الثلاثاء 07 / شوّال / 1445 - 16 / أبريل 2024
(188)قوله تعالى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا...} الآية 165
تاريخ النشر: ٢٣ / رجب / ١٤٣٨
التحميل: 360
مرات الإستماع: 876

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فلم يزل الحديث في هذه الآيات من سورة آل عمران متصلاً بغزوة أُحد، فالله -تبارك وتعالى- يُذكرهم بمصابهم وما تسبب عنه فقال: أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَـذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير [آل عمران:165].

أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ، وقع بكم ما تكرهون من الهزيمة والقتل والجراح وفوات النصر الذي لاح في أول المعركة، قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا، يعني: في يوم بدر حيث قُتل سبعون، وأُسر سبعون من المشركين، وفي وقعة أُحد قُتل سبعون من المسلمين ولم يؤسر أحد، قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ، على سبيل التعجب، أَنَّى هَـذَا، كيف وقع ونحن أهل الإيمان ومعنا رسول الله ﷺ وهؤلاء أهل إشراك وكفر وباطل؟!

قل لهم: هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ هذا الذي وقع هو بسبب جنايتكم، هو ناتج من جهتكم حيث عصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون يعني من النصر، واختلفتم خالفتم أمر رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-، إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير، فهو قادر على تحويل النصر إلى هزيمة كما وقع في أُحد، وقادر على نصر الفئة الضعيفة إذا كانت مستقيمة على أمر الله كما وقع في بدر، وقادر على قهر المشركين ودحرهم من غير تسبب منكم كما وقع في يوم الخندق، فالله على كل شيء قدير.

يؤخذ من هذه الآية الكريمة: أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَـذَا، فهذا الاستفهام للتقريع تُقرعهم بذلك: أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَـذَا، فقوله -تبارك وتعالى-: قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا، هذا فيه تخفيف لوقع المصيبة، وذكرنا الآيات التي عزى الله فيها أهل الإيمان وخفف عنهم مُصابهم بتلك التعزية التي هي في غاية اللُطف، فهنا في مقام العتاب والجواب أيضًا يتلطف بهم: قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَـذَا من أين أوتينا؟ كيف وقع ذلك؟

قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ فهنا حدد السبب وقصره عليه، مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ ليس بسبب قوة الكفار ولا كثرة العدد، وليس بسبب نقص عُددكم ولا أعدادكم وإنما هو بسبب المعصية، فدل ذلك على أن المعاصي تكون سببًا للمصائب الخاصة والعامة: مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ [النساء:79]، كل ما يقع للإنسان من المكروه في نفسه في أهله في دابته في ماله هو من جهته فيحتاج إلى الاستغفار والتوبة والرجوع إلى الله ومراجعة النفس ومُحاسبتها، ولا يبحث هنا وهناك مُضيعًا للسبب الحقيقي، ويقول: كيف يقع لي ذلك؟! ما يقع للمسلمين وما يجري اليوم المصائب العامة أيضًا سببها: قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ الكفار ثبت في التاريخ أنهم يجتمعون بجموع أكبر من هذا ويندحرون وينهزمون، فالقضية ليست مرتبطة بالأعداد ولا بالُعدد بالضرورة، وإنما ترجع بالتسلح بالإيمان وتقوى الله -تبارك وتعالى-، فإذا بارزناه بالمعصية وتعدينا حدوده فذلك جُند كما قال الحافظ ابن القيم -رحمه الله- نُجنده على أنفسنا مع عدونا[1]، نحن نفتح لهم ثغورًا في الحصن فيدخل من جهتها العدو، والله المستعان.

هذه حقيقة ينبغي أن نتيقنها وأن نتأملها وأن نرجع إلى أنفسنا دائمًا فنحن السبب، فقد يكون ذلك بجناية بعض الأمة وقد تُعاقب الأمة بعمل بعضها: أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم، إذا كثُر الخبث[2]، ومثّل النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- ذلك بقوم استهموا على سفينة: ركبوا في سفينة فكان بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فأولئك الذين في أسفلها إذا أرادوا الماء لابد أن يصعدوا إلى الأعلى من أجل أن يستقوا الماء من سطح السفينة فهو محجوب عنهم في طابقها الأسفل، فقالوا: لو أننا خرقنا في نصيبنا خرقًا -يعني أسفل السفينة- فلم نؤذِ من فوقنا، كل وقت يصعدون من أجل أن يستقوا الماء قالوا: نبقى في مكاننا، وهذا نصيبنا ونخرق هذه السفينة، فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعًا، وإن أخذوا على أيديهم نجو جميعًا[3]، هذه حقيقة صاحب المنكر فهو لا يفعل شيئًا يُمثل حرية شخصية ترجع إليه وإنما هو يخرق السفينة التي يركب فيها الجميع، فالذين يتحملون النتائج هم مجموع الأمة، لكن متى يتحمل النتيجة وحده هو فيغفر الله له أو يُعاقبه في خاصة نفسه، هذا إذا كان في بيته أغلق بابه ثم بعد ذلك فعل ما فعل من المنكرات التي لا يطلع عليها إلا الله ، فهذا المنكر الذي لم يظهر يؤاخذ به صاحبه فقط، وأما إذا ظهر المنكر فإن العقوبة تعُم: فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ، يعني: أصحاب عقول، أهل رُشد، يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مَا أُتْرِفُواْ فِيهِ [هود:116]، نسأل الله العافية.

فهذا هو الفرق، فكل ما يقع للإنسان في خاصة نفسه وما يقع له وما يقع للناس على سبيل العموم هو من جناياتهم، فنحن السبب، وهذا في الدنيا من عاجل العقوبة، وأما ما يكون في الآخرة فلا يُقاس بما يقع في الدنيا إلا إذا عفا الله وتجاوز وغفر.

قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ فالجواب جاء واضحًا، وهكذا ينبغي أن تكون الحقائق لاسيما في مثل هذه القضايا التي يترتب عليها مثل هذه النتائج الضخمة الكبيرة، فهذا يكون بذنوب العباد، فتسلط الأعداء على المسلمين في أي وقت من الأوقات في أي زمن في أي مكان مُباشرة ينبغي أن يكون سببًا للمراجعة والاستغفار والتوبة والأوبة إلى الله -تبارك وتعالى-، ولربما لو علم الأعداء أن المسلمين يرجعون إلى الله إذا تسلطوا عليهم لربما قالوا: أبقوهم على ما هم عليه ولا تتعرضوا لهم: لئلا يرجعوا إلى دينهم، لكن من الغبن العظيم الشيء المؤلم أن الإنسان يُسام الخسف والذل ومع ذلك هو مُضيع لدينه، وكم من شعوب -إلا من رحم الله - يتسلط عليهم عدوهم بالقتل وانتهاك الأعراض وسلب الممتلكات وأنواع الأذى والقهر والتشريد؛ ومع ذلك يبقى الإنسان مُضيعًا للجادة، لا يعرف الوجهة الصحيحة، فهذا لا شك أنه غبن عظيم، إذا كانت معصية واحدة من قِبل الرُماة حصل بسببها هذا: قتل السبعين، ومنهم عم النبي ﷺ حمزة، وشُج النبي ﷺ، وكُسرت رباعيته، ووقعت هذه الهزيمة التاريخية وفرح الأعداء، وقام أبو سفيان يقول: أعلُ هُبل بسبب معصية فكيف بالمعاصي الكثيرة المتتابعة؟! هذه لا شك أنها سبب الخُسران والهزائم وقلة التوفيق، فمن رام التوفيق والعز والنصر فعليه بطاعة الله ، هذا هو الطريق، وتكلمنا في مناسبات شتى في سورة البقرة في قوله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا [المائدة:3]، الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ [المائدة:3]، الدين جاوز القنطرة لا تخشوا هؤلاء واخشونِ، فخشية الله وتقواه في السر والعلن هي الطريق إلى النصر والظفر والعز الذي يكون في الدنيا ويكون أيضًا في الآخرة.

وقوله -تبارك وتعالى- هنا: قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ لم يُحدد السبب هنا بعضهم يقول: تلطفًا بالمؤمنين لكنه بينه من قبل، ذكر لهم ذلك صراحة: حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ [آل عمران:152].

كذلك أيضًا فإن قوله -تبارك وتعالى- في ختم هذه الآية الكريمة: إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير، فهذا تقرير لما مضى في مضامين هذه الآية: إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير، وأكد ذلك بقوله: "إنّ"، وقدم ما حقه التأخير: إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، ولم يقل: قدير على كل شيء، عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير، لا يُعجزه شيء فنواصي الخلق بيده، ينصر من يشاء، ويخذل من يشاء، يُعز من يشاء، ويُذل من يشاء، وإذا كان كذلك فينبغي أن يتوجه العباد إليه راغبين راهبين مُطيعين فكل ما يطلبون فهو بيده، هو على كل شيء بلا استثناء قدير، من رام النصر فعند الله النصر، ومن رام العز فعند الله العز، ومن رام الغنى فعند الله خزائن السماوات والأرض، من أراد الأمن فالله -تبارك وتعالى- هو الذي يهب ذلك، ومن أراد السكينة والطمأنينة، ومن أراد الشفاء، كل ذلك بيد الله -تبارك وتعالى-: إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير لا يُعجزه شيء فكل مطالب الخلق بيده، وتحت قدرته وتصرفه، يقول للشيء: كن فيكون، فهو يسير على الله .

أسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، وأن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين، والله أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

  1. انظر: بدائع الفوائد (2/242).
  2. أخرجه البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب قصة يأجوج، ومأجوج، برقم (3346)، ومسلم، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب اقتراب الفتن وفتح ردم يأجوج ومأجوج، برقم (2880).
  3. أخرجه البخاري، كتاب الشركة، باب هل يقرع في القسمة والاستهام فيه، برقم (2493).

مواد ذات صلة