الخميس 18 / رمضان / 1445 - 28 / مارس 2024
[128] قوله تعالى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ..} إلى قوله تعالى: {وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ}
تاريخ النشر: ٠٤ / ربيع الأوّل / ١٤٣٧
التحميل: 1114
مرات الإستماع: 1740

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فيقول الله -تبارك وتعالى- في ضرب المثل للكفار، مبينًا حالهم مع من يدعوهم: وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ [سورة البقرة:171] ذكر هذا بعد قوله: وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ [سورة البقرة:170].

فهؤلاء قد أصموا أسماعهم عن داعي الحق، وأعرضوا عن هدى الله الذي بعث به رسله -عليهم الصلاة والسلام- فمثل هؤلاء حين يوجه إليهم الخطاب، ويخاطبون بالإيمان فهم كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً هؤلاء حالهم كحال الراعي الذي ينعق بغنمه، فهي لا تسمع إلا الدعاء والنداء، دون أن تعقل وتفهم خطابه وكلامه، فهؤلاء يسمعون صوتًا، ولكنهم لا يعقلون ما تحته من المضامين والهدايات، وما يكون تحت هذا الخطاب من أمرهم ونهيهم بما فيه صلاحهم وفلاحهم، فهم بهذه المثابة وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً [سورة البقرة:171] فهم بمنزلة البهائم، والداعي بمنزلة الراعي.

وبعض أهل العلم نظر إلى ظاهر اللفظ، فقال: هذا مثل مضروب للكفار وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ [سورة البقرة:171] فهؤلاء الكفار حينما يهتفون بهذه الآلهة، ويسألونها من دون الله -تبارك وتعالى- وهي أصنام وأحجار لا تعقل ولا تفهم، ولا تنفع ولا تضر، حالهم بالتوجه إلى هذه الأصنام، كحال ذلك الراعي الذي ينعق بغنمه، فهي لا تسمع إلا صوتًا، ولكنها لا تعقل ما تحته.

فهذان القولان مشهوران في معنى هذا المثل، ومن ضُرب له، وكلاهما له وجه، والأكثرون على الأول؛ أن ذلك في تشبيه الداعي الذي يوجه الدعوة إلى هؤلاء الكفار، شبههم بذلك الراعي الذي ينعق بغنمه فهي لا تعقل ما يقول ولكنها تسمع صوتًا يقع على آذانها، ولكن لا تعقل ما فيه.

فهذا المثل ضرب لهؤلاء لكونهم لم ينتفعوا بالسمع والبصر والنطق، فهم صم بكم عمي حينما أعرضوا عن السمع والإبصار والنطق بالحق، فصار ذلك منهم كالعدم؛ لأن هذه الأبصار والأسماع حينما لا ينتفع بها تكون معطّلة، فالقلب كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله: هو موضع العقل، يعقل الأشياء، ويدركها، ويفهمها[1] فإذا عطل من ذلك فيكون هؤلاء لا عقول لهم لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا [سورة الأعراف:179] فنفى الله عنهم الفقه، ونفى عنهم العقل، وكذلك أيضًا وصفهم بالعمي؛ لكونهم عطلوا أبصارهم عما ينتفعون به، عن استعمالها فيما ينفعهم، والنظر والسمع الذي ينفع ما يكون فيه الاعتبار.

ولذلك قال الله -تبارك وتعالى: فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [سورة الحج:46] فالقلب هو الملك، فإذا أصيب بالشلل والعمى، فإن ذلك ينتقل إلى السمع والبصر واللسان، فلا ينطق اللسان بالحق، فيكون من البكم، ولا تسمع الأذن الحق، وتنتفع به، فيكون من الصم، وهكذا العين تكون معطّلة، فالقلب ملك هذه الجوارح، وهي جنوده، فإذا صلح القلب صلح سائر الجسد، كما قال النبي ﷺ: ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب[2].

وهكذا حينما يكون القلب مريضًا، فإنه يضعف عقله عن الله -تبارك وتعالى- وينتقل ذلك إلى السمع والبصر، فيضعف انتفاع السمع بالمسموعات، ويضعف انتفاع البصر، ويضعف انتفاع اللسان، فيكون العبد مخلطًا، يسمع الحق، ولكنه لا ينتفع به كل الانتفاع، يبصر البراهين الدالة على وحدانية الله وقدرته وعظمته، ولكنه ينتفع بها انتفاعًا يسيرًا؛ وكذلك أيضًا فيما يكون من سائر حواسه، تضعف هذه الأعضاء عن العمل بطاعة الله فيغلب على العبد الكسل تارة عن النوافل، فلا يكون سابقًا بالخيرات، وتارة عن الفرائض، فيكون من الظالمين لأنفسهم.

وينبغي على العبد أن يتعاهد قلبه وسمعه وبصره وجوارحه، فإذا رأى نشاطًا في معصية الله، وقعودًا عن طاعته، لا يأتي الصلاة إلا متأخرًا، وتفوته الصلوات، وينام عن صلاة الفجر، فمعنى ذلك أن العلة صارت عليلة، وأنها تمكنت وصارت قوية، فأقعدته عن الفرائض، وأوقعته في المحرمات، ولكن من الناس من يأتي بالفرائض، ولا يفرط فيها، ولكن قلبه يقعده عن النهوض بما وراء ذلك من الأعمال الصالحة، من قيام الليل، وصلاة النوافل، وصوم النهار في النافلة، وغير ذلك، فهذا كله -أيها الأحبة- يرجع إلى ما ذكر، فيضعف تصور الإنسان، ويضعف فهمه، وتبقى عنده الرؤية فيها غبش، ولا يرى الحق كما هو، ولا يميز تمام التمييز بين معدن الحق، ومعدن الشبهات، وقد يستحسن بعض الأشياء التي ذمها الله -تبارك وتعالى- وحرمها، وهكذا قد يكره ما شرعه الله، أو بعض ما شرعه الله فيراه سيئًا أو قبيحًا، أو غير ذلك.

ويُؤخذ من قوله تعالى: وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً [سورة البقرة:171] الإيجاز وبلاغة القرآن، والتقدير: ومثل الأنبياء والكفار كمثل الذي ينعق، يعني الراعي بغنمه، فحذف ذلك اختصارًا من الجزء الأول في المثل أو في الكلام، كمثل الذي يَنعِق، والذي يُنعَق به، فحذف من الأول الأنبياء، ومثل الأنبياء. وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ فالذي ينعق هو الذي ينادي بهؤلاء، وهو الداعي، وحذف من الثاني الذي يُنعَق به، وهي هذه البهائم، وهؤلاء أيضًا لانهماكهم في التقليد، وإخلادهم إلى ما هم عليه من الضلالة، واتباع الآباء في غيهم وكفرهم بالله -تبارك وتعالى- صاروا لا يلقون آذانهم إلى ما يلقى إليهم من قبل الرسل -عليهم الصلاة والسلام- ولا يتفهمونه، ولا يتفكرون فيه، فصاروا بمنزلة البهائم، نسأل الله العافية.

ولذلك فإن الذي لا يصغي إلى الحق هو بمنزلة البهيمة التي تسمع الصوت، ويرسل إليها الكلام، ولكنها لا تعقل شيئًا، وهذا أمر في غاية السوء، ينبغي على المؤمن أن يتجافى عنه، وأن ينأى بنفسه عن مثل هذا الوصف، ولكن يكون له قلب وقاد، يسمع ويعقل عن الله -تبارك وتعالى- وينتفع بهذا الذي سمعه.

ثم وجّه الخطاب إلى المؤمنين: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ [سورة البقرة:172] أي: يا أهل الإيمان كلوا من الأطعمة المستلذة الحلال، فقال: يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالاً [سورة البقرة:168] فذكر الحلال، أما أهل الإيمان: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ [سورة الأعراف:32] فمباشرة قال لهم: كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ فهذه الطيبات لأهل الإيمان، وهذه الطيبات تشمل نوعين:

النوع الأول: وهي أنها طيبة من جهة المكاسب، فليس فيها محرم لكسبه كالربا، أو محرم لذاته، أو وصفه، كالخمر والخنزير.

وكذلك هي طيبة بمعنى أنها مستلذة، وهذان القولان في قوله -تبارك وتعالى- في آية الكهف: فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ [سورة الكهف:19] ففيها القولان، فأزكى طعامًا قيل: الأطيب والأنفس والأحسن والأكثر جودة، قالوا: باعتبار أن هؤلاء كانوا من أبناء الملوك، فيبحثون عن الطيب والأفضل والأجود.

والقول الآخر: الأبعد عن الشبهة، وما كان حلالاٌ ليس فيه محظور، وهذا هو الأقرب في آية الكهف، لكن هنا في قوله: كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ يشمل ما كان طيبًا لكسبه، وما كان طيبًا لوصفه، فيدخل فيه النوعان.

وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ فلا تكونوا كهؤلاء الكفار الذين حرموا الطيبات، واستحلوا الخبائث، وعليكم أن تشكروا الله -تبارك وتعالى- على نعمه، حيث تفضل عليكم بهذا الرزق من الطيبات، من أجل أن تكونوا منقادين لأمره: إِنْ كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ سامعين مطيعين له، تعبدونه وحده دون ما سواه.

ويُؤخذ من قوله -تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ هذا فيه أيضًا من بلاغة القرآن أنه أجمل المباحات كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ بينما بعد ذلك عدد المحرمات: إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ [سورة البقرة:173] فالمحرمات معدودة، ولكن الطيبات والمباحات هي الأصل، وهي الأكثر، ومن هنا يخطئ من يظن أن هذه الشريعة تضيق على الناس، وأن الإنسان إذا صار متمسكًا بأحكامها أنه صار محجرًا على نفسه، ويضيق على نفسه، وأنه يعيش في كبت وفي ضيق وشدة، فهذا الكلام غير صحيح، وإنما جعله الله -تبارك وتعالى- في سعة، فالطيبات كثيرة وواسعة، جعلها الله لأهل الإيمان.

وكذلك أيضًا حذف جواب (إن) الشرطية، حيث قال: وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ أي: إن كنتم إياه تعبدون فاشكروا له، وهذا كثير في كلام العرب؛ لأن السياق يدل عليه، والقرآن يعبر به بالألفاظ القليلة الدالة على المعاني الكثيرة.

ويُؤخذ من هذه الآية: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ [سورة البقرة:172] توجيه الإنسان إلى الاعتمال، وطلب الرزق من الله -تبارك وتعالى- مَا رَزَقْنَاكُمْ فإذا كان هذا الرزق من الله -تبارك وتعالى- فلنطلبه منه مع فعل الأسباب التي يتوصل بها إلى ذلك، يعني لا يقعد الإنسان لا يعمل ولا يكتسب، وينتظر أن يأتيه الرزق، فهنا أمر فقال: كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وكيف تحصل هذه الطيبات؟ تحصل بالأسباب العادية، وهي أن يعمل الإنسان ليتوصل إلى ذلك، ولا يكون عالة على غيره.

وهذا أيضًا يدل على سعة رحمة الله -تبارك وتعالى- بعباده، من جهة أنه أمرهم بالأكل من الطيبات، ووسع عليهم، ومن ناحية أخرى لكونه هو الذي رزقهم مَا رَزَقْنَاكُمْ فالرزق من الله -تبارك وتعالى- وهو رحمة من الله بعباده، ينزل من هذا الرزق بقدر بحسب حكمته وعلمه وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ [سورة الشورى:27] فهذه الأرزاق تكفل الله بإيصالها إلى العباد وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا [سورة هود:6] على الله، أي أنه ضمنه، وتكفل فيه.

وإذا أردت أن تعرف هذا جيدًا فانظر إلى هذه العجماوات والبهائم في قعر البحر، وعلى ظهر اليابسة، من الذي يوصل إليها أرزاقها وأقواتها؟ والطير في السماء، والحيتان في البحر، والجنين في بطن أمه، الله -تبارك وتعالى- قد قيض لهذه من الأسباب ما يحصل به إقامة معايشها، فإذا كان في بطن أمه، فيأتيه رزقه بالطريق التي قدرها الله له، عن طريق حبل السرة، فإذا خرج فقد شق الله فاه، ومعنى ذلك أن سيأكل به، وأدر له هذا اللبن من حين يخرج من بطن أمه، فيبدأ هذا اللبن يتحادر من غير عمل من أمه، ثم بعد ذلك لا يزال به النمو، فإذا قوي على الطعام ظهرت الأسنان، في كل شيء بأوانه، من الذي يفعل هذا؟ ويدبر هذا التدبير؟ ولماذا لا يكون له أسنان، وهو في بطن أمه؟ لأنه لا يحتاج إليها؛ ولماذا لا يولد بأسنان؟ لأنه لا يحتاج إليها؛ ولا يطيق الطعام، الذي تكفل بهذا كله هل سيضيع الكبار؟ أبدًا، ولكن قلة وضعف اليقين عند الناس، فيسرع الواحد إلى الحرام، ويحتال على حدود الله -تبارك وتعالى- وشرعه.

وَاشْكُرُوا لِلَّهِ ابتدأ الآية بضمير المتكلم كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا   فلم يقل: لنا، وإنما قال: وَاشْكُرُوا لِلَّهِ فهذا الذي يسمى الالتفات، خرج من التكلم إلى الغائب، باعتبار أن إبراز هذا الاسم لفظ الجلالة (الله) وَاشْكُرُوا لِلَّهِ هذا هو الموصوف بجميع صفات الكمال، فإن هذا المألوه المعبود ينبغي أن يكون هو الرازق، وهو الغني، وهو المدبر، وهو العليم بأحوال خلقه، فهو المستحق للشكر؛ لأنه المنعم المتفضل الموصوف بجميع صفات الكمال، فقال: وَاشْكُرُوا لِلَّهِ وهذا لا يتأتى حينما يقول: واشكروا لنا وَاشْكُرُوا لِلَّهِ وهذا يسمونه أيضًا: الإظهار في مقام الإضمار، يعني في موضع يصح فيه الضمير، واشكروا لنا، ولكن قال: وَاشْكُرُوا لِلَّهِ فأتى بالاسم الظاهر؛ لأن هذا الاسم الكريم هو الذي يجمع جميع صفات الكمال، وتعود إليه جميع الصفات لفظًا، وتعطف عليه: هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ [سورة الحشر:24]... إلى آخره، وهي ترجع إليه في المعنى، فالذي يكون رازقًا وخالقًا وربًا ومدبرًا هو المألوه هو الله فالإلهية المضمنة في هذا الاسم تجمع جميع صفات الكمال.

ثم تأمّل أيضًا الشكر بعد ذكر النعم كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ [سورة البقرة:172] فالشكر هو قيد النعم الموجودة، تحفظ به، وبه تجلب النعم المفقودة، فالنعمة تقيد بالشكر، وتضيع وتذهب، فإذا كفرت النعم نفرت، فهذا الشكر في كل نعمة بحسبها، فالمال بالبذل، والجاه بالشفاعة، والعلم بتعليم الناس، وهكذا في سائر النعم التي أعطى الله العبد.

إِنْ كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ قدم المفعول به (إياه) وترتيب الكلام في الأصل هكذا: إن كنتم تعبدونه، لكن لما قال: إِنْ كُنتُمْ إِيَّاهُ فتقديم ما حقه التأخير يفيد الاختصاص والحصر؛ لأنه -تبارك وتعالى- هو المستحق أن يعبد وحده إِنْ كُنتُمْ إِيَّاهُ فهذا إشارة للإخلاص، أنه يعبد وحده دون من سواه.

ويُؤخذ من: وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ أن الشكر من تحقيق العبودية لله -تبارك وتعالى- وأيضًا يُؤخذ الإخلاص من قوله: وَاشْكُرُوا لِلَّهِ لأن اللام تدل على الاختصاص، فكل هذا يدل على وجوب الإخلاص لله رب العالمين.

ومما ينافي الشكر الإسراف والتبذير إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا [سورة الإسراء:27] والكفر هو الذي يقابل الشكر وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا [سورة الإسراء:27] فهؤلاء الذين يسرفون بالنعم، ويتلاعبون بها، ويتخوضون في مال الله -تبارك وتعالى- لم يشكروا نعمة الله كما يجب، بل ذلك من الكفران، فالنعم إما أن تبذل في معصية الله، وإما أن يحصل الإسراف والتوسع الذي لا يحل، والله -تبارك وتعالى- يقول: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا [سورة الإسراء:29].

ويقول عن عباد الرحمن: وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا [سورة الفرقان:67] يعني وسطًا، فهذا هو الواجب، فمن صور كفر النعمة الإسراف والتبذير، سواء وضعت في معصية ولو قلت، أو وضع الشيء في غير موضعه، كالتلاعب بنعمة الله بصور وممارسات قد يحصل للعبد بسببها رحيل هذه النعم، والله على كل شيء قدير.

ونشرت مقابلة لأحد كبار الأثرياء في العالم في دولة عربية مجاورة، في مجلة في القرن الماضي، فقيل له: هل تخشى الفقر؟ فقال: لو طاردني الفقر بصاروخ ما أدركني، هذا البطر نسأل الله العافية، فذهبت كل ثروته، ووجد ميتًا في غرفة في فندق في أوروبا، وملاحق ومطالب عليه ديون، ولا يدرى كيف مات؟ يعني هل كان ذلك بتسبب أحد أو لا؟ وتعرفون بعض حكام الطوائف في الأندلس؛ لما رأت امرأته بائعات اللبن، وهي تطل من شرفة في القصر يطأن في الطين، فاشتاقت إلى أن تلعب بالطين، فجاء لها بصحفة من ذهب، وأمر بأن يعجن لها الطين بالمسك، ثم صار كالطين ووضعه بين يديها، فصارت تطأ عليه، فأصبح هذا في حالة بائسة، وذهب ملكه، ثم آل أمره إلى الحبس، وضجرت منه زوجته، وقالت له: ما رأيت منك خيرًا قط، قال: ولا يوم الطين؟ فالله المستعان، والله أعلم.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.

  1.  مجموع الفتاوى (9/ 309).
  2. أخرجه البخاري في كتاب الإيمان، باب فضل من استبرأ لدينه برقم: (52) ومسلم في المساقاة، باب أخذ الحلال وترك الشبهات برقم: (1599).

مواد ذات صلة