الجمعة 19 / رمضان / 1445 - 29 / مارس 2024
(202) تتمة قوله تعالى: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ...} الآية 180
تاريخ النشر: ١١ / شعبان / ١٤٣٨
التحميل: 401
مرات الإستماع: 792

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

لم يزل الحديث متصلاً بقوله -تبارك وتعالى-: وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِير [آل عمران:180]، مضى الكلام على صدرها.

فقوله -تبارك وتعالى-: وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَّهُمْ تأمل هنا كيف ارتبط هذا البُخل بمثل هذا بإيتاء الله -تبارك وتعالى- لهم من فضله، فهؤلاء في صنيعهم هذا، وفعلهم، وبُخلهم بما آتاهم الله -تبارك وتعالى- من فضله، فذلك كان اللائق بهم أن يبذلوه، وأن يُطلقوا أيديهم بالعطاء والنفقة والإحسان، لا أن يُقابلوا ذلك بالبخل، فإن ذلك من إيتاء الله، ومن فضله، فالله -تبارك وتعالى- جاد عليهم، وأحسن إليهم، فكان اللائق أن يجودوا، وأن يبذلوا في مرضاته، وأن يستجيبوا لداعيه في الإنفاق، فكون هؤلاء يبخلون بهذا الذي آتاهم من فضله، فلا شك أن ذلك يدل على سوء فِعالهم، وقُبح صنيعهم، وكذلك يدل على مُقابلتهم هذه النِعمة بأضدادها.

بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ، وهذا يدل على أن ما يكون في يد الإنسان ما يحصل له من المال والعطاء والرزق، ونحو ذلك، أن هذا هو فضل من الله وعطاء، ليس بذكائه ومهاراته وقُدراته واحترافه، وما إلى ذلك، وإنما هو بفضل الله ، ولذلك تجد من هو أعظم وأكثر ذكاء، وأجلد وأصبر على الكسب والعمل، ومع ذلك لا يُحصل شيئًا يُذكر، وتجد الآخر أضعف بناء في الأجسام، وأيضًا هو أضعف في المدارك، ومع ذلك يأتيه المال، ويكون غنيًا فهذا ليس بما يكون عند الإنسان من خبرات وإمكانات.

فذلك يدعو المؤمن دائمًا إلى التواضع، وأن يعرف فضل الله عليه، وأن هذا المال إنما هو ابتلاء وامتحان واختبار، فهل يورثه هذا المال الغرور والعُجب والكبر والطُغيان كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى ۝ أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى [العلق:6-7]، لكن إذا استشعر مثل هذا المعنى، وأن هذا من فضل الله وعطائه لم ينسب لنفسه شيئًا، وإنما يقول: هذا فضل الله، هذا عطاء الله، وذلك يدعوه إلى التخلي عن كثير من الأخلاق المرذولة التي تحصل لكثير من أهل الجِدة والغنى، وكذلك أيضًا يحصل له بسبب ذلك البذل والكرم والجود والإنفاق، وما إلى ذلك.

هكذا أيضًا وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ نحن نعرف في ضابط الكبيرة أنه ما جاء الوعيد على فعله أو تركه، الوعيد بالنار، أو نحو ذلك، أو رُتب عليه اللعن، ونحو ذلك، فهنا سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فهذا يدل على أن البُخل بالإمساك عن بذل المال في الوجوه التي يجب بذله فيها أن ذلك من كبائر الذنوب.

سَيُطَوَّقُونَ يعني: يمنع الزكاة، يمنع النفقات الواجبة على الأهل والعيال، ومن تجب عليه نفقته، حتى البهائم لو تركها حتى ضعُفت أو ماتت فهو مسؤول عنها، بعض العامة، بعض أهل البادية عندهم مثل معروف، يجوعون هذه البهائم، يعطونها شيئًا يُقيمها فقط، يقولون: "قوت لا يموت" يعني: فقط ما يسد الرمق، فتجدها هزلاً، هذا التجويع يُحاسب عليه الإنسان، هذا مما يجب عليه نفقته، فإذا كان لا يستطيع، أو يبخل؛ فليبع هذه البهائم.

وقل مثل ذلك في الزوجات والأولاد، يجب أن يُنفق عليهم بالمعروف، ولو كانت الزوجة غنية؟ ولو كان عندها مُدخرات، ولو كان عندها مصدر من مصادر الكسب كالراتب ونحوه، فإنه لا يجوز له بحال من الأحوال أن يأخذ مالها، ولا يجوز له أن يضغط على هذه المرأة من أجل أن تتولى نفقة البيت، أو أُجرة الخادمة، أو أُجرة السائق، أو الأثاث يُشترى بمالها، أو نحو ذلك، أو حتى السفر إذا سافر الحج أو العمرة، نعم هو لا يجب عليه أن يحج بها كمحرم، وله أن يطلب النفقة في الحج، لكن هو يذهب طوع نفسه، وباختياره، يذهب إلى العمرة، ثم يُطالبها، أو يذهب إلى نُزهة، أو نحو ذلك، ويفرض عليها أن تدفع هذه النفقات، هذا ليس له.

فهذه المُمارسات لا تليق، ولا تجوز، ولا يحل مالها، ولا مال أحد من المسلمين إلا بطيب نفس منه، فهي قد تبذل كارهة؛ دفعًا لأسوء العواقب، فهي تتخوف من المشكلات، من الطلاق، ونحو ذلك، وهذا -نسأل الله العافية- لا يصح بحال، وينبغي أن يترفع عن ذلك أهل الإيمان، بل أصحاب المروءات، ويُنفق عليها نفقة بالمعروف بما يليق بأمثالها، وما يصلح لمثله أيضًا بحسب ما عنده من غنى أو فقر.

لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ، يعني: ضُيق عليه رزقه، فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ [الطلاق:7]، والبعض قد يفرض قدرًا معينًا لا يكفي، ويقول: هذا لكل شيء، وهذا لا يفي بحاجاتهم ومطالبهم المعقولة، فهنا هذا البُخل داء وعِلة وبلاء، ولهذا علق الله -تبارك وتعالى- الفلاح بالخلاص من الشُح وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون [التغابن:16]، فينبغي على الإنسان أن يُجاهد نفسه، وأن يُهذبها، وأن يروضها على الإنفاق والبذل، ويحتسب ذلك عند الله -جل جلاله، وتقدست أسماؤه-، فهذا كلام شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- الذي يذكر فيه أن البُخل من كبائر الذنوب[1]، وهذا يغفل عنه أكثر الناس، حتى بعض طلبة العلم.

وقوله -تبارك وتعالى-: وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ هنا نفى أن يكون خيرًا، ثم أكده بقوله: بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ لئلا يتوهم أنه وسط بين الحالين مثلاً، ليس بخيرٍ لهم، لكنه ليس بشر لهم، يعني: لا له، ولا عليه، لا، بل هو شر لهم.

كذلك أيضًا قال الله -تبارك وتعالى-: سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يعني: يكون كالطوق على أعناقهم، يكون طوقًا يطوقهم، فهذا -نسأل الله- العافية عذاب وفضيحة يراها الناس، ولو طُلب من الإنسان لو طُوق بشيء يُثقله، أو نحو ذلك، لمدة دقائق؛ لتعب وسأم وانكسر، فكيف بالآخرة، هذه الأملاك، هذه الأموال، هذه الثروات، هذه العقارات، هذه المخططات، والمساحات الشاسعة، والمزارع، ونحو ذلك، لا يؤدي حق الله فيها، ولا حق الخلق، ولا يُعطي الأُجراء حتى الأُجراء، العمال لا يعطيهم، يجلس الشهور لا يُعطيهم أجورهم، فهذا يُطوق بذلك يوم القيامة.

إنسان لو وضع عليه كيس من الرمل -أعزكم الله- هنا على عنقه، وعلى عاتقه لأرهقه ذلك، وكان عناء، وعذابًا عليه، فكيف بتلك الأملاك الواسعة، والثروات الشاسعة، والله المستعان.

وَلِلّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ، هذا يدل على أن الله -تبارك وتعالى- هو الباقي، وأن ملكه هو الذي يبقى، فهو الأول الذي ليس قبله شيء، وهو الآخر الذي ليس بعده شيء، فهو يرث الأرض إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا [مريم:40]، فذلك عائد إليه بعد فناء الخلق، وزوال أملاكهم، فتبقى هذه الأموال، والأملاك لا مُدعي لها، أو فيها، والله يقول: لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ [غافر:16]، في الآخرة، لا أحد يدعي شيئًا، حفاة عُراة غُرلا، ليس عليه ما يستر عورته، الكل يريد الخلاص والنجاة.

أما من يقول: هذه غنمي، هذه إبلي، هذه زروعي، هذه مراكبي، هذه قصوري، هذا لا أحد يدعيه، ولا أحد يقف عنده، ولا أحد يلتفت إليه، كل ذلك يذهب، ويزول، ويبقى الملك الحقيقي لله، وإذا أردت أن تعرف هذا في الدنيا فيما يُشاهد منذ خلق الله آدم كم مضى من الأغنياء والثروات والممالك الكبار والصغار والدواب والبهائم والزروع والأثاث والرياش، أين هم؟ أين عاد؟ أين قوم شعيب؟ أين قوم إبراهيم -عليهم السلام-؟ أين أملاك هؤلاء الأمم ممن قص الله ، ومن لم يقصص؟ خلق كثير.

تصور هذه الأرض أنه لا يكاد يوجد شبر واحد إلا وفيه موطن، أو موضع لهؤلاء، رُفاتهم وبقاياهم وقبورهم في كل مكان، لكن اندثرت، أمم متعاقبة، هل تظن أنك أول من يسكن هذه الأرض التي أنت فيها! هذه البلدة التي تسكنها أنت أول من يسكن هذه؟ أبدًا جاءت أمم، أين مساكنهم، أين زروعهم، أين؟ أسئلة كثيرة، أين ملابسهم؟ أين أوانيهم؟

لا يوجد شيء، كل ذلك قد ذهب، وتلاشى، أين أملاك بني أمية؟ أين أملاك العباسيين؟ كل هذا قد ذهب، وما يوجد الآن سيذهب، إذا مد الله بهذه الحياة الدنيا، كل ما ترونه سيذهب كالذي سبق ما مزية هذا الموجود الآن، سيذهب، وفي النهاية لا يبقى إلا ملك الله -تبارك وتعالى-، وهذا يدل على كمال غِنى الرب عن خلقه.

وَلِلّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ هنا قدم الجار والمجرور "لله" يدل على الحصر والاختصاص، ميراث السماوات والأرض لله وحده، ليس لغيره، طيب إذا كانت هذه التي في يدي الآن ستصير إلى الله، وهي منه أصلاً، بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ، هذا البداية، هو الأول، كل نعمة أنت مُبتدئ بها من الله، فالله هو الأول، هذه من المعاني الداخلة في الأول، وكل ما في يدك سيصير إليه، وهذا من معاني اسمه الآخر، هذا من المعاني الداخلة تحته.

يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ، فإذا كان ما بيدك هو منه، ومن فضله لا باستحقاقك أنت، ثم سيصير إليه إذًا البُخل على ماذا، ما مُبرر هذا البُخل؟ وأنت محصور بين هاتين المقدمتين، إذًا: يُدرك الإنسان ويوقن أن هذا المال عارية يُبتلى ويُمتحن به، فيُري الله من نفسه ما يُرضيه، وما يرفعه إليه، وما يُقربه عنده -تبارك وتعالى- فيجعل هذا المال قرضًا لله، يلقاه إذا وافى، فهذا كله داخل في هذا المعنى وَلِلّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ فهو الآخر .

كذلك أيضًا إذا كان هؤلاء البُخلاء سيذهبون، وتذهب أموالهم معهم، ويبقى ذلك إرثًا لله -تبارك وتعالى- ففي ذلك موعظة، ووعيد، ووعد، وعد للباذل، ووعيد لمن يبخل، ويوضح هذا التذييل في قوله -تبارك وتعالى-: وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِير، لاحظ هنا جُملة قبله: وَلِلّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ، ثم قال: وَاللّهُ، ما قال: وهو بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِير فأظهر في موضع يصح فيه الإضمار والله هذا أفخم وأعظم، وفيه ما فيه من تربية المهابة وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِير.

و"ما" هذه تُفيد العموم كل ما تعملون، والعمل يشمل أقوال اللسان وأعمال القلب وأعمال الجوارح، بِمَا تَعْمَلُونَ بكل ما تعملون بما يُسره الإنسان أو يُبديه، الله خبير، والخبير عرفنا أنه العالم ببواطن الأمور وخفاياها، فيعلم من يُنفق، ومن يبخل، ويعلم مقاصدهم في هذا الإنفاق، وقد يُظهر الإنسان أنه يؤدي الحقوق، ويبذل حق الله، وحق الخلق، وليس كذلك، الله خبير.

بعض الناس يقول: أنتم ما تعلمون عني أنا أُنفق، وأنا أُخرج الزكاة، وأنا أفعل، وأنا أفعل، والواقع أنه ليس كذلك، فهذا يقوله للناس، والناس لا يعلمون، وليس لهم إلا ما ظهر، لكن الله -تبارك وتعالى- يعلم كل شيء، والله خبير، ويعلم أنواع الحِيل، الذين يحتالون من أجل أن يتخلصوا من الحقوق، يحتال من أجل أن يتخلص من الزكاة، يحتال من أجل أن يتخلص من نفقة الزوجة، ونحو ذلك.

وبعض الفقهاء للأسف يذكرون أنواع الحِيل، كيف يستطيع أن يُسقط النفقة عن هذه الزوجة المسكينة بحيلة، بحيث لا يُطالب بذلك قضاء، لكن هذا وإن جرى، وانطلى على القاضي، فإن ذلك لا يجري على الله وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِير فيؤدي الإنسان ما عليه بنفس رضية، يؤدي الزكاة بنفس مبتهجة، باستبشار، وأن ذلك زكاء لنفسه وماله ومخلوفة، ويُنفق النفقات المُستحبة، ويعلم أن الله سيُخلف عليه خيرًا من ذلك، وأن الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، فيفرح، فلا يشعر أن هذا الإنفاق مغرم، وأن هذه الزكاة مغرم، أو يُخرج جزء من الزكاة، ولا تُطيق نفسه إخراج الباقي، هؤلاء يتذكرون دائمًا سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.

المسألة ليست، ما قيمة هذا المال الذي يُبقيه، ثم يطوق به؟ هي مسألة وقت، وإذا مات جاءه شُجاع أقرع يعني ثعبان عظيم، حية أقرع كأنه تساقط، أو تساقط شعره، قالوا من قوة السُمية، يا إخوان! الإنسان لو وجد في بيته، أو في الغرفة، أو في الصالة حية صغيرة بهذا الحجم، شبر صغيرة، دقيقة لربما عاف البيت بكامله، من أين جاءت، وكيف جاءت، وضج أهل الدار، أليس كذلك؟ طيب هو وحيد في القبر، وشُجاع أقرع يتعذب به يأخذ بلهُزميته، ويقول: أنا مالك أنا كنزك[2].

هذا المصير الذي ينتظر بمجرد الموت في القبر، ثم يذهب هذا المال للورثة، وقد لا يتصدقون عنه، ويتمتعون بهذا المال، وقد يتصدقون لأنفسهم، وهو يُعذب بماله، إذًا: كما قال النبي ﷺ: يقول ابن آدم: مالي، مالي، قال: وهل لك يا ابن آدم من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت[3]، الباقي ليس له، وإنما هو لوارثه.

تجد الإنسان يُقتر أحيانًا، ويحسب حسابات على مصاريف يسيرة، وأمور بسيطة، ويُماكس في السعر، ويترك بعض الأمور لا يتمتع بها، ويقول من أجل أن يوفر، ثم يأتي من يعبث بالمال بعده، ولا يُبالي، وهذا لربما بعضهم يفصل المكيف في السيارة في الحر الشديد، يقول: يُضعف المكينة موجود، ويأتي الأولاد يعيثون بهذا المال، ويعبثون به في طريقة لو شاهدها لربما لم يتمالك، فيُخرج الإنسان، وينفع نفسه، ويبذل، وهذا الذي يبقى حقيقة، وإلا سيُغادر لن يوضع معه ريال واحد في القبر، وليس معه محفظة، وليس له جيب في هذا الكفن، وليس عنده صندوق، ولا حتى قارورة ماء، ولا حتى شيء من طعام، يكفي لليلة واحدة، ما في شيء؛ لأن القوت هو العمل، وأخبر النبي ﷺ أن كل امرئ في ظل صدقته[4]، ما هو كُبر هذا الظل؟ تستطيع أن تزيد هذا الظل بما تبذل، وهكذا.

على كل حال هذا وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِير فيه وعيد لأهل البُخل، وفيه التفات من الغيبة إلى خطاب الباخلين من باب الزجر لهم، يعني: كان الكلام بصيغة الغائب وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَّهُمْ، ما قال بما آتيتهم، بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، ما قال: ولي ميراث، قال: وَلِلّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ، ثم قال: وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ، هذا غائب يبخلون، قال: وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ ما قال: بما يعملون، فخاطبهم مباشرة تعملون، فيكون ذلك أوقع في الزجر، والله تعالى أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

  1. انظر: الاستقامة، (2/266)، ومجموع الفتاوى، (28/437).
  2. تقدم تخريجه.
  3. أخرجه مسلم، كتاب الزهد والرقائق، برقم (2958).
  4. أخرجه أحمد في مسنده، برقم (17332)، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (4505).

مواد ذات صلة