الجمعة 10 / شوّال / 1445 - 19 / أبريل 2024
[77] قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا..}
تاريخ النشر: ٠٣ / ذو الحجة / ١٤٣٦
التحميل: 1003
مرات الإستماع: 1842

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.

كنا نتحدث في الليلة الماضية عن قوله -تبارك وتعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ [سورة البقرة:103] وذكرنا جملة من الفوائد المستنبطة من هذه الآية، ويمكن أن يضاف إلى ذلك أيضًا: أنّ الله -تبارك وتعالى- هنا في قوله: لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فجاء التعبير بالجملة الاسمية للدلالة على ثبات المثوبة، والجزم بخيريتها، فهذه المثوبة وهو ثواب الله خير، يعني المعنى: وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ فثواب الله خير من هذا الذي استعاضوا به، وهو السحر، لكنه حذف هنا المفضل عليه، فلم يقل: لمثوبة من عند الله خير من السحر لو كانوا يعلمون، وإنما قال: لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ فحذف المفضل عليه إجلالاً للمفضل، المثوبة خير يعني من السحر، ولا مقارنة بين المثوبة الكائنة والحاصلة من الله والسحر.

أما ترى أن السيف ينقص قدره إذا قيل: إن السيف أمضى من العصا[1]

ولكن غاية ما هنالك أن يقال: إن أفعل التفضيل هنا (خير) ليست على بابها، وإنما المقصود مطلق الاتصاف.

وكذلك أيضًا يُؤخذ من قوله -تبارك وتعالى- في الآية التي بعدها: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ [سورة البقرة:104]: قاعدة سد الذرائع، فلما كانت مثل هذه العبارة تفضي إلى معنىً فاسد مُنع منها، وقاعدة سد الذرائع قاعدة معروفة ثابتة، كما قال صاحب المراقي:

سد الذرائع إلى المحرمِ حتم كفتحها إلى المنحتم[2]

يعني سد الذريعة المفضية إلى المحرم واجب، كفتحها إلى المنحتم، يعني فتح الذرائع إلى محاب الله والأمور التي توصل إلى محبوبات الشارع هذا أيضًا مطلوب شرعًا، فهذه الذرائع منها ما يطلب سده، ومنها ما يطلب فتحه، ولا ينكرها إلا مكابر، ويوجد من يقول: هؤلاء الذين يفتون بتحريم أشياء من باب سد الذريعة يسميهم بالذرائعيين، فهذا الكلام لا يصدر ممن عرف الشريعة والأصول التي بُنيت عليها.

فمن المعروف في أصول الفقه: قاعدة سد الذرائع، وهي قاعدة مشهورة عظيمة، تدل عليها عشرات الأدلة من الكتاب والسنة، فالله -تبارك وتعالى- حرّم البناء على القبور، وحرّم التصاوير، وحرم الصلاة إلى القبر، والصلاة في المقبرة، وما إلى ذلك، فكل ذلك لسد ذريعة الشرك، كما أنه حرم النظر إلى المرأة الأجنبية، وأمر بغض الأبصار، وكذلك أيضًا حرم الاختلاط، وحرم التبرج والسفور، ونهى عن الخضوع بالقول، كل هذا من باب تحريم الوسائل، يعني من باب الذرائع أن ذلك يفضي إلى الفاحشة، فجعل عليها سياجًا يحوطها من أجل ألا يقع فيها الناس.

وهكذا لما أوجب الله حج بيته الحرام، فإن الذرائع الموصلة إلى ذلك واجبة، فيجب على من أراد الحج أن يتعاطى الأسباب التي توصله إلى بيت الله الحرام، فيُؤدي النسك من شراء راحلة أو استئجار سابقًا، والآن الالتحاق بحملة، أو نحو ذلك، فيجب عليه أن يقوم بما يتحقق به أداء النسك، وهكذا.

ولو نظرنا إلى الأمور الحياتية نجد أن الناس يعملون بهذا في أقطار الدنيا، من باب سد الذرائع، أو فتح الذرائع؛ فلماذا يضع الناس على بيوتهم الحيطان والأسوار والأبواب والأقفال والكاميرات؟ نقول لهم: اجعلوا البيوت بلا أسوار وبلا أبواب، يقولون: لا، سدًا لذريعة اللصوص والسرقة، هذا معمول به في كل الدنيا، كل أحد يعمل هذا، وكذا: لماذا وضعت إشارات المرور، تترك الطرق سائبة، يقول: لا، سدًا للذريعة؛ لئلا يقع التصادم بين الناس، فالإشارة تحجزهم؛ ولماذا وضعت هذه الحواجز في الطرق أو المطبات الاصطناعية، أو نحو ذلك؟ دع الطرق هكذا، يقول لك: لا، هذه ذريعة هنا مَدرسة، هنا كذا، هذه منطقة فيها خطورة، أو تقاطع خطر، فيحتاج إلى وضع هذه الأشياء، سدًا للذريعة، ذريعة ماذا؟ ذريعة الاصطدام والحوادث، ونحو هذا.

وقل مثل ذلك أيضًا: حينما تجعل الاحتياطات الوقائية في الطب، فيحجز المرضى الذين يصابون ببعض الأمراض التي تنتقل بإذن الله فيوضعون في المحاجر، ثم بعد ذلك تجد المستشفيات تحتاط بأنواع الاحتياطات، ويرشدون الناس إلى أنواع الاحتياطات، ويضعون في كل ناحية وزاوية من وسائل التعقيم كل ذلك يفعلونه من أجل سد الذريعة عن الأمراض، والوقوع في الأمور المكروهة: من الآفات، وانتقال العلل، ونحو ذلك.

وهذا الذي يلبس الكمام في المستشفى، أو في الحج، أو في أي مكان، نقول: لماذا تلبس؟ يقول: سدًا للذريعة لئلا تصل الجراثيم ونحوها إلى الجوف، وهكذا في شؤون الناس كلها يتعاطون ذلك، فهذا يُؤخذ من هذه الآية.

ويؤخذ أيضًا من هذه الآية من الفوائد: أنه جاء بالنهي: لا تَقُولُوا رَاعِنَا ثم جاء بالأمر بعده وَقُولُوا انظُرْنَا فهذا من باب التخلية قبل التحلية، والتربية تقوم على هذين الجانبين: تخلية، وتحلية، الذي جماعها هو التزكية، فإن التزكية تعني تطهير المحل، وتنقية المحل بالإضافة إلى النماء قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى [سورة الأعلى:14] فتزكية النفوس تحصل بتخليتها من الأوضار والأوصاف المذمومة، وتحصل بعمارتها بمحاب الله من الإيمان وشعبه لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا [سورة البقرة:104] ويمكن باعتبار أيضًا: أنه قدم النهي؛ لأن الترك أسهل، كون الإنسان يترك الشيء هذا سهل، ثم ذكر الأمر بعده فهو تنفيذ المأمور أشق من ترك المنهي في الأصل.

ثم أيضًا يُؤخذ من هذه الآية: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا [سورة البقرة:104] شمول هذه الشريعة، فما تركت شيئًا مما يحتاج إليه الناس إلا بينته، ومن ثم فلا يقول قائل: بأن هذه أمور جزئية، وأمور لا قيمة لها، فهذا بنص القرآن يؤدبهم ويعلمهم، وأول صفات عباد الرحمن التي ذكرها هي المشية وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا [سورة الفرقان:63].

فهذه الشريعة ينبغي أن تُؤخذ كاملة شاملة، ولا يُؤخذ بعض منها، ويترك الباقي، فيكون الناس بهذه المثابة من الذين فرقوا دينهم، وكانوا شيعًا أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ [سورة البقرة:85] فلا يصح أن يُؤخذ بعض الشريعة، ويترك البعض الآخر، وما أوجد هذا التفرق بين طوائف الأمة إلا مثل هذا، نعم ينبغي التركيز والاهتمام بالأمور الكبار من الأصول العظام، البدء بالتوحيد، والنهي عن الإشراك، ثم بعد ذلك تأتي القضايا الكبرى تابعة له.

وكما هي دعوة الرسل -عليهم الصلاة والسلام- فأول ما كانوا يدعون: اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [سورة هود:84] ثم يذكرون القضايا الكبار عند قومهم وَلا تَنقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ [سورة هود:84] هذا في قوم شعيب، وفي قول لوط: أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ [سورة الأعراف:80] وهكذا في سائر الأمم، فيخاطبون بالأهم، ثم بعد ذلك كما أرسل النبي ﷺ معاذًا إلى اليمن، وقال: إنك ستأتي قوما أهل كتاب، فإذا جئتهم، فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوا لك بذلك، فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم[3] فذكر له بعده إقام الصلاة: الزكاة، فيتدرج هذا التدرج.

ثم يُؤخذ من هذه الآية: أن الإيمان يقتضي يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا [سورة البقرة:104] أن الإيمان يقتضي الأخلاق الفاضلة، فالأخلاق جزء من الإيمان، والأخلاق منها ما يتعلق باللسان، ومنها: ما يتعلق بالمعاشرة، ومنها: ما يكون أصله في القلب، وتظهر آثاره على الجوارح، كالحياء، فهذه الأخلاق كلها من الإيمان يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا [سورة البقرة:104] إذن الإيمان يدعوكم إلى التهذيب، يدعوكم إلى الأخلاق الفاضلة الكاملة، والأقوال الجميلة الحسن التي لا عيب فيها.

ثم أيضًا الإظهار في موضع الإضمار في قوله: وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ [سورة البقرة:104] يفيد التعليل، أن سبب العذاب هو الكفر، وكذلك أيضًا يدل على أن سب النبي ﷺ لما قال اليهود له: رَاعِنَا يعني: ينسبونه إلى الرعونة أن هذا كفر؛ فلذلك قال: وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ [سورة البقرة:104] وأيضًا للعموم وَلِلْكَافِرِينَ لكل كافر، سواء ممن كان من هؤلاء اليهود القائلين هذه المقولة، أو من غيرهم، وهذا أشرنا إليه في الليلة الماضية.

وكذلك أيضًا التنكير في العذاب يدل على التهويل وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مع وصفه بالأليم، فهذه صيغة مبالغة على وزن فعيل، فهو بالغ في الشدة غايتها.

فهذه بعض الفوائد المتعلقة أيضًا بهاتين الآيتين، والوقت يضيق عن الكلام على الآية التي بعدها، وأسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، وأن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين.

اللهم ارحم موتانا، واشف مرضانا، وعاف مبتلانا، واجعل آخرتنا خيرًا من دنيانًا.

ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم، واغفر لنا إنك أنت الغفور الرحيم.

والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.

  1.  البيت للكميت بن زيد، في الدر الفريد وبيت القصيد (4/ 157). 
  2.  نشر البنود على مراقي السعود (2/ 265). 
  3.  أخرجه البخاري في كتاب الزكاة، باب أخذ الصدقة من الأغنياء وترد في الفقراء حيث كانوا برقم: (1496) ومسلم في كتاب الإيمان، باب الدعاء إلى الشهادتين وشرائع الإسلام برقم: (19). 

مواد ذات صلة