتعالى- فالواجب على المؤمن، أن الإنسان حينما يفعل ما سبق، يعني: يستخير، ويستشير، ثم بعد ذلك يتذمر ويحزن ويتسخط إذا وقع له خلاف ما يهواه، فإن هذا خلاف مقتضى الاستخارة، هو في استخارته يطلب من ربه أن يختار له ما فيه الخير وحُسن العاقبة، فهو يفوض أمره إلى الله، ويطلب من الله التدبير، يقول: "فإني لا أُحسن التدبير دبرني وصرفني"، ثم بعد ذلك يتسخط، فهذا خلاف مقتضى الاستخارة.

ينبغي على الإنسان إذا فعل الأسباب، ثم بعد ذلك استخار، فإنه يفوض بعد ذلك جاءت النتائج على ما يهوى، أو على خلاف ما يهوى، بمعنى: أن الاستخارة لا يلزم أن يوجد بعدها -كما سبق- رؤيا تصرفه، أو تحثه على الفعل، لكن قد يعرض عارض لم يخطر ببال أحد منهم، فينصرف هذا الإنسان عن نكاح هذه البنت التي استخارت، أو أن أهلها يرفضون هذا الشاب الذي استخار واستشار، وتقدم إليهم، فهذا لا يعني بحال من الأحوال أن ينزعج، أو تنزعج هذه البنت، وينزعج أهلها هذه هي الاستخارة.

قدم على عمل على وظيفة، واستخار واستشار، ثم بعد ذلك لم يحصل مطلوبه، فلا حاجة في هذه الحال إلى أن يتسخط، ويضيق صدره، وينزعج، لا لا، هذه هي استخارتك، تريد نتيجة الاستخارة؟ هذه نتيجة الاستخارة، ليست رؤيا في المنام، بل أمر في الواقع، دبرك الله هذا التدبير، طلبت منه أن يُدبرك، وأن يُصرفك دبرك فلماذا تعترض، ولماذا تنزعج؟

أبدًا -أيها الأحبة!- خذوها قاعدة إذا استوفيت المطلوب بالاستشارة، وبذلت الأسباب والتحري، والاستخارة، بعد ذلك لا تقلق ولا تحزن، وأيضًا لا تفرح فإن الله -تبارك وتعالى- يُدبرك إلى ما فيه العاقبة الحسنة، كما دعوته، أما أن يكون الإنسان بعيدًا عن مقتضى هذا كأنه قد ظفر بشيء استقلالاً فلا يتمالك من الفرح، أو يحزن على ما فات، فذلك لا معنى له.

فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ، وهذا أيضًا يؤخذ منه أن الإنسان حينما يستوفي ما طُلب مما ذُكر فإنه ينبغي ألا يبقى مترددًا، وإنما عليه أن يعزم، فالتردد آفة تفوت معها المصالح والفُرص، فيكون ذلك إبطاءً يُقعده عن مصالحه ومطالبه؛ فيرجع بالخسارة، ولا يحصل له نجاح ولا مطلوب، وهذه قد تكون طبيعة في الإنسان، وقد تكون وراثة أو تربية يتلقاها، يعني هو تلقى هذه التربية في بيته، بين قوم يترددون في كل شيء، قد يكون هذا التردد موجبه سوء الظن، وقد يكون الخوف الزائد طبيعة وسجية في هؤلاء، وقد يكون ذلك تربية، يعني يكتسبها بالتربية، وقد تكون نفوسهم ضعيفة، فيحصل عندهم، فمثل هذا لا يستطيع أن يُصدر قرارًا في أدنى الأشياء في حياته أيسر الأمور يتردد فيها، فمثل هذا لا شك أنه يُخفق في كثير من الأمور، فينبغي الإقدام، والاستعانة بالله .

والمشاهد في حال الذين يُحصلون ويكتسبون، ويحصل لهم كثير من الفلاح والنجاح، وتحقق مطالب كثيرة لهم، أن هؤلاء ممن يعزمون، وقد يكون ذلك في بادي الرأي بالنسبة لغيرهم أنه تعجُل وتهور ومخاطرة، حيث يدخل في هذه الصفقة، أو نحو ذلك، وربما كانت خاسرة، لكن النتائج تأتي غالبًا أن هؤلاء يربحون، ويحصل لهم مكاسب كبيرة، بينما ذاك الذي يتردد ألف مرة قبل أن يُقدم، تطير الفُرص من بين يديه، ولا يكاد أن يُحرز منها شيئًا، فيحتاج الإنسان إلى الحزم، وأما فيما يتعلق بالطاعات فإن الإنسان ينبغي أن يُقدم ولا يتردد، لكن هل يستخير في العبادة والطاعة؟

الأقرب أن هذا يختلف، الأصل أن يُقدم على الطاعات لكن هل يستخير؟ هذا يختلف، يعني: قد يُريد الحج حج نافلة، وعنده عائق أو عمل آخر أو مشروع أو بر آخر يقول مثلاً: هل أحج هذا العام، أو يبقى على أبوين كبيرين، أو على مريض، أو نحو ذلك متردد؛ فيستخير.

هل أحج هذا العام، أو يخشى مثلاً إن كان يخشى أن صحته قد لا تُسعفه، وأن قوته قد لا تحمله على أداء المناسك، فيكون عنده تردد لضعفه ومرضه، هل يُقدم أو لا يُقدم، هل يذهب إلى الحج أو لا يذهب، يخشى أن ينقطع فماذا يفعل؟

نقول: يستخير، ثم يتوكل على الله إما بالإقدام أو بالإحجام، ثم بعد ذلك لا يأسف على شيء، إذا استخرت لا تأسف على شيء، لكن بعد ما تستوفي الأسباب كما ذكرت.

فهذا التوكل فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِين توكل على الله، لاحظ الإظهار في موضع الإضمار فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِين جاء التأكيد بإن إِنَّ اللّهَ، ثم جاء الإظهار لفظ الجلالة، ما قال: فتوكل على الله إنه يُحب المتوكلين، وتصح الجملة بهذا الاعتبار لكن قال: إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِين مع التقارب بين اللفظتين، لكن هذه في جملة مستقلة، وهذه في جملة مستقلة، ومثل هذا لا يكون عيبًا في البلاغة، فيكون هذا الإظهار للتفخيم والتعظيم يعني هو أفخم مما لو قيل: فإذا عزمت فتوكل على الله إنه يُحب المتوكلين، إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِين، وهذا يدل على أن التوكل على الله من أسباب نيل محبة الله .

كذلك أيضًا فإن التوكل من مقتضيات الإيمان: وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُون [آل عمران:122]، فجاء الحكم معلقًا على وصف وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُون فدل على الوصف الإيمان وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ فهنا بقدر ما يكون عند الإنسان من الإيمان يكون له من التوكل على الله -تبارك وتعالى- فدل ذلك بمفهوم مخالفته على أن ضعف التوكل يدل على ضعف الإيمان، ضعف التوكل بمعنى أن الإنسان لا يثق بتدبير الله بمعنى أن هذا الإنسان يتعلق قلبه بالمخلوقين، يعتقد أن مصالحه عندهم، وأن فلان هو الذي يملك مستقبله، فيرجوه ويؤمله، بينما نواصي الخلق بيد الله -تبارك وتعالى- فيعتمد قلب المؤمن على ربه -تبارك وتعالى- في تحصيل منافعه، أو في حفظها بعد حصولها، يوكل الإنسان الله، ما يبقى قلقًا سيخسر، سيذهب ماله، ستذهب تجارته، ونحو ذلك، سيموت أولاده، يتوكل على الله، هكذا في دفع الأضرار، وفي رفعها بعد وقوعها، فهذا من أعلى المقامات، وقد تكفل الله بكفاية من توكل عليه وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطلاق:3]، جاء الجواب هكذا فَهُوَ حَسْبُهُ، أي: كافيه.

وكذلك أيضًا ينبغي أن يكون ذلك في كل الأمور فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ، في أي أمر من أمورك، والعجيب أن من الناس كما ذكر هذا شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- يعني من العُصاة، ومن المجرمين[1]، ومن قطاع الطُرق من يكون عنده من التوكل ما لا يكون عند بعض العُباد، أو بعض المنتسبين للعلم، تجد بعض قُطاع الطُرق بعض المجرمين بعض المحاربين لله ولرسوله المُفسدين في الأرض عنده توكل، وإقدام يركب الأخطار، ويقول: نتوكل على الله.

بل وجد من نُصح حيث يُسافر إلى بلاد من أجل الفجور، فقيل له: إن لم تخشَ الله فهذه الأمراض والأدواء التي أعيت الأطباء قد تُصاب بشيء منها، قال: نحن نتوكل على الله.

هذا توكل هؤلاء من أهل الفساد، يتوكلون في معاصيهم وجرائمهم، فأهل الطاعة والإيمان أولى من هؤلاء في أن يتوكلوا في مصالحهم وأعمالهم فلا يعتمدون على شيء سوى الله -تبارك وتعالى-، لكن هذا لا يعني ترك التدبير، وفعل الأسباب كما هو معلوم، فإن هذا لا يُنافي التوكل بحال من الأحوال، ولهذا هنا ذكر المشاورة وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ لكنه لا يعول بقلبه على الأسباب، ولا يعتمد عليها، ولا يركن إليها، ولا يتعلق بها، إنما يتعامل معها على أنها أسباب، طب الأطباء دواءهم، مشورة هذا الإنسان، الخبرات التي استجمعها، الأعوان الذين معه من المستشارين ومن الخُبراء، ونحو ذلك لا يعتمد على هؤلاء أنهم سيُحصلون له المكاسب والأرباح والنجاح أبدًا، وإنما يعتمد على الله -تبارك وتعالى-.

وكذلك أيضًا فإنه يؤخذ من هذه الآية فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِين هذا كله يدل دلالة واضحة بأن قوله: إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِين تعليل للتوكل عليه -تبارك وتعالى-، وهو من حُسن التعليل فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ لأن "إن" هذه تُفيد التوكيد، وهي أيضًا تفيد التعليل إِنَّ اللّهَ كأنه يقول لأن الله يُحب المتوكلين، وفي هذا حفز وحث على التوكل، والإمضاء بعد التوكل.

هذا ما يتعلق بهذه الآية الكريمة، وفيه إثبات صفة المحبة لله إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِين.

أسأل الله أن ينفعنا وإياكم بالقرآن العظيم، وأن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين، والله أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

  1. راجع: مجموع الفتاوى، (14/32).

مواد ذات صلة