الخميس 18 / رمضان / 1445 - 28 / مارس 2024
[94] تتمة قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا..}
تاريخ النشر: ١٠ / محرّم / ١٤٣٧
التحميل: 2609
مرات الإستماع: 1986

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

ما زال الحديث متصلاً في قوله -تبارك وتعالى- في خبر إبراهيم ودعائه: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [سورة البقرة:126].

في هذه الآية من سورة البقرة من دعاء إبراهيم : وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا [سورة البقرة:126] وفي سورة إبراهيم:اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا [سورة إبراهيم:35] بالتعريف: البلد، وهي مكة، والدعاء لمكة في الموضعين فنُكرت في سورة البقرة اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا وفي سورة إبراهيم:اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا فما وجه التفريق بينهما؟

العلماء -رحمهم الله- يُجيبون على هذا بجواب معروف، وهو: أن الأول وهو في سورة البقرة كان قبل أن تكون مكة بلدًا، يعني: أول ما جاء بهاجر ووضعها في هذا الوادي الذي لا زرع فيه ولا شيء من مظاهر الحياة بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ [سورة إبراهيم:37] فقال: اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا [سورة البقرة:126] دعا ربه أن يتحول هذا الوادي إلى بلد آمن، ثم لما جاء في المرة الأخرى تحولت مكة إلى بلد حيث نزلت جُرهم بمكة، لما نبع ماء زمزم كما هو معروف، فلما جاء في هذه المرة وقد تحولت إلى بلد، فقال: اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا [سورة إبراهيم:35] فدعا لبلد موجود، قائم يوجد فيه قبيلة من الناس وهي جُرهم.

فهذا وجه المُغايرة بين الموضعين، وكان ذلك بعد ولادة إسحاق فالولد الأكبر وهو الذبيح هو إسماعيل وبين إسماعيل وإسحاق ثلاثة عشرة سنة، فإسماعيل ابن هاجر وإسحاق ابن سارة، وبينهما هذه السن، ولهذا قال في آخر الدعاء في سورة إبراهيم: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ [سورة إبراهيم:39] هذا في المرة الثانية؛ لأنه حينما جاء في المرة الأولى ومعه هاجر مع صغيرها حديث الولادة في المهد وهو إسماعيل لم يكن إسحاق قد ولد؛ لأن بينهما ثلاثة عشرة سنة، ففي المرة الأولى: اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وفي المرة الثانية بعد مدة، وبعد ولادة إسحاق؛ لهذا قال: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ [سورة إبراهيم:39] فهذا بعد سنين، والله تعالى أعلم.

وتأمل قوله -تبارك وتعالى- في دعاء إبراهيم في هذه المرة قال: وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ [سورة البقرة:126] فقيد في الدعاء لهم بالرزق أن يرزق من آمن بالله واليوم الآخر، يعني: مفهوم المخالفة المسكوت عنه أن من لم يكن مؤمنًا بالله واليوم الآخر فلا ترزقه، وكأن إبراهيم قد تحرز بسبب أنه لم دعا في المرة الأولى بالإمامة لولده إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [سورة البقرة:124] فكأنه ظن أن الرزق أيضًا يُدعى به لخصوص أهل الإيمان، فلما دعا بالرزق وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فبين الله له الفرق بين المقامين، قال الله: قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [سورة البقرة:126].

فالرزق غير الإمامة، الإمامة في الدين لا تكون إلا لأهل الإيمان والعمل الصالح واليقين، بالصبر واليقين تُنال الإمامة في الدين، لكن الإمامة لا تكون لأهل الظلم والفجور، الإمامة في الدين فلا يصلح أن يكون قدوة يأتم الناس به على ضلال وفجور، أو أهواء وبِدع ونحو ذلك.

فلاحظ أدب الأنبياء في المرة الأولى قال الله له: وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [سورة البقرة:124] يعني: اجعل أئمة، أخذته الشفقة على ذريته فسأل لهم الإمامة فلما سأل الرزق لأهل مكة احترز قال: وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ [سورة البقرة:126] خصوص من آمن، ارزق من آمن، فقال الله له: لا، هذا يختلف، الرزق يكون للبر والفاجر والمؤمن والكافر كُلاً نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا [سورة الإسراء:20] بخلاف الإمامة في الدين، فهذا من أدب الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام.

ويؤخذ من قوله -تبارك وتعالى: قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [سورة البقرة:126] يؤخذ منها أن هذا المتاع الذي يُعطى هو متاع قليل لا في قدره ولا في مدته، لا فيما يتصل بالأفراد بالنظر إلى الأشخاص، ولا بالنظر إلى الحياة الدنيا، هو قليل، النبي ﷺ يقول: لو كانت الدنيا تساوي عند الله جناح بعوضة ما سقى منها كافرًا شربة ماء[1] لو كانت تساوي جناح بعوضة، جناح البعوضة ماذا يساوي، والبعوضة ماذا تساوي؟ وألف بعوضة ماذا تساوي؟ ومليون بعوضة ماذا تساوي؟ لا، لو كانت الدنيا تساوي جناح بعوضة جناح فقط ما سقى منها كافرًا شربة ماء.

إذًا هي عند الله أقل من جناح البعوضة بما فيها من هذه الثروات والمعادن والذهب والفضة، وهذه المراكب البرية، والبحرية، وناطحات السحاب، والعِمران الواسع، والزروع والدواب، كل ذلك من أوله إلى آخره، من أول الدنيا إلى آخرها، الدنيا بأكملها لا تساوي جناح بعوضة، لو كانت تساوي ما سقى منها كافر شربة ماء.

إذًا لا تغتر بما يُعطى للكفار هو أقل من جناح بعوضة، فلا يُفتن أهل الإيمان بما يُعطى لهؤلاء من ألوان النعيم واللذات والتمكين والثروات، وسابقًا قوة الاقتصاد، وأما الآن فتعرفون ما يعصف باقتصادهم، وما يُعانونه ويُكابدونه، لكن كل ذلك لا يساوي عند الله جناح بعوضة، فلا يغتر المؤمن إذا عرف هذا، هذا من جهة هو قليل فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثم لو نظرنا أيضًا إلى عمر الإنسان حينما يُمتع هذا الإنسان المُمتع كما يعيش إلى ستين إلى سبعين إلى ثمانين إلى تسعين إلى مئة، وإذا وصل إلى المئة تلاشت قواه، وبدأت خلايا المخ تضعف، أو تموت، وينسى كل شيء، ولا يعرف حتى زوجته وأولاده، إذا جالس وقال من هذا؟ من أنت من هذا الرجل الذي جالس؟

ويجلس ويتحدث ويُعيد الكلام مرة بعد مرة، ثم يُعيد ويسألك مرة أخرى ويقول لك من أنت، فتُخبره ثم ما يلبث أن يلتفت ويقول من أنت؟ بعد ما كان في غاية الذكاء وحضور الذهن، هذه الحياة الدنيا إذا عُمر الإنسان.

يسر المرء طول عيش وطول عيش قد يضره
تفنى بشاشته ويبقى بعد حلو العيش مره
وتسوؤه الأيام حتى لا يرى شيئًا يسره 

إلا من متعه الله بالإيمان والعمل الصالح، وحفظ قلبه وسمعه وبصره وعقله، واشتغل بذكره فهذا يُغبط، وأما إذا لم يبقَ له من ذلك شيء فهذا أرذل العمر الذي استعاذ النبي ﷺ منه.

فأقول: هذه الحياة التي يبقها الإنسان إلى سبعين إلى ثمانين إلى كم، هي مدة قليلة مهما مُتع فيها، ثم يصير إلى دار الخلود، دار الخلود، فإذا كان في النار هؤلاء الكفار فما قيمة سبعين سنة وحينما تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة.

وأما هذا النعيم: يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة، فيصبغ في النار صبغة، ثم يقال: يا ابن آدم هل رأيت خيرا قط؟ هل مر بك نعيم قط؟ فيقول: لا، والله يا رب ويؤتى بأشد الناس بؤسا في الدنيا، من أهل الجنة، فيصبغ صبغة في الجنة، فيقال له: يا ابن آدم هل رأيت بؤسا قط؟ هل مر بك شدة قط؟ فيقول: لا، والله يا رب ما مر بي بؤس قط، ولا رأيت شدة قط[2].

فهذه الحياة يُنسيها غمسة واحدة بما فيها من نعيم أو بؤس، فما قيمة هذه الحياة التي نحرص عليها ونحزن من أجلها، ونتهافت على تحصيل حُطامها، ويبقى الإنسان في قلق من المُستقبل بزعمه وأحزان على الفائت هذا كله لا يستحق غمسة واحدة تُنسيك كل شيء.

فهنا الله -تبارك وتعالى- يقول: وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً [سورة البقرة:126] مدة قليلة والحياة كلها العمر قصير والحياة كلها قصيرة يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ [سورة الروم:55] فحري بدار كهذه أن يُزهد فيها.

ثم أيضًا وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً [سورة البقرة:126] عطاء الله للعبد من الدنيا لا يدل على رضاه ومحبته لهذا الإنسان، بل إن كان على غير إيمان وعمل صالح فهذا من الإملاء وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ [سورة الأعراف:183] إذا رأيت الله كما قال السلف يُعطي الرجل وهو على معصيته مُقيم على معصيته فهذا من قبيل الاستدراج وَأُمْلِي لَهُمْ أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ ۝ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لا يَشْعُرُونَ [سورة المؤمنون:55، 56] هم لا يشعرون أن هذا من قبيل الاستدراج لهم وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا [سورة آل عمران:178] ليزدادوا ماذا خيرًا وطاعة؟ ليزدادوا ماذا؟ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا.

فهذا العطاء إذا كان العبد على حال غير مرضية فمعناه أنه استدراج.

الذي يُعطى للكفار وهم على كفرهم هذا استدراج ليزدادوا إثما، فالمؤمن لا يغتر، ومن هنا هذا السؤال الذي يُورده بعض المسلمين إذا ذهبوا ورأوا ما فيه أولئك الكفار أجواء جميلة وغائمة، وأمطار، وبلاد خضراء، وكذلك أيضًا الحياة مُذللة لهم، فيرد هذا السؤال عند بعضهم، لماذا الكفار في هذا النعيم، وهذا التمكين، وهذا الترفيه وهذه الوسائل التي ذللت لهم المصاعب في الحياة والمسلمون في وضع بائس؟

فيُقال كما قال النبي ﷺ لما وجده عمر : وإنه لعلى حصير ما بينه وبينه شيء، وتحت رأسه وسادة من أدم حشوها ليف، وإن عند رجليه قرظا مصبوبا، وعند رأسه أهب معلقة، قال: فرأيت أثر الحصير في جنبه فبكيت، فقال: ما يبكيك؟ فقلت: يا رسول الله إن كسرى وقيصر فيما هما فيه، وأنت رسول الله، فقال: أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة[3].

فهذا هو الواقع، ولذلك قالوا: الدنيا سجن المؤمن، ما معنى سجن المؤمن؟ معناه أن هناك حدود محظورات، هذا لا يجوز هذا ممنوع، فيبقى يسير في إطار مُحدد.

وجنة الكافر، فإذا نظرت إلى ما يكون للمؤمن من النعيم المقيم الذي لا يُقادر قدره، وما يكون في الدنيا فالدنيا سجن بالنسبة للجنة، وأما بالنسبة للكافر وما يلقاه من العذاب الأليم أبد الآباد فالدنيا بالنسبة له جنة، حتى لو كان يعيش في كوخ، لو كان يعيش في سقيفة، في عريش، لو كان يعيش تحت ظل شجرة في الدنيا هي جنة بالنسبة له بالنظر إلى عذاب النار الذي ينتظره.

ولذلك أقول أيها الأحبة، هذه المعاني يحتاج المؤمن أن يقف عندها فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً [سورة البقرة:126] ما أُعطي هو قليل، وهذا القليل أيضًا هو في الواقع أنهم يشقون فيه غاية الشقاء.

فهذه الأموال والأولاد كما قال الله : إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [سورة التوبة:55] فيُعذبون بهؤلاء الأولاد، ويُعذبون بهذه الأموال، فيبقى دائمًا في ملاحقة لها وحذر وحرص وقلق حينما ترتفع العملات، أو حينما تهبط، أو حينما ترتفع البُورصة، أو حينما تنزل، أو حينما ترتفع الأسهم، أو حينما تنزل، فيبقى قلبه يرتفع وينزل فيبقى في عذاب طالع نازل قلق، لذلك تجد بعض هؤلاء على الثراء على الأموال يأكلون الأدوية، وتنتشر فيهم المصحات النفسية، ويعيشون في قلق وضيق دائم وهم مع هذه الأسباب المُذللة، وهذا طبيعي وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى [سورة طه:124].

المعيشة الضنك لكل من أعرض عن ذكر الله وذكره هو كتابه، من أعرض عن هدى الله فلم يذكره بقلبه ويتدبر ويتلو ويعمل به، فإن له معيشة ضنكا، إذا كان المسلم حينما يُقصر وتحصل له شيء من الغفلة يجد في قلبه من الوحشة والضيق والحُزن، وما أشبه ذلك، بسبب بُعده عن ربه، الذي لا يعرف الله، ولا يسجد لله، ولا يؤمن بالقضاء والقدر، ولا يتوكل على الله، ما حاله هذا؟ نسأل الله العافية، قلبه كريشة في مهب الريح ضياع بكل ما تحمل هذه الكلمة من معنى ضياع، ضياع ووحشة، أرواحهم في وحشة من جسومهم، نسأل الله العافية يستوحش من كل شيء.

ولذلك هؤلاء أحوج ما يكونون بدلاً من الإعجاب بهم والله هم أحوج ما يكونون إلى رحمة، أن يلتفت إليهم المسلمون، فيُبلغونهم إكسير السعادة، وهو هذا الدين الإسلام الإيمان، فتتحول تلك النفوس المُستوحشة إلى حال من الراحة والسعادة؛ لأن هذه النفس تشقى إذا كانت بعيدة عن الله  إذا كانت بعيدة عن الإيمان تكون في وحشة وشقاء، وإن المرء ليعجب كيف يستطيع هؤلاء العيش؟ الواقع أنهم يلجئون إلى الانتحار، ويوجد عندهم أنواع من الانتحار مُبتكرة بحيث لا يوجد معها ألم، وبعضهم ربما دفع الأموال للمُحامين من أجل ألا يكون هناك مُطالبة لأحد إذا أعطاه هذا الجهاز الذي ينتحر به، أو نحو ذلك.

ما نفعهم الأموال، ولا نفعهم الأجواء الجميلة، ولا نفعتهم الخُضرة المُمتدة، ولا نفعتهم وسائل الراحة والنقل والمواصلات، والخدمات السهلة التي تصل إليه وهو في بيته، كل هذا ما نفع، شقاء يشحط هذه النفوس، يطحنها طحنًا، فترى البؤس في وجوههم.

وانظر إلى حال أهل الإيمان بقدر ما عندهم والموفق من وفقه الله، الذي يأتي لا يؤذن المؤذن إلا وهو في المسجد، اسألوه عن الراحة التي يجدها والطمأنينة والنعيم الذي يجده في قلبه.

يجد من النعيم ما لو علم به أولئك لدفعوا ما بأيديهم من الأموال من أجل أن يحصلوه، هؤلاء يذهبون مساكين يذهبون إلى التِبت، هناك في الصين عند البوذيين التبت هي المنطقة التي فيها معقل الديانة البوذية، يذهبون من أوروبا وأمريكا وكندا إلى التبت يبحثون عن ماذا؟ يبحثون عن وثنية، فيكونوا كالذي فر من الرمضاء إلى النار، نسأل الله العافية، فيزداد وحشة وبؤسًا، هؤلاء أحوج ما يكونون إلى الحق الذي عندنا، يذهب إليهم أبناؤنا، ومن يُسافر هناك وهو يرفع رأسه ويقول هلُم هنا أساس السعادة التي تبحثون عنها، هنا، لكن لا يذهب وقد طأطأ رأسه، وينظر إلى هؤلاء على أنهم عظماء، وأنهم قد حصلوا من الراحة والرغد فيما يبدوا في ظاهر الأمر ما لم يُحصله هذا الذي جاء من الصحراء، الواقع أن هذا الذي يعيش في الصحراء، ولو كان تحت شجرة أنعم وأفضل وأكمل حالاً من هؤلاء.

والسعادة -أيها الأحبة- ليست في أكلة يأكلها الإنسان، ولا في منظر يُشاهده، ولا في أريكة يتكئ عليها، فهذا البائس والله لو أجلسته على آرائك منسوجة بالذهب والفضة، وأطعمته الفالوذج فإنه يبقى زاهدًا في ذلك كله، وفي حال من البؤس والمعاناة.

أسأل الله أن يشرح صدورنا بالإيمان وأن يعيننا على ذكره وشكره، وحسن عبادته، وإن يثبتنا وإياكم بالقول الثابت في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد، وأن يغفر لنا ولوالدينا وإخواننا المسلمين، نحمده -تبارك وتعالى- أن هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.

والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.

  1.  أخرجه الترمذي، أبواب الزهد عن رسول الله ﷺ باب ما جاء في هوان الدنيا على الله  رقم: (2320). 
  2.  أخرجه مسلم، كتاب صفة القيامة والجنة والنار، باب صبغ أنعم أهل الدنيا في النار وصبغ أشدهم بؤسا في الجنة، رقم: (2807). 
  3. أخرجه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ رقم: (4913)، ومسلم، كتاب الطلاق، باب في الإيلاء، واعتزال النساء، وتخييرهن وقوله تعالى: وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ رقم: (1479). 

مواد ذات صلة