الجمعة 19 / رمضان / 1445 - 29 / مارس 2024
[2] مقدمات في سورة البقرة (2)
تاريخ النشر: ٠٩ / رجب / ١٤٣٦
التحميل: 2676
مرات الإستماع: 2318

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

أواصل الحديث عما ابتدأته من الكلام عن بعض الجوانب العامة التي تتعلق بها سورة البقرة، فأتحدث عن قضايا قليلة، وأكتفي بهذا، لنتحدث عن الفوائد المُستنبطة -إن شاء الله- من هذه السورة، وإلا فإن هذه المقدمات يمكن أن تطول جدًا؛ لما احتوت عليه هذه السورة العظيمة من المعاني، والأصول الكُلية لهذا الدين، وليس المقصود هنا هو الاستيعاب، وإنما لنعيش مع هذه الهدايات.

لكن لعل من المُفيد الإشارة إلى بعض هذه الجوانب العامة، وقد ذكرت في الليلة الماضية كلامًا لشيخ الإسلام -رحمه الله- مُفصلاً فيما يتصل بترابط موضوعات هذه السورة بطريقة تحتاج إلى شيء من التمعن، والنظر، والتأمل، ولا يكفي أن تمر على الأسماع مرورًا عابرًا.

وممن تحدثوا عن ذلك أيضًا وأشاروا إلى شيء من وجوه الارتباط بين هذه السورة، وبعض السور من القرآن التي جاءت بعدها: الشاطبي -رحمه الله- فبعد أن ذكر أن هذه السورة الكريمة قد قررت قواعد التقوى المبنية على قواعد سورة الأنعام، يُشير إلى المعنى الذي ذكرته من قبل من أن القرآن المدني مُنزل في الفهم على القرآن المكي.

فيقول: قواعد التقوى في هذه السورة -سورة البقرة- مبنية على قواعد سورة الأنعام، الأنعام مكية، والبقرة من أوائل السور النازلة في المدينة.

يقول: فإنها بينت من أقسام أفعال المُكلفين جُملتها، وإن تبين في غيرها تفاصيل لها، كالعبادات التي هي قواعد الإسلام، والعادات من أصل المأكول والمشروب وغيرهما، والمعاملات من البيوع والأنكحة، وما دار بها، والجنايات من أحكام الدماء وما يليها[1]. هذا كلها في هذه السورة الكريمة سورة البقرة.

وذكر أيضًا أن حفظ الدين الذي هو رأس الضروريات الخمس، وحفظ النفس، والعقل، والنسل، والمال مُضمن فيها[2].

يعني: أن هذه السورة قررت هذه القواعد الخمس، التي يُقال لها الضرورات الخمس هي التي لا قِوام لحياة الناس إلا بها، بمعنى أن حياتهم إذا فُقد ذلك منها بقوا في تهارج، وفي حياة لا يمكن أن تستقيم بحال من الأحوال؛ فإن هذه الضرورات الخمس أطبقت الرُسل -عليهم الصلاة والسلام- من أولهم إلى آخرهم على تقريرها، وتثبيت دعائمها من جهة الوجود، ومن جهة العدم، فهذا كله مُضمن في هذه السورة؛ أعني تقرير هذه الضروريات، وما خرج عن المُقرر فيها فبحكم التكميل، يعني: ما جاء في سور أخرى لم يرد في هذه السورة، فهو من باب مُكملاتها، فغيرها من السور المدنية المُتأخرة عنها مبني عليها.

هذا كلام الشاطبي، يعني: إذا أردنا أن نفهم القرآن بصورة صحيحة فنُنزل سور القرآن المدنية على سورة البقرة، فهي التي تُقرر الأصول.

ثم بعد ذلك يذكر أن هذه السور إذا نُزل بعضها على بعض في الترتيب كما جاءت في النزول تجد أن بعضها يُقرر ما ذُكر في السور الأخرى، وقد يكون شارحًا له وموضحًا له، فهي هكذا حذو القُذة بالقُذة.

ويذكر أن معرفة مثل هذا هو من أسرار علوم القرآن، وأنه بحسب المعرفة به تحصل المعرفة بكلام الله -تبارك وتعالى- هذا ما ذكره الشاطبي -رحمه الله.

ولو أردنا أن نُلخص حاصل الموضوعات التي جاءت في سورة البقرة، فإننا نجد في أولها ذكر الكتاب، وأنه هُدى للمُتقين، ثم ذكر أوصافهم.

وهذه السورة في أولها تضمنت ذكر الطوائف وأصناف الناس فقسمتهم إلى ثلاثة أقسام: أهل الإيمان، وأهل الكفر، وأهل النِفاق.

كذلك جاء فيها الأمر بعبادة الله -تبارك وتعالى- ثم ذكر الدلائل الدالة على استحقاقه للعبادة، فهو الذي خلق، وأعطى، ورزق الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً [سورة البقرة:22] إلى آخره.

فهو كما يقول الشنقيطي -رحمه الله: بأن ذلك مُطرد في القرآن، أن من خلق هو الذي يستحق أن تُصرف العبادة له وحده دون ما سواه[3]. تجد ذلك في مواضع من كتاب الله -تبارك وتعالى.

كما أن هذه السورة ذكرت خبر بداية الخلق من أين جاءوا، هناك من يتحيرون في المبدأ، كما يقول الشاعر النصراني، أو الشاعر الضائع المعروف، وهو شعار من المعاصرين يُقال له إيليا أبو ماضي، يقول:

جئت، لا أعلم من أين، ولكنّي أتيت

ولقد أبصرت قدّامي طريقا فمشيت

ثم يتساءل لماذا جئت، إلى أين المصير؟ كل ذلك يُجيب نفسه، ويقول: لست أدري، فهو لا يعلم من أين جاء، ولا لماذا جاء، ولا لأي شيء يصير وينتهي به المطاف.

هذه السورة ذكرت بداية خلق آدم، وما وقع له مع الملائكة -عليهم السلام- والتكريم الذي حصل، وسجود الملائكة له، وتعليم آدم الأسماء كلها.

بخلاف أولئك الذين يُقررون أن أصل الإنسان أنه قرد، ويقولون بنظرية التطور، ويبنون عليها أشياء كثيرة جدًا، يعني: نظرية التطور هي لا تقتصر على القول بأن أصل الإنسان قِرد، نظرية التطور شاملة، عامة، فهم يقولون مثلاً في نظرية بأن البشرية تطورت، فيذكرون العصر البدائي، والعصر الحجري، والعصر البرونزي.

وهذا كله من فروع نظرية التطور، وهذا الكلام غير صحيح؛ فإنه لا يجوز عصر بُرونزي، ولا عصر حجري، وإنما الله -تبارك وتعالى- خلق الإنسان في أحسن تقويم، وعلم آدم الأسماء كلها، وأسجد له الملائكة، وعلمه ما يحتاج إليه، وخلق لابني آدم ما في الأرض جميعًا، وعلمهم صروف المعايش، وقامت أُمم وحضارات أخبر الله -تبارك وتعالى- عنها، وأن الذين خُوطبوا بالقرآن لم يبلغوا شأوا هؤلاء، ولم يُحصلوا تحصيلهم، ولم ينالوا ما ناله أولئك من العلوم، والمعارف والعِمران والقوة والتمكين، قوة الأبدان، وقوة العِمران، وقوة الجيوش، وما إلى ذلك، مما يكون به التمكين عادة.

فهذا كله بينه القرآن، ذكر كيف هبط آدم إلى الأرض وما وقع له مع إبليس أيضًا، والعداوة الحاصلة منذ ذلك الحين بين آدم وذريته مع إبليس، واستخلاف آدم في هذه الأرض، وتوبة آدم وقبول هذه التوبة، ولعن إبليس، وطرده من رحمة الله -تبارك وتعالى.

ثم يذكر بعد ذلك في سياق طويل خبر بني إسرائيل، ويذكر إبراهيم أبو الأنبياء الذي اتفقت عليه جميع المِلل من أولهم إلى آخرهم، وتنازعته الطوائف المشهورة، فاليهود يدعون أنهم يتبعونه، وأن إبراهيم كان يهوديًا، والنصارى يدعون اتباعه، ويقولون: بأنه كان نصرانيا، فرد الله عليهم، وأبطل ذلك كله، وأخبر أن إبراهيم كان على الإسلام، وأنه كان حنيفا، وأنه ما كان يهوديًا ولا نصرانيا.

وذكر خبر إبراهيم وبناء الكعبة، ودعاء إبراهيم لمكة، وما وقع له مع ولده إسماعيل، وكذلك ذكر وصيته لأبنائه، ويعقوب وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [سورة البقرة:132].

وكذلك وصية يعقوب حين حضره الموت: إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي [سورة البقرة:133] إلى آخر ما قص الله -تبارك وتعالى- من خبرهم، فدين الأنبياء جميعًا هو الإسلام، وليس اليهودية، ولا النصرانية.

كذلك ذكرت السورة جملة من الأحكام الكثيرة المتعلقة بالعبادات، من صلاة، وصدقة، وصوم، وحج، وكذلك المعاملات، كالربا، والدين، والرهن، وما يتعلق بشؤون الأسرة من النكاح، والطلاق، والإيلاء، والعِدد، وغير ذلك من الأحكام.

كذلك ذكر فيها خمسة مواضع من الدلائل الدالة على قدرة الله على إحياء الموتى:

كما في قتيل بني إسرائيل، هذه يذكرها العلماء دائمًا، خمسة مواضع فقط في سورة البقرة إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً [سورة البقرة:67] فأحيا الله هذا القتيل، بجزء من البقرة ميت لو ضُرب بشيء حي لربما قيل اكتسب الحياة من حياة هذا الذي ضُرب به، لكنه أُمر أن تُذبح هذه البقرة، ثم بعد ذلك يُضرب بجزء قد فارق الحياة من هذه البقرة، فتعود له الحياة، فهذا دليل على قدرة الله على أحياء الموتى.

كذلك خبر بني إسرائيل لما أخذتهم الصاعقة فماتوا على القول الراجح، فأحياهم الله -تبارك وتعالى- وذلك أنهم قالوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً [سورة النساء:153] وقالوا: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً [سورة البقرة:55] وهذا في السبعين الذين اختارهم موسى لميقات ربه.

وكذلك أولئك الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ [سورة البقرة:243].

وكذلك خبر الذي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ [سورة البقرة:259].

وكذلك قصة إبراهيم مع الطير حينما قال: رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى [سورة البقرة:260] فعلمه ربه كيف يصنع، وأخذ هذه الطيور التي ذبحها وجزأها وقطعها، وجعل على كل جبل منهن جزءا، قال: ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا [سورة البقرة:260] كما سيأتي في التعليق عليه إن شاء الله تعالى، يأتينك سعيا، بحيث لا يبقى فيه شبهة أن الله أعادها للحياة مرة ثانية، وجاءت تسعى إليه سعيًا، هذه خمسة مواضع.

كذلك ذكر فيها من أخبار بني إسرائيل العجيبة، كقصة طالوت  وسيأتي الكلام عليها إن شاء الله تعالى، وفيها من العِبر والعِظات كيف أن الناس يطلبون أشياء أحيانًا فإذا تحققت لهم زهدوا فيها وتلكأوا وتباطئوا عن النهوض بموجبها، وشُكر هذه النعمة، يطلبون أشياء، ويقولون ما لا يفعلون، وهذا يقع كثيرًا للناس في القديم والحديث.

كذلك ذكر خبر الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك.

هذا كله في هذه السورة، مع ذكر أصول الإيمان انظروا إلى أولها الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ [سورة البقرة:3] كما سيأتي إن شاء الله تعالى، ومن هذا الغيب كما جاء في آخرها في الكلام على المُناسبة يأتي إن شاء الله في آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ [سورة البقرة:285] تفاصيل جُمل الإيمان، وأصول الإيمان التي أُجملت في أول السورة.

أما ما يتعلق وجه الارتباط مع السورة التي قبلها، وهي سورة الفاتحة، فهذا إنما يقول به من يقول بأن ترتيب السور مُتلقى عن رسول الله ﷺ أما الذين يقولون بأن ترتيب السور باجتهاد من الصحابة فالأصل أنهم لا يعتدون بالمناسبات بين السور إلا فئة قليلة، قالوا مهما من يكن من أمر، فإن ذلك الترتيب إنما رتبه الصحابة لاعتبارات صحيحة راعوها، فقال بعض هؤلاء بالمناسبات بين السور.

لكن كما قلنا: بأن ما أُجمل في سورة الفاتحة جاء تفصيله في سورة البقرة، وفي سائر سور القرآن، ويمكن أن يُضاف على ذلك - كما قال بعضهم - بأن العبد لما قال: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [سورة الفاتحة:6] كأنه قيل له: ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ [سورة البقرة:2] هذا هو الصراط المستقيم، ولذلك بعض العلماء فسر الصراط المستقيم كما قال جماعة من السلف: اتباع القرآن، وبعضهم قال: الإسلام، وبعضهم قال: اتباع السنة، وذلك يرجع إلى قول واحد؛ لأن اتباع القرآن هو الإسلام، واتباع السنة هي شارحة للقرآن، فذلك يلتئم بقول مُتحد.

فهنا كأنه لما قال: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [سورة الفاتحة:6] قيل له: ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ وفيه مطلوبك وبُغيتك وحاجتك، فهذا هو الصراط المستقيم هدى للمتقين القائلين اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [سورة الفاتحة:6] صراط الذين أنعم عليهم هم أهل التقوى من النبيين، والصديقين، والشهداء والصالحين، وحسُن أولئك رفيقا، بخلاف أهل الغضب وأهل الضلال.

هذا وجه الارتباط بين الفاتحة، وسورة البقرة عند القائل بذلك في اعتبار المناسبات.

والله تعالى أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه. 

  1.  الموافقات (4/ 257). 
  2. المصدر السابق. 
  3.  انظر: أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (7/ 208). 

مواد ذات صلة