الجمعة 19 / رمضان / 1445 - 29 / مارس 2024
[54] قوله تعالى: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا..} إلى قوله تعالى: {وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ}
تاريخ النشر: ٠٧ / شوّال / ١٤٣٦
التحميل: 1248
مرات الإستماع: 1407

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فيقول الله -تبارك وتعالى- في هذه الآيات التي يذكرها فيها خبر بني إسرائيل، وما وقع منهم من ألوان العنت والكفر: وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ [سورة البقرة:76] فهذا لون من كفرهم، وهو حديث عن طائفة منهم كانوا قد نافقوا وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا إذا لقوا أهل الإيمان من آمنوا بالنبي ﷺ قالوا: آمنا بألسنتهم، كما قال الله -تبارك وتعالى- عن طائفة من هؤلاء: آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [سورة آل عمران:72] وذلك أنهم أرادوا أن يظهروا للناس أنهم قد دخلوا في دين الله -تبارك وتعالى- وهم أهل كتاب، ثم بعد ذلك يحصل منهم ارتداد، فإذا حصل هذا الارتداد قالوا الآخرون: بأن هؤلاء ما تركوا هذا الدين إلا عن دين ومعرفة حيث رأوا فيه ما يوجب تركه، فكان ذلك مكيدة منهم.

فهنا أيضًا: وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا يعني: بدينكم وبنبيكم الذين بُشر به في التوراة وَإِذَا خَلا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ خلى بعض هؤلاء المنافقين إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ المؤمنين، أتخبرونهم: بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ يعني: من العلم بما جاء بشأن النبي ﷺ وصفته وأنه المبشَّر به في التوراة، هذا على قول جمع من أهل العلم بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ ليحتجوا عليكم بذلك أنكم قد أقررتم بصفته وعرفتم حاله وصدقه، ثم بعد ذلك لم تؤمنوا بما جاء به.

وبعضهم يقول: بأن المراد بالفتح هنا هو الحكم بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ يعني: بما حكم عليكم، مما قضى ربنا -تبارك وتعالى- في أسلافهم وما جرى عليهم، وهذا القول الأول هو المشهور والعلم عند الله .

أَفَلا تَعْقِلُونَ [سورة البقرة:76] يعني: كيف تحدثونهم بمثل هذا ليكون حجة عليكم.

ويؤخذ من هذه الآية ما جُبِل عليه هؤلاء اليهود أو ما طبعوا عليه أو ما كان غالبًا في صفتهم من الغدر والمكر والحيلة والخيانة: وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا فهم أهل تلون واحتيال، وكما سبق أنهم أرادوا المكر بهذا الدين وأهله بإظهار الإيمان في أول النهار ثم بعد ذلك يكفرون من أجل الفت في أعضاد المؤمنين، ومن أجل تشكيك الناس بما جاء به النبي ﷺ.

وقولهم: أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ هذا أيضًا يؤخذ منه أن من كتم النصوص التي يحتج بها المخالف من يخالفه، كالذي يريد تجهيل الناس، وترك التحديث بالنصوص التي تُبين الحق والتي يحتج بها أهل السنة والجماعة مثلاً في باب من الأبواب، فإن هذا يفعلونه من أجل ألا يُحتج للحق أو على الباطل بمثل هذه النصوص أن هذا له شبه بهؤلاء اليهود، فهذا كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله: كحال بعض أهل البدع الذين يكتمون بعض الحق الذي جاء به الرسول ﷺ ولا يريدون روايته، ولا سماعه، ويستعيضون عنه بما يذكرون من التحريف الذي يسمونه بالتأويل حتى إن بعضهم لربما أمر القارئ من القُراء أن يقرأ الآية على غير وجهها، أن يقرأ: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا [سورة النساء:164] أن يقرأها هكذا: (وَكَلَّمَ اللَّهَ مُوسَى تَكْلِيمًا) يعني أن يكون المتكلم هو موسى ؛ لأنهم ينفون صفة الكلام، ولكن هذا القارئ وهو من القراء المشاهير أئمة القراءة رد عليه على البديهة قال: "هب أني قرأتها هكذا فما تصنع بقوله -تبارك وتعالى: وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ [سورة الأعراف:143]"[1]. هذه لا تحتمل أن يُغير في تشكيل الكلمة لينقلب المعنى.

ويؤخذ من هذه الآية: بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ على هذا المعنى المشهور: أن العلم من الفتح، ولا شك أنه فتح من الله -تبارك وتعالى- يفتح به على قلب العبد، فيستنير القلب بذلك، ولهذا يقال: فتح الله عليك، ونحو هذا مما يقصدون به التبصير، وبيان الحق ومعرفته والوقوف عليه.

فالعلم فتح من الله ورزق يؤتيه من يشاء، فلا يصح لأحد أن يحسد على عطاء الله كما أن ذلك أيضًا لا يُنال بمجرد جهد الإنسان وكده وسهره وتعبه، فكم ممن يسهر في طلب العلم ويواصل الليالي والأيام ويهجر الراحة ولكنه لا يخرج بكبير طائل، وغيره قد يبذل دون هذا الجهد بكثير ومع ذلك يحصل أضعاف ما يحصله الأول.

ثم تأمل أيضًا في هذا التوبيخ: أَفَلا تَعْقِلُونَ باعتبار أن ذلك من كلام الله يوبخ به اليهود أَفَلا تَعْقِلُونَ وهذا على هذا المعنى على هذا الاعتبار يؤخذ منه أنه ينبغي للعبد ألا يتصرف بتصرف من شأنه أن يكون خلاف العقل أَفَلا تَعْقِلُونَ مع أن الآية في ظاهر السياق -والله تعالى أعلم- أن ذلك من قول اليهود، من قول بعضهم لبعض -والله أعلم.

ثم قال الله : أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ [سورة البقرة:77] يفعلون ذلك كله ولا يعلمون أن الله يعلم ما يخفونه وما يظهرون مما يتقاولونه بينهم، ومما يبيتونه أو يظهرونه من دعوى الدخول في الإسلام مكرًا وحيلة، ثم بعد ذلك يعلنون الرجوع عنه، كل ذلك من أجل الكيد له ولأهله، فالله مطلع على هذا، ومن ثم فينبغي على الإنسان أن يخاف وأن يحذر في كل ما يأتي ويذر، فإن الله -تبارك وتعالى- لا يخفى عليه خافية، يعلم ما تكن الصدور وما يعتلج في النفوس.

وكذلك ما يحصل من النجوى والدسائس، وقالة السوء.

وهكذا أيضًا البعض لربما يكتب كتابات لا ترضي الله تحت أسماء غير حقيقية، ولربما يؤذي الآخرين ويقع في أعراضهم، ويرميهم بالإفك والبهتان ويظن أنه قد سلم حيث لم يعرف شخصه أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ [سورة البقرة:77] فأين يذهب هذا من ربه -تبارك وتعالى- الذي لا يخفى عليه خافية؟!

فينبغي على الإنسان إذا أراد أن يصنع شيئًا أو أن يكتب أو يتكلم أو يتناجى مع أحد من الناس أن ينظر في هذه النجوى وفي هذا الكلام والمقال هل هو مما يرضي الله أو لا؟ فليست القضية أطلع الناس عليه أم خفي عليهم، وإنما الأمر هو هل هذا مما يرضى الله عنه أو أن ذلك مما يسخطه فإنه لا تخفى عليه خافية، فليقمش الإنسان ما يقمش، وليفعل ما شاء وليكتب ما شاء فإن الله -تبارك وتعالى- مطلع على سره ونجواه، وكتاباته التي قد لا يُعرف كاتبها، الله -تبارك وتعالى- يعلمه وسيجازيه عليه الجزاء الأوفى.       

قال الله : وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ [سورة البقرة:78] من اليهود طائفة جهلة لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ بعض أهل العلم يقولون: لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ يعني: إلا قراءة من غير فهم للمعاني، وذلك أنهم فسروا الأماني بالقراءة، كما قال الشاعر يمدح عثمان بن عفان : "تمنى كتاب الله أول ليله"[2] يعني: قرأ، تمنى بمعنى قرأ، وبه فُسر قوله -تبارك وتعالى- وهو أحد القولين المشهورين في قوله : وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ [سورة الحج:52] تمنى يعني: قرأ، على أحد القولين في الآية.

فهنا يكون المعنى: وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ [سورة البقرة:78] يعني: إلا مجرد قراءة فهم جهلة، ولهذا قال: لا يَعْلَمُونَ فهم يقرؤون لكن من غير فهم للمعنى، ولا عقل له.

والمعنى الثاني: هو أن ذلك بمعنى الأمنية: لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ لا بصر لهم بحقائق ما أنزل الله -تبارك وتعالى- إنما هم يتمنون على الله الأماني كقولهم: لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً [سورة البقرة:80] وكقولهم: لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى [سورة البقرة:111] ونحو ذلك.

ويحتمل أن يكون المعنى: أن من هؤلاء طائفة لا يحسنون، لا يعرفون القراءة ولا الكتابة، ولا يعرفون ما جاء في كتابهم من صفات النبي ﷺ إنما غاية ما هنالك هو التخرص والأكاذيب التي يتلقفونها من غيرهم، أنهم يبنون أمورهم على ظنون كاذبة، لا يبنونها على علم وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ وفسر ذلك بالأمي الذي لا يكتب ولا يقرأ، إنما يبنون دينهم واعتقادهم على مجرد الظنون، وهذا لا شك أنه لا يصح البناء عليه.

فيؤخذ من هذه الآية على هذا المعنى كذلك أن من أراد تجهيل الأمة حتى لا تعرف معاني الكتاب فإنه له شبه من هؤلاء، لا شك أن أعداء الإسلام حاولوا ذلك، فجعلوا غير الناطقين باللغة العربية في الأصل، يعني الذين أصولهم من الأعاجم، حالوا بينهم وبين اللغة العربية، وغيروا الحروف التي كانوا يكتبون بها، كانوا يكتبون بالحروف العربية في بلاد الهند وإندونيسيا وبلاد فارس وغير ذلك، فلما جاء الاستعمار حال بينهم وبين اللغة، وجعلهم في حال من الجهل بها من أجل البعد عن القرآن ومعاني القرآن، ولذلك للأسف تجد هناك حتى كثير من الطيبين من الخيرين من الصالحين ونحو هذا لا بصر لهم بمعاني القرآن إطلاقًا، ولربما سمى بعضهم ولده بالخنزير، وربما سمي المسجد بجهنم أو لظى باعتبار أنها كلمة وردت في القرآن، فعندهم أن كل ما ورد في القرآن فهو أمر جيد وحسن وسائغ.

وهكذا لربما قرأوا في مناسبة من الآيات ما لا يصلح لهذه المناسبة إطلاقًا، فإذا سئلوا عن هذا رأيت منهم العجب، ويبدون في ذلك ما يدل على جهل كبير بمعاني القرآن.

وأما العرب فإن الأعداء حاولوا أن يروجوا للعامية، وأن تكون هي لغة المدارس والمعاهد، ولغة الإعلام والثقافة من أجل الحيلولة بين الناس وبين فهم كلام الله -تبارك وتعالى- فهؤلاء لهم شبه بمثل هؤلاء كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله[3] كالذين يقولون: بأن القرآن لا يؤخذ منه معاني الصفات، ولا يؤخذ منه ما يتعلق بذات الرب -تبارك وتعالى- كقول طائفة من المعطلة، وكذلك المفوضة، المفوضة على طوائف:

منهم من يقول: إن معاني القرآن لا يعلمها أحد لا الرسول ولا الصحابة ولا غير هؤلاء، لا يعلمها إلا الله.

ومنهم يقول: لها معانٍ ولكن هذه المعاني محتملة تحتمل المعنى الظاهر، وتحتمل التأويل الذي قاله المحرفة المعطلة، ومن ثَم فإننا لا نعلم المراد فنفوض ذلك إلى الله -تبارك وتعالى- فالأولون كأنهم يقولون: بأن الله خاطبنا بما لا نعقل ولا نفهم في أجل الأشياء وأشرفها وهو الكلام في صفات الله وأسمائه، ونحو ذلك.

ويؤخذ من هذه الآية أيضًا: ذم من لا يعتني بمعرفة معاني كلام الله -تبارك وتعالى: وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ ذكره على سبيل الذم، فالذي يكون بهذه المثابة يقرأ القرآن ولا يعرف معانيه فله شبه بهؤلاء، له شبه بهؤلاء، الآن لو سألنا عن كثير من المعاني والآيات ما المراد بها، ما معنى هذه الآية، فإنك تجد أن الكثيرين لربما لا يفقه من ذلك قليلاً ولا كثيرًا.

سُئل بعضهم عن قوله -تبارك وتعالى: وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ [سورة ص:16] ما المراد بذلك؟ فأشار إلى الهر، وقال: هذا هو المعنى، ومثل هذا كثير، لو سأل الإنسان نفسه عن كثير من المواضع من الآيات من الألفاظ فيجد أنه لربما كالأعجمي لا يفهمها، وهي تردد على مسامعه في الصلاة وفي غير الصلاة.

فهذه تلاوة من غير فهم، وهذا المعنى كأنه الأقرب -والله تعالى أعلم- وهو ظاهر كلام شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- وكذلك ابن جُزي وجماعة من المفسرين.

إذا كان الذم الذي يلحق هؤلاء اليهود بسبب تقصيرهم مع كتابهم بحيث غفلوا عن معانيه وكانوا يقرؤونه مجرد قراءة من غير عقل ولا فهم للمعنى فإن الذم الذي يلحق هذه الأمة إذا فعلت فعلهم واتصفت بصفتهم أكبر، وذلك أن هذه الأمة أشرف، ونبيها أشرف، وكتابها أشرف، وقد قيل: على قدر المقام يكون الملام.

فالذم الذي يلحق هذه الأمة إذا أهملت كتابها ولم تفهم معانيه أعظم مما يلحق هؤلاء اليهود، فهذه صفة من لا يفقه عن الله -تبارك وتعالى- وإنما يقتصر على مجرد التلاوة، كما قال الحسن البصري -رحمه الله: "نزل القرآن ليعمل به فاتخذوا تلاوته عملاً"[4] وقد ذكر نحو هذا شيخ الإسلام -رحم الله الجميع[5].

أسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا وأن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين -والله أعلم.

وصلى الله على نبينا وآله وصحبه. 

  1.  بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية (3/ 303). 
  2.  انظر: مجموع الفتاوى (17/ 435). 
  3.  انظر: مجموع الفتاوى (6/ 355).
  4.  انظر: مجموع الفتاوى (25/ 170). 
  5.  المصدر السابق. 

مواد ذات صلة