الجمعة 19 / رمضان / 1445 - 29 / مارس 2024
[105] قوله تعالى: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ..}
تاريخ النشر: ٢٦ / محرّم / ١٤٣٧
التحميل: 1060
مرات الإستماع: 2768

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.

فبعد أن ردّ الله -تبارك وتعالى- على هؤلاء من أهل الكتاب، من اليهود والنصارى الذين ادعوا أن إبراهيم كان على دينهم: أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [سورة البقرة:140].

قال بعد ذلك: تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [سورة البقرة:141] أي: تلك أمة قد مضت، لها أعمالها، ولكم أعمالكم، وأنتم لا تسألون عن أعمالهم، كما أنهم لا يسألون عن أعمالكم، فقطع العلائق والتعلقات بالمخلوقين، وقطع الوشائج، وما يتصل بالأنساب التي ربما يتزين بها الإنسان، ويتكأ عليها، ويظن أنه يكون بمنجى من عذاب الله -تبارك وتعالى- إذا كان ذا نسب، فهؤلاء لهم أعمالهم، ولكم أعمالكم، لا تسألون عن أعمالهم، ولا يُسألون عن أعمالكم، والعبرة بالإيمان بالله -تبارك وتعالى- وعبادته وحده، واتباع رسله -عليهم الصلاة والسلام- وأما من كفر برسول منهم فقد كفر بسائر الرسل، فالشأن في حق هؤلاء الذين بدلوا وغيروا وحرفوا وانحرفوا.

لَئِنْ فَخرتَ بآباءٍ لَهُم شَرَفٌ لَقَد صَدَقْتَ وَلَكِنْ بِئسَ مَا وَلَدُوْا[1].

فهؤلاء الآباء الكرام من الأنبياء والرسل -عليهم صلوات الله وسلامه عليهم- لهم أعمالهم، وأما أولئك من الأحفاد والذرية الذين بدلوا وغيروا، فلهم أعمالهم السيئة التي يلقون غِبها وجزاءها، دون أن ينفعهم الانتساب إلى هؤلاء الآباء الكرام.

فهذه الآية -أيها الأحبة- وهي الحادية والأربعون بعد المائة، تكررت، فإنّ الله -تبارك وتعالى- ذكرها قبل ذلك في سياق الرد عليهم، كما مضى، وتأملوا سياق الآيات في الموضعين؛ لما ذكر الله -تبارك وتعالى- الرد على هؤلاء في الموضع الأول، وذكر وصية إبراهيم لابنيه، ووصية يعقوب بالموت على التوحيد والإسلام وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [سورة البقرة:132].

 أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ أم هنا بمعنى بل والهمزة، بل أكنتم شهداء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [سورة البقرة:133] هذه في الآية الثانية والثلاثون بعد المائة، قال بعدها: تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [سورة البقرة:134].

وهنا لما أكذبهم أيضًا بدعواهم أن إبراهيم ومن بعده من هؤلاء الأنبياء قبل موسى أنهم كانوا على دين اليهود، أو النصارى أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [سورة البقرة:140] تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [سورة البقرة:141] فهذا تكرار، ولا يوجد في القرآن تكرار محض، حتى الآيات التي تبدو أنها مُكررة بحروفها، هي ليست بتكرار محض، كقوله -تبارك وتعالى: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ [سورة الرحمن:13] فإن كل آية تتعلق بما ذُكر قبلها فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ [سورة الرحمن:13] مما ذُكر قبله.

وهكذا في قوله -تبارك وتعالى: وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ [سورة المرسلات:15] فكل واحدة تتعلق بالتي قبلها، وأما مع وجود شيء من المغايرة في اللفظ فكما ذكرنا في سورة الكافرون قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ ۝ لا أَعْبُدُ في الحال مَا تَعْبُدُونَ [سورة الكافرون:2] في الحال وَلا أَنَا عَابِدٌ في المستقبل مَا عَبَدتُّمْ [سورة الكافرون:4] وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ في المستقبل مَا أَعْبُدُ [سورة الكافرون:3] لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ [سورة الكافرون:6].

فلا يوجد تكرار في القرآن محض، وقصص الأنبياء التي كُررت، وأكثرها تكرارًا هي قصة موسى كل موضع يُذكر فيه خبر موسى فهو يتفق مع هذا السياق الذي ذُكر فيه، فتارة يُذكر في مقام بيان شدة بطش الله وبأسه، وتارة يُذكر في بيان فضائل موسى أو فيما لحقه من الأذى، أو في عاقبة الظالمين والُعتاة على المرسلين، فهذا ينوع فيه القصص، ويُذكر من كل قصة ما يُناسب المقام بهذا السياق، فهنا لا تكرار، مع أنه نفس اللفظ تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [سورة البقرة:134].

والشيخ عبد الرحمن السعدي -رحمه الله- يقول: كررها لقطع التعلق بالمخلوقين، وأن المعول عليه ما اتصف به الإنسان، لا عمل أسلافه وآبائه، فالنفع الحقيقي بالأعمال لا بالانتساب المجرد للرجال[2] فلاحظ في الموضع الأول أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [سورة البقرة:133] قال: تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ [سورة البقرة:134] فهؤلاء الذين تنتسبون إليهم، الذين أقروا بدين الإسلام، وعبادة الله وحده، لا شريك له، لا تنتفعون من أعمالهم بشيء، ولو كنتم تنتسبون إليهم من جهة الولادة، فهؤلاء أجدادهم.

وكذلك أيضًا في الموضع الآخر قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ [سورة البقرة:139] أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى [سورة البقرة:140] فهؤلاء الذين تدعونهم وتتزينون بنسبتهم إلى دينكم، وهم كانوا قبل بعث موسى وقبل وجود موسى وقبل وجود عيسى، فكيف تقولون: بأنهم كانوا على اليهودية، أو على النصرانية؟ فحال هؤلاء لا ينفعكم، وادعاءكم إياهم لا يُغني عنكم شيئًا، وليس التزين بمجرد الانتساب، وإنما بالإيمان والعمل الصالح، فقال بعد ذلك: تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [سورة البقرة:141].

فهذا ليس بتكرار محض، وإنما بحسب المقام والسياق، وهذه الدعاوى التي ادعوها، والنسب التي انتسبوها، جاء الرد عليهم في هذين الموضعين، فذكر أقوالهم ودعواهم، وذكر حال هؤلاء من الإسلام، فجاء بعد كل موضع بما يُناسبه، وبعض أهل العلم يقولون: هذا التكرار جاء من أجل المُبالغة في زجر هؤلاء عن هذا الافتخار بالآباء، والانتساب إلى هؤلاء المرسلين والأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- وهم ليسوا على حالهم ولا عملهم ولا إيمانهم؛ وذلك من أجل ترسيخ مدلول هذه القضية في النفوس، واهتمامًا بما تضمنته، فإنه لم يكتف بالموضع الأول، بل أعاد ذلك ثانية ليُرسخ هذا المعنى؛ لشدة الحاجة إليه، حتى العرب في الجاهلية كانوا يفتخرون أنهم على دين إبراهيم وكذلك ما تضمنه من التهديد والتخويف في هذا الموضع الثاني، فإذا كان هؤلاء الأنبياء -عليهم السلام- مع ما كانوا عليه من الإمامة والفضل يجازون بكسبهم وعملهم، فأنتم أحرى كما يقول القُرطبي[3] فتلك الأمة تنفرد بعملها التي قد خلت ومضت، وأنتم كذلك تنفردون بعملكم، فأنتم لا تسألون عن عملهم، وهم لا يسألون عن عملكم، فهذا جاء بهذا السياق، وبهذه الطريقة، ولعل هذا القدر يكفي.

وأسأل الله -تبارك وتعالى- أن يبارك لنا ولكم فيما سمعنا، وأن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين، وأن ينفعنا بالقرآن العظيم، والله أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.

  1. البيت غير منسوب لقائل في الدر الفريد وبيت القصيد (9/ 85) والتذكرة الحمدونية (5/ 121) والصناعتين: الكتابة والشعر (ص:99).
  2.  تفسير السعدي = تيسير الكريم الرحمن (ص:70). 
  3.  تفسير القرطبي (2/ 147). 

مواد ذات صلة